الباب الحادي عشر: في المشورة والنصيحة والتجارب والنظر في العواقب
------------------------------------------------------------------
قال الله تعالى لنبيه ( وشاورهم في الأمر ) واختلف أهل التأويل في أمره بالمشاورة مع ما أمده الله تعالى من التوفيق على ثلاثة أوجه أحدها أنه أمره بها في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيعمل عليه وهذا قول الحسن ثانيها أنه امره بالمشاورة لما علم فيها من الفضل وهذا قول الضحاك ثالثها أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون وإن كان في غنية عن مشورتهم وهذا قول سفيان وقال ابن عيينة كان رسول الله إذا أراد أمرا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إلى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم منه ليشاور الرجل الناس وإن كان عالماً وقال عليه الصلاة والسلام ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا افتقر من اقتصد وقال عليه الصلاة والسلام من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل.
وكان يقال ما استنبط الصواب بمثل المشاورة.
وقال حكيم: المشورة موكل بها التوفيق لصواب الرأي.
وقال الحسن: الناس ثلاثة فرجل رجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة وأما الرجل الذي هو نصف رجل فالذي له رأي ولا يشاور وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور.
وقال المنصور لولده: خذ عني اثنتين لا تقل في غير تفكير ولا تعمل بغير تدبير.
وقال الفضل: المشورة فيها بركة وإني لأستشير حتى هذه الحبشية الأعجمية.
وقال أعرابي: لا مال أوفر من العقل ولا فقر أعظم من الجهل ولا ظهر أقوى من المشورة.
وقيل: مَنْ بدأ بالاستخارة وثنى يالاستشارة فحقيق أن لا يخيب رأيه.
وقيل: الرأي السديد أحمى من البطل الشديد.
قال أبو القاسم النهروندي:
( وما ألف مطر ورالسنان مسدد ... يعارض يوم الروع رأيا مسددا )
وقال علي رضي الله عنه: خاطر مَنْ استغنى برأيه.
وسمع محمد ابن داود وزير المأمون قول القائل:
( إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن يترددا )
فأضاف إليه قوله:
( وإن كنت ذا عزم فانفذه عاجلاً ... فإن فساد العزم أن يتقيدا )
ولمحمد بن إدريس الطائي:
( ذهب الصواب برأيه فكأنما ... آراؤه اشتقت من التأييد )
( فإذا دجا خطب تبلج رأيه ... صبحا من التوفيق والتسديد )
ولمحمد الوراق:
( إن اللبيب إذا تفرق أمره ... فتق الأمور مناظرا ومشاورا )
( وأخو الجهالة يستبد برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا )
وقال الرشيد حين بدا له تقديم الأمين على المأمون في العهد:
( لقد بان وجه الرأي لي غير أنني ... عدلت عن الأمر الذي كان أحزما )
( فكيف يرد الدر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهباً مقسماً )
( أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما )
وقال آخر:
( خليلي ليس الرأي في جنب واحد ... أشيرا علي اليوم ما تريان )
ووصف رجل عضد الدولة فقال له: وجه فيه ألف عين وفم فيه ألف لسان وصدر فيه ألف قلب.
وقال أردشير بن بابك: أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجربة وقال لا تستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها.
وقال جعفر بن محمد: لا تكونن أول مشير وإياك الرأي الخطير وتجنب ارتجال الكلام ولا تشيرن على مستبد برأيه ولا على متلون ولا على لحوح.
وقيل: ينبغي أن يكون المستشار صحيح العلم مهذب الرأي فليس كل عالم يعرف الرأي الصائب وكم ناقد في شيء ضعيف في غيره.
قال ابو الأسود الدؤلي:
( وما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب )
( ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب )
وكان اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على أمر يستشيرونهم فيه وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به لمعان شتى منها: لئلا يقع بين المستشارين منافسة فتذهب إصابة الرأي لأن من طباع المشتركين في الأمر التنافس والطعن من بعضهم في بعض وربما سبق احدهم بالرأي الصواب فحسدوه وعارضوه وفي اجتماعهم أيضاً للمشورة تعريض السر للإذاعة فإذا كان كذلك وأذيع السر لم يقدر الملك على مقابلة من أذاعه للابهام فإن عاقب الكل عاقبهم بذنب واحد وإن عفا عنهم ألحق الجاني بمن لا ذنب له.
وقيل إذا أشار عليك صاحبك برأي ولم تحمد عاقبته فلا تجعلن ذلك عليه لوماً وعتاباً بأن تقول أنت فعلت وأنت أمرتني ولولا أنت فهذا كله ضجر ولوم وخفة.
وقال أفلاطون: إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه بالاستشارة قد خرج عن عداوتك إلى موالاتك.
وقيل: مَنْ بذل نصحه واجتهاده لمَنْ لا يشكره فهو كمَنْ بذر في السباخ.
قال الشاعر يمدح من له رأي وبصيرة:
( بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه )
وقال ابن المعتز: المشورة راحة لك وتعب على غيرك.
وقال الأحنف: لا تشاور الجائع حتى يشبع ولا العطشان حتى يروى ولا الأسير حتى يطلق ولا المقل حتى يجد.
ولمَّا أراد نوح بن مريم قاضي مروان أن يزوج ابنته استشار جاراً له مجوسياً فقال: سبحان الله الناس يستفتونك وأنك تستفتيني؟ قال: لابد أن تشير عليَّ، فقال المجوسي: إن رئيس الفرس كسرى كان يختار المال ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال ورئيس العرب كان يختار الحسب ورئيسكم محمد كان يختار الدين، فانظر لنفسك بمَنْ تقتدي.
وكان يُقال: مَنْ أعطى أربعاً لم يُمنع أربعاً مَنْ أعطى الشكر لم يُمنع المزيد ومَنْ أعطى التوبة لم يُمنع القبول ومَنْ أعطى الاستخارة لم يُمنع الخيرة ومَنْ أعطى المشورة لم يُمنع الصواب.
وقيل إذا استخار الرجل ربه واستشار صحبه وأجهد رأيه فقد قضى ما عليه ويقضي الله تعالى في امره ما يحب.
وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره وتقديمه خير من تأخيره.
وقالت الحكماء: لا تشاور معلماً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء ولا صاحب حاجة يريد قضاءها ولا خائفاً ولا حاقناً.
وقيل: سبعة لا ينبغي لصاحب أن يشاورهم جاهل وعدو وحسود ومراء وجبان وبخيل وذو هوى فان الجاهل يضل والعدو يريد الهلاك والحسود يتمنى زوال النعمة والمرائي واقف مع رضا الناس والجبان من رأيه الهرب والبخيل حريص على جمع المال فلا رأي له في غيره وذو الهوى أسير هواه فلا يقدر على مخالفته.
وحكي أن رجلاً من أهل يثرب يعرف بالأسلمي قال: ركبني دَيْنٌ أثقل كاهلي وطالبني به مستحقوه واشتدت حاجتي إلى ما لابد منه وضاقت عليَّ الأرض ولم أهتد إلى ما أصنع فشاورت مَنْ أثق به من ذوي المودة والرأي فأشار عليَّ بقصد المُهلّب بن أبي صفرة بالعراق فقلت له: تمنعني المشقة وبعد الشقة وتيه المُهلّب ثم إني عدلت عن ذلك المُشير إلى استشارة غيره فلا والله ما زادني على ما ذكره الصديق الأول فرأيت أن قبول المشورة خير من مخالفتها فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق وقصدت العراق فلما وصلت دخلت على المُهلّب فسلمت عليه وقلت له: أصلح الله الأمير إني قطعت إليك الدهنا وضربت أكباد الأبل من يثرب فإنه أشار علي بعض ذوي الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي.. فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو بقرابة وعشيرة؟ فقلت: لا ولكني رأيتك أهلاً لقضاء حاجتي فان قمت بها فأهل لذلك أنت وأن يحل دونها حائل لم أذم يومك ولم أيأس من غدك.. فقال المهلب لحاجبه: اذهب به وادفع إليه ما في خزانة مالنا الساعة فأخذني معه فوجدت في خزانته ثمانين ألف درهم فدفعها إليَّ فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحاً وسروراً.. ثم عاد الحاجب به إليه مسرعاً.. فقال: هل ما وصلك يقوم بقضاء حاجتك؟ فقلت: نعم أيها الأمير وزيادة.. فقال: الحمد لله على نجح سعيك واجتنائك جني مشورتك وتحقق ظن مَنْ أشار عليك بقصدنا.. قال الأسلمي: فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:
( يا مَنْ على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود )
( عمَّت عطاياك أهل الأرض قاطبة ... فأنت والجود منحوتان من عود )
( مَنْ استشار فباب النجح منفتح ... لديه فيما ابتغاه غير مردود )
ثم عدت إلى المدينة فقضيت ديني ووسعت على أهلي وجازيت المشير عليَّ وعاهدت الله تعالى أن لا أترك الاستشارة في جميع أموري ما عشت.
وحكي عن الخليفة المنصور أنه كان صدر من عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس أموراً مؤلمة لا تحتملها حراسة الخلافة ولا تتجاوز عنها سياسة الملك فحبسه عنده ثم بلغه عن ابن عمه عيسى بن موسى ابن علي وكان والياً على الكوفة ما أفسد عقيدته فيه وأوحشه منه وصرف وجه ميله إليه عنه فتألم المنصور من ذلك وساء ظنه وتأرق جفنه وقل أمنه وتزايد خوفه وحزنه فأدته فكرته إلى أمر دبره وكتمه عن جميع حاشيته وستره واستحضر ابن عمه عيسى ابن موسى وأجراه على عادة إكرامه ثم أخرج مَنْ كان بحضرته وأقبل على عيسى وقال له: يا ابن العم إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله ولا أرى سواك مساعداً لي على حمل ثقله فهل أنت في موضع ظني بك وعامل ما فيه بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي؟ فقال له عيسى بن موسى: أنا عبد أمير المؤمنين ونفسي طوع أمره ونهيه، فقال: إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته واعتمد على ما بعضه يبيح دمه وفي قتله صلاح ملكنا فخذه إليك واقتله سراً ثم سلمه إليه، وعزم المنصور على الحج مضمراً أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص وسلمه إلى أعمامه أخوة عبد الله ليقتلوه به قصاصاً فيكون قد استراح من الاثنين عبد الله وعيسى، قال عيسى: فلما أخذت عمي وفكرت في قتله رأيت من الرأي أن أشاور في قضيته مَنْ له رأي عسى أن أصيب الصواب في ذلك فأحضرت يونس ابن قرة الكاتب وكان لي حسن ظن في رأيه وعقيدة صالحة في معروفته فقلت له: إن أمير المؤمنين دفع إليَّ عمه عبد الله وأمرني بقتله وإخفاء امره فما رأيك في ذلك وما تشير به؟ فقال لي يونس: أيها الأمير احفظ نفسك يحفظ عمك وعم أمير المؤمنين فإني أرى لك أن تدخله في مكان داخل دارك وتكتم أمره عن كل أحد ممَّنْ عندك وتتولى بنفسك حمل طعامه وشرابه إليه وتجعل دونه مغالق وأبواباً وأظهر لأمير المؤمنين أنك قتلته وأنفذت أمره فيه وانتهيت إلى العمل بطاعته فكأني به إذا تحقق منك أنك فعلت ما أمرك به وقتلت عمه أمرك باحضاره على رؤوس الأشهاد فان اعترفت أنك قتلته بأمره أنكر أمره لك وآخذك بقتله وقتلك، قال عيسى بن موسى: فقبلت مشورة يونس وعملت بها وأظهرت لأمير المؤمنين إني أنفذت أمره ثم حجَّ المنصور فلما قدم من حجه وقد استقر في نفسه أنني قد قتلت عمه عبد الله دس إلي عمومته أخوة عبد الله وحثَّهم على أن يسألوه في أخيهم ويستوهبوه منه فجاؤا إليه وقد جلس والناس بين يديه على مراتبهم فسألوه في عبد الله فقال: نعم إن حقوقكم تقتضي إسعافكم بحاجتكم كيف وفيها صلة رحم وإحسان إلى مَنْ هو في مقام الوالد ثم أمر باحضار عيسى بن موسى فأحضر لوقته، فقال يا عيسى كنت دفعت إليك قبل خروجي إلى الحج عمي عبد الله ليكون عندك في منزلك إلى حين رجوعي، فقال عيسى: قد فعلت يا أمير المؤمنين، فقال المنصور: وقد سألني فيه عمومتك وقد رأيت الصفح عنه وقضاء حاجتهم وصلة الرحم بإجابة سؤالهم فيه فائتنا به الساعة، قال عيسى: فقلت يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله والمبادرة إلى ذلك؟ قال: كذبت لم آمرك بذلك ولو أردت قتله لأسلمته إلى مَنْ هو بصدد ذلك ثم أظهر الغيظ وقال لعمومته: قد أقر بقتل أخيكم مُدعياً أنني أمرته بقتله وقد كذب عليَّ، قالوا: يا أمير المؤمنين فادفعه إلينا لنقتله به ونقتص منه فقال شأنكم به، قال عيسى: فأخذوني إلى الرحة واجتمع الناس عليَّ فقام واحد من عمومتي إليَّ وسلَّ سيفهُ ليضربني به فقلت له: يا عم أفاعلٌ أنت؟ قال: أي والله، كيف لا أقتلك وقد قتلت أخي؟ فقال لهم: لا تعجلوا وردوني إلى أمير المؤمنين، فردوني إليه، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أردت قتلي بقتله والذي دبرته عليَّ عصمني الله تعالى من فعله وهذا عمك باق حي سَوي فإن أمرتني بدفعه إليهم دفعته الساعة، فأطرق المنصور وعلم أن ريح فكره صادفت إعصاراً وأن انفراده بتدبيره قارف خساراً ثم رفع رأسه وقال: ائتنا به فمضى عيسى وأحضر عبد الله فلما رآه المنصور قال لعمومته اتركوه عندي وانصرفوا حتى أرى فيه رأياً، قال عيسى: فتركته وانصرفت وانصرف إخوته فسلمت روحي وزالت كُربتي وكان ذلك ببركة الاستشارة بيونس وقبول مشورته والعمل بها، ثم إن المنصور أسكن عبد الله في بيت أساسه قد بُني على الملح ثم أرسل الماء حوله ليلاً فذاب الملح وسقط البيت فمات عبد الله ودفن بمقابر باب الشام وسلم عيسى من هذه المكيدة ومن سهام مراميها البعيدة.
ومما جاء في النصيحة: اعلموا أن النصيحة للمسلمين وللخلائق أجمعين من سنن المرسلين قال الله تعالى إخباراً عن نوح عليه الصلاة والسلام: ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ) وقال شعيب عليه السلام: ( ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) وقال صالح عليه السلام: ( ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ).
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة، قالوا لمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم )، فالنصح لله هو وصفه بما هو أهله وتنزيهه عما ليس له بأهل والقيام بتعظيمه والخضوع له ظاهراً وباطناً والرغبة في محابه والبعد عن مساخطه وموالاة من أطاعه ومعاداة مَنْ عصاه والجهاد في رد العُصاة إلى طاعته قولاً وفعلاً والنصيحة لكتابه إقامته في التلاوة وتحسينه عند القراءة وتفهم ما فيه والذَّب عنه من تأويل المحدثين وطعن الطاعنين وتعليم ما فيه للخلائق أجمعين، قال الله تعالى: ( كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبرُوا آياته وليتذكر أولوا الألباب )، والنصيحة للرسول -صلى الله عليه وسلم- إحياء سنته بالطلب لها وإحياء طريقته في بث الدعوى وتأليف الكلمة والتخلق بالأخلاق الطاهرة، والنصيحة للأئمة معاونتهم على ما كُلِّفُوا القيام به بتنبيههم عند الغفلة وإرشادهم عند الهفوة وتعليمهم ما جهلوا وتحذيرهم ممَّنْ يُريد بهم السُّوء وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية وسد خلتهم عند الحاجة ورد القلوب النافرة إليهم، والنصيحة لعامة للمسلمين الشفقة عليهم وتوقير كبيرهم والرحمة لصغيرهم وتفريج كربهم وتوقي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم، واعلم أن جرعة النصيحة مُرَّةً لا يقبلها إلا أولوأ العزم.
وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
وفي منثور الحكم: ودَّك مَنْ نصحك وقلاك مَنْ مشى في هواك.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن شئتم لأنصحن لكم إن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحبون الله تعالى إلى عباده ويعملون في الأرض نصحاً.
ولورقة بن نوفل:
( لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... إني النذير فلا يغرركم أحد )
( لا شيء ممَّا ترى تبقى بشاشته ... إلا الإله ويردى المال والولد )
( لم تغن عن هرمز يوماً ذخائره ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا )
وقال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد: إني قد أعددتك لأمر، قال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أعد لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك ويداً مبسوطة لطاعتك وسيفاً مجرداً على عدوك.
وأنشد الأصمعي:
( النصح أرخص ما باع الرجال فلا ... تردد على ناصح نصحاً ولا تلم )
( إن النصائح لا تخفى مناهلها ... على الرجال ذوي الألباب والفهم )
ولمعاذ بن مسلم:
( نصحتك والنصحية إن تعدت ... هوى المنصوح عز لها القبول )
( فخالفت الذي لك فيه حظ ... فنالك دون ما أملت غول )
وقيل: أشار فيروز بن حصين على يزيد بن المهلب أن لا يضع يده في يد الحجاج فلم يقبل منه وسار إليه فحبسه وحبس أهله فقال فيروز:
( أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً )
( أمرتك بالحجاج إذ أنت قادر ... فنفسك أولى اللوم إن كنت لائماً )
( فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالماً )
ويُقال: مَنْ اصفَّر وجهه من النصيحة اسود لونه من الفضيحة.\
وقال طرفة:
( ولا ترفدن النصح من ليس أهله ... وكن حين تستغني برأيك غانياً )
( وإن امرأ يوماً تولى برأيه ... فدعه يصيب الرشد أو يك غاوياً )
وفي مثله قال بعضهم:
( من الناس مَنْ أن يستشرك فتجتهد ... له الرأي يستغششك ما لم تتابعه )
( فلا تمتحن الرأي مَنْ ليس أهله ... فلا أنت محمودٌ ولا الرأي نافعه )
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.