اليوم الثالث عشر: واصبر وما صبرك إلا بالله
بقلم: الشيخ عوينات محي الدين
هذا هو شهر الصبر بمعناه الواسع الشامل، الذي يرجى به أن يصل المسلم إلى أرقى درجات الإيمان. والصبر من أعظم أبواب الفضائل، ويدخل في كل المكرمات:
· فإن كان حبس النفس لمصيبة سُمي صبرًا، وإن كان في قتال سُمي شجاعةً، وإن كان إمساك الكلام سُمي كتمانًا، وإن كان عن فضول العيش سُمي زهدًا، وإن كان عن شهوة الفرج سُمي عفةً، وإن كان عن شهوة طعام سُمي شرف النفس، وإن كان عن إجابة داعي النفس عند الغضب سُمي حلمًا.
· فكل هؤلاء صبروا.. وعليه يتبين أن غالب أحوال الإنسان الشريفة ما هي إلا صبر.
• ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا.
• وقرنه بالصلاة، قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة: 45].
• وجعل عاقبته الطيبة هي الإمامة في الدين فهي نتيجة الصبر واليقين، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة: 24].
وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.. كما ثبت في الحديث الشريف.
ثم إن انتظار الفرج الموعود، وانتظار الخير المفقود في حد ذاته عبادة. لأن هذا الانتظار ما هو إلا توكل على الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا} رواه أحمد والترمذي
وقد سمي رمضان بشهر الصبر لاشتماله على أنواع الصبر الثلاثة – الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله – لذلك قال الله في الحديث القدسي: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به "
ومعظم المسلمين يفرح بمقدم هذا الشهر، لكن الفرح به فقط لا يجدي ، بل لابد من الصبر على مداومة الطاعات، فما هو إلا زمن وينتهي، وربما يأتي العام المقبل وأنت في عداد الموتى، أو موجود وأصابك المرض، أو موجود - نسأل الله السلامة- وقد ضعف إيمانك، واعلم أن تتابع فرص الطاعات على الإنسان مع تتابع تضييعها يؤدي إلى ضعف الإيمان.
لذا.. على الإنسان شكر الله على بلوغ هذا الشهر والصبر على اغتنامه.
قال تعالى:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر: 10 ].
فالصوم يختص من بين باقي الأعمال بأنه سر بين العبد وربه، والمطلب مراقبة الله، وهذه المراقبة ما هي إلا صبر على تحري ما يرضي الله فيقبل عليه العبد، وعلى تحري ما يغضب الرب فينفر منه العبد.
فاصبر على مراقبة الله، واعلم أن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته.
قال ابن الجوزي:
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة. كم من مؤمن لله عز وجل يحترمه عند الخلوات، يترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودًا هنديًا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، وعلى قدر زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود. اهـ
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه} متفق عليه.
فالعبد قد يصوم طيلة العام من النوافل كيومي الاثنين والخميس، والأيام البيض وله في ذلك أجر، لكن صيام رمضان كان جزاؤه أن يغفر له ما تقدم من ذنبه.
كذلك القيام، قد يقوم العبد طيلة العام وله في ذلك أجر لكن قيام رمضان جزاؤه أن يغفر له ما تقدم من ذنبه.
فالأعمال في رمضان لها ميزان مختلف وأجر مختلف فاشكر الله.
اصبرحتى يكون الصوم صانعاً للأخلاق الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: { إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم} رواه البخاري.
واعلم أن للصوم ثلاث مراتب:
صوم العموم: وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة..
وهذا كل الناس يقوم به.
صوم الخصوص: وهو كف النظر، واللسان، واليد، والسمع عن الآثام.
صوم خصوص الخصوص: وهو صوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله بالكلية. وهذا لا يبلغه العبد إلا بجهد وصبر.
اصبرعلى طلب القبول من الله بعد انقياد نفسك للطاعات ، تذكر أن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام كانا يرفعان القواعد من البيت و يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة: 127].
اصبرعلى تدريبك لأولادك وصغار بيتك على الصيام .
عن الربيع بنت معوذ- رضي الله عنها – قالت: { كنا نصومه بعد ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكي أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار} رواه البخاري.
فابذل جهودك واصبر على تدريبهم فإنك مأجور.
اصبرعلى الاجتهاد في الدعاء والتأدب بأدبه.
ومن بينها مسألة الإلحاح في الدعاء فإنه مطلوب، لأن البعض قد يسول له الشيطان يقول له: بما أن دعاء الصائم مقبول فلا حاجة إلى الإلحاح.
ولننتبه إلى أن يكون الدعاء بخيري الدنيا والآخرة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[ البقرة : 201].
فيا من يرقب ساعات الإجابة ويطلب من غيره الدعاء له ،، هاهي الفرص بين يديك..
واصبر على المداومة على هذا العمل، فلما سئلت عائشة رضي الله عنه عن أحب الأعمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أدومها وإن قل. رواه البخاري.
وهناك فهم خاطئ لهذه المسألة فالبعض يظن أن القليل هو المطلوب والصواب: أن الكثير مطلوب أيضًا مع المداومة، فالشرط في العمل مع المداومة قلّ العمل أو كثر.
واصبرعلى تأخير أكلة السحور وأنت محتسب.قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور} رواه أحمد. متبعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالمحتسب يغير حياته كلها لأجل الله، فهو يأكل في وقت محبوب فيه النوم ،ويمسك في وقت محبوب فيه الأكل ،فيترك المحبوب في الوقت المحبوب لما هو أحب منه.
واصبر على ملازمة قراءته وفهم معانيه.
واحرص على تدبره بأن تختار لنفسك جزءًا معينًا وتقرأ تفسيره مع مداومة قراءة كتاب الله، أو كلما قرأت آية ولم تفهمها فاقرأ تفسيرها، والأنفع الجمع بين الطريقتين.
اصبر على تدريب النفس والجوارح لتكون لك كما يريد الله.
قال تعالى في الحديث القدسي: {ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها} رواه البخاري.
اصبرعلى مدافعة الهوى والمشاغل والتفرغ في هذه العشر.
عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها { كان إذا دخلت العشر أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل وأيقظ أهله وشد المئزر} أخرجه النسائي في سننه.
هذا ونسأل الله أن يجعلنا من الفائزين برمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.