ح29: حديث معاذ بن جبل: (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة...) ت
-------------------------------------
29- عن معاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني عَنِ النَّارِ.
قالَ:((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ , وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)). ثمَّ قَالَ: ((أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)). ثُمَّ تَلاَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ..} حَتى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} . ثُمَّ قالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟)).
قُلْتُ: بَلى يَا رسولَ اللهِ. قالَ: ((رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)). ثمَّ قالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)).
قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقالَ:((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).
قُلْتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به؟ فقالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أو قالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِم- إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).
رواه التِّرمذيُّ, وقالَ: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ.
-------------------
شرح فضيلة الشيخ:
محمد حياة السندي
-----------------
(1) تَرْجَمَةُ الصَّحابيِّ: سَبَقَ ذِكْرُها في الحديثِ الثَّامِنَ عَشَرَ.
الشَّرْحُ:
(عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ) إذَا عَمِلْتُهُ (يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ) أَيْ: يكونُ ذَلِكَ العَمَلُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ يُدْخِلُنِي اللهُ تَعَالَى لأَجْلِهِ الْجَنَّةَ.
(وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ) وَمَعْرِفَةُ مِثْلِ هذا مِنْ أَهمِّ الأُمُورِ.
(قالَ): وَاللهِ ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ)) أَمْرٍ ((عَظِيمِ)) الشَّأْنِ وَالْمِقْدَارِ؛ لأَنَّ ما يُوجِبُ الفَوْزَ بالجِنَانِ، والنَّجَاةَ مِنَ النِّيرَانِ، لَشَيْءٌ عَظِيمٌ، أَوْ أَمْرٌ ثَقِيلٌ؛ لأنَّ مُوجِبَ ما تَقَدَّمَ أَمْرٌ صَعْبٌ، أَوْ عَنْ أَمْرٍ صَعْبٍ بَيَانُهُ؛ لأنَّ لِمَا يُوجِبُ الظَّفَرَ بأَجَلِّ النِّعَمِ وَالخَلاصَ مِنَ الجَحِيمِ، لَعُرْضًا عَرِيضًا، وَشَرْحًا طَويلاً.
((وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ)): لَسَهْلٌ تَحْصِيلُهُ أَوْ بَيَانُهُ ((عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ))؛لأنَّ العَسِرَ بِتَيْسِيرِهِ يَصِيرُ يَسِيرًا سَهْلاً ((تَعْبُدُ اللهَ)) الَّذِي لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ غَيْرُهُ، بِإِتْيَانِ مَأْمُورَاتِهِ وَتَرْكِ مَنْهِيَّاتِهِ ((وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) مِنَ الأَشياءِ، وَأَخْلِصْ لَهُ في العِبادةِ، ((وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)).
((ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ)) يَا مُعَاذُ((عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ)) مَنْ فَتَحَهَا فَتَحَ على نَفْسِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، ((الصَّوْمُ)) المَقْبُولُ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ، ((جُنَّةٌ)) تُرْسٌ عَنِ الأَوْزَارِ أَوْ عنِ النَّارِ، ((والصَّدَقَةُ)) الطَّيِّبَةُ الحَلالُ الخالِصَةُ للهِ تَعَالَى ((تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ)) الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ، ((كَما يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ)) مَنْ أَطْفَأَ الْخَطِيئَةَ بِمَا يُطْفِئُهَا منَ التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والحسَنَاتِ، سَلِمَ مِنْ شَرِّهَا وَإِلاَّ أَحْرَقَتْهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ ما يُطْفِئُهَا الصَّدَقَةُ.
((وَصَلاةُ الرَّجُلِ)): يُرِيدُ التَّهَجُّدَ في جَوْفِ الليلِ؛ دَأْبَ الأَخْيَارِ، ولَهَا ثَوَابٌ جَليلُ المِقْدارِ، ثُمَّ تَلاَ آيَةً تَدُلُّ على فَضْلِهَا، وهيَ {تَتَجَافَى}: تَتَبَاعَدُ، {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: {يَعْمَلُونَ} أَيْ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِّمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:16-17].
((ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ)) أَيْ: أَمْرِ الدِّينِ ((وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ)): وَهُوَ أَعْلَى الجَمَلِ.
(قُلْتُ: بَلَى) أَخْبِرْنِي بذلكَ (يَا رَسُولَ اللهِ).
((قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ)) أَي: التَّكَلُّمُ بِمَا يُوجِبُ الدُّخُولَ في الدِّينِ، والخُرُوجَ مِنَ الكُفْرِ، مَعَ تَصْدِيقِ القَلْبِ؛ فإنَّهُ الرَّأْسُ، وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ.
((وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ)) فَمَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ.
((وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ))ضِدَّ أَهلِ الكُفْرِ والبِدَعِ والمَعَاصِي، قَوْلاً وَفِعْلاً وَنِيَّةً، فَمَنْ جَاهَدَ فَقَدْ رَفَعَ الدِّينَ وَأَعْلاَهُ.
((ثُمَّ قالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ)) بِمَا تَمْلِكُ بِهِ ((ذَلِكَ كُلَّهُ)) المَذْكُورَ؟ (قُلْتُ: بَلَى) أَخْبِرْنِي بهِ (يَا رَسُولَ اللهِ)، (فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ) الشَّرِيفِ، فقالَ: ((كُفَّ)) احْبِسْ ((عَلَيْكَ هذا)) أيْ: احْفَظْ لِسَانَكَ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ لِسَانِي هذا، عَمَّا لا يَعْنِي، وَأَعْمِلْهُ فِيمَا يَعْنِي، فَمَنْ فَعَلَ ذلكَ وُفِّقَ للخَيْرِ، وَعُصِمَ مِنَ الضَّيْرِ.(قُلْتُ) تَعَجُّبًا: (يَا نَبِيَّ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟)
(7) قالَ: ((ثَكِلَتْكَ)) فَقَدَتْكَ ((أُمُّكَ يَا مُعَاذُ)) هذهِ كلمةٌ تُقَالُ عِندَ العِتَابِ والتَّأْدِيبِ.
((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ)) غَالِبًا ((في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ))أُنُوفِهِمْ، ((إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟)) شَبَّهَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللِّسَانُ بِالزَّرْعِ المَحْصُودِ، واللِّسَانَ بالمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ المِنْجَلَ يَقْطَعُ ولاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الرَّطْبِ واليَابِسِ، وَالجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، فَكَذَلِكَ لِسَانُ بَعضِ النَّاسِ، يَتَكلَّمُ بكُلِّ نوعٍ مِنَ القَبِيحِ والحَسَنِ.
والحاصِلُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لِسَانَهُ عَنِ السُّوءِ أَوْجَبَ لَهُ دُخُولَ النَّارِ، وَهُوَ أَضَرُّ الأَعْضَاءِ على الإنسانِ، اللهُ العَاصِمُ.
---------------------------
المنن الربانية لفضيلة الشيخ:
سعد بن سعيد الحجري
---------------------------
الحديثُ التاسعُ وَالعشرونَ
عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَن النار).
قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).
(ثُمَّ قَالَ) لَهُ: ((أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)) ثُمَّ تَلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ}.
(ثُمَّ قَالَ):((أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟)).
قُلْتُ: (بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ).
(قَالَ): ((رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذُروَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).
(ثُمَّ قَالَ): ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)).
قُلْتُ: (بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ)،فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).
قُلْتُ: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّالَمُؤَاخَذُونَ بِمَانَتَكَلَّمُ بِهِ؟)
فَقاَلَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِعَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).
موضوعُ الحديثِ:
وُجُوبُ حِفْظِ اللسانِ، وَأَبْوَابُ الخيرِ.
المُفْرَدَاتُ:
(1) (أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَن النَّارِ): فيهِ حِرْصُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على معرفةِ الطريقِ المُوصِلِ إِلى الجنَّةِ، وَشِدَّةُ اهْتِمَامِهِ بالأعمالِ الصالحةِ.
وَهذا يَدُلُّ على أنَّ الأعمالَ الصالحةَ سَبَبٌ لدخولِ الجنَّةِ وَمفاتِيحُ لها، وفيهِ حُبُّ الصحابةِ للجنَّةِ وَبُغْضُهُمْ للنَّارِ.
(2) ((لقدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ)): (اللامُ) و(قَدْ) جَوَابُ قَسَمٍ؛ لأنَّ الجوابَ فِعْلٌ مَاضٍ مُثْبَتٌ مُتَصَرِّفٌ لمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ معمولُهُ، فهوَ يُقْسِمُ إنَّهُ لَعَظِيمٌ، وَعَظَّمَهُ؛ لأنَّ دُخُولَ الجنَّةِ أَمْرٌ عظيمٌ، وَالنجاةَ مِن النارِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَلأجلِ ذلكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ.
((وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)): إِشَارَةٌ إِلَى أنَّ هذا التوفيقَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى اهْتَدَى، وَمَنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لمْ يَهْتَدِ.
وَقدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25 ،26].
ثمَّ ذَكَرَ الأعمالَ المفروضةَ التي هِيَ سَبَبٌ لدخولِ الجنَّةِ، وَهيَ التوحيدُ وَالصلاةُ وَالزكاةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالحَجُّ، وَقدْ مَضَى الكلامُ عنها مُفَصَّلاً.
(3) ((أَلا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخيرِ)): ((أَلا)): أَدَاةُ تَنْبِيهٍ وَاسْتِفْتَاحٍ للتَّنْبِيهِ على عِظَمِ ما بَعْدَهَا.
و((أَدُلُّكَ)): بِمَعْنَى أُرْشِدُكَ.
و((أَبْوَابُ الخيرِ)) أي: النَّوَافِلُ التي تُكْمِلُ الفرائضَ، وَتَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ، وَتُغْلِقُ أبوابَ الشرِّ.
وَهذا يَدُلُّ على أنَّ للخيرِ أَبْوَاباً وَللشَّرِّ أَبْوَاباً، فمَنْ حَرَصَ على أبوابِ الخيرِ كانَ مِن الخِيَارِ، وَمنْ حَرَصَ على أبوابِ الشرِّ كانَ مِن الأشرارِ.
((الصومُ جُنَّةٌ)): هذا البابُ الأوَّلُ مِنْ أبوابِ الخيرِ.
وَ((جُنَّةٌ))؛أيْ: سِتْرٌ وَوِقايَةٌ؛إِذْ تَضِيقُ مَجَارِي الدَّمِ بالصومِ، وَيُصْفَدُ الشيطانُ وَيُقَيَّدُ، وَهوَ أيضاً سِتْرٌ وَوقايَةٌ مِن النارِ كَمَا في الحديثِ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ))، وَالمرادُ بهِ الصومُ النَّفلُ، وَمنهُ المُطْلَقُ وَمنهُ المُقَيَّدُ، وَالصومُ وِقايَةٌ مِن العذابِ وَمِن المَعَاصِي وَمن الفسادِ وَمن الهَلاكِ.
((والصدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ)): هذا البابُ الثاني مِنْ أبوابِ الخيرِ؛ أيْ: صدقةُ التَّطَوُّعِ التي تَدُلُّ على صِدْقِ إِيمانِ صاحبِهَا؛ إِذْ فيها بَذْلٌ لأحبِّ الأشياءِ إِليهِ وَهوَ المالُ، قَالَ تَعَالَى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
و((تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ)) أيْ: تَمْحُوهَا وَتُكَفِّرُهَا، وَعَبَّرَ بالإِطفاءِ؛ لأنَّ المعصيَةَ تُوجِبُ غَضَبَ الربِّ تَعَالَى، وَفي الحديثِ: ((إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ...)) الحديثَ، وَغَضَبُهُ يُوجِبُ النارَ.
وَالصدقةُ صِدْقٌ في العُبُودِيَّةِ للَّهِ تَعَالَى، وَتَزْكِيَةٌ للنفسِ، وَتَخَلُّقٌ بالأخلاقِ الفاضلةِ، وَسلامةٌ مِن الأخلاقِ السافلةِ، وَمُضَاعَفَةٌ للأجرِ، وَمَغْفِرَةٌ للوِزْرِ، وَرِفْعَةٌ للقَدْرِ، وَحِفْظٌ للنفسِ وَالمالِ وَالوَلَدِ، وَغيرُ ذلكَ.
((وصلاةُ الرجلِ في جَوْفِ الليلِ)): هذا هوَ البابُ الثالثُ مِنْ أبوابِ الخيرِ، وَفيهِ إِشارةٌ إِلى حفظِ الليلِ بعدَ حفظِ النهارِ بالصومِ، وَحِفْظِ المالِ بالصدقةِ.
وَقَدَّمَ عملَ النهارِ وَهوَ الصومُ على عملِ الليلِ وَهوَ القيامُ؛ لأنَّ أَكْثَرَ المَعَاصِي في النهارِ، فَقَدَّمَهُ اتِّقَاءً للمَعْصِيَةِ.
وَالمرادُ قِيَامُ الليلِ، وَقدْ مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ سَبَبٌ لدخولِ الجنَّةِ، وَأنَّهُ صِفَةُ الأنبياءِ، وَأنَّهُ صِفَةُ عِبَادِ الرحمنِ وَصفةُ العلماءِ، وَالناسُ يَحْتَرِقُونَ بالمَعَاصِي في النهارِ فَيُطْفِئُونَ ذلكَ بقيامِ الليلِ.
وَأفضلُ النوافلِ صلاةُ الليلِ؛ لأنَّها أَقْرَبُ للإِسرارِ وَللإِخلاصِ وَللتَّدَبُّرِ، وَأَقْوَى في مُجاهدةِ النفسِ.
وَخَصَّ الثلاثةَ للإِخلاصِ وَالمُتابعةِ، وَتَشْمَلُ الأركانَ كُلَّهَا وَالرغبةَ في الآخرةِ وَالإِحسانَ للخَلْقِ وَدَوَامَ العملِ الصالحِ.
وَقيامُ الليلِ مُوجِبٌ للجنَّةِ، وَاتِّصَافٌ بالعبوديَّةِ وَبالشُّكْرِ، وَمُجَاهَدَةٌ للنفسِ وَللشيطانِ، وَدَأْبُ الصالحينَ، وَمَرْضَاةُ الربِّ، وَمَغْفِرَةٌ للذنوبِ، وَمَنْهَاةٌ عَن الإِثمِ، وَمَطْرَدَةٌ لداءِ الجَسَدِ، وَصِفَةُ الأنبياءِ وَالعلماءِ، وَسَبَبٌ لإِجابةِ الدعاءِ وَإِعطاءِ السؤالِ، وَنحوُ ذلكَ.
(4) ((رَأْسِ الأمرِ)) أي: الذي جاءَ بهِ أَمْراً مِنْ عندِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهوَ الإِسلامُ، وَكانَ رَأْساً؛ لأنَّهُ أَعْلَى الدرجاتِ، وَلأنَّ غَيْرَهُ يَتَفَرَّعُ منهُ، وَلِرِفْعَةِ أَهْلِهِ.
((عَمُودِهِ)) أيْ: عمودِ الإِسلامِ، وَالمرادُ الصلاةُ، وَهيَ التي يَقُومُ عليها، وَلا إِسلامَ إِلاَّ بها، وَقدْ مَضَى الكلامُ عنها.
((ذُرْوَةِ سَنَامِهِ)) أيْ: أَعْلَى ما فِيهِ وَأَرْفَعِهِ، وَهوَ الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ؛ لأنَّ المسلمَ يَعْلُو بهِ على عَدُوِّهِ وَعلى نَفْسِهِ وَعلى شَيْطَانِهِ، وَيَعْلُو بهِ فِي السماءِ ((لِلْمُجَاهِدِ مِائَةُ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ)).
(5) ((ألاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ)) أيْ: ما تَمْلِكُ بهِ ذلكَ كُلَّهُ.
وَهذا يَدُلُّ على ضَبْطِ اللسانِ وَكَفِّهِ وَحَبْسِهِ عَنْ كلِّ شرٍّ، وَهذا هوَ أَصْلُ الخيرِ كُلِّهِ، وَقدْ سَبَقَ الكلامُ عَنْ ذلكَ.
(6) ((ثَكِلَتْكَ)) أيْ: فَقَدَتْكَ، مِنْ بابِ التحذيرِ مِن الغَفْلَةِ، وَليسَ المرادُ الدعاءَ عَلَيْهِ.
((حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) أيْ: جَزَاءُ الكلامِ المُحَرَّمِ وَعُقُوبَاتُهُ، فَمَنْ زَرَعَ خيراً وَجَدَهُ، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا وَجَدَهُ، وَالجزاءُ مِنْ جِنْسِ العملِ، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
وَباللسانِ يَكُونُ الإِنسانُ في عِلِّيِّينَ أَوْ مِنْ أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَحِفْظُهُ علامةُ الإِيمانِ وَالرِّضْوَانِ وَالسلامةِ وَالنجاةِ وَالظَّفَرِ بالدِّينِ كُلِّهِ وَاسْتِقَامَةِ الجَوَارِحِ.
الفوائِدُ:
1- حِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى الخيرِ.
2- فَضْلُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
3- مَشْرُوعِيَّةُ سُلُوكِ طَرِيقِ الجنَّةِ.
4- أَهَمِّيَّةُ أَرْكَانِ الصلاةِ.
5- عَظَمَةُ الإِنسانِ بِعَظَمَةِ عَمَلِهِ.
6- تَيْسِيرُ اللَّهِ للأعمالِ الصالحةِ.
7- الإِلْحَاحُ في الدعاءِ بِتَيْسِيرِ العملِ الصالحِ.
8- الحَثُّ على أبوابِ الخيرِ.
9- الصومُ حِفْظٌ في الدُّنْيَا بالوقايَةِ مِن المعاصِي.
10- الصومُ حِفْظٌ في الآخرةِ بالوِقَايَةِ مِن النارِ.
11- الصومُ أَشَدُّ الأعمالِ على الشيطانِ.
12- الصومُ حِفْظٌ للعبدِ في نَهَارِهِ.
13- مشروعيَّةُ بَذْلِ المالِ في الصدقةِ.
14- الصدقةُ تُكَفِّرُ الذنوبَ.
15- فَضْلُ قيامِ الليلِ.
16- أَهْلُ القيامِ هُمْ أَهْلُ الجنَّةِ.
17- وُجُوبُ مجاهدةِ النفسِ وَالمالِ.
18- وُجُوبُ حفظِ الليلِ وَالنهارِ بالعملِ الصالحِ.
19- رَأْسُ الدِّينِ الإِسلامُ.
20- شَرَفُ الإِنسانِ بالإِسلامِ.
21- لا يَسْتَقِيمُ الإِسلامُ إِلاَّ بالصلاةِ.
22- مشروعيَّةُ الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
23- خُطُورَةُ اللسانِ.
24- وُجُوبُ حِفْظِ الكلامِ.
25- إِنَّ الكلامَ مِن العملِ.
26- التَّحْذِيرُ مِن الغَفْلَةِ.
27- التحذيرُ مِن النارِ.
--------------------
شرح فضيلة الشيخ:
ناظم سلطان المسباح
--------------------
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
(2) نصَّ هذا الحديثُ علَى أسبابِ دخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ، وهذا أمرٌ عظيمٌ مِن أجلِهِ أنزَلَ اللهُ الكتبَ وأرسلَ الرُّسلَ، ومن أجلِهِ تحمَّلَ أنبياءُ اللهِ الشَّدائدَ والصِّعابَ.
الأعمالُ سببٌ لدخولِ الجنَّةِ:
في هذا الحديثِ دليلٌ علَى أنَّ الأعمالَ سببٌ لدخولِ الجنَّةِ، ويَشهدُ لهذا مِن القرآنِ:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (أيْ: أعمالُكُم الصَّالحةُ كانَتْ سببًا لشمولِ رحمةِ اللهِ إيَّاكُمْ، فإنَّهُ لا يُدخلُ أحدًا عملُهُ الجنَّةَ، ولكنْ بفضلٍ مِن اللهِ ورحمتِهِ).
وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يُنْجـِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ))؛ فمعناهُ كما قالَ ابنُ رجبٍ: (أنَّ العملَ بنفسِهِ لا يَستحقُّ به أحدٌ الجنَّةَ، لولا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَهُ بفضلِهِ ورحمتِهِ سببًا لذلكَ، والعملُ بنفسِهِ مِن فضلِ اللهِ ورحمتِهِ علَى عبدِهِ، فالجنَّةُ وأسبابُهَا كلٌّ مِن فضلِ اللهِ ورحمتِهِ).
(2) أمرٌ عظيمٌ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ)) دخولُ الجنَّةِ أمرٌ عظيمٌ؛ لأنَّ هذا هو الفوزُ الحقيقيُّ، قالَ تعالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجلٍ: ((مَا تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟)) قالَ: (أَتَشَهَّدُ ثمَّ أَسْأَلُ اللهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا واللهِ ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ ولا دَنْدَنَةَ مُعاذٍ)، فقالَ: ((حَوْلَها نُدَنْدِنُ)).
والنَّجاةُ مِن نارِ جهنَّمَ أمرٌ عظيمٌ؛ لأنَّ أخفَّ النَّاسِ فيها عذابًا رجلٌ يُوضَعُ في أَخْمُصِ قدمِهِ جمرتَانِ، يَغْلِي منهما دِماغُهُ.
مِن أجلِ هذا الأمرِ أرسلَ اللهُ الرُّسلَ إلَى العبادِ، كي يكونُوا سببًا في نَجاةِ النَّاسِ مِن النَّارِ، والفوزِ بالجنَّةِ، وتَحَمَّلَ أنبياءُ اللهِ مِن أجلِ ذلك ما لا تَتحمَّلُهُ الجبالُ الرَّواسِي.
التَّوفيقُ بيدِ اللهِ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنـَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ))، وفي هذا إشارةٌ إلَى أنَّ التَّوفيقَ كلَّهُ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فمنْ يسَّرَ له الهدايَةَ اهْتَدَى، ومَن لم يُيَسِّرْ له ذلك هَلَكَ وخَسِرَ، فيَجبُ علَى المسلمِ أنْ يَتوجَّهَ إلَى اللهِ عزَّ وجلَّ بقلبٍ صادقٍ بأنْ يمنَّ عليهِ بالهدايَةِ، وأن يتَّخِذَ أسبابَهَا، واللهُ عزَّ وجلَّ وعدَ مَن جاهدَ نفسَهُ في سبيلِ حصولِ الهدايَةِ بالهدايَةِ والتَّوفيقِ، قالَ تَعالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
أركانُ الدِّينِ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعْبُدُ اللهَ لاَ تَشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).
أجابَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ القيامَ بواجباتِ الدِّينِ سببٌ لدخولِ الجنَّةِ، وقدْ مرَّ الكلامُ علَى أركانِ الإسلامِ في الأحاديثِ السَّابقةِ.
(3) طُرُقُ الخيرِ: قولُهُ: ((أَلاَ أَدُلـُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ)) لما أجابـَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ واجباتِ الدِّينِ سببٌ لدخولِ الجنانِ، والوِقايَةِ مِن النِّيرانِ، دلَّهُ بعدَ ذلكِ علَى طُرُقِ الخيرِ مِن النَّوافلِ والمستحبَّاتِ، فإنَّ خيرَ أولياءِ اللهِ الَّذينَ يتقرَّبُونَ إلَى مولاهُمْ بالنَّوافلِ بعدَ القيامِ بواجباتِ الدِّينِ.
فذُكِرَ له منها:
1 - قولُهُ ((الصـِّيَامُ جُنَّةٌ))، قالَ ابنُ رجبٍ: (فالجُنَّةُ هي ما يَستجِنُّ به العبدُ كالْمِجَنِّ الَّذِي يَقِيهِ عندَ القتالِ مِن الضَّربِ، فكذلك الصِّيامُ يقِي صاحبَهُ مِن المعاصِي في الدُّنْيَا، فإذَا كانَ له جُنَّةً مِن المعاصِي، كانَ له في الآخرةِ جنَّةً مِن النَّارِ، ومَن لم يكنْ له جنَّةً في الدُّنيَا مِن المعاصِي، لم يكنْ له جُنَّةً في الآخرةِ مِن النَّارِ).
ويُشرَعُ للمسلمِ في صيامِ النَّافلةِ أن يَصومَ الأيَّامَ الآتيَةَ:
- صومُ يومِ عاشوراءَ.
-صومُ يومِ عرفةَ لغيرِ الحاجِّ.
- صومُ يومِ الاثنينِ والخميسِ.
-صومُ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ.
-صومُ يومٍ وإفطارُ يومٍ.
- صومُ ستَّةِ أيامٍ مِن شوَّالَ.
- صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ.
- صومُ شعبانَ.
2 - قولُهُ ((وَالصـَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ))، والمقصودُ بـ ((الصَّدقَةِ))هنا: التَّطوُّعُ، و((الخطيئةُ)): الَّتي تَمْحوهَا الصَّغائِرُ، ولأنَّ الكبائرَ تَحتاجُ إلَى توبةٍ، ولا بدَّ مِن تحقيقِ شروطِ التَّوبةِ الَّتي بَيَّنَها العلماءُ.
ووَردَتْ أحاديثُ كثيرةٌ تُرَغِّبُ في صدقةِ التَّطَوُّعِ وأَذْكُرُ منها:
- عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُم فُلْوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ)).
- وعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ)).
قالَ يَزيدُ: فكانَ أبو مَرْثَدٍ لا يُخطِئُهُ يومٌ إلاَّ تَصدَّقَ فيهِ بشيءٍ، ولو كعكةٍ أو بَصلةٍ، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ معلومةٌ.
3 - قولُهُ: ((وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ))، ثمَّ تَلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، حتىَّ بَلَغَ {يَعْمَلونَ}، فصلاةُ الليلِ كذلك تُطْفِئُ الخطايَا والذُّنوبَ مِثْلَ الصَّدقةِ، والمقصودُ بها قيامُ الليلِ، هذا ما ذهبَ إليهِ جَمْعٌ مِن المفسِّرينَ منهم مُجاهِدٌ والأوزاعيُّ وغيرُهُم.
ووَرَدَ في فَضلِ قيامِ الليلِ أحاديثٌ كثيرةٌ منها:
- قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ)).
- قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيـُّهَا النـَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ)).
- قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلاَمَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).
- وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرةٌ للِسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ)).
والأحاديثُ في فَضْلِ قيامِ الليلِ كثيرةٌ.
(4) رأسُ الأمرِ وعَمودُهُ وذِروةُ سَنامِهِ: بيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذٍ عن طريقِ السُّؤالِ ((أَلاَ أُخْبِرُكَ؟)) وهذه طريقةٌ جيِّدَةٌ أثناءَ التَّعليمِ؛ لأنَّهَا تشدُّ ذهنَ المتعلِّمِ للمادَّةِ، وتَجْعَلُهُ مُتَلَهِّفًا إلَى الإجابةِ:
1 - إنَّ رأسَ الأمرِ الإسلامُ، والمقصودُ بالأمرِ الدِّينُ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ بهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الإسلامُ، والمقصودُ هنا الشَّهادتانِ، ومنزلةُ الشَّهادتينِ مِن الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِن الجسدِ، فإذا اجْتُثَّ الرَّأسُ لا بقاءَ للإنسانِ بعدَهُ، وكذلك مِن لم يُقِرَّ بالشَّهادتينِ فلا دِينَ لهُ ولا إسلامَ.
2 - وإنَّ عَمودَهُ الصَّلاةُ؛ لأنَّ لها في الدِّينِ مَنزِلةً عظيمةً، بِمَنْزِلةِ عمودِ الفِسطاطِ الَّذي لا يقومُ الفِسطاطُ إلاَّ بِهِ، فكذلكَ لا يقومُ للعبدِ دينٌ بدونِ صلاةٍ.
3 - وإنَّ ذِروةَ سنامِ الدِّينِ الجهادُ، فهو أعلَى وأرفَعُ ما في الدِّينِ؛ لأنَّ بالجهادِ تعلُو كلمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويظهرُ الدِّينُ علَى سائرِ الأديانِ، ويُقمعُ أهلُ الباطلِ مِن المنافقينَ والمُتَمَسْلِمِينَ الخونةِ خنازيرِ اليهودِ والنَّصارَى.
لذلِكَ ذهبُ الإمامُ أحمدُ رحمهُ اللهُ إلَى القولِ:(أنَّ الجهادَ مِن أفضلِ الأعمالِ بعدَ الفرائضِ).
ووردَتْ نصوصٌ كثيرةٌ ترغِّبُ فيهِ منهَا:
- عن أبي ذرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قُلْتُ يا رسولَ اللهِ، أيُّ العملِ أفضلُ؟ قالَ: ((الإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ)).
- قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ)).
- عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (قيلَ: يا رسولَ اللهِ، ما يَعدِلُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ؟)قالَ: ((لاَ تَسْتَطِيعُونـَهُ)) فأعادُوا عليهِ مرَّتينِ أو ثلاثًا كلَّ ذلكَ يقولُ: ((لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ))، ثمَّ قالَ: ((مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعالَى))، والنـُّصوصُ في هذا كثيرةٌ كذلِكَ.
(5) حفظُ اللسانِ: قولُهُ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))فقلْتُ: (بلَى يا رسولَ اللهِ)، فَأَخَذَ بلسانِهِ وقالَ: ((كُفَّ عليكَ هذا))، قلتُ: (يا نبيَّ اللهِ، وإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بهِ؟) فقالَ: ((ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وُجوهِهِمْ - أو قالَ: علَى مَنَاخِرِهِم - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) وهذا يَدُلُّ علَى أنَّ أصلَ الخيرِ مِن ضَبْطِ اللسانِ، وتقويمِهِ وِفْقَ ما يُرْضِي اللهَ عزَّ وجلَّ، وأنَّ مَن أعانَهُ اللهُ علَى ضَبْطِ لسانِهِ فقدْ مَلَكَ زِمامَ أمرِهِ، وَوُفِّقَ إلَى خيرِ الدُّنْيا والآخرَةِ.
قالَ ابنُ رجبٍ:
(والمرادُ بحصائدِ الألسنةِ جزاءُ الكلامِ المحرَّمِ وعقوباتُهُ، فإنَّ الإنسانَ يزرَعُ بقولِهِ وعملِهِ الحسناتِ والسَّيِّئاتِ، ثمَّ يحصدُ يومَ القيامةِ ما زَرَعَ، فمَنْ زرعَ خيرًا مِن قولٍ أو عملٍ حصدَ الكرامةَ، ومن زرعَ شرًّا مِن قولٍ أو عملٍ حصدَ غدًا النَّدامَةَ، وظاهرُ حديثِ معاذٍ يَدُلُّ علَى أنَّ أكثرَ ما يَدْخُلُ النَّاسُ به النَّارَ النُّطْقُ بألسنتِهِم، فإنَّ معصيَةَ النُّطقِ يدخلُ فيها الشِّركُ وهي أعظمُ الذُّنوبِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويدخلُ فيها القولُ علَى اللهِ بغيرِ علمٍ وهو قرينُ الشِّركِ، ويدخلُ فيها شهادةُ الزُّورِ الَّتي عَدِلَتِ الإشراكَ باللهِ عزَّ وجلَّ، ويدخلُ فيها السِّحرُ والقذفُ وغيرُ ذلكَ مِن الكبائرِ والصَّغائرِ كالكذبِ والغيبةِ والنَّميمةِ، وسائرُ المعاصي الفعليَّةِ لا يخلُو غالبًا مِن قولٍ يَقترِنُ بها يكونُ مُعِينًا عليها).
لذلك حَذَّرَ سلفُ الأمَّةِ مِن إطلاقِ عِنانِ اللسانِ؛ لأنَّهُ يورِدُ إلَى مهاوي الرَّدَى.
قالَ ابنُ عباسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ وقد أخذَ بلسانِهِ: (وَيْحَكَ، قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، أَوِ اسْكُتْ عَنْ سُوءٍ تَسْلَمْ، وَإِلاَّ فَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَنْدَمُ).
فوائدُ الحديثِ:
1 - فيهِ دليلٌ علَى شدَّةِ اهتمامِ معاذِ بنِ جبلٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ بالأعمالِ الصَّالحةِ.
2 - فيهِ طريقةٌ مِن طُرُقِ التَّعليمِ، وهي طريقةٌ تَربويَّةٌ مُمتازةٌ، وهي طريقةُ السُّؤالِ، وذلك في قولِهِ ((أَلاَ أُخْبِرُكَ؟)).
3 - التَّدرُّجُ في تعليمِ النَّاسِ، فالبدءُ يكونُ بأصولِ الدِّينِ وقَواعدِهِ، ثمَّ التَّدرُّجُ.
4 - فضلُ التَّقرُّبِ بالنَّوافلِ.
5 - كما فيهِ مَنْزِلَةُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ.
يتبع إن شاء الله...