مُلخَّص: العَقيدة الإسلاميَّـة وأثرها في الـنَّـجاة مِن الفِتَن المعاصرة
إعداد: رجاء محمد الجاهوش
مؤلفه: أ.د سليمان بن قاسم العيـد
عدد صفحاته: 134 صفحة
عدد صفحات التَّلخيص: 19 صفحة.
----------------------------------
توطِئة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: في زَمنٍ تَلاطمت فيه أمواج الفِتن العاتِية، وعمَّ ماء الفَسادِ الشُطآن والأودية، واختلطت فيه المفاهيم أو خُلِّطت، فما عادَ الحلال بيِّـنًا عند كثير مِن النَّاس، وكذلك الحرام... في مثل هذا الزَّمن تظهر الحاجة الماسَّة إلى عالِـم ربانيّ، وناصِح أمين، وكلمة صادِقة تأخذ بأيدنا نحو نور المعرفة والهداية والفلاح، فتُجلِّي لنا الحقائق، وتدلّنا على سبلها لنسلكها، وتُعرِّي لنا الباطل، وتدلّنا على مساربه لنتَّـقيه.
وهذا ما حاولنا أن نقدِّمه في بحثنا هذا، الذي سيتناول:
1- بيان الفِتن المعاصرة وأخطارها.
2- بيان كيفية النَّجاة من هذه الفِتن بالعقيدة الإسلاميَّـة.
سائلين الله ـ عزَّ وجلَّ ـ التَّوفيق والسَّـداد.
الـفِـتـنـة
للفِتنة معانٍ مُتعدِّدة، فقد تأتي بمعنى:
• الابتلاء والامْتِـحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك: فتَنْت الفضَّة والذَّهب إِذا أَذبتهما بالنَّار لتميز الرَّديء من الـجيِّدِ.
• الإِحراق بالنار: ومن هذا قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات: 13).
• الضَّلال والإِثم، وقـيل: هي في التأْويل الظُّلْم.
• إِعجابُك بالشَّيء، فَتَنَه يَفْتِنُه فَتْناً وفُتُونا. وأُفْتن الرجل وفُتِن، فهو مَفْتُون إِذا أَصابته فِتْنة فذهب ماله أَو عقله.
• والفِتْنة: الكفر، والفِتْنة: المال، والفِتْنة: الأَوْلادُ.
والمعنى المُراد في الفِتنة في هذا البحث: هو ما يُبتلى به الإنسان في هذه الحياة مِن المال والنِّساء والمنصِب والجاه ونحو ذلك، مـمَّا يكون سببًا في بُعده عن الله والدَّار الآخرة.
خَطر الفِـتنـة
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعوَّذ مِن شرِّ الفِتن، ويحذِّر أمتَّه منها لخطرها العظيم على الإنسان في حياته وبعد مماته، فهي في الدُّنيا ضَلال وضَياع، وفي الآخرة حِساب وعِقاب، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الفِتن ستَـعمّكم فتعوَّذوا بالله مِن شرِّها". (السُّنن الواردة في الفِتن 1/ 299)، وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: استيقظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة فزعًا، يقول: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه لكي يصلين ـ ربَّ كاسِية في الدُّنيا عارية في الآخرة". (السُّنن الواردة في الفِتن 1/ 281)، وقد كان السَّلف الصَّالح ـ رضوان الله عليهم ـ يخشون خطر الفِتنة أيضًا..
.
قال مطرف بن الشخير: سمعتُ أبا الدَّرداء -رضي الله عنه-
يقول: "حبَّذا موتًا على الإسلام قبل الفِتن." (ابن حماد 1/ 159)، وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25) قال: تُصيب الصَّالح والظالم عامَّة، وكان الحسن البصري ـ رحمه الله ـ يقول: إن "الحجاج" عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتَّضرّع، فإن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76).
أمَّا "طلق بن حبيب" فقد كان يقول: اتَّـقوا الفِتنة بالتَّـقوى. فقيل له: أجمل لنا التَّقوى. فقال: التَّقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله." (رواه أحمد وابن أبي الدنيا)، ويقول "القنوجي" ناصِحًا: والإمساك في الفِتنة سنَّـة ماضيَة، واجب لزومها، فقدِّم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفِتنة بيد ولا لسان، ولكن اُكفف يدكَ ولسانك وهواك، ومَن ولي الخلافة واجتمع عليه النَّاس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، وجَبَت طاعته، وحرمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله ولخروج عليه وشق عصا المسلمين، وإن أمرك السُّلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتَّة، وليس لك أن تخرج عليه. (قطف الثَّمر 1/ 146).
السَّلامة مِن الفِـتـن
باتَ القلبُ في وَجَل، كيف السَّلامة مِن الفِتن؟!
لا سلامة مِنها إلا بما أرشدنا به نبيّ الأمَّة ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أمرنا بِـ:
1- لزوم جماعة المسلمين وإمامتهم:
والمقصود بها الجماعة المتمسِّكة بكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، فعن حذيفةَ بن اليمان قال: ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دُعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، مَن أطاعهم قحموه فيها. قال: قلتُ: يا رسول الله، فكيف النجاة منها؟ قال: «تَلزمُ جماعة المسلمين وإِمامَهم »، قلتُ: فإن لم يكن لهم إمامٌ ولا جماعةٌ؟ قال: «فاعتزلْ تلكَ الفرَقَ كلَّها، ولو أن تَعضَّ بأصلِ شجرة حتى يُدركَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك» (ابن حماد 1/ 143).
2- تَعلُّم العِلم، وتعليمه، والعمل به:
فالعالِم بَصير، يتَّقي بعلمه الفِتن، وينصح الآخرين ويحذِّرهم مِن شرِّها؛ عن عبد الله بنِ مَسْعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، عَن النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالَ: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وتَعَلَّمُوا القُرْآنَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وعَلِّمُوها النَّاسَ، فإنِّي امْرؤٌ مَقْبُوضٌ، وإنْ العِلْمَ سَيُقْبَضُ وتَظْهَرُ الفِتَن حتى يختلف الاثنان في الفَريضة، فلا يجدان أحداً يفصل بينهما» (السنن الواردة في الفتن 3/ 585).
3- التَّمسك بهديِ مَن مات مِن السَّلف الصَّالح:
لأن الحيّ لا يؤمن عليهِ الفِتنة.
4- طاعة السُّلطان وعدم الخروج عليه:
فإنها مِن أهم أسباب السَّلامة مِن الفِتن، فطاعة السُّلطان واجبة، وقد حرِّمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله، ولخروج عليه وشق عصا المسلمين، وإن أمَرَ السُّلطان بأمْرٍ هو لله مَعصية فليس لك أن تطيعه البتَّة، وليس لك أن تخرج عليه، فالخروج على السُّلطان يعني فوضى تعم البلاد والعباد، فتنتهك الحرمات، وتُسفك الدِّماء، وتضيع الحقوق والواجبات!
5- عدم المُشاركة في الفتنة إذا وقعت:
قال "البَرْبَهَارِيُّ": فإذا وقعت الفِتنة فالزم جوف بيتك، وفر مِن جوار الفِتنة، وإيَّاك والعصبيَّة، وكلّ ما كان مِن قتال بين المسلمين على الدُّنيا فهو فِتنة، فاتق الله وحده لا شريك له، ولا تخرج فيها ولا تهوى ولا تشايع ولا تمايل ولا تحب شيئا من أمورهم، فإنه يقال: مَن أحبَّ فعال قوم ـ خيرًا كان أو شرًّا كان ـ كمن عمله. (شرح السنة، البَرْبَهَارِيّ 1/ 47).
6- عدم بيع السِّلاح في الفتنة:
لأنَّ السِّلاح أداة الحرب ومُذْكيها، ومهيِّج للفِتنة، وقد نهى النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع السِّلاح في الحروب.
7- التَّمسك بكتاب الله، وسنَّة نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إني تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنَّتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" (المستدرك على الصحيحين 1/ 172).
العـقيـدة الإسـلاميَّـة
تعريف العقيدة
- لغة: مِن العَقْد، وهو الرَّبط والشَّد بقوَّة، ومنه الإحكام والإبرام، والعَقْد نقيض الحَلّ. وما عقد عليه الإنسان قلبَه جازمًا فهو عَقيدَة. (الصِّحاح ولسان العرب، مادة عَقَدَ).
- اصطلاحا: (أ) الإيمان الجازم، والحُكم القاطع، الذي لا يتطرَّق إليه الشَّك لدى المعتقد، بصرف النَّظر عن نوع الاعتقاد حقّ أم باطل، وسُمِّي عقيدة لأن الإنسان يعقد عليه قلبه.
(ب) حُكم الذَّهن الجازم، فإن طابق الواقع فصحيح، وإن خالف الواقع ففاسد، فاعتقادنا أنَّ الله واحد صحيح، بينما اعتقاد النَّصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع. (شرح العقيدة الواسطية 1/ 50).
- الاصطلاح الإسلامي:
الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيَّته وربوبيَّته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشرِّه، وبكلِّ ما جاءت به النُّصوص الصَّحيحة مِن أصول الدِّين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السَّلف الصَّالح، والتَّسليم لله تعالى في الحُكم والأمر والقَدَر والشَّرع، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالطَّاعة والتَّحكيم والإتِّباع. (مباحث في عقيدة أهل السُّنة والجماعة، د. ناصر العقل).
للعقيدة الإسلاميَّة مزايا خاصَّة، نذكر منها:
• سَلامة المصدر:
لاعتمادها على الكِتاب والسُّنة، وإجماع السَّلف وأقوالهم فحسب، وهذه الخاصيَّة تنفرد بها العقيدة الإسلاميَّة عن سائر العقائد الأخرى، التي يعتمد أصحابها على العقل والنَّظر، أو على الحدس والإلهام والرؤى والأحلام،أو عن طريق أشخاص يدَّعون لهم العِصمة، أو غير ذلك مِن المصادر البشريَّة التي يحكِّمونها في أمور الغيب.
• تقوم على التَّسليم لله تعالى، ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم:
وهو الإيمان الجازم بكلِّ ما جاء في كتاب الله، وسنَّة نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن أمور غيبيَّـة لا يمكن للعقل إدراكها، والتَّسليم بوجودها، دون إرهاق العقل لإثبات ذلك.
• موافقتها للفطرة القويمة والعقل السَّليم:
فيشعر المرء في ظلالها بالراحة والسَّكينة، بينما نجد المُبتدعة في ضلال وشكٍّ وحيرة، فجلَّ ما جاءوا به يخالف الفطرة ويناقض العقل، اتصال سندها بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصَّحابة والتَّابعين وأئمة الهُدى، قولا وعملا وعِلما واعتقادًا: فكلّ قضيَّة من قضايا العقيدة لها مرجعيتها الصَّحيحة مِن سنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو صحابته الكِرام والتَّابعين وأئمة الهدى.
• الوضوح والبيان:
فمسائلها وألفاظها ومعانيها واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، يَسْهل فهمها بخلاف عقائد بعض الفِرق الضَّالة.
• سلامتها مِن الاضطراب والتَّناقض:
وذلك لسلامة مَصدرها، فلا قول يناقض آخر، ولا مسألة تنفي أخرى؛ قال محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي صنَّفه "أقسام اللذات": تأمَّلتُ الطرق الكلاميَّة، والمناهج الفلسفيَّة، فما رأيتها تُشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن.
وكان يردِّد قائلا:
نهـاية إقدام العقــول عقال = وأكثر سعي العالمين ضلال.
وأرواحنا في وحشةٍ مِن جسومنا = وحاصل دنيانا أذى ووبال.
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا = سوى أن جمعنا قيل وقـال.
• سبب للظُّهور والنَّصر والفَلاح في الدَّارين: فأصحاب العقيدة الحقَّة هُم الذين يَصبرون ويُصابرون ويُرابطون، ويتَّقون الله، فيُكتب لهم النَّصر والتَّمكين في الدُّنيا، وهُم الفِرقة النَّاجية يوم القيامة. قالَ رسولُ اللّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّىٰ يَأْتِيَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (صحيح مسلم).
• عقيدة الجماعة والاجتماع:
فالعقيدة الإسلاميَّة تُجَمّع أهلها ولا تفرِّقهم، وتدعوهم دومًا إلى توحيد الصُّفوف، بخلاف أهل العقائد الباطلة الذين يتفرَّقون شِيَعًا وأحزابًا، كلّ منها يكفِّر الآخر، ويتّهمه بالضَّلال والفسوق.
• البَقاء والثَّبات والاستقرار:
فقد تداولت الأجيال ـ جيلا بعد جيل ـ معتقدات أهل السُّنة والجماعة دون تغيير أو تبديل، فقولهم في الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأسمائه وصفاته ثابت لم يتغيَّر، وكذلك قولهم في النُّبوَّةِ والقَدَر ونحوه، في حين نُلاحظ التَّغير في معتقدات أهل البِدع بتغيِّر الزمان أو المكان، وفقًا لأهوائهم.
أثر العـقيـدة الصَّافية في الحياة
إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ شَرع مِن العقائد والعبادات ما يُحقِّق للإنسان الرَّاحة والاطمئنان، فهو العليم بخلقه وشؤونهم، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14)، والإيمان الحقّ هو السَّبيل إلى نيلِ الأمْن في الدُّنيا، والسَّعادة في الآخرة، قالَ ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)، وفي هذه الآية شرطان: الإيمان، والبُعد عن الظُّلم في الإيمان، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، لذا كانت العَقيدة الإسلاميَّـة خيرُ مُعين للمرء على أن يحيا حياته بصورة طيِّـبة، فما يَـعْـتقده الإنسان يكون سَببًا في توجيه تفكيره وسلوكه.
إنَّ صاحب العقيدة الصَّافية لا يتخبَّط كما يتخبَّط الآخرون بحثًا عن رمز يحذو حذوه، لأن قدوته معروفة، قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو قدوته الثَّابتة، قدوة في الدِّين والخُلُق والتَّعامل، وفي كلِّ شأن مِن شؤون الحياة، وصاحب العَقيدة الصَّافية لديه دستورًا خاصًّا يحتكم إلى ما جاء فيه فيَهتَدي، هو في مأمن مع كِتاب الله وشرعه المُنزَّل. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 52)، وصاحب العَقيدة الصَّافية على يقين أن هناك ملائكة تحصي عليه أقواله وأفعاله، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18)، لذا نجده في يقظة ومُراقبة للنَّفسِ دائمة، تدفعه إلى إصلاح العمل، واستقامة السلوك، علَّه ينجو في دنياه وآخرته.
وصاحب العَقيدة الصَّافية يؤمن بأن الدُّنيا دار فناء لا دار جَزاء، وأن هناك دار أخرى باقية، وأن هناك يوم آخر يُحاسب فيه المرء على كلِّ كبيرة وصغيرة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7،8)، فيكون إيمانه هذا كابِحًا للشَّهوات، رادِعًا للنَّـزوات، وحاثًّا على فعل الخيرات، ليفوز بجنَّة عرضها كعرض الأرض والسَّموات، وصاحب العَقيدة الصَّافية لا تقلقه المصائب، ولا تكدِّر صفو عيشه النَّوازل، فهو يؤمن بأن أقدار الله كلّها خير، وله في كلِّ قَدَر حِكمة ـ يُجلِّيها لمن يشاء مِن عباده، ويخفيها عمَّن يشاء، ويؤمن أيضاً أن المحنة تنقلب مِنحة، إن صَبَرَ ولم يَجزع، وحمد الله على كل حال، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10)، وهكذا يكون أثر العقيدة الإسلامية طيِّـبًا في حياة الإنسان، وتكون العقيدة الصَّافية سببًا في صفاء قلبه وحياته وآخرته.
فِـتـنـة المـال
فطر الله النَّاس على حبِّ المال، والمقصود بالمال: هو ما يتملَّكه الإنسان مِن نَقد ومعادن ثمينة، منازل، ومراكب، ونحو ذلك مما يكون فيه الابتلاء والامتحان مِن الله ـ سبحانه وتعالى ـ للعَبد، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (الفجر: 20)، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدمَ وادِيانِ من مال لابتغى ثالثاً، ولا يَملأ جَوفَ ابن آدمَ إلا التراب، ويتوبُ اللهُ على مَن تاب» (صحيح مسلم)، وحبّ المال متأصل في النَّفس البشريَّة، يكبر مع المرء كلما كَبر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَلْبُ الشَّيْخِ شَاب عَلَىٰ حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ» (صحيح مسلم).
لهذا كانت فِتنة المال مِن أعظم الفِتن التي تُطيح بالإنسان، ولا يسلم منها إلا مَن سلَّمه الله، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15)، وقال رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فو اللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلَكم، فتنافَسوها كما تَنافسوها، وتُهلكَكم كما أهلَكَتْهم» (صحيح البخاري).
وقد يسأل سائل:
أليس المال رِزق وهو من جُملة الخير، فكيف يكون فتنة؟! أوَ يأْتي الخيرُ بالشرِّ؟!
المال بحدِّ ذاته ليسَ خيرًا حقيقيًّا، وإنما يكون خيرًا إن أُخلِصَت النِّيَّة في طلبه مِن سَبيل حَلال، وتمَّ صَرفه في وجوهه المشروعة، مما يعود على صاحبه وعلى الآخرين بالنَّفع والثَّواب مِن عند الله ـ سبحانه وتعالى، ويكون فِتنة إذا بُخِل به عمَّن يستحقه، أو أُسرِف في إنفاقه فيما لم يشرع، وهكذا يُمسي الخيرُ شرًّا لسوء استخدامه!
أخطار فتنة المال
إنَّ لفِتنة المال أخطارًا مُتنوِّعة، تُصيب دين المرء ونفسه وعقله وماله وعرضه، فكم مِن لاهثٍ وراء المال ضيَّع صلاته وصيامه وأمانته فأضاع دينه، وكم من نَفس قُتِلت بسبب الخلاف على مبلغ مِن المال، سواء كان القتل على مستوى الأفراد في النزاعات، أو على مستوى الدول والشُّعوب في الحروب، وكم مِن أشخاص سُلبَت منهم العُقول جراء صَدمة خسران المال، وكم مِن أموال نُهبَت شهوةً في الغِنى والثَّراء، وكم مِن عِرض دُنِّس مِن أجل المال وكسبه، وكم من أمانات ضُيِّعت ـ كالزوجة والأبناء ـ لانشغال المسؤول بجمع المال وتنميته!
إن صاحب المال مَفتون ـ إلا مَن رحمه الله، تراه مُتكبِّرًا، مُترفِّعًا على القرناء، مُتجبِّرًا على الضُّعفاء، يأكل أموالهم بالباطل، كما يأكل الرِّبا وأموال اليتامى دون تورّع أو خوف، يمنع الزِّكاة خشية نقصان ثروته، وقد يستغل الوصايا والأوقاف التي أوقفت على الأعمال الخيرية لزيادة رصيده، مُتناسِيًا التَّهديد والوعيد، غافلاً عمَّا سيلاقيه يوم الحَسرة والنَّدامة... قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)، وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35).
صور مُعاصرة لفِتنة المال
لكلِّ زمان خصائصه، وفي زماننا هذا بُسِطَت الدُّنيا للنَّاس، فتنوَّعت وسائل الكَسب، وتطوَّرت طرق الحيل والخِداع، فلم تعد قاصرة على برامج التَّمويل، وصناديق الاستثمار التي تجلب العُملاء إلى المصارف والبنوك، بل تعدَّى ذلك إلى جهات كثيرة كوسائل الإعلام وما تطرحه من مُسابقات تجني مِن ريعها مالا تَدفع منه ما وَعَدَت به مِن جوائز، وشركات الاتصال والتَّصويت عبر الرسائل التي يختلف سعرها عن سعر الرسالة المعتاد، وتجارة الأسهم وتداولها، وما ينتج عنها ـ أحيانًا ـ مِن أرباح طائلة دون تعب أو عناء! أضف إلى ذلك سَعْي بعض النَّاس إلى البروز في قائمة أغنى أغنياء العالم، التي تُنشر هنا وهناك عبر وسائل الإعلام المختلفة، ورغبة بعضهم الآخر في امتلاك شركات عالميَّة لها صيتها في العالم كلّه، أمَّا المفاخرة بامتلاك العقارات الضَّخمة، والبيوت الفارهة، وبناء الأبراج وناطحات السَّحاب فقد باتت (موضة) هذا العَصر.
أثر العَـقيـدة في الـنَّـجاة مِن فِـتـنـة المـال
ويَسأل سائل:
كيف تكون العَقيدة الإسلاميَّـة سببًا في النَّجاةِ من فِتنة المال؟
فنُجيب وبالله التوفيق...
أولا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى
إن الإيمان بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ومعرفة ما له مِن صفات الكمال، ونعوت الجلال، يقي الإنسان مِن فِتنة المال، فالله هو الرازق، المانِح، المعطي، المانِع، المُنعِم، قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} (النحل: 53)، أي ما بالعِباد مِن رزق ونِعْمَة وعافية ونَصر فمن فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ولا يقدر على إزالة نِعمه إلا هو ـ سبحانه وتعالى، فعندما يَستقرّ هذا المعنى في قلبِ الإنسان يُصبح اعتماده وتوكّله على الله وحده في طلب الرِّزق، فلا يتعلَّق قلبه بأسباب دنيويَّة، ولا يَسعى للكسب بطرق مُلتوية، كما أن مِن أهم جوانب النَّجاة مِن هذه الفِتنة هو الثِّقة بوعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ كانتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وجَمَعَ لهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنيَا وهيَ راغِمَةٌ، ومَنْ كَانَتْ الدُّنيَا هَمُّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ ما قُدِّرَ لهُ» ( سنن الترمذي).
وأيضا لنا في الدُّعاء وحُسن اللُّجوء إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقاية مِن هذه الفِتنة، فعن عائشة ـ رضيَ اللّه عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسلِ والهرَم، والمأثم والمغْرم، ومن فِتنةِ القبر وعذاب القبر، ومن فِتنةِ النار وعذابِ النار، ومن شر فِتنةِ الغِنى، وأعوذ بك من فِتنةِ الفقر، وأعوذ بك من فتنةِ المسيح الدجَّال. اللهم اغسِلْ عني خَطايايَ بماء الثلج والبرَد، ونَقِّ قلبي من الخطايا كما نَقيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنس، وباعِد بيني وبين خَطايايَ كما باعَدْتَ بينَ المشرق والمغرب» (صحيح البخاري)، ومِن الأدعية المناسبة المتعلِّقة بالمال والتي تكون سببًا في السَّلامة مِن الفتنة قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201).
ثانيًا: الإيمان بالكُتب
إنَّ الإيمان بكتبِ الله المنزلة على أنبيائه ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ وما جاء فيها مِن توجيهات ربانيَّة لعلاج هذه الفِتنة، إنما هو طوق نجاة، يحمي المرء ويعينه على الوصول إلى برِّ الأمان، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص: 76، 78)، سُنن الله في خَلقه لا تتبدَّل، والعاقل مَن يتَّعظ بغيره.
ثالثًا: الإيمان بالرُّسل
الإيمان بالرُّسل يكون بالتَّصديق والإتباع والاقتداء، ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة، في زهده وتواضعه، وهجره للدُّنيا وزخرفها، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو على حصير قد أثّر في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا، فقال: «مالي وللدنيا؟ وما للدنيا ومالي؟ والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثمَّ راح وتركها» (شعب الإيمان 2/ 166)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كان يأتي على آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشهر ما يوقدون فيه ناراً، ليس إلا التمر والماء، إلا أن نؤتىٰ باللحم» (صحيح البخاري).
فالدُّنيا كلها لا تساوي عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا، لأنها لا تساوي عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ شيئًا، و «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (سنن الترمذي)، فهذه هي حقيقة المال وكلّ مُتع الدُّنيا، لذا على الإنسان أن يصبر على شَظِف العيش، كما صبر نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ، يقتصد في الإنفاق، يقتنع بالقليل، ويشكر الربّ الجليل، لينال الأجر الوفير. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).
يتبع إن شاء الله...