منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية   الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Emptyالخميس 20 مارس 2014, 6:12 pm

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية
المسألة الإسرائيلية The Israeli Question 
«المسألة الإسرائيلية» مصطلح قمنا بسكه لوصف وضع أعضاء التجمُّع الاستيطاني في فلسطين وحالة الحرب المستمرة التي يعيشـون فيها منذ وصـول دفعات المسـتوطنين الصهاينة الأولى عام 1882. والمسألة الإسرائيلية لا يمكن رؤيتها في إطار يهودي خاص، وإنما يجب النظر إليها في إطار أكثر عمومية وشمولاً وهو الاستعمار الغربي وتاريخ الأفكار في الحضارة الغربية. فهي مشكلة ناجمة عن وصول كتلة بشرية يهودية (من الغرب حتى عام 1948 ثم من الشرق بعد ذلك) بهدف الاستيلاء على الأرض الفلسطينية ولتحل محل السكان الأصليين الذين يكون مصيرهم عادةً، في إطار الاستعمار الاستيطاني والإحلالي، هو الإبادة أو الطرد. وقد تسبَّب هذا في ظهور المسألة الفلسطينية، وهي قضية أعضاء الشعب الفلسطيني الذين تعرَّضوا لعملية الغزو والطرد هذه والذين كان من المفروض فيهم (حسب المخطط الاستعماري الغربي والصهيوني) إما أن يختفوا أو يذعنوا لحالة الغزو والطرد. ولكنهم، على عكس التوقعات الغربية والصهيونية، لم يختفوا ولم يذعنوا للغزو والقهر والطرد واستمروا في مقاومة المستوطنين،بل تصاعدت مقاومتهم عبْر السنين، وهو ما يثير وبحدة قضية شرعية الوجود.
ونحن نميِّز بين ما نسميه «المسألة الإسرائيلية» وما يُسمَّى «المسألة اليهودية»، إذ أن الخلط بينهما هو في نهاية الأمر تقبل للمقولات الصهيونية الخاصة بوحدة الشعب اليهودي ووحدة تاريخه وتراثه، وهي مقولات ذات مقدرة تفسيرية ضعيفة ليس لها ما يساندها في الواقع. ومحاولة فرضها على الواقع هو الذي أدَّى إلى العنف المستمر. ولو بحثنا عن العناصر المشتركة بين المسألتين الإسرائيلية واليهودية لاكتشفنا أنها لا وجود لها، فالمسألة اليهودية (بصيغة المفرد) هي مشكلة يهود شرق أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك أثناء مرحلة تعثُّر التحديث في روسيا القيصرية وما نجم عن مشاكل للجماعات اليهودية والشعوب والأقليات الأخرى داخل العالم الغربي وهو ما اضطرها للهجرة إلى غرب أوربا والولايات المتحدة. وبدلاً من أن يحل العالم الغربي مشـاكله قـام، انطلاقاً من رؤيتـه الإمبريالية للعـالم، بتصديرها للشرق بعد تبنِّي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ونحن العرب لا علاقة لنا بالمسألة اليهودية، فهي لم تظهر في التشكيل الحضاري العربي. بل لعل كثيراً من المفكرين العرب لم يسمعوا عنها في حينها إذ أنها لا تنتـمي إلى البنـية التاريخـية العربية. وعلى كلٍّ، فإن المسألة اليهودية، لم تَعُد مشكلة مطروحة، فقد تم حلها بطرائق غربية مختلفة (التصدير إلى الشرق ـ الاندماج في غرب أوربا ثم الولايات المتحدة ـ الإبادة).
أما المسألة الإسرائيلية، فهي مشكلة أعضاء التجمع الاستيطاني الصهيوني، وخصوصاً أعضاء الأجيال الجديدة، الذين وُلدوا على أرض فلسطين ونشأوا فيها ولا يعرفون لهم وطناً آخر ولا يتحدثون سوى العبرية. ونحن العرب نشكل طرفاً مباشراً في هذه المسألة فنحن الضحية، كما لا يمكن حلها دون تدخُّلنا إذ أنها مسألة توجد في صميم البنية التاريخية العربية. ورغم أن المسألة اليهودية هي التي أفرزت المسألة الإسرائىلية، ذلك أن الصهيونية في محاولتها فرض حلها للمسألة اليهودية (بمساعدة الإمبريالية) نجحت في التأثير على بعض اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلاد لتحويلهم إلى فلسطين، إلا أن المسألتين مع هذا تظلان منفصلتين تماماً وتنتميان إلى بناءين مختلفين. وعملية الربط بينهـما هي محاولة للتعمية ولطمـس المعالم الخاصة بكلٍّ منهما. ومما لا شك فيه أن من مصلحة الصهيونية افتراض وحدة المسـألتين، حتى تربط أمن الدولة الصـهيونية بأمن الإسـرائيليين من ناحية، وبأمن الجماعات اليهودية في العالم من ناحية أخرى، وحتى تفرض على يهود العالم، من ناحية ثالثة، فكرة الشعب اليهودي الواحد وكل المقولات الصهيونية الأخرى.
ولا يوجد حل للمسألة الإسرائيلية طالما ظلت مرتبطة بالمسألة اليهودية، أي طالما تم النظر إليها في الإطار الصهيوني. فهذا الارتباط يعني أن أعضاء التجمع الاستيطاني هم جزء من الشعب اليهودي، والحضارة الغربية، وأن المشاكل التي تحدث "هناك" تجد حلاً لها "هنا"، وينتج عن ذلك تعميق بنية الاغتصاب والتفاوت. فكل مهاجر يهودي يحضر إلى فلسطين يحل محل مواطن عربي ويشغل حيزه العربي ويُعمِّق هوية الدولة الصهيونية باعتبارها دولة استيطانية إحلالية في حالة صراع مع العرب، ويُعمِّق حدة المسألة الفلسطينية. ومع هذا تدور كل الحلول الإسرائيلية المطروحة لإشكالية الصراع الدائر في فلسطين المحتلة داخل إطار صهيوني. قد تختلف طبيعة الحل في اعتدالها وتطرفها من اتجاه لآخر، لكن كل الاتجاهات لا تتنازل عن الحد الأدنى الصهيوني، وتحاول الوصول إلى الحد الأقصى حينما تكون الظروف مواتية.
الصهيونية فــي التسعينيات: محاولة للتصنيف
Zionism in the Nineties: An Attempt at Classification
في محاولتنا تعريف الصهيونية طرحنا الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كإطار للتعريف ومن ثم سمينا كل "المدارس" الصهيونية "تيارات"، باعتبار أنها جميعاً تتقبل الصيغة الصهيونية. وبيَّنا أن إدخال ديباجات يهودية على هذه الصيغة قد هوَّدها دون أن يُغيِّر بنيتها، وأن التهويد يستند في واقع الأمر إلى الحلولية اليهودية. وفي محاولتنا تصنيف الاتجاهات الصهيونية الجديدة المختلفة سنتبع نفس المنهج، وسنبدأ بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة باعتبارها تُشكِّل الإجماع الصهيوني أو الحد الأدنى الصهيوني الذي ينطلق منه الجميع. أما الحلولية فهي الإطار الذي تم من خلاله تهويد الصيغة وعقد الاتفاق بين الصهاينة دعاة الديباجات الدينية والعلمانيين. وفي هذا الإطار سنشير إلى اتجاهين صهيونيين أساسيين يعكسان التطوُّرات التي حدثت داخل المعسكر الصهيوني وفي العالم. ويمكننا القول بأن المشروع الصهيوني قد مرّ بمرحلة "بطولية" كانت الأيديولوجية الصهيونية فيه تشكل دليلاً للعمل، وكانت جماعة المستوطنين (قبل أو بعد 48) تتسم بالتماسك ووضوح الرؤية النسبي، وقد زاد الرفض العربي هذا التماسك، إذ أصبح البقاء الإشكالية الأساسية. ولكن بعد عام 1967، لم يَعُد البقاء قضية ملحة وتصاعد الاستهلاك وتفاقمت الأزمة. وقد واكب هذا ظهور النظام العالمي الجديد مع ما يتسم به من سيولة أيديولوجية.
استجابة لهذا الوضع ظهر تياران أساسيان (وتنويعات كثيرة عليهما):
1 ـ الصهيونية الحلولية العضوية، التي عمَّقت الحلولية اليهودية الثنائية الصلبة.
2 ـ صهيونية عصر ما بعد الحداثة، والتي تدور في إطار الحلولية السائلة.
وبينما تتسم الأولى بالصلابة الشديدة تتسم الثانية بالسيولة الشديدة، ولكن رغم الصلابة أو السيولة فإن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تظل الإطار المرجعي الذي يدور الجميع داخله. ويمكن القول بأن التيارين هما استمرار بشكل جديد وفي ظروف جديدة للصراع القديم بين الصهيونية السياسية أو العامة والصهيونية التصحيحية، وأن كليهما لا يقدِّم حلاً للمسألة الإسرائيلية، بل يزيدها تفاقماً.
الصهيونية الحلولية العضوية Organic Immanentist Zionism
«الصهيونية الحلولية العضوية» مصطلح قمنا بسكه لوصف أحد اتجاهات الفكر الصهيوني. ورغم أن الديباجات الدينية التي يستخدمها دعاة هذا التيار فاقعة إلا أننا يجب أن نضعها في إطار الحلولية اليهودية حيث تختفي الحدود بين الإله والإنسان والأرض ويحل الإله في الشعب والأرض ويتوحَّد بهما إلى أن يصبح الإله هو الشعب والشعب هو الإله. ويعبر دعاة الديباجات الدينية بطريقة متبلورة عن هذه الحلولية فهم أكثر تمرساً فيها من الصهاينة العلمانيين، ولكن هذا لا يعني أن الاتجاه الصهيوني الحلولي العضوي مقصور عليهم، فهو يضم في صفوفه كثيراً من الصهاينة العلمانيين الملحدين.
يرى دعاة الخطاب الديني أن الصهيونية وصلت إلى ما وصلت إليه من تدنٍّ متمثل في وضع المجتمع الإسرائيلي بسبب خلل أساسي في الصهيونية التقليدية، ويتمثل (حسب رأي هارولد فيش) في محاولتها تبرير المشروع الصهيوني على الطريقة العلمانية الغربية ("دولة بموافقة القانون العام"). وهو يرى أن مثل هذه الديباجة كانت مفيدة في وقتها إذ أنها جعلت الصهيونية مفهومة أو مقبولة للأغيار ولليهود أنفسهم، ولكنها مع هذا تمثل انحرافاً عن جوهر الصهيونية. وكان هذا الجوهر (رغم ذلك) يعبِّر عن نفسه،بطريقة متعثرة، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور ازدواجية داخل الصهيونية. ويظهر ذلك في وثيقة إعلان إسرائيل التي صدرت في 5 أيار 5708 (14 مايو 1948)، أي أنها تتبع تقويمين: أحدهما يهودي والآخر غير يهودي. وتتبدَّى نفس الازدواجية في عبارة «تسور يسرائيل» (صخرة إسرائيل) التي وردت في تلك الوثيقة واختيرت عن عمد لإبهامها، فهي قد تعني «الأب» وقد تعني «الملك المقدَّس الذي يتوجه إليه اليهودي المتدين»، كما أنها قد تكون "هوية إسرائيل الجمعية الصخرية (الصلبة)" ويضيف هارولد فيش أنها يمكن أن تكون الإرادة القومية التي تحدَّث عنها روسو (وآحاد هعام من بعده)، والتي توجِّه مصير الأمم، "نوعاً من الجوقة الإغريقية التي تمثل الماضي والحاضر والمستقبل".
وقد قام مفكر ديني إثني آخر، هو جويل فلورشايم، بتحليل ديباجة وثيقة إعلان إسرئيل، فقال إن ما جاء فيها ليس مقصوراً على الشعب اليهودي وإنها ليست إلا تعبيراً عن رغبة الصهاينة في تطبيع اليهود وتاريخهم. ثم يقوم فلورشايم بإظهار زيف مقولات الديباجات العلمانية الواحدة تلو الأخرى. فالشعب اليهودي لم يُولَد في إرتس يسرائيل ـ كما جاء في الديباجة ـ وإنما في مصر وفي الصحراء، وهويته الروحية والدينية والقومية تمت صياغتها في المنفى، خارج أرض إسرائيل. ومثل هذه الديباجات، حسب تصوُّره، إن هي إلا بقايا عصر الانعتاق والاستنارة، ولابد من العودة إلى الجذور، إلى الخطاب الإثني الديني، أي إلى اليهودية، لأن التخلي عن اليهودية (كما يفهمها هارولد فيش) وعن القيم اليهودية والعقائد اليهودية، وإحلال الديباجة العلمانية محلها، هما اللذان أديا إلى فقدان اليهود احترامهم لأنفسهم وإلى فشل الصهيونية في علاج الروح.
ولكن كانت هناك دائماً محاولات داخل الصهيونية تتجاوز هذه الازدواجية الانشطارية (حسب تعبير كوك) وصولاً إلى الواحدية الصهيونية. ويرى هارولد فيش أن ثمة خطاً أساسياً يجمع كتابات هس وجوردون (مُنظِّرا الصهيونية العمالية) وبوبر (مُنظِّر الصهيونية الثقافية) وكوك (مُنظِّر الصهيونية الدينية). هذا الخط هو إيمانهم بأن الصهيونية الحقة لا تُفرِّق بين الدين والتاريخ اللذين يصبحان في كتابات هؤلاء المفكرين شيئاً واحداً، والمنظور وغير المنظور يمتزجان في وحدة مثالية تتجاوز الواقع. وجوهر الصهيونية، حسب تصوُّر فيش، كامن وراء بعث مقولة القداسة في الحياة الخاصة والعامة. فالصهيونية، من هذا المنظور، هي شكل من أشكال الواحدية المقدَّسة.
ويشرح فيش لاهوت/أيديولوجية الصهيونية الجديدة (الصهيونية التي وعت ذاتها الحقة)، فيبين أن هذه الصهيونية ستكتشف أن جذورها ليست في التاريخ الغربي أو تاريخ الشرق الأدنى القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (كما فسره العلمانيون) وإنما في الميثاق الذي عُقد بين الرب والشعب، أي في التاريخ المقدَّس. وليس هذا الميثاق مجرد تفسير ممكن للواقع، وإنما هو الواقع نفسه كما تعرفه إسرئيل، وهو مصدر الحياة الأزلية لهذا الشعب (ولنلاحظ أن الواقع الآن، واقع إسرائيل، مجال له قوانينه المقدَّسة الخاصة، المقصورة على الشعب اليهودي، ولا يستطيع غير اليهود التساؤل عن معناه والاحتجاج عليه حتى إن سقطوا ضحايا له).
ويذكر هارولد فيش أن مبدأ الحوار عند بوبر (الحلولي العلماني) هو أدق فكرة لوصف الصهيونية الجديدة، وأن مشكلة بوبر تكمن في أنه لم يهتم كثيراً بعالم السياسة بسبب تَوجُّهه الوجودي، فقلَّص مبدأه وقصره على العالم الفردي رغم أن نسقه الفكري يتضمن عالم التاريخ والسياسة. وهذا ما يفعله فيش والصهاينة الجدد، فهم يطبقون مبدأ الحوار على كل مجالات الحياة العامة والخاصة. ولعله كان ينبغي، انطلاقاً من هذا، أن نسميها «الصهيونية الحوارية». ولكننا نرى أن تسميتها «الصهيونية الحلولية العضوية» أكثر دقة لأن الصورة المجازية العضوية، بشكلها المادي (كما عند آحاد هعام)، والحلولي (كما عند كوك)، ترد في كتابات كل الصهاينة بشكل جزئي إلى أن تصل إلى تحقُّقها الكامل في هذه الصهيونية الجديدة. كما أن هذه الصورة المجازية محورية في كتابات بوبر، وما الحوار سوى شكل من أشكال الوحدة العضوية وتعبير عن الحلولية. كما أننا حينما نصفها بأنها «صهيونية حلولية عضوية» فإنما نعني أنها صهيونية صفّت كل الازدواجيات والانشطارات، وملأت كل الفراغات، وسدّت كل المسافات، وربطت بين المقدمات والنتائج، وطهَّرت الصيغة الصهيونية تماماً من الشوائب، بحيث أصبح الشكل ملتحماً بالمضمون وأصبحت القومية هي الدين وأصبح الدين هو القومية. وهي، فوق هذا، لا تبحث لنفسها عن تبرير خارج نفسها من خلال أية ديباجات غير يهودية، وإنما تتخذ شكلاً دائرياً ملتفاً حول نفسه مكتفياً بذاته، فالدال هنا هو نفسه المدلول. ويُفسِّر هذا الوجود العضوي سر عزلة هذا الشعب وسر نبذ الشعوب الأخرى له. ولعل العضوية (والحلولية) الكاملة تظهر في شعار الجماعات السياسية التي تحاول ترجمة الفلسفة الصهيونية الجديدة إلى ممارسة: "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل تبعاً لتوراة إسرائيل" وهي عبارة كان يرددها موشي ديان العلماني! ولنتأمل العضوية والحلولية، فالأرض والشعب (التربة والدم) مرتبطان بسبب التوراة التي هي مصدر قداسة كل منهما. وأخيراً، فإننا حين نصف هذه الصهيونية بالعضوية نكون قد بيَّنا صلتها بالحركـات السياسـية المماثلة وبالفكر القومي العضوي المتطرف، كالنازية التي تتسـم بهذه العضوية المتطرفة. وتصل هذه الصهيونية العضوية إلى ذروتها في التفسير الحرفي للعهد القديم. فالتفسير الحرفي يفترض أن الظاهر هو الباطن، وأن القصص الديني هو التاريخ، وأن الوعد الإلهي هو رخصة بالاستيطان (كما عند الصهاينة المسيحيين تماماً). وفي هذا الإطار التوراتي، بإمكان فيش أن يتوجَّه للجماعات المسيحية الأصولية في الولايات المتحدة (المعروفة برجعيتها وحبها العميق وكرهها الأعمق لليهود)، وأن يطلب منها أن تعترف بالمغزى الديني لأحداث التاريخ، وبدلالة الصهيونية والدولة.
وفي داخل هذا الإطار العضوي الحلولي المتسق مع نفسه، المتناسق مع مقدماته، المكتفي بذاته، الذي لا يكلف نفسه الإشارة إلى ما هو خارجه، تكتسب الأطروحات الصهيونية التقليدية بُعداً مدهشاً جديداً. فالتاريخ اليهودي ليس تاريخاً عادياً، وكذلك القومية اليهودية ليسـت قوميـة عادية (كما كان يدَّعي هرتزل وأتباعه)، وإنما هو كيان فريد. والشعب اليهودي ليس شعباً عادياً مثل كل الشعوب وإنما هو شعب إلهي المصدر. ويحلو لأتباع هذا الاتجاه أن يقتبسوا كلمات بلعام العراف الذي دعاه ملك مؤاب ليلعن العبرانيين القدامى عند اقترابهم من مملكته، فقال: "هو ذا شعب يسكن وحده. وبين الشعوب لا يُحسَب" (عدد 23/9). ويمكن ترجمة ذلك إلى: "هو ذا شعب عضوي مقدَّس لا يختلط بالشعوب الأخرى ولا يندمج معها ولا يُحسَب بين الشعوب، فهو منبوذ". فعزلة اليهود هي الشيء الطبيعي، ففي أعماق اليهودي تُوجَد جذور القلق، ولذا فهو يسبب القلق للعالم كله ولا يعطيه أي سلام، وهو (كجسم غريب) يشبه الخميرة التي توضع في المادة فتغيِّرها دون أن تتغيَّر هي. ومن ثم فإن معاداة اليهود والرغبة العارمة في نبذهم ليستا ظاهرتين اجتماعيتين يمكن شفاء الأغيار منهما، وإنما هما تعبير طبيعي عن وجود إسرائيل الغريب الذي يحدده الميثاق. إنهما اعتراف بسر إسرائيل وثناء عليها.
وقد فسَّر الحاخام يهودا عميتال (رئيس إحدى المدارس الدينية) أهداف الصهيونية كما تحددها الفلسفة الجديدة بقوله: "إن الصهيونية لا تبحث عن حل لمشكلة اليهود من خلال تشييد دولة يهودية وإنما من خلال تشييد دولة هي أداة في يد الخالق الذي يعد شعب إسرائيل للخلاص... وليس هدف هذه العملية تطبيع شعب إسرائيل ليصبح أمة مثل كل الأمم، وإنما ليصبح شعباً مقدَّساً، شعب الله الحي". ووجود هذا الشعب في فلسطين ليس استيطاناً أو استعماراً أو احتلالاً أو اغتصاباً ولا حتى لحماية اليهود أو للحفاظ على أمن الوطن أو لخدمة الاستعمار أو من أجل الديموقراطية أو الاشتراكية أو الحضارة الغربية، أو أي شيء من هذا القبيل، كما يظن كثير من الأغيار، وإنما هو تحقيق للمشيئة الإلهية: واجب مقدَّس، وعبء ديني، يحمله اليهودي ويهدف إلى خلاص الشعب المقدَّس وتحقيق الوعد الإلهي والميثاق بين الإله وإسرائيل، هو جزء من الحوار الأزلي بين الشعب والإله. ومن ثم فهي عملية لا تنتهي ولا "حدود" لها. ورسالة هذا الشعب المقدَّس تفرض عليه أن يفرغ الأرض المقدَّسة من سكانها الأصليين العرضيين. أما موضوع مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا فيكتسب بعداً دينياً عميقاً إذ أن عبء «المصير اليهودي» انتقل بعد تأسيس الدولة إلى المستوطن. فما يحدد الشعب اليهودي ليس ذكريات الأسلاف المشتركة بين إسرائيل وأعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين وحسب وإنما يحدده أيضاً المصير الفريد. وقد استقر عبء التفرُّد هذا بكليته على أكتاف الأمة الجديدة التي ظهرت في أرض إسرائيل.
وهذه كلها كلمات كبيرة تحتاج إلى تفسير فهي تنطوي في واقع الأمر على تصور للمسألة الإسرائيلية ولحلها. فحينما يتحدث أحد عن قداسة شعبه الذي يحتل أرض شعب آخر، فلابد أن تكون هناك علاقة ما بين الديباجات والسلوك. ففي فترة ما قبل الدولة، كان الصهاينة يتحدثون عن العمل العبري (لا المقدَّس) لأنهم كانوا يودون أن يحلوا محل العربي. ولذا، فقد كانت الديباجة الاشتراكية ومفهوم اليهودي الخالص شـعارين مناسبين. فلـمَ الديباجـة الحلولية العضوية الآن؟ ولم تصعيد معدلات الحلول؟ يضع جويل فلورشايم يدنا على المفتاح حينما يقول إنه بدون الوعد الإلهي، بدون التسويغ الحلولي، تصبح إعادة الأرض إلى اليهود (أي استيلاء اليهود عليها) فعلاً غير عقلاني يوقع الظلم بسكان فلسطين العرب، ويصبح من العسير شرح المطالبة اليهودية بالأرض المقدَّسة، كما يصعب تبرير أسبقية المطالب اليهودية على الحقوق العربية. وهكذا، فإن الصهيونية الجديدة تسويغ للوضع الجديد.
ويتلخص الوضع الجديد في أن الاستعمار الصهيوني قد ضم رقعة كبيرة من الأرض بدون وجه حق، واحتلها واستعبد أهلها، خارقاً بذلك كل الأعراف الدينية والخلقية والدولية. وليس بإمكان أي منطق إنساني مهما بلغ من الحذق والصقل أن يبرر ذلك، وخصوصاً أن العرب يرفضون قبول الأمر الواقع، كما أنهم لم يختفوا بعد، كما كان من المفروض أن يفعلوا حسب تصوُّر المشروع الصهيوني. وليس عند الصهاينة أية حلول، حتى ولو نظرية، لهذا الوضع. ولذا، فلابد من اللجوء إلى منطق هو في جوهره غير منطقي، منطق الحلولية العضوية التي تخلع على البشر وأفعالهم قداسة ومطلقية بحيث يشير العقل إلى نفسه ويصبح مرجعية ذاته، مكتفياً بذاته، يستمد معياريته من ذاته، ولا يحتاج إلى تبرير خارجي. والواقع أنه حينما يتم ذلك، يفعل الإنسان ما يحلو له فيضم الجولان وغزة والنيل والفرات، ويُفسَّر هذا على أنه جزء من الحوار مع الرب وتعبير عن الميثاق وعبء فريد لا يطيق أحد غير المستوطن الصهيوني (اليهودي المطلق المقدَّس) حمله. وهذا تسويغ فريد لحالة فريدة هي الحالة الانتشارية الصهيونية التي لا حدود لها، فهي هنا تصبح فعلاً مقدَّساً، والأفعال المقدَّسة لا بداية لها ولا نهاية، ولا سبب لها ولا تفسير.
ويمكن تفسير حالة العزلة الدائمة التي يعاني منها المُستوطَن الصهيوني هي الأخرى بالطريقة نفسها. فالشعب اليهودي المقدَّس هو كما تقدَّم شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يحسب، فهو شعب عضوي منبوذ حقاً. ولذا، فبإمكانه أن يستوطن الجليل ونابلس، في جزيرة صغيرة معزولة وسط المحيط العربي، ويرى أن وجود منزله بجوار البركان أمر طبيعي تماماً ومنصوص عليه في التراث الديني. وأما حالة الحرب الدائمة، فهي الأخرى حالة تستند إلى القداسة. وقد قال الحاخام تسفي يهودا كوك (ابن الحاخام كوك) "إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو قداسة كاملة فهو يمثل حكم شعب الله فوق أرضه". واليهودي العضوي حقاً لا يبحث قط عن السلام. وكما قال الحاخام يعقوب أرييل، فإن اليهودي المتدين يعترض على السلام. فهو يحتفظ بوعي تاريخي دائم لا يدعه ينسى أحداث الماضي بل يولِّد في وجدانه موقفاً حذراً تجاه العالم الخارجي. وفي نهاية الأمر، فإن من الخير لنا أن ننعزل عن الأمم، كما قال الحاخام أفرايم زيميل.
والصراع العربي الإسـرائيلي داخل إطار القداسـة صراع لا ينتهي ولا حل له، إذ يجب النظر إليه لا في ضوء المصالح المتصارعة وعمليات الاستيلاء على الأرض وإنما في ضوء سرّ حب اليهودي لصهيون وسر الكره العربي لإسرائيل (ويُلاحَظ أن كلمة «سر» هنا مستخدمة بالمعنى الديني الحرفي). والصراع إن هو إلا جزء من "الميراث الشيطاني" إذ يتربص كل نسل عيسو (أي الشعوب المجاورة للعبرانيين، أي العرب) بأبناء إسرائيل ليلحقوا بهم الأذى ويدمروهم أينما سنحت الفرصة (ابتداءً من الهجمات الفدائية وانتهاءً بالأطفال العرب الذين يلقون الحجارة على المستوطنين الأبرياء). فقوى الشيطان لن تصبر على وجود شعب إسرائيل الذي يعيش داخل دائرة الحلول والقداسة. وداخل هذه الدائرة العضوية الحلولية المقدَّسة، يصبح العرب هم العمالقة واليبوسيون وشعوب أرض كنعان الذين ورد ذكرهم في العهد القديم وهم شعوب يجب طردهم أو إبادتهم. ولذا، فقد أصدر الحاخامات أوامرهم الدينية بقتل المدنيين من العرب، فهذا هو أمر الشريعة.
وهكذا تكون الصهيونية العضوية الحلولية قد زودت المستوطن الصهيوني بإطار إدراكي يعقلن عزلته الكاملة، ويبرر بطشه وسطوته وغزوه ووحدته، بحيث يجعل حالته هذه استمراراً لما كان واستعداداً لما سيكون وتحقيقاً للرؤى التوراتية. إن المستوطن الذي بنى بيته بجوار البركان، ويحيا في خطر دائم، يمكنه أن يسوغ موقفه بخلع القداسة على نفسه، بحيث يرى نفسه أداة من أدوات الخلاص وجزءاً من عملية إلهية ضخمة لا يمكنه التحكم فيها، بنفس طريقة الجندي الغربي الذي كان يعقلن وجوده في غابات أفريقيا الحارة السوداء على أساس لون جلده الأبيض والأعباء الأخلاقية الناجمة عن ذلك. وبذا، تكون الصهيونية العضوية قد صفّت أية ثنائية، وأسكتت أية تساؤلات، وجردت المستوطن الصهيوني من أية إنسانية متعينة، وخلعت عليه قداسة تحرمه من وجوده الإنساني الحق، وبذا تكون الصيغة الصهيــونية الأسـاسية الغــربية التـي لـم تر اليهــودي إلا على أنه شـيء أو سلـعة قد تحقــقت تحققاً كاملاً، كما يكون أعضـاء المــادة البشـرية قـد استــبطنوا الرؤية تمام الاستبطان.
ويقول هارولد فيش إن الصهاينة أخيراً قد بدأوا يكتشفون سر القداسـة وحلـم الخلاص والتفرُّد ومغزى الوعد الإلهي والميثاق مع الرب. وهو يرى أن جماعة جوش إيمونيم هي أول تنظيم سياسي يحمل أيديولوجية الصهيونية الجديدة، الصهيونية التي أدركت ذاتها. وقد يكون فيش محقاً في هذا من الناحية الإمبريقية المباشرة، لكن يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء الصهيونية الجديدة هو أيضاً النموذج الكامن وراء فكر ما يُسمَّى «اليمين الإسرائيلي» بغض النظر عن الانتماء الديني، فما يهم في الإطار الحلولي هو الشعب والأرض وليس الإله، ولذا يستطيع شارون الملحد، ونتنياهو صاحب الفضائح العامة والخاصة، أن يتحركا في إطار النموذج نفسه، نموذج الحلولية الصلبة، حيث يقف اليهودي المقدَّس في أرضه المقدَّسة ويواجه كل الأغيار.
ما بعد الصهيونية: تعريف Post-Zionism: Definition
«ما بعد الصهيونية» مصطلح سياسي يشير إلى مجموعة من العلماء الإسرائيلييين تشمل المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع الانتقادين. وقد تأثر بهم عدد من العاملين في حقول الثقافة والفن والأدب. ومن أهم حملة خطاب ما بعد الصهيونية بني موريس وموشي سميش وسيمحا فلابان وبار يوسف وأوري رام وسامي سموحا وباروخ كيفرلنج وتامار كاتريال وسارا كازير وجيرسون شافير وبارون إزراحي وشلومو سويرسكي وتوم سيجيف ويوناثان شابيترو يورين بن إليعازر وباجيل ليفي وإيلا شوحات وآفي شلايم وإيلان باي وغيرهم. ويُستخدَم مصطلح «ما بعد الصهيونية» للإشارة إلى انحسار الأيديولوجية الصهيونية ودخول التجمُّع الصهيوني عصر ما بعد الأيديولوجيات. (كلمة «بعد» في الخطاب الفلسفي الغربي تعني أن النموذج المهيمن قد ضمر وذوي ولم يولد نموذج جديد يحل محله، أي أن ثمة أزمة على مستوى النموذج لم يظهر لها حل بعد ولعلها تعني أيضاً «نهاية»). ومن أهم مصطلحات الما بعد مصطلح «ما بعد الحداثة» الذي صيغ مصطلح «ما بعد الصهيونية» قياساً علىه.
ويرى البعض أن ما بعد الصهيونية معادية للصهيونية وأنها تعيد النظر في كل المقولات الصهيونية الأساسية، بينما يؤكد البعض الآخر أن ما بعد الصهيونية إنما هي امتداد للصهيونية. ويضيف بعض دعاة ما بعد الصهيونية أنفسهم (مثل بني موريس) أنه صهيوني يقوم بعمل إيجابي "من خلال البحث عن الحقيقة التاريخية". بل يرى بعض هؤلاء أن ما بعد الصهيونية هي تحقق للصهيونية، وأن السلام مع العرب هو الثمرة الطبيعية للإنجاز الصهيوني. وكما يقول بني موريس: "إن الكشف عن أعمال الطرد ومجازر ضد العرب في سنة 1948، وأعمال إسرائيل على امتداد الحدود في الخمسينيات، وعدم استعداد إسرائيل للقيام بتنازلات من أجل السلام مع دول عربية (الأردن وسوريا) بعد سنة 1948، ليس «دعاية معادية للصهيونية»، وإنما هو إضاءة لجانب من مسارات تاريخية مهمة، عتَّمت عليه عمداً طوال عشرات من الأعوام المؤسسة الإسرائيلية - بمن في ذلك الباحثون والصحافة - خدمة للحكومة وللأيديولوجيا السائدة". وأعضاء هذا الفريق "الصهيوني" لا ينكرون شرعية ما يُسمَّى «القومية اليهودية» التي أدَّت إلى إقامة الدولة، ولكنهم يطالبون بإنهاء الرابطة النفسية والعائلية بين يهود إسرائيل والجماعات اليهودية خارجها (ونحن لا نأخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين. انظر: «ما بعد الصهيونية، أو صهيونية ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد»).
ومما يجدر ذكره أن ما بعد الصهيونية لها جذور تسبق تاريخ ظهورها في الثمانينيات. فتحدي الرواية الإسرائيلية للأحداث أمر قام به إسرائيل شاحاك من قبل بشكل منهجي شامل. أما يوري أفينيري فقد أكد في أكثر من مناسبة أن الصهيونية مثل البيوريتانية هي أيديولوجية الأصل التي انتهى دورها، وهناك من قال إن الصهيونية إن هي إلا حركة إنقاذ ليهود أوربا (من الكارثة المحيطة بهم) انتهى دورها مع إعلان الدولة الصهيونية، وعلى الجميع تقبلها دون الخوض في النقاش بخصوص الأصول. وهناك بطبيعة الحال الحركة الكنعانية التي نادت (حتى قبل قيام الدولة) بفصل الدولة الصهيونية عن يهود العالم وضرورة التفرقة بين الإسرائيليين (الكنعانيين) واليهود. وعلى مستوى التطور التاريخي لوحظ أن جيل الصابرا كان قد بدأ يبتعد عما يُسمَّى «التراث اليهودي» مما دعا جورج فريدمان إلى الإشارة لهم بأنهم «أغيار يتحدثون العبرية». بل إن بن جوريون نفسه طالب بحل المنظمة الصهيونية بعد تأسيس الدولة، فقد وصفها بأنها "السقالة" التي تفقد وظيفتها بعد الانتهاء من البناء. وأن مهمة يهود العالم هي الهجرة إليها وحسب، وبإمكان الدولة الصهيونية الوصول إليهم مباشرةً، دون وساطة المنظمة الصهيونية. وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقف الكاتب البريطاني، من أصل مجري، آرثر كوستلر .
وظهور ما بعد الصهيونية في الثمانينيات واكتسابها شيئاً من المركزية له أسباب عديدة يمكن أن نورد بعضها فيما يلي:
1 - انتشار العديد من مفاهيم ما بعد الحداثة. وقد استطاعت إسرائيل حتى حرب 1967 أن تعوق تأثير ما بعد الحداثة وما يصاحبها من نسبية مطلقة، فقد كانت دولة ريادية عمالية تؤسس اقتصاداً استيطانياً جماعياً، يكفل للمستوطنين كثيراً من المزايا والحقوق.
2 - الثورة المعرفية في العلوم الإنسانية في الغرب ورفض المسلمات البديهية التي سادت مثل مطلقات حركة التنوير والعقلانية والتقدم ورفض الرؤية التاريخية أحادي الخط والتمركز حول الغرب.
3 - يرى البعض أن الصهيونية قد حققت أهدافها على الصعيد القومي إذ أسست دولة قومية عادية طبيعية، سكانها طبيعيون. بل إن يهود العالم أنفسهم تم تطبيعهم من خلال وجود الدولة الصهيونية.
4 - كانت الصهيونية قبل عام 1948 تمثل أقلية لا تتمتع بإجماع عريض ولكن بعد قيام الدولة حدث إجماع عليها وعلى المقولات الصهيونية حتى حرب 1967. وبعد حرب الاستنزاف (1968 - 1970) وحرب أكتوبر (1973) والحرب في لبنان، فالانتفاضة، بدأت بأعداد غفيرة من الصهاينة في إعادة النظر في المقولات الصهيونية وبدأت ظاهرة الفرار من الخدمة العسكرية.
5 - يحس المستوطنون في إسرائيل أن ثمن الحروب المتكررة مرتفع للغاية وأنهم هم الذين يدفعون الثمن. فالمستوطن الصهيوني هو الذي يواجه في الوقت الحالي كارثة جماعية، لكل هذا بدأوا يبحثون عن بدائل للنموذج الصهيوني.
6 - على عكس الخوف من وقوع الكارثة الذي يمارسه سكان المستوطن الصهيوني يحس يهود الشتات بالطمأنينة، فالخوف لم يعد يطاولهم وهم يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، إن لم يكن أفضل من أقرانهم الإسرائيليين.
7 - يرى بني موريس أن دولة إسرائيل دخلت، في الأعوام الأخيرة، حقبة ما بعد أيديولوجية، أي "ما بعد صهيونية"، بدأت فيها المصالح والقيم الخاصة والفردية تطغي على قيم الجماعة بكاملها. ومجتمع الريادة الصهيونية - في نهاية الأمر - هو مجتمع مؤجل فيه الاستهلاك، فكثير ممن استوطنوا في فلسطين فعلوا ذلك ليرفعوا مستواهم المعيشي.
8 - يرى بني موريس، كذلك، أن الإحساس بالازدحام الشديد في الدولة (الذي ينعكس يومياً في شوارع المدن وعلى أرصفتها) بدأ يحتل مكاناً ما في وعي إسرائيليين كثيرين، وهذا أمر من الممكن، ومن الضروري، أن يؤدي إلى تقييد الهجرة في المستقبل غير البعيد، لأسباب "عملية" لا أيديولوجية.
ويثير الجدل الدائر في إسرائيل بشأن ما يُسمَّى «ما بعد الصهيونية» مسائل متنوعة مثل: الهوية الإسرائيلية (أصولها والمكونات الدينية والصهيونية الداخلة في تكوينها) ونمط الدولة والمجتمع الإسرائيلي المرغوب فيهما (بناء الأمة والموقف من الديموقراطية الليبرالية والقيم الإنسانية العامة، والتعارض القائم بينها وبين القيم اليهودية القَبَلية والدينية) والسياسة الإسرائيلية تجاه العرب (سواء الأقلية الفلسطينية التي تحيا في إسرائيل، أم تجاه الشعب الفلسطيني القاطن في المناطق المحتلة)، والسياسة الإسرائيلية تجاه التوسع الصهيوني (مستقبل المناطق المحتلة ومصيرها) وعلاقة المستوطن الصهيوني بالجماعات اليهودية في الخارج.
وقد قام دعاة ما بعد الصهيونية بمراجعة المقولات الصهيونية الرئيسية وانتقادها، ومحاولة "نزع القداسة" عن كل أو بعض المقدَّسات الصهيونية. فوجَّه حملة خطاب ما بعد الصهيونية النقد لبعض الأفكار السائدة مثل "جمع المنفيين" و"بوتقة الصهر" والطبيعة العسكرية للمجتمع الإسرائيلي ونزعته التوسعية وشعار "الأمن فوق كل اعتبار". بل تناول بعضهم الأيقونة الصهيونية والغربية الكبرى، أي مسألة الهولوكوست. وقد قام المؤرخون الجدد بمراجعة الرواية الصهيونية لحرب 1948. أما علماء الاجتماع الانتقاديون فقد قدَّموا نقداً جذرياً للصهيونية فدرسوا حركات الاحتجاج والفئات المضطهدة في المجتمع الإسرائيلي (الفلسطينيون والسود والسفارد والنساء) بحيث طبق بعضهم منظور كولونيالي على الدراسات التاريخية الصهيونية. وقد خرج حملة خطاب ما بعد الصهيونية على النهج الصهيوني السائد والذي يقوم على ليّ عنق التاريخ والواقع من أجل إرساء المزاعم والادعاءات الصهيونية.
المؤرخون الجدد: تعريف New Historians: Definition
مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين أخذوا في الظهور منذ الثمانينيات وبدأوا في مراجعة الرواية الأكاديمية الإسرائيلية للصراع العربي الصهيوني، وبخاصة حرب 1948 التي جرى صوغها ضمن إطار أيديولوجي صهيوني يعيد ترتيب الوقائع، واستبعاد ما لا يروق للصهاينة. فالرواية الإسرائيلية الصهيونية لوقائع حرب 1948 وما بعدها تحاول بقدر الإمكان عدم ذكر الفلسطينيين، فلا توجد جماعة فلسطينية قائمة بذاتها (ومن هنا الإكثار من ذكر البدو) بعد 1948. ولم يحدث أي تهجير قسري (ترانسفير) للفلسطينيين فقد خرجوا تلقائياً أو هربوا بناء على دعوة صريحة من الملوك والرؤساء العرب حتى يتسنى للجيوش العربية الإجهاز على الدولة الصهيونية الوليدة، المحاصرة من كل جانب، أي أنه تم إسقاط البطولة تماماً عن الفلسطينيين وخلعها على الصهاينة. رسم المؤرخون الجدد صورة أكثر واقعية تقترب إلى حدٍّ ما من الرواية الفلسطينية لوقائع تلك الحرب، والتي تبيِّن أن المطامع الصهيونية قد تم تحقيقها على حساب السكان الفلسطينيين وأن العرب أُبعدوا عن طريق الطرد. وقد أظهر المؤرخون الجدد أن العالم العربي لم يكن قوة عسكرية مخيفة، بل كان مفككاً، يتكون من دول متخلفة، بعض حكامها متواطئ مع الصهاينة، وجيوشها سيئة التدريب وقدراتها القتالية شديدة التدني. كل هذا يؤدي إلى نزع البطولة عن اليهود. بل بيَّن هؤلاء المؤرخون الجدد أن إسرائيل دولة متعنتة، ترفض السلام. وقد اعتمد هؤلاء المؤرخون الجدد المادة الأرشيفية التي رُفعت عنها السرية بعد مرور ثلاثين عاماً.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Empty
مُساهمةموضوع: ما بعد الصهيونية (صهيونية عصر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد)   الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Emptyالخميس 20 مارس 2014, 6:19 pm

ما بعد الصهيونية (صهيونية عصر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد)
Post-Zionism, ( Zionism in the Age of Post-Modernism and the New International Order)
بعد محاولة التعريف المبدئية لظاهرة ما بعد الصهيونية والمؤرخون الجدد، يمكن الآن أن نقدم رؤيتنا للموضوع. انتقل التجمُّع الصهيوني من مرحلة بطولية تقشفية صلبة (مرحلة التحديث والحداثة) تتسم بأن لها مركزاً (بالإنجليزية: لوجوسنتريك logo-centric) إلى مرحلة استهلاكية سائلة (ما بعد الحداثة) تتسم بأنها لا مركز لها (والصهيونية جزء من الحضارة العلمانية الشاملة الغربية ولا تشكل استثناءً من القاعدة). ويمكن القول بأن الصهيونية قد دخلت عصر ما بعد الحداثة بتصاعُد معدلات الحلولية والعلمنة داخل التجمُّع الصهيوني. فحتى عام 1948 كان اللوجوس (المطلق الصهيوني) يتجسَّد في الفولك (الشعب اليهودي) وكان من المفروض أن يؤسِّس الصهاينة دولة يهودية تصبح هي والمستوطنين موضع الحلول والمركز الروحي والثقافي ليهود العالم (العجل الذهبي، على حد قول أحد الحاخامات المعادين للصهيونية)، أي أنه عالم متمركز حول اللوجوس (لوجوسنتريك logo-centric) يتسم بالتماسك العضوي.
ولكن مع تأسيس الدولة تمزقت الواحدية العضوية، فيهود الدياسبورا أصروا على أنهم هم أيضاً موضع الحلول، ويهود أمريكا بالذات كانوا يرون أن أرض الميعاد العلمانية الحقيقية هي الولايات المتحدة الأمريكية. وفي داخل إسرائيل نفسها نشب الصراع بين الإشكناز والسفارد إذ أن الإشكناز كانوا يرون أن المطلق الصهيوني يعبِّر عن نفسه من خلالهم وحدهم، فاليهودي هو الإشكنازي أما اليهودي السفاردي فهو مجرد صدى أو صورة باهتة. ثم بيَّن الصهاينة الدينيون أن اللوجوس الصهيوني ليس هو الفولك وحسب ولا هو الدولة وإنما هو الإله متجسداً في كل من الشعب والدولة، فبدلاً من حلولية بدون إله على طريقـة العلمانيين، بعـثوا مرة أخرى حلولية شـحوب الإله التقليدية، حيث يحل الإله في الأشياء ويذوب فيها ويتوحد معها، ومع هذا يظل محتفظاً باسمه. وقد جفت مصادر المادة البشرية اليهودية وهذا يُعَد كارثة بالنسبة لمجتمع استيطاني يعرف أن من أهم أسباب ضمور ممالك الفرنجة وموتها هو عدم تدفُّق المادة البشرية الفرنجية عليها. وجفاف المادة البشرية يعني أيضاً تداعي الدور القتالي لدولة وظيفتها الأساسية هي القتال المستمر وبدونه قد تختفي في لحظات (انظر الباب المعنون «أزمة الصهيونية»).
لكل هذا اهتزت القصة الصهيونية الكبرى: عودة واستيطان - إفراغ الأرض من سكانها ورحيل السكان من تلقاء أنفسهم - تأسيس الدولة اليهودية الخالصة - تدفُّق ملايين اليهود على أرض الميعاد - نهاية التاريخ السعيدة. فلا العرب اختفوا ولا اليهود تدفَّقوا، وبدلاً من أن يتجسَّد الإله اليهودي في الدولة اليهودية، لم يَعُد له وجود وتفكَّك اللوجوس. فالدولة التي تم تأسيسها بزعم إنقاذ يهود العالم من ذئاب الأغيار وجدت أن عليها أن تطارد اليهود بلا هوادة "لإنقاذهم". والدولة التي جاءت لتؤكد السيادة اليهودية وجدت أن عليها الاسـتجداء والاعتماد المذل على الدول الغربية لتضـمن لنفسها البقاء. والدولة التي أعلنت أنها ستُخرج اليهود من الجيتو وجدت نفسها محاصرة في الداخل والخارج من العرب الذين لم يستسلموا لها، فتحوَّلت هي نفسها إلى الدولة/الجيتو أو الدولة/الشتتل.
وقد تبلور هذا الوضع في الاستيطان، فالصهيونية (على حد قول بن جوريون) هي الاستيطان. ولكن بدأت تظهر أصوات تنادي بفصل الصهيونية عن الاستيطان والادعاء بأن الصهيونية هي الاستثمار في إسرائيل أو التعاون العلمي معها أو حتى زيارتها للسياحة. والرواد الصهاينة الذين كان من المتصور أنهم سيقومون بغزو فلسطين وتخليصها وتخليص أنفسهم (عن طريق الزراعة المسلحة: يد تمسك بالبندقية والأخرى تمسك بالمحراث) أصبحوا مستهلكين بالدرجة الأولى وأصبح الاستيطان مرتبطاً بالاستهلاك وأصبحت الإعلانات عن المستوطنات تتحدث عن حجم حمام السباحة وعدد مكيفات الهواء وطريقة الدفع بالتقسيط المريح ونسبة الخصم عند الدفع، أي أن الأسطورة الصهيونية ضُربت في الصميم. وقد ساعد انتصار 1967 على هذا الانتقال من التقشف وإنكار الذات إلى الاستهلاك، وقوَّت من عضده الهجرة السوفيتية، حيث هاجرت مئات الألوف من الصهاينة المرتزقة، الباحثين عن تحسن مستواهم المعيشي. وإذا كانت عبارة «ما بعد الأيديولوجيا» تعني نهاية الأيديولوجيات فإن عبارة «ما بعد الصهيونية» تعني في واقع الأمر «نهاية الصهيونية»، فالقصة الصهيونية الكبرى الأصلية قد حل محلها أثر أو صدى وقصص صغيرة، إذ أن كل رأس صغير (روش قطان) يعيش داخل قصته الصغيرة.
وقد عبَّر هذا عن نفسه في التكاثر المفرط للمصطلحات التي تُستخدَم للإشارة إلى الصهيونية (بقصصها الصغرى الكثيرة) وهو ما يدل أيضاً على انفصال الدال عن المدلول، فهناك عدة دوال («الصهيونية التقنية» - «الصهيونية اللوكس» - «صهيونية الصالونات» - «الصهيونية الفورية») تحاول كلها أن تشير إلى المدلول دون نجاح كبير. ولعل اصطلاح «الصهيونية المكوكية» قد يصلح دالاً على الحالة الصهيونية، التي لم يَعُد لها مركز، ومن ثم قد يكون من الأفضل أن نشير لها باعتبارها «الصهيونية الإنزالاقية» أو «الصهيونية المفكَّكة» (بالإنجليزية: ديكونستركتد deconstructed)، فالصهيونية حركة تفكيكية، قامت بتفكيك كل من العرب واليهود ونقلهم من أوطانهم الأصلية إما إلى فلسطين أو خارجها. ولكنها بعد تفكيك الآخر، تفكَّكت هي نفسها بفعل العوامل التاريخية، وهي على كل كانت تحوي جرثومة فنائها وتفكُّكها من البداية حين استندت إلى دال بلا مدلول: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
والصهيونية الحلولية العضوية هي محاولة لحل الأزمة عن طريق خلع القداسة على الذات اليهودية بحيث تصبح هي مصدر القداسة الإطلاق ومركز الكون، مكتفية بذاتها ومرجعية ذاتها. وتصبح الأرض المقدَّسة، بحكم قداستها أرضاً بلا شعب، ويصبح اليهود، الشعب المقدَّس، بحكم قداستهم شعباً بلا أرض. ولا تكتمل الحلقة إلا بأن يعيش الشعب المقدَّس في الأرض المقدَّسة ويحل فيهم الإله وتسري القداسة في كل شيء ويتجسَّد اللوجوس مرة أخرى ومن ثم يمكن ممارسة العنف الصهيوني وتبريره على هذا الأساس. أما صهيونية ما بعد الحداثة فهي تتبع إستراتيجية مختلفة تماماً، وإن كانت تؤدي إلى النتائج نفسها. فهي تقوم بنزع القداسة عن اليهود والعرب وفلسطين بحيث تصبح كل الأمور متساوية ويصبح الكون لا مركز له. وداخل حالة السيولة يمكن أن يصبح المدفع الدارويني هو اللوجوس، الذي يحدِّد مدلول الكلمات.ولكن يبدو أن صهيونية عصر ما بعد الحداثة هي التي سترجح كفتها لأن ظهورها قد تزامن مع ظهور النظام العالمي الجديد وانتقال العالم الغربي بأسره من حالة الصلابة إلى حالة السيولة (ولعلها هي نفسها إحدى تبديات حالة السيولة في التجمُّع الصهيوني).
والنظام العالمي الجديد هو إعادة إنتاج للرؤية المعرفية العلمانية الشاملة في أواخر القرن العشرين، ومن ثم فهو ينطلق من مرجعية واحدية مادية ترى العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) باعتباره مادة استعمالية. وقد أدت هذه الرؤية - في نطاق النظام العالمي القديم - إلى ظهور ثنائية الأنا والآخر، والمستعمل والمستعمَل، التي دفعت الإنسان الغربي إلى غزو العالم والهيمنة عليه واستهلاكه. ولكن مع تراجُع الهيمنة والمركزية الغربية وظهور عوامل التماسك والمقاومة في العالم الثالث (حركات تحرُّر داخلي) وجنباً إلى جنب مع عوامل التفكُّك والتآكُل (عولمة النُخَب السياسية والثقافية الحاكمة - فسادها وإفسادها - تصاعد التطلعات الاستهلاكية - تآكل الدولة القومية - السوق والشركات متعددة الجنسيات - تراجع الإحساس بالخصوصية... إلخ)، وجد الغرب فرصة سانحة لأن يحل إشكالية عجزه عن المواجهة العسكرية والهيمنة الصريحة عن طريق اللجوء للإغواء والتفتيت والتفكيك والالتفاف، وأن يستمر في تأكيد الأنا الغربية على حساب الآخر بآليات جديدة خفية من أهمها استـخدام النخـب السياسية والثقافية المحلية كآليات للقمع والإرهاب. فطرح النظام العالمي الجديد مجموعة من الديباجات الرائعة التي يكمن وراءها نموذج مادي واحدي ينكر التاريخ والإنسان ويؤدي إلى نهاية كلٌّ منهما. وصهيونية عصر ما بعد الحداثة هي صهيونية النظام العالمي الجديد، التي تحاول أن تتغلغل وتفرض قصتها الصغرى على عالمنا العربي بقوة الإغواء والإغراء والسلاح المخبُّأ بعناية فائقة، بحيث لا تراه عين.
والاستعمار (في عصر النظام العالمي الجديد) يريد تصدير سلعه الترفية وأسلحته المتقدمة والإلكترونيات ورأس المال، وبما أن الدول المتخلفة غير قادرة على الاستهلاك وليست في حاجة إلى سلع كان من الضروري أن "تتقدم" بعض الشيء وأن تحقق شيئاً من التنمية حتى يتم تصعيد التوقعات، ولكن، مع هذا، يجب الابتعاد عن التنمية المستقلة، لأنها تعني التماسك لا التفكيك، والتوحُّد لا التشرذم، ولذا فإن التنمية يجب أن تتم داخل الأطر التي يُقال لها "عالمية"، وتحت إشراف المؤسسات التي يُقال لها "دولية". كما أن الإنسان الذي ينمو يجب أن يفرَّغ من الداخل حتى لا يتحول إلى قوة اقتصادية قومية مقاومة.
والمدخل لأية حركة مقاومة حقيقية هو تأكيد أن الربح الاقتصادي (العام) ليس القيمة النهائية في حياة الإنسان، وإذا كان الربح المادي - كما يؤكد كثير من الماديين - هو بالفعل القضية الأساسية فإن كل شيء يصبح خاضعاً للتفاوض وللإبقاء والإلغاء، وضمن ذلك الخصوصية القومية والمنظومة القيمية والامتداد التاريخي، بل أرض الوطن. لأنه إن كان الحفاظ على مثل هذه الأشياء فيه تعظيم للمنفعة الاقتصادية (المادية)، فينبغي تطويرها وتمجيدها والتغني بها، أما إذا شكَّلت عائقاً في طريق "التنمية الاقتصادية" فلابد من التخلص منها بلا هوادة. والسوق الشرق أوسطية تَصدُر عن الإيمان بأن العالم كله مادة وأنه لا شيء له قيمة وأن كل شيء له ثمن، ومن ثم فهو الترجمة المتعينة للنظام العالمي الجديد، التعبير المتبلور عن حالة السيولة.
وقد بيَّن شمعون بيريز هذا الاتجاه حين صرَّح بأنه حينما "يشتري" المرء سلعة يابانية فهو في واقع الأمر "ينتخب اليابان"، "فأسواق اليوم" (على حد قول هذا الإنسان الاقتصادي المسمَّى بيريز) "تُولِّد السياسة وتدافع عنها. وقوة السوق هذه الأيام محسوسة بشكل أكبر من قوة الدولة". والسوق لا تتحكم فيه العواطف أو القيم الإنسانية، إذ تتحكم فيه آليات لا تَمُّت إلى الحب أو الكُره بصلة ولا يتم فيها أي تبادل إنساني وإنما يفترض أنه سيتم تبادل السلع والخدمات فيها في حرية كاملة، فالأمر كله إنتاج واستهلاك. والاستهلاك والإنتاج لا علاقة لهما بالمطلقات المعرفية أو الثوابت الأخلاقية أو الوظيفية أو الخصوصيات الإثنية أو الأخلاقية. والسوق هو المكان الذي يتحوَّل فيه الإنسان العربي المسلم إلى إنسان طبيعي اقتصادي وربما جسماني يفهم مصلحته الاقتصادية ومنفعته ولذته ولا يكترث بشيء آخر، على استعداد للتفاهم بشأن أي شيء وأن يغيِّر قيمه بعد إشعار قصير.
وإذا كان داخل كلٍّ منا مجاهد على استعداد للدفاع عن شرفه وشرف أمته وقيمه (الإنسان الإنسان الذي يحوي العنصر الرباني)، فهناك أيضاً في داخل كلٍّ منا بقال على استعداد لأن يبيع ويشتري كل شيء وضمن ذلك الوطن، نظير عمولة مجزية وسعر معقول، كما يوجد ذئب مستعد لأن يفترس من حوله وقرد مستعد لأن يقلد من ينتصر عليه. وفي السوق يتوارى المجاهد ويظهر البقال والذئب والقرد فتتحوَّل البلاد إلى فنادق وتتحول الأحلام إلى سلع. ولعل الموز الإسرائيلي (الذي قُدِّم للمستهلك المصري باعتباره بشرى بما سيكون) هو رمز جيد ومتبلور لعملية التفكيك الجديدة، فهو يتوجه مباشرة إلى الجهاز الهضمي ليُسقط الذاكرة والتاريخ والهوية والذات والموضوع والحق والحقيقة، ويعلن ندية الإنسان والمادة، والقومية العربية والصهيونية، فننزلق جميعاً إلى عالم خال من القيم والهوية - عالم السوق الشرق أوسطية وسنغافورة، عالم بلا مركز ولا قيم تتساوى فيه الأمور جميعاً، ولا يبقى إلا المصالح الاقتصادية المباشرة والتوجه نحو اللذة.
بل يؤكد لنا بيريز أن "الشعب اليهودي نفسه لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة... إنه فقط يريد أن يشتري ويبيع ويستهلك وينتج، فعظمة إسرائيل تكمن في عظمة أسواقها"، أي أن اللوجوس في مرحلة موت الإله ليس الفولك وإنما السوق. وعلى مسرح السوق الجديد لن تجد الشعب العربي أو الشعوب الإسلامية صاحبة التاريخ والرؤية إذ سيتحرك على خشبته عناصر مجردة: المياه التركية والأموال الخليجية والعمالة المصرية، وهي جميعاً أشياء لا وعي لها. ثم يظهر على المسرح العنصر الذي سيمسك بكل الخيوط وسيُحركها: الخبرة الإسرائيلية، الوعي الحقيقي على المسرح.
ولكن السمة الأساسية لهذه السوق أنها سوق لا هوية لها، لا تعرف الزمان أو التاريخ، فهي مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها. وإن كان هناك أيُّ سوء فهم فقد تم تبديده إذ وُصفت هذه السوق بأنها «شرق أوسطية»، أي أنها ليست عربية أو إسلامية، وإنما تنتمي إلى مكان دون زمان أو تاريخ. وهذا المكان هو الشرق الأوسط، وهو مفـهوم جغرافي غير محدد، يضم قبرص وفلسطين وإيران وتركيا وأحياناً اليونان. والعلاقة بين الدول هي علاقة تعاقدية، فقد تتفق قبرص مع مصر مع إسرائيل، أو إسرائيل مع فلسطين مع الأردن، أو تركيا مع لبنان مع فلسطين، وهكذا. المهم أن الاتفاق هنا بين بلاد تنتمي إلى منطقة واحدة لا إلى تشكيل حضاري مشترك أو منظومة قيمية مشتركة. ومن هنا التبشير بسنغافورة باعتبارها أرض الميعاد الجديدة، وهي بلد صغير جداً لا تاريخ لها ولا ذاكرة ولا هوية محددة، تسيطر عليها رؤوس الأموال الغربية، وليس لها مشروع حضاري واضح أو كامن، فهي حيز للبيع والشراء وحسب.
ويؤكد بيريز نهاية التاريخ (ونهاية الإنسان ونزع القداسة عن كل شيء والتفكيك الكامل لكل ما هو إنساني، حين يعلن أن ماضي العلاقات العربية الإسرائيلية ينبغي ألا يقف عقبة فى وجه الفرص المتاحة أمامها الآن، بل ينبغي تركيز الاهتمام كله على المستقبل. فلا داعي، على سبيل المثال، للحديث عن الماضي أو عن القيم إذ يجب التركيز على الآن وهُنا. ولذا، يتحدث بيريز، شـأنه شـأن فوكوياما، عن نهاية التاريخ: "العصر الذهبي لشعوب الشرق الأوسط، عصر لم ير له التاريخ مثيلاً، عصر مناسب للعهد الجديد"، وهكذا يلتقى بيريز بكلٍّ من فوكوياما ومفكري ما بعد الحداثة داخل السوبر ماركت وداخل ورش المصانع، هذا الفضاء المادي الذي لا يعرف الزمان أو التاريخ أو الإنسان أو الإله. وهذا يعني في واقع الأمر محو الذاكرة التاريخية بشكل واع ونشيط (وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة) وتناسى السبب الأساسي للصراع: أن التشكيل الإمبريالي الغربي قد غرس كياناً استيطانياً إحلالياً على أرض فلسطين، وأباد مَنْ أباد من أهلها ثم شرَّد مَنْ شرد، وها هو يضع البقية الباقية تحت حكم السلاح. واختفاء التاريخ والذاكرة يعني اختفاء القصة العربية والإسلامية الكبرى وظهـور القصص القـطرية والفرديـة والقَبَلية والاسـتهلاكية الصغرى، أي يعني تَفتُّت العالم العربي وتَشرذُمه، أي تحقُّق القصة الصهيونية الكبرى، دون مواجهة وقتال.
ويذهب المفكر العربي منير شفيق إلى أن المشروع الصهيوني يحتم ضرورة أن يكون الشرق العربي مشتتاً مبعثراً لا يتمتع بدرجة تماسك عالية ولا توجُّه حضاري واضح؛ شرقاً عربياً لا يتحكم في ثرواته. وأن ما يحدث للعراق ليس حالة استثنائية وإنما هو نموذج لرؤية النظام العالمي الجديد (وصهيونية ما بعد الحداثة) لوطننا العربي وللعالم الإسلامي. فهذا النظام يقوم بتجريد العراق من سلاحه وقدرته العسكرية والعلمية، ويُضعف دولته القومية المركزية (ويقوى الأطراف) حتى يظل العراق موحداً ولكن ضعيفاً، فالمطلوب هو عراق واحد متآكل داخلىاً، يشل بعضه بعضاً ولا يستطيع أن يستعيد عافيته لعشرات السنين القادمة حتى لو تغيَّر النظام العراقي الراهن. ويرى منير شفيق أن هذا جزء مما أسماه "سايكس بيكو الثانية"، أي تجزئة كل جزء من الأجزاء داخلياً حتى تصـبح عمـلية الإجـهاض نابعة من الداخل، ولذا فهو يقول فى جملة دالة جداً "إن من يربط ما يحدث للعراق بما حدث للكويت يخطئ خطأً فادحاً". فلو ثبت أن إحدى الدول العربية بدأت تنهض وتقف على قدميها وتحقق استقلالها وتنمي نفسها خارج نطاق النظام العالمي الجديد، فلابد أن يكون مصيرها هو مصير العراق، حتى لو لم تهاجم الكويت، فالعراق هنا نموذج، ولم يكن اجتياح الكويت إلا تكأة. إن الوطن العربي يجب أن يصبح "المنطقة" (كما يُشار إليه فى الكتابات الصهيونية والغربية) رقعة بلا تاريخ ولا ذاكرة ولا هوية ولا مصالح مستقلة. ويجب أن تكرس سياسة المصلحة الضيقة الخاصة لكل دولة، وكذلك أمنها واستقرارها وتنميتها، ونسيان شيء اسمه المصلحة العربية العليا أو الإسلامية العليا أو الأمن العربي والإسلامي والسوق العربية المشتركة! ولابد من تقسيم المنطقة على أساس طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب، أي إعادة صياغة المنطقة باعتبارها فسيفساء من أقليات إثنية ودينية يستمر بينها قدر من الصراع المعقول الذى يمكن التحكم فيه من قبل النظام العالمي الجديد (وصهيونية ما بعد الحداثة) الذى لا يقبل الفوضى الشاملة، إذ لابد أن يستمر البيع والشراء والإنتاج والاستهلاك.
وثمة كتاب يتداوله أعضاء النخبة العسكرية في الولايات المتحدة يُسمَّى تحوُّل الحرب كتبه المؤرخ العسـكري الإسـرائيلي فان كريفـيلد (الجامعة العبرية). والموضوع الأساسي في الكتاب هو أن النقطة المرجعية لفهم الحروب في المستقبل هي حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر في أوربا، وحرب المائة عام قبلها، وهي حروب لم تتم بين دول قومية مسـتقلة وإنما بين مـلوك ونبلاء إقطاعيين، وهو هنا يطالب بمفهوم للحرب يسبق توقيع معاهدة وستفاليا (1649) التي أنهت حرب الثلاثين عاماً. ويرى فان كريفيلد أن مفهوم كلاوزفيتز للحرب لم يَعُد صالحاً كإطار نتحرك من خلاله، فهو مفهوم نابع من الصراع بين الدول القومية ذات السيادة ويستند إلى مبدأ أن الحرب استمرار للسياسة بطرق أخرى. ويذهب فان كريفيلد إلى أن عصر الحروب الكبيرة بين الدول قد انتهى، فالحروب المقبلة ستكون "داخل" الدول وليس "بينها"، ولن تكون الحروب بين جيوش نظامية بالمعنى المعروف لدينا، وإنما بين مجموعات مختلفة من الجماعات المسلحة، ومن ثم فإن الفارق بين الجندي المنظم والجندي المرتزق وعضو المافيا أو المليشيا سيختفي، إذ ستظهر مجموعات عسكرية مختلفة تمثل القبائل والجماعات الإثنية والانتماءات الدينية والمصالح الاقتصادية (الشرعية أو الإجرامية)، أي أن الحروب في المستقبل ستكون مثل الحروب في العصور الوسطى في المجتمعات البدائية. ولعل ما يعبِّر عنه فان كريفيلد ليس نبوءة بمقدار ما هو أمنية، ولعل ما حدث في لبنان هو تنفيذ لهذه النبوءة/المخطط. والعراق أيضاً نموذج جيد، فقد قُسِّم ولم يُقسَّم في الوقت نفسه، فهناك أكراد فى الشمال تُغير عليهم القوات التركية وتدعمهم قوى التحالف ويضربون بعضهم بعضاً، وهناك شيعة فى الجنوب يثورون وينتفضون ليخلوا بالنظام، ولكن لا يسمح لهم لا بالانتصار ولا بالانهزام، وإنما يُسمَح بالاستمرار فى استنزاف الدولة المركزية وفى استنزاف أنفسهم (وهذا درس لكل أقليات المنطقة، فهى الأخرى ستتحول إلى مادة استعمالية نافعة للنظام العالمي الجديد).
هذا فيما يتصل بالدول التي لعبت دائماً دور القيادة فى المنطقة، أما بالنسبة للدول البترولية فإن المخطط الأمريكي الغربي، فى رأى الأستاذ منير شفيق، لن يسمح مرة أخرى بتراكم تلك الثروة النفطية فى الخليج، وسيسعى بكل الوسائل إلى تقليصها إلى أقصى حد، وسيعمل على التحكم فيها من حيث إعطاء المساعدات الخارجية والتحكم في الإنتاج والأسعار والاستثمار في المشاريع الداخلية والخارجية وغير ذلك. ولا يمكن أن يُفهَم ما جرى فى إعادة بناء الكويت، وما فُرض من إتاوات لدفع تكاليف الحرب، وما جرى من نهب وتدمير لبنك الاعتماد التابع للإمارات، إلا ضمن هذا السياق. ولعل من أهداف الهجوم الذى يشن على ليبيا الآن السيطرة على سياسة النفط الليبية والثروة الليبية حتى تكتمل حلقات السيطرة على النفط العربي، ومن ثم الإسلامي". ولعل الانقلاب المعادي للديموقراطية فى الجزائر هو أيضاً من باب محاولة إحكام السيطرة حتى لا تأتي للحكم نظم مؤمنة بالتنمية المستقلة وبعدم تبدىد مواردها الطبيعية والحفاظ على ثروتها للأجيال القادمة فلا ترهنها للشركات متعددة الجنسيات نظير بضعة ملايين من الدولارات تتبدَّد فى أشكال من الترف والعبث.
ولابد من إعادة صياغة النخبة الثقافية والسياسية وإعادة تعليمها، وستأخذ هذه العملية شكل الترغيب والترهيب. أما الترغيب، فهو يأخذ شكل دعم ورشاوى ومراكز بحوث وصفقات وبرامج ثقافية تزيد معدلات الأمركة والعلمنة فى المجتمع والتلويح للنخب السياسية والثقافية بأنها ستُشارك بشكل مباشر في هذا التعاون الدولي وستجني ثمراته بشكل شخصي. أما الترهيب فهو تخويف الجميع من خطر الإرهاب الإسلامي. وقد نجح النظام العالمي الجديد فى هذا المجال، فكثير من المثقفين القوميين والاشتراكيين العلمانيين، ممن وجدوا أنفسهم بلا أرضية ولا قضية، بعد حرب الخليج وبعد تراجع المنظومة القومية وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى وتساقُط المنظومة الاشتراكية، يبحثون عن مبرر وجيه وموضوعي للتوجه للسفارة الأمريكية والسير في ركاب المنظمات الدولية (التي تدفع رواتب هي أقرب إلى الرشاوى منها إلى الأجور). وقد وجدوا مثل هذا المبرر أخيراً في الادعاء بالخوف على الداخل الديمـوقراطى من الداخـل الإرهابي، ومن ثم فليسـتعينوا بالخـارج الدولي، هذا الذي ساند كل الدول الإرهابية عبر تاريخه ولا يزال يساند طواغيت الأرض الذين ينهبون شعوبهم أثناء عمليات النهب ثم يحميهم بعدها، فهذا الخارج قد أصبح فجأة نصير الديموقراطية والمُدافع عن العدالة. وبدأت تظهر بينهم آلهة محلية مثل «حورس» جزء من الماضي المتحفي (نسبة إلى متحف)، لتحل محل الماضي العربي الإسلامي الحي، وحتى تتصارع الآلهة المحلية الوثنية (هذا، إذا تم بعث آشور، واللات والعزى)، كما كان الحال فى الشرق الأدنى القديم قبل الفتح الإسلامي، وهذه هى تماماً الرؤية الصهيونية للمنطقة في عصر ما بعد الحداثة.
هذا هو الإطار المعرفي العام لحركة النظام العالمي الجديد وصهيونية عصر ما بعد الحداثة في الشرق العربي والإسلامي: إنسان اقتصادي مادي لا ذاكرة له - ينسى التاريخ والهوية - مرن - قادر على التفاهم مع الجميع حسبما تمليه عليه الحسابات الاقتصادية الرشيدة. وهو شرق عربي مرن، إجرائي، قادر على الدخول في علاقة طبيعية مع إسرائيل وعلاقة حميمة مع الغرب، ولكن إسرائيل هي الأخرى لابد أن تتعدل هويتها لتتحول من قاعدة نشيطة للنظام العالمي الإمبريالي القديم إلى قاعدة لا تقل نشاطاً للنظام العالمي الإمبريالي الجديد: تخدم مصالح الغرب دون المجاهرة بذلك وتنفذ المخطط الغربي لا من خلال المواجهة العسكرية وإنما من خلال عمليات الإغواء. ولذا يجب أن يتعاظم دورها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي ويجب أن تكون لديها المقدرة على العمل داخل الوضع العربي برمته بهدف المشاركة في التفتيت والتجزئة وفي اقتسام الثروات المائية والأسواق والمشاريع. لكل هذا عليها أن تتسم بقدر عال من المرونة. ومن الممكن جداً أن يضغط الغرب عليها لتقدِّم بعض التنازلات على المستوى السياسي وعلى مستوى القضية الفلسطينية وعلى مستوى الديباجات. فتعلن أنها دولة تبحث بصدق عن السلام، تطلب الدخول في مفاوضات عاجلة. وبدلاً من الحديث عن إسرائيل الكبرى المسلحة سيكون الحديث عن الأهداف المشتركة مثل التنمية الاقتصادية، خارج عقد الهوية والتاريخ.
وقد تُنصَح إسرائيل بالتخلي قليلاً عن لونها اليهودي الفاقع وسياستها الشوفينية الواضحة. والصهيونية، على كلٍّ، أيديولوجيا تابعة تبنت دائماً أحدث الديباجات الغربية. ولذا، فإن صهيونية عصر ما بعد الحداثة، حيث لا ترتبط الدوال بالمدلولات، تصبح صهيونية عنصرية تتسم بالمرونة، توسعية تتسم بسعة الأفق، استبعادية مستعدة للدخول في حوار، وهي صهيونية قادرة على تفهم مطالب الفلسطينيين "المشروعة" (مثل الحاجة إلى فرق مطافئ وفرق فنون شعبية ومجموعة موتوسيكلات وبعض السلع الاستهلاكية). وإسرائيل لا دينية مرنة واقعية يمكنها أن تلعب دوراً فعالاً فى المنطقة، ويمكنها أن تدخل تحالفات مع النخب الحاكمة العربية (التي يدَّعي بعضها العروبة ويدَّعي البعض الآخر منها الإسلام) دون أن تسبب حرجاً لهم. كما أن مرونتها، وما قد تقدمه من تنازلات حقيقية وشكلية، سيعطي مصداقية للنخب الحاكمة ولكل من يتحدث عن الشرعية الدولية وعن النظام العالمي الجديد كآلية لنشر السلام والعدل فى ربوع الأرض. وأخيراً ستمكِّنها مرونتها وتَفكُّكها أن تلعب دوراً في عملية تحويل العالم العربي إلى سنغافورة، وإن كان الاحتمال الأكبر أن القطار المسرع المتجه إلى سنغافورة سيتوقف في الفلبين أو ربما في شرق أوربا حيث سقطت الأطر القومية والعَقَدية فتحوِّل الإنسان إلى ما يشبه البروتين الحيواني (أو الإنساني فالبروتين هو البروتين، لا تاريخ له، تماماً مثل السوق). وأصبح قادراً على بيع كل شيء، والتفاوض بشأن أي شيء.
فى هذا الإطار، سيمكن "حل القضية الفلسطينية"، فالجميع سيصبح معتدلاً ، متقبلاً لنفس المنظومة القيمية المعرفية، يعرف الهدف من الوجود فى الكون وحدود الحركة والتنمية. ولذا، لابد من التركيز أيضاً على النخبة القائدة الفلسطينية حتى تنبذ الإرهاب، ولتُظهر التعقل وتحاول أن توقف الانتفاضة وتركب القطار العربي المتجه نحو السلام تحت رايات الباكس أمريكانا، إلى أوسلو وسنغافورة. ولكن إسرائيل رغم أنها ستمجِّد حالة السيولة وتدعو إليها بل وتتبنَّى بعض سماتها إلا أنها يجب ألا تسقط في هذه الحالة تماماً، ولذا يجب أن يتم ضمان تفوُّقها الكاسح عسكرياً على كل دول المنطقة "على أن يظل هذا الدور قوة كامنة واحتياطية تستخدم إذا دعت الحاجة إلى قوة مُستنفَرة على الحدود جاهزة للتدخل فى كل لحظة كما كان الحال فى المرحلة السـابقة"، وهـذا ما يتم إنجازه من خلال ضرب العراق وأمثـاله.
ومن هذا المنظور، فإن العدو الأول للنظام العالمي ليس القومية العربية (الآخذة فى التراجع، وخصوصاً بعد سقوط الدول الاشتراكية وبعد حرب الخليج) وإنما هو كل من يقف ضد الاستهلاكية العالمية، أى الإسلام كأيديولوجيا إنسانية عالمية وكمنظومة قيمية. فمن المنظور الإسلامي، نحن لم نأت إلى هذا العالم كي نبيع أو نشتري وإنما لنأمر بالمعروف وننهي عن المنكر، وقيم الأمانة والكرامة لها ثقل في عقل هذا الإنسان المسلم، فالإسلام رؤية تجعل من العسير على الإنسان أن يرد نفسه إلى النشاطين الأساسيين: أي النشاط الاقتصادي والنشاط الجنسي، ثم يردهما كليهما إلى الطبيعة/المادة، فالإنسان المسلم ليس الإنسان الطبيعي (ذي البُعد الواحد) وإنما هو الإنسان المركب الذي استخلفه الله في الطبيعة كي يعمرها ويسخرها لنفسه وللأجيال القادمة بإذنه تعالى. وفي مواجهة هذه الأيديولوجية الإيمانية، تستعيد إسرائيل دورها التاريخى الذى كادت تفقده، وبدلاً من أن تكون مجرد قاعدة للاستعمار الغربي الرأسمالي، فإنها تصبح ممثلة للحضارة الغربية (الحديثة العلمانية) بشقيها الرأسمالي الحالي والاشتراكي السابق، حائطاً ضخماً يمثل الغرب في الشرق ويقف ضد الهمجية الشرقية، على حد قول هرتزل. فهناك الآن الجمهوريات السوفيتية الإسلامية السابقة التي أصبحت لها دينامية مستقلة نوعاً و"تتهددها" الأصولية الإسلامية، وهناك كذلك بعض النظم العربية التي ترى أن عدوها الأساسي هو هذه الأصولية الإسلامية.
وخلاصة الموقف أن إسرائيل من خلال الديباجات النسبية المعتدلة تحاول أن تجعل المنطقة المحيطة بها لا مركز لها، لا تدور حول لوجوس ولا عقيدة ولا ذاكرة، ومن ثم تتفتت وتصبح منعدمة الاتجاه ويصيبها الخور والوهن. وفي هذه الحالة يظهر الجيش الإسرائيلي باعتباره اللوجوس الأكبر و المركز الوحيد في عالم لا مركز له. (وعلى كل حال، يعلم الجميع بوجود القنابل النووية الإسرائيلية التي لا تتسم بالأخوية أو المحبة أو الندية) وتظهر الأجندة الخاصة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية. ولا شك في أن اتفاقية أوسلو ستساعد الدولة الصهيونية الوظيفية على الاضطلاع بوظيفتها الجديدة كما عرَّفتها لنفسها، كما أن أفكار مثل رفع المقاطعة العربية والسوق الشرق أوسطية ستساعد هي الأخرى في تدعيم الدور الجديد. ولكن كل هذا لن ينجح في حل أزمة الصهيونية، فهي أزمة بنيوية عميقة - كما أسلفنا - لا يمكن حلها إلا بطريقة بنيوية شاملة. كما أن اتفاقية أوسلو لن تحل بأية حال إشكالية شرعية الوجود، رغم أنها أول انتصار تحققه إسرائيل على هذا المستوى.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Empty
مُساهمةموضوع: المفهـوم الصهيوني/الإسرائيلي للصراع العربى الإسرائيلى    الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Emptyالخميس 20 مارس 2014, 6:41 pm

المفهـوم الصهيوني/الإسرائيلي للصراع العربى الإسرائيلى 
Zionist-Israeli Concept of Arab- Israeli Conflict 
لإدراك الأبعاد الحقيقية للمفهوم الصهيوني/ الإسرائيلى للسلام قد يكون من المفيد العودة إلى أحد المؤتمرات الصهيونية الأولى (في عشرينيات هذا القرن) حين طرح أحد المستوطنين الصهاينة السؤال التالي: هل تريد الحركة الصهيونية الحرب مع العرب أم لا؟ وطرح السؤال على هذا النحو يُلقي كثيرًا من الضوء على القضية موضع البحث: فهل السلام مسألة إرادة ورغبة، أم أنها مسألة بنية تشكَّلت على أرض الواقع، لها حركية مستقلة، تدوس كل من يقف في طريقها، بما فى ذلك دعاة السلام من المستوطنين الصهاينة؟ ومن الواضح أن المستوطنين الصهاينة، في لحظات صدق كثيرة، تجاوزوا الاعتذاريات الصهيونية البلهاء وأدركوا أن الأرض مأهولة وأنهم جاءوا لاغتصابها وأن أهلها لذلك سيشتبكون معهم دفاعاً عن حقوقهم. ففي خطاب له في 9 يولية 1936 أمام اللجنة السياسية لحزب الماباي عرَّف موشيه شاريت الثورة العربية بأنها ثورة الجماهير التي تمليها المصالح القومية الحقة، وأضاف أن الفلسطينيين يشعرون أنهم جزء من الأمة العربية التي تضم العراق والحجاز واليمن، ففلسطين بالنسبة لهم هي وحدة مستقلة لها وجه عربي، وهذا الوجه آخذ في التغير، فحيفا من وجهة نظرهم كانت بلدة عربية، وها هي ذا قد أضحت يهودية. ورد الفعل ـ كما أكد شاريت ـ لا يمكن أن يكون سوى المقاومة. وفي 28 سبتمبر من نفس العام، كان شاريت قاطعًا في تشخيصه للحركة العربية على أنها ثورة ومقاومة قومية وأن القيادة الجديدة تختلف عن القيادات القديمة. كما لاحظ وجود عناصر جديدة في حركة المقاومة: اشتراك المسيحيين العرب بل والنساء المسيحيات في حركة المقاومة، كما لاحظ تعاطف المثقفين العرب مع هذه الحركة، وبيَّن أن من أهم دوافع الثورة هو الرغبة في إنقاذ الطابع العربي الفلسطيني وليس مجرد معارضة اليهود. 
وقد توصَّل بن جوريون لنفس النتائج وبطريقة أكثر تبلورًا عام 1938 حين قال: « نحن هنا لانجابه إرهابًا وإنما نجابه حرباً، وهي حرب قومية أعلنها العرب علينا. وما الإرهاب سوى إحدى وسائل الحرب لما يعتبرونه اغتصاباً لوطنهم من قبل اليهود، ولهذا يحاربون. ووراء الإرهابيين توجد حركة قد تكون بدائية ولكنها ليست خالية من المثالية والتضحية بالذات. يجب ألا نبني الآمال على أن العصابات الإرهابية سينال منها التعب، إذ أنه إذا ما نال من أحدهم التعب، سيحل آخرون محله. فالشعب الذي يحارب ضد اغتصاب أرضه لن ينال منه التعب سريعًا... وحينما نقول إن العرب هم البادئون بالعدوان وندافع عن أنفسنا ـ فإننا نذكر نصف الحقيقة وحسب. ومن الناحية السياسية نحن البادئون بالعدوان وهم المدافعون عن أنفسهم، إن الأرض أرضهم لأنهم قاطنون فيها بينما نحن نريد أن نأتي ونستوطن، ونأخذها منهم، حسب تصوُّرهم». 
كان ثمة إدراك واضح المعالم من جانب الصهاينة لطبيعة الغزوة الصهيونية وطبيعة المقاومة العربية. ولكن السلوك الناتج عن هذا الإدراك كان متبايناً، فكان هناك نمط من الصهاينة أدرك طبيعة الجرم الكامن في عملية تغييب العرب هذه فتنكر لرؤية الصهيونية تمامًاً وتخلى عنها، وعاد إلى أوربا. وهناك كثيرون من حزب بوعالي صهيون (عمال صهيون) عادوا إلى الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية حتى يشاركوا في الثورة الاجتماعية وحتى لا يشاركوا في الإرهاب الصهيوني. ولكن هؤلاء قلة نادرة على ما يبدو، وعلى كلٍّ فإنهم يختفون تمامًا من التواريخ الصهيونية ومن الإدراك الصهيوني، ولذلك فهم لا يؤثرون من قريب أو بعيد في البرنامج السياسي الصهيوني أو سلوك الصهاينة نحو العرب. 
وهناك نمط ثان من الصهاينة أدرك طبيعة المقاومة العربية ولكنه لم يطرح رؤيته الصهيونية جانباً، وبذل محاولات يائسة أن يعيد صياغة المشروع الصهيوني بطريقة تستوعب وجود العربي الحقيقي وتأخذه في الحسبان. ولكن من المُلاحَظ أن مثل هذه الشخصيات تحولت بالتدريج إلى شخصيات هامشية، من وجهة نظر صهيونية، تنتمي إلى منظمات هامشية وتدافع عن رؤى هامشية لا تؤثر في المركز أو الممارسات الصهيونية الأساسية. ولعل سيرة يتسحاق إبشتاين وآرثر روبين (وكلاهما كان مسئولا عن الاستيطان الصهيونى) وغيرهما خير دليل على ذلك. فهؤلاء الصهاينة، نظراً لاحتكاكهم الدائم بالواقع العربي، أدركوا مدى تركيبية الموقف فطرحوا صيغاً مركبة نوعاً مثل الدولة ثنائية القومية وطالبوا بالتعاون مع الحركة القومية العربية وأسَّسوا جمعية بريت شالوم ثم جمعية إيحود لإجراء حوار مع العرب يعترف بهم ككيان قومي ولا يتعامل معهم كمجرد مخلوقات اقتصادية. ولكن المحاولات كلها ظلت في نهاية الأمر تعبيراً عن ضمير معذب أكثر منها ممارسات حقيقية. ولعل يهودا ماجنيس من أكثر الشخصيات المأساوية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، فقد أدرك الخلل العميق فى وعد بلفور منذ البداية بإنكاره وتغييبه للعرب، وأدرك مدى عمق الصراع المحتمل بين المستوطنين الصهاينة والعرب؛ ولذا قضى حياته كلها يحاول أن يصل إلى صيغة صهيونية تنيرها لحظة الإدراك النادرة دون جدوى. وانتهى به الأمر أن تنكَّر له مجلس الجامعة العبرية التي كان يترأسها. 
ويمكن أن نذكر في هذا السياق آحاد هعام الذي رأى الدماء العربية النازفة فولول وكأنه أحد أنبياء العهد القديم، يستمطر اللعنات على شعبه لم اقترف من آثام. ومع هذا نجده بعد ذلك في لندن مستشاراً لحاييم وايزمان، في الفترة التي سبقت إصدار وعد بلفور، يدلي له بالنصيحة بخصوص كيفية الاستيلاء على فلسيطين، ولا يُذكِّره من قريب أو بعيد بالمقاومة العربية ـ أو بالدماء النازفة. وينتهي به المطاف أن يستقر هو ذاته على الأرض الفلسطينية، بكل ما يحمل ذلك من معان اغتصاب وقهر. ولكنه حتى وهو في فلسطين، بعد وعد بلفور، ظلت تخامره الشكوك بخصوص المشروع الصهيوني وظل موقفه مبهماً حتى النهاية. 
وهناك أخيراً النمط الثالث، وهو أكثر الأنماط شيوعًا وهو النمط الذي يؤدي إدراكه لحقيقة المشروع الصهيوني وأبعاد المقاومة العربية إلى مزيد من الشراسة الصهيونية. ولنضرب مثلاً على هذا النمط الصهيوني بفلاديمير جابوتنسكي ـ زعيم الحركة الصهيوني المراجعة ـ الذي أدرك منذ البداية أن الصراع بين الصهيونية كحركة استيطانية مغتصبة للأرض والعرب أمر حتمي، فلم يختبىء وراء السحابة الكثيفة من الاعتذاريات الصهيونية عن الحقوق اليهودية الأزلية، كما لم يختبىء وراء الحجج الليبرالية عن «شراء» فلسطين، أو وراء الحجج الاشتراكية عن «رجعية القومية العربية» وخلافه من الاستراتيجيات الإدراكية (انظر: «الادراك الصهيونى للعرب»)، وإنما أكد دون مواربة أن الصهيونية جزء من التشكيل الاستعماري الغربي الذي لم يكن بمقدوره أن يحقق انتشاره إلا بحد السلاح، ولذلك طالب منذ البداية بتسليح المستوطنين الصهاينة (تمامًا مثلما يتسلح المستوطنون الأوربيون في كينيا وفي كل مكان)، أي طالب بتعديل موازين القوى بطريقة تخدم التحيز الصهيوني. فالعرب ـ حسبما صرَّح ـ لن يقبلوا بالصهيونية (وتحيزاتها ورؤيتها) إلا إذا وجدوا أنفسهم في مواجهة حائط حديدي.
ونفس النتيجة توصَّل إليها بن جوريون، إذ أن إدراكه للمقاومة العربية كان يحيِّده التزامه بالرؤية الصهيونية، ولذا توصل إلى أنه لا مناص من فرض هذه الروية عن طريق القوة وحد السيف. ولذا لم يبحث الزعيم الصهيوني عن سلام مع العرب، فمثل هذا السلام ـ على حد قوله ـ مستحيل، كما أنه لم يحاول أن يعقد اتفاقية معهم، فهذا ولا شك سراب، بالنسبة لبن جوريون، « إن هو إلا وسيلة وحسب، أما الغاية فهي الإقامة الكاملة للصهيونية، لهذا فقط نود أن نصل إلى اتفاق [مع العرب]. إن الشعب اليهودي لن يوافق، بل لن يجسر على أن يوافق، على أية اتفاقية لا تخذم هذا الغرض. ولذا فالاتفاق الشامل أمر غير مطروح الآن، [فالعرب] لن يستسلموا في إرتس يسرائيل إلا بعد إن يستولى عليهم اليأس الكامل، يأس لا ينجم عن فشلهم في الاضطرابات التي يثيرونها أو التمرد الذي يقومون به وحسب وإنما ينجم عن نمونا [نحن أصحاب الحقوق اليهودية المطلقة في هذا البلد]. ثم استمر يقول: لا يوجد مثل واحد في التاريخ أن أمة فتحت بوابات وطنها [للآخرين]. إن تشخيصي للموضوع أنه سيتم التوصل إلى اتفاق [مع العرب] لأنني أؤمن بالقوة، قوتنا التى ستنمو، وهي إن حققت هذا النمو، فإن الاتفاق سيتم إبرامه». وهكذا تم عقد اتفاقيات «السلام مع العرب». 
ولا يختلف شاريت عن هذه الرؤية التي تذهب إلى أن المثل الأعلى الصهيوني لابد أن تسانده القوة حتى يمكن فرضه على الواقع، وهو أيضاً يتبنَّى سياسة الحائط الحديدي، شأنه في هذا شأن بن جوريون وجابوتنسكى: « لا أعتقد أننا سنصل إلى اتفاق مع العرب حتى تنمو قوتنا. ولكني أعتقد أنه ستحين اللحظة حين نصبح أكثر قوة وسنبرم اتفاقًا ثابتاً مع بريطانيا العظمى، كقوة مع قوة أخرى، وسنصل إلى اتفاق مع العرب كقوة مع قوة أخرى. لكن الشرط الأساسي هو ألا ينظر لنا العرب باعتبارنا قوة محتملة وإنما باعتبارنا قوة فعلية». 
وقد أدرك وايزمان منذ البداية أن أي سلام مبني على العدل، أي يؤدي إلى إعطاء الفلسطينيين كافة حقوقهم السياسية والدينية والمدنية، عواقبه وخيمة، إذ أنه سيؤدي إلى «سيطرة العرب على الأمور». فلو تم تأسيس حكومة في إطار هذا السلام العادل، فإن العرب سيمثَّلون فيها، وهي حكومة ستتحكم في الهجرة والأرض والتشريع ـ وبذا سيحقق الصهاينة السلام ـ ولكنه «سلام المقابر» (على حد قوله). والصهاينة شأنهم شأن كل من في موقفهم، كانوا لا يبحثون عن سلام المقابر لأنفسهم، وإنما للآخرين، ولذا فالاتفاق الذي يتحدث عنه جابوتنسكي ثم بن جوريون وشاريت ووايزمان ليس اتفاقاً مع العرب باعتبارهم كياناً مستقلاً له حقوقه وفضاؤه التاريخي والجغرافي إنما هو اتفاق مع طرف آخر تم تغييبه أو ترويضه عن طريق القوة والحائط الحديدي، ولذا فهو يقنع بالبقاء حسب الشروط التي يفرضها الآخر. وهذه رؤية ولا شك واقعية: إذ كيف يمكن أن يتوقع أحد من العرب أن يرضخوا طواعية لرؤية تلغي وجودهم؟ 
وهذا، على كلٍّ، ما أدركه العرب منذ البداية، فرغم كل البيانات الصهيونية المعقولة عن السلام والحوار والتفاوض والأخوة العربية اليهودية والأخذ بيد العرب، كان العرب يعرفون أن الصهاينة قد رفضوا أن يستقروا في المنطقة باعتبارهم رعايا عثمانيين وأصروا على أن يأتوا تحت راية الاستعمار الإنجليزي ورماحه وبمساعدة جيوشه وبوارجه، وأن وعد بلفور قد منحهم فلسطين، وأشار بشكل عابر إلى حقوق «الجماعات غير اليهودية»، أي أن الصياغة اللفظية نفسها لوعد بلفور قد قامت بتهميشهم وتغييبرهم على مستوى المخطط، ولم يبق سوى التنفيذ والممارسة. ولم يكن العرب غافلين عن المفاهيم الصهيونية مثل العمل العبري أو عن المؤسسات الصهيونية مثل الكيبوتس والهستدروت والهاجاناه التي تستبعدهم وتستعبدهم وتُغيِّبهم. وفي علاقاتهم اليومية مع مؤسسات حكومة الانتداب كانوا يعرفون أن بوابات وطنهم قد فُتحت على مصراعيها ليهود الغرب ليستوطنوا فيه، كما كانوا يدركون أنه بغض النظر عن نوايا بعض الصهاينة الطيبة وبغض النظر عن إدراكهم لطبيعة المشروع الصهيوني وطبعية المقاومة العربية فإن الواقع الذى كان آخذاً في التشكُّل كان واقعاً صراعياً، فالصهاينة كانوا يهدفون دائماً إلى زيادة عدد اليهود في فلسطين وإلى إقامة كيان اقتصادي اجتماعى (عسكري) منفصل، وفي نهاية الأمر مهيمن. وقد تنبأ نجيب عازوري، هذا المؤلف الفلسطيني العربي المسيحى الذي كانوا من أوائل من أدرك حقيقة ما يحدث « بأن الصراع سيستمر إلى أن يسود طرف على الآخر». وهذا الرأي ليس رأياً متشائماً ينكر المثاليات، وإنما هو رأى واقعى تشكل في ضوء الطموحات والممارسة، وفي ضوء ما حدث في الواقع بالفعل. 
وقد تنبه أحد زعماء حزب الاستقلال في فلسطين إلى أن الرؤية الصهيونية للسلام مع العرب، مهما بلغت من اعتدال، هي في نهاية الأمر رؤية وهمية (أيديولوجية بالمعنى السلبيى للكلمة)وأن أي تحقُّق لها يعني سلب حقوق العرب. ولذا حينما كتب له يهودا ماجنيس يقترح إمكانية التخلي عن فكرة الدولة اليهودية على أن يسمح لجماعة يهودية أن تتمتع بحكم ذاتي محدود في فلسطين، رد عليه قائلاً: « لا أرى أي شيء في اقتراحاتك سوى استفزاز صريح ضد العرب، الذين لن يسمحوا لأحد أن يقاسمهم حقوقهم الطبيعية. أما بالنسبة لليهود فليس لديهم أية حقوق سوى ذكريات روحية مفعمة بالكوارث والقصص المحزنة. ولذا من المستحيل عقد لقاء بين زعماء الشعبين: العربي واليهودي». وكان العرب يدركون تمامًا أن الحديث العذب عن التقدم الزراعي والصناعي وخلافه إنما هو حديث عن التغييب وعن سلب الوطن. إن التقدم في إطار غير متزن من القوة لصالح المغتصب يعني أن العربي سيفقد كل شيء، وبخاصة إذا كان الآخر لا يعترف بالعرب ككيان تاريخي وإنما كمخلوق اقتصادي. ولذا تغيِّر كثير من الشعوب المقهورة إستراتيجياتها التحررية وبدلاً من البحث عن التقدم تفضل الدفاع عن البقاء من خلال التشرنق. 
ولعل هذا هو الذي يفسر رفض موسى العلمي لكلمات بن جوريون (الحلوة العذبة) حين تقابلا عام 1936 في منزل موشي شاريت. فطبقاً لما جاء على لسان بن جوريون بدأ الحديث بترديد النغمة (القديمة) التي أعدها عن المستنقعات التي تم تجفيفها، والصحارى التي تزدهر بالخضرة، والرخاء الذي سيعم الجميع. ولكن العربي قاطعه قائلاً: «اسمع ياخواجه بن جوريون، إنني أفضل أن تبقى الأرض هنا جرداء مقفرة مائة عام أخرى، أو ألف عام أخرى إلى أن نستطيع نحن استصلاحها ونأتي لها بالخلاص». وهنا مارس بن جوريون إحدى لحظات الإدراك النادرة ولم يسعه إلا الاعتراف بأن العربى كان يقول الحقيقة، وأن كلماته هو بدت مضحكة وجوفاء أكثر من أي وقت مضى. وهكذا أدرك الصهاينة والعرب من البداية أن الصراع بينهما له طابع بنيوي وأدركا أن السلام الذي يعرضه الصهاينة هو سلام المقابر، سلام مبني على الظلم والحرب. والأمر لا يختلف كثيراً هذه الأيام. فلا يزال السلام المبني على العدل يعني، في واقع الأمر، مشاركة العرب الكاملة في حكم فلسطين، أي أنه سلام المقابر بالنسبة للصهاينة. ولذا يحاول الصهاينة التوصل إلى السلام المبني على الحرب والظلم، وإلى الأمن المبني على الإكراه والعنف.
المفهـوم الصهيوني/الإسرائيلي للسلام 
Zionist-Israeli Concept of Peace 
ظلت بنية الصراع العربي الإسرائيلي واضحة حتى عام 1967 مع هزيمة العرب، ومنذ ذلك الحين بدأ الحديث عن "السلام" والرغبة في التسوية من جانب الطرفين. ويرى دعاة السلام أن الرغبة في السلام من الطرفين العربي والإسرائيلي أصبحت قوية وصادقة وحقيقية، وهو أمر قد يكون مفهوماً بالنسبة للعرب (بعد الهزائم المتكررة). ولكن الأمر بالنسبة للإسرائيليين قد يحتاج إلى قليل من الشرح والتفسير. 
ويمكننا أن نـدرج الأسـباب التالية التي ولَّدت لـدى الإسرائيليين الرغـبة في السـلام: 
1 ـ لم تأت الانتصارات العسكرية بالسلام للإسرائيليين رغم أن الآلة العسكرية الإسرائيلية وصلت إلى ذروة مقدرتها الحربية، بل إنها أتت لهم بالمزيد من الحروب وتحققت النبوءة القائلة بأن أقصى ما يطمح له المستوطنون الصهاينة هو حالة من "الحرب الراقدة". 
2 ـ منطق جيش الشعب (النظامي والاحتياطي) لم يَعُد ممكناً بالسهولة التي كان عليها سابقاً وذلك بسبب مقتضيات الاقتصاد الإسرائيلي في إطار النظام العالمي الجديد والتكنولوجيا المتقدمة. 
3 ـ لم يَعُد الإسرائيليون قادرين على تحمُّل الحرب الدائمة والاستنفار المتواصل، باعتبار أن الحرب الخاطفة الساحقة، أي الحرب بدون تكلفة بشرية واقتصادية عالية، لم تَعُد ممكنة. 
4 ـ تزايدت تكلفة الحرب وهو ما يعني تزايُد اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة. والولايات المتحدة حليف موثوق به تماماً، ومع هذا بدأت تظهر عليه علامات تثير القلق مثل تزايد المزاج الانعزالي الذي قد يتحول في أية لحظة (بضغط من القوى الشعبوية) إلى تحرُّك سياسي يرفض التورط في مغامرات خارجية وإلى تخفيض المعونات الاقتصادية لحلفائه وعملائه. 
5 ـ ومما يزيد الرغبة في السلام عند المستوطنين الصهاينة أن الشعب اليهودي (أي الجماعات اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم)قرر عدم ترك منفاه وهو ما يثير قضية سبب بناء المستوطنات أساساً (هذا في الوقت الذي يتزايد فيه العرب في الأراضي الفلسطينية التي احتلت قبل عام 1967). 
6 ـ وقد بدأت تظهر علامات الإرهاق والتذمر بين المستوطنين الصهاينة ويظهر هذا في أزمة الخدمة العسكرية والتكالب على الاستهلاك. 
7 ـ بدأ العرب يطورون نظماً هجومية ودفاعية، صاروخية وربما ميكروبية تعادل القوة النووية الإسرائيلية. 
8 ـ مسألة التسليم والاستسلام، وبخاصة بالنسبة للفلسطينيين حتى بعد أوسلو، لم تَعُد واردة (مَنْ يستسلم لمَنْ؟). 
9 ـ رغم كل سلبيات اتفاقيات أوسلو إلا أن قيام السلطة الفلسطينية يشكل أول اختراق للعمق الإستراتيجي الإسرائيلي، إذ توجد كتلة بشرية ضخمة (مليونا فلسطيني في الأرض المحتلة بعد عام 1967، مليون في الأراضي المحتلة بعد عام 1948) لهـا مؤسـساتها وإرادتها وطموحاتها. 
10 ـ لخص المفكر الإستراتيجي المصري أمين هويدي الموقف في هذه الكلمات: "نحن نعيش الآن كعقارب سامة وضعت في أنبوب واحد ستلدغ بعضها بعضاً قبل أن تموت وتفنى، أو كراكبي سيارة أصبحت في منتصف السفح تحاول أن تصل إلى القمة، فإن سقطت إلى القاع تحطمت بمن فيها. وعليها ـ أي إسرائيل ـ أن تعرف سواء وهي تحت قيادة بيريز أو نتنياهو أنه إن كان في يدها الأرض ففي يدنا السلام، وإن كان بيديهم عناصر القوة ففي يدنا عناصر القدرة من مياه وأرض وسوق وقوة بشرية ورأس مال وغاز ونفط، وإن كان في قدرتهم اختراق الحدود ففي يدنا مقومات الوجود. وعليها أن توقن أخيراً بأنها إن كانت قد فشلت في تحقيق الهيمنة الإقليمية عن طريق استخدام القوة فإن مصيرها لن يكون أفضل حالاً لو أنها حـاولت ذلك عن طريق وسـائل أخرى". 
لا شك إذن في أن الرغبة الإسرائيلية في السلام حقيقية وصادقة. ولكن بنية الصراع لا تزال قائمة، فالدولة الصهيونية هي دولة استيطانية إحلالية، اغتصبت الأرض وحاصرت سكانها. ولا يزال المستوطنون الصهاينة متمسكين بالأرض والسيادة عليها وبمحاولة فرض سلام المقابر على الفلسطينيين. ولذا نرى أن ما حدث هو أن الرؤية العدوانية القمعية لا تزال كما هي والسلوك العدواني والقمعي لم يتغيَّر وما تغيَّر هو الديباجة والخطاب نظراً لتغيُّر الظروف الدولية وظهور النظام العالمي الجديد المبني على التفكيك والإغواء بدلاً من المواجهة المباشرة مع شعوب العالم الثالث. ولذا بدلاً من دق طبول الحرب، فإن الإعداد للحرب يستمر على أن تُعزَف نغمات السلام. وتبدأ معزوفة السلام الإسرائيلية بالمناداة بالبُعد عن عُقَد التاريخ وأن تتناسى كل دول المنطقة خلافاتها لمواجهة الخطر الأكبر (الاتحاد السوفيتي ـ الإسلام... إلخ). وأن نقطة البداية لابد أن تكون الأمر الواقع. وهذا المفهوم يفترض أن إسرائيل ليست التهديد الأكبر، مع أن الأمر الواقع الذي يُطلَب منا أن نبدأ منه يقول عكس ذلك. فهو أمر واقع مؤسَّس على العنف ويؤدي إلى الظلم والقمع وهو ليس ابن اللحظة وإنما هو نتيجة ظلم تاريخي ممتد من الماضي إلى الحاضر. وهذا الظلم والقمع هو مصدر الصراع والحروب والاشتباك. فالمسألة ليست عُقَداً آنية أو تاريخية، وإنما بنية الظلم التي تشكلت في الواقع ولا يمكن تأسيس سلام حقيقي إلا إذا تم فكُّها. 
بعد تناسي عقد التاريخ يطالب الصهاينة بوقف المقاومة واستسلام الفدائيين مقابل تسليم بعض المدن والقرى التي لا "تنسحب" منها القوات الإسرائيلية الغازية، وإنما "يُعاد نشرها"، وهذا ما يسمونه «الأرض مقابل السلام». والقوات الإسرائيلية لا تنسحب، لأن أرض فلسطين هي أرض الشعب اليهودي، والقوات الوطنية لا تنسحب من أرض الوطن وإنما يعاد نشرها فيه وحسب. ولذا رغم اتخاذ هذه الخطوة الرمزية الإعلامية فإن الاستيطان سيستمر على قدم وساق (تحدَّث شامير عن استمرار التفاوض في مدريد لمدة عشر سنوات والمضي أثناء ذلك في الاستيطان) والقدس ستظل عاصمة إسرائيل الأبدية. 
إن كل هذه التصورات للسلام تنبع من إدراك أن أرض فلسطين هي إرتس يسرائيل، وأن الإسرائيليين لهم حقوق مطلقة فيها، أما الحقوق الفلسطينية فهي مسألة ثانوية، فالأرض في الأصل أرض بلا شعب. وتتبدَّى هذه الخاصية بشكل واضح ومتبلور في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي. وتصوُّر إسرائيل لمستقبل المنطقة لا يختلف كثيراً عن ذلك، فالمركز هو إسرائيل وهي التي تمسك بكل الخيوط، أما بقية "المنطقة" فهي مساحات وأسواق. وإسقاط عُقَد التاريخ هنا يعني إسقاط الهوية التاريخية والثقافية بحيث يتحول العرب إلى كائنات اقتصادية، تحركها الدوافع الاقتصادية التي لا هوية لها ولا خصوصية. هنا تظهر سنغافورة كصورة أساسية للمنطقة وكمثل أعلى: بلد ليس له هوية واضحة ولا تاريخ واضـح، نشـاطه الأسـاسي هو نشاط اقتصادي محض. وحينما يتحول العالم العربي إلى سنغافورات مفتتة متصارعة فإن الإستراتيجية الاستعمارية والصهيونية للسلام تكون قد تحققت دون مواجهة ومن خلال "التفاوض" المستمر! جاء في مجلة نيوزويك الأمريكية أنه بعد أن قبل الرئيس السادات توقيع اتفاقية كامب ديفيد طلب تخصيص رقعة ما في القدس تُرفع عليها الأعلام العربية، فاقترح أعضاء الوفد الإسرائيلي أن تُرفع الأعلام على المقابر العربية، أي أنه اقترح "سلام المقابر". أما ديان فارتفع عن هذا قليلاً ووصف طلب الرئيس السادات بأنه "بقشيش"، أي أنه اقترح سلام السادة والعبيد. وما بين المقابر والبقشيش يقع المفهوم الإسرائيلي للسلام. 
بيريــــز ونيتنياهــــو ورؤيتهــــما للســــلام 
Peres and Netenyahu: Their Views of Peace 
حدثت تشققات عديدة في الإجماع الصهيوني لأسباب عديدة(عدم تجانس المهاجرين اليهود ـ تزايد الاستهلاكية والعلمنة في المجتمع الإسرائيلي). ولكن أهم الأسباب هو اندلاع الانتفاضة التي فرضت على عدد كبير من المستوطنين أن يكتشفوا أن الحلم الصهيوني القديم بتوسعيته المستمرة أمر مستحيل، وأنه في إطار النظام العالمي الجديد من الصعب التمسك به وأن مشكلة إسرائيل السكانية (تزايد العرب وتناقص اليهود بسبب الإحجام عن الإنجاب وبسبب جفاف المصادر البشرية في الخارج) آخذة في التفاقم. لكل هذا انقسم الصهاينة فيما بينهم من دعاة التمسك بالأرض المحتلة دون التنازل عن شبر واحد من الأراضي (صهيونية الأراضي) مقابل من يطالبون بالتنازل عن بعض الأراضي نظير الاحتفاظ بالصبغة اليهودية الخالصة للدولة الصهيونية. ولذا يمكن القول بأن الفريق الأول الذي يمثله نيتنياهو (لا يملك رؤية للسلام) أما الفريق الثاني (الذي يمثله بيريز) فله رؤية محددة للسلام. وقد فصَّل بيريز رؤيته هذه في كتابه الشرق الأوسط الجديد فهو يذهب إلى أن السلام لابد أن ينطلق من نوايا جماعية لدى أطرافه المعنية تدفع باتجـاه الثقـة وتزيل مشـاعر الشك والقلق، ومن ترتيبات ومؤسسات مشتركة، فتصبح المنظمات الإقليمية مفتاح الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة. وبالتالي، فإن القضاء على مشكلات الإقليم لا يتم بالاتفاقات الثنائية، بل عن طريق ثورة عامة في المفاهيم. من هنا، يجب أن تعكس السوق الإقليمية المشتركة توجُّـهات جديدة في المنطقة بحـيث يسـود نمط الحضارة الغربي، الذي أصبحت "السـوق" بمقتضـاه أكثر أهـمية من الـدول المنفردة، وأصبح الجو التنافسي أهم من وضع الحواجز على الطريق. ولهذا، ينبغي ألا تؤجَّل العلاقات الاقتصادية أو ترتبط بعملية السلام؛ إذ في الإمكان الشروع في تعاون اقتصادي لامتصاص المعارضة السياسية، وفي الإمكان بالتالي أن تقوم العلاقات الاقتصادية بتسويق العلاقات الدبلوماسية. 
وهذه الرؤية تقتضي توفير مناخات اقتصادية تطبيعية تهمِّش الشأن القومي التاريخي («العقد التاريخية» كما يسمونها، و«الذاكرة التاريخية» كما نسميها نحن) وتلغيه وتُحل محله شأناً جيو اقتصادياً جديداً، وهذا ما دعاه بيريز"الشرق الأوسط الجديد" باعتباره وحدة متكاملة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، بما يحقق الهدف الإسرائيلي المتمثل في "إسرائيل العظمى" عبر السيطرة على المنطقة ويضمن أمنها عبر موافقة معظم الأنظمة العربية المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ على ضمان أمن إسرائيل (انظر: «السوق الشرق أوسطية»). في هذا الإطار يمكن السماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين المحتلة على أن تظل هذه الدولة خاضعة للاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. أما رؤية نتنياهو فترفض الفكرة السابقة وتعارض أسلوب بيريز، باعتبار أنها أضعفت السياسة الإسرائيلية وشلتها إستراتيجياً، فالمؤسسات والاتفاقات التي ركزت عليها حكومة بيريز فشلت جميعها في توفير الأمن لإسرائيل، ولذلك لابد من إجراءات أكثر حسماً.
وإعادة ترتيب سلم الأولويات وفق رؤية أخرى طرحها نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس ليكون: 
1 ـ الأمن قبل الاقتصاد، والأرض ملازمة للأمن (وهو ما يعني استمراراً لفكرة العمق الإستراتيجي) فلابد من وضع أسس جديدة للمفاوضات تستند إلى مبدأ "السلام مقابل السلام" بدلاً من مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي أدَّى إلى تراجُع مكانة إسرائيل الإستراتيجية. وعلى الجيش الإسرائيلي أن يتولَّى مباشرةً حماية الإسرائيليين في أي مكان دون قيود أو حدود. والسلطة الفلسطينية مطالبة بتوفير الأمن لإسرائيل، أما الجولان فهو غير قابلة للتفاوض في هذه المرحلة لأنها تشكل العمق الإستراتيجي لإسرائيل . 
2 ـ الاقتصاد قبل السياسة، فإسرائيل القوية هي التي تجذب الاستثمار، وتصبح قوة اقتصادية تقود المنطقة، وتدخل الاقتصاد العالمي دون حاجة إلى جسر شرق أوسطي لأنه جسر الفقراء. ولكن شعار "الأمن قبل الاقتصاد" لا يلغي الاقتصاد أو يغفله، لأن عنصر الأمن الداخلي الإسرائيلي هو الشرط الأساسي لجذب الاستثمار وازدهار الاقتصاد. وترفض هذه الرؤية فكرة أن تراجع عملية التسوية يمكن أن يؤدي إلى تراجُع معدلات النمو الاقتصادي في إسرائيل، لأن الهجرة اليهودية ستواصل تحريك الاقتصاد الإسرائيلي بجانب التطور التكنولوجي والمساعدات الخارجية. 
3 ـ السياسة قبل السلام، فالسلام يجب أن يُبنَى على مرتكزات موضوعية راسخة بصرف النظر عن القادة والزعماء، لأن الفرق بين إسرائيل والعرب هو الاختلاف في القيم السياسية المتعلقة بالديموقراطية وحقوق الإنسان. وتنطلق هذه الرؤية مما أشار نتنياهو إليه في كتابه من أن "السلام" الذي يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط هو السلام المبني على الأمن، أي الردع، إذ أن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن الدول العربية جميعها ذات نظم استبدادية، وبالتالي فإن "سلام الردع" هو البديل الوحيد الممكن، فكلما بدت إسرائيل قوية أبدى العرب موافقتهم على إبرام سلام معها. لذا، فإن الأمن، أي قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم، هو العنصر الحيوي للسلام، ولا بديل عنه. 
وثمرة هذا الموقف هو غياب أية إستراتيجية للسلام. وكما يقول عزمي بشارة: "إن الليكود يكتفي بطرح الحكم الذاتي الموسع على الفلسطينيين في ظل السيادة الإسرائيلية. ويكتفي في الحالة السورية بمحاولة التوصل إلى اتفاق أمني في لبنان في هذه المرحلة لا يقود بالضرورة إلى اتفاق سلام، بل يضمن الأمن الحدودي كما في الجولان. وفي الحالة الفلسطينية، لا يقبل الليكود الأرض مقابل السلام، ويطرح مقابلها السلام مقابل السلام، أما في الحالة اللبنانية، فإنه مستعد لإعادة الأرض دون السلام: الأرض مقابل الأمن فقط". 
أعــــراض بركوخبـــــا Bar Kochba Syndrome 
«أعراض بركوخبا» عبارة نحتها المفكر الإسرائيلي يهوشفاط هركابي ليصف الحالة العقلية للإسرائيليين في مواجهة الأزمات. وقد توجَّه كثير من المفكرين الإسرائيليين إلى قضية الشخصية الإسرائيلية إبَّان الانتفاضة المباركة. وقد أعاد بعض هؤلاء طرح قضية عجز اليهود وافتقارهم للسلطة وذهبوا إلى أن الإسرائيليين، بل الشعب اليهودي بأكمله، يفتقرون إلى تقاليد الدولة، أي ممارسة الحكم (وهذا يعني افتقارهم إلى الحس التاريخي). ومن أهم الشخصيات التي توجَّهت بالنقد للشخصية الإسرائيلية يهوشفاط هركابي، فهو يذهب إلى أن الإسرائيليين يميلون نحو إضفاء طابع ذاتي على عناصر النجاح فيقول: "إن مشكلة إسرائيل ليست سياسية دائماً، وإنما وراء سياسية (ميتاسياسية) وتكمن في تَشوُّه تفكيرها الأساسي: تمجيد الوهم ـ القصور في إدراك أن الواقع تحدَّد بحدود الممكن، وأن ما هو غير واقعي لا يوجد ولن يوجد ـ تمجيد الإدارة الطوعية أو الإرادية كما لو كان هذا كافياً لتحقيق الأهداف. نحن نرفض معطيات الواقع دون أن ندرك أن العدو له إرادة لابد أن تؤخذ في الحسبان، ونضع سياستنا بشكل مجرد، حسب احتياجات الصهيونية كأننا نعيش في فراغ [الأسطورة المعادية للتاريخ] ونتجاهل النظام العالمي والأمن ومتطلباتهما من الآخرين. وكل هذا نابع من ضيق أفق يتعارض مع التاريخ". 
هذا الوصف "فقدان الارتباط بالواقع" يبدو أنه "كتالوج" جاهز عند هركابي. فقد ذكر في طي نقده للشخصية العربية أشياء من هذا القبيل. ولكن الطريف هذه المرة أنه لا يكتفي بانتقاد الشخصية الإسرائيلية ولا يكتفي بأن ينسب لها هذا الإغراق في الذاتية والأسطورية وإنما يرى أن الشخصية العربية لا يمكنها أن تسقط في هذه الذاتية المعادية للتاريخ، ويقول: "إن العوامل الموضوعية التي تعبِّر عنها أعداد العرب الهائلة واتساع أرضهم قد أنقذتهم من الاضطرار للجوء للعناصر الذاتية لضمان النجاح! بكل ما يتضمن هذا من تشويه للواقع... إن الاتجاه العربي هو دائماً نحو التمثل الزمني للعناصر الموضوعية التي تضمن نجاحهم". (وهذه الأقوال تفصلها مسافة شاسعة عما قاله عنا في أواخر الستينيات). 
هذا الانغماس في الذاتية يعبِّر عن نفسه ـ في تصوُّر هركابي ـ في اتجاه انتحاري بين الإسرائيليين. فالقضية التي تواجههم ليست أن دولتهم ستتحوَّل إلى دولة «أبارتهايد»، وإنما القضية هي أنهم لن يكونوا إذا ما استمروا متخندقين في الأسطورة الخاصة. ويضرب هركابي مثلاً مشابهاً وهو ما حدث لليهود إثر التمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (125 ـ 132م). فأعضاء هذا التمرد دخلوا الحرب تدفعهم حمى مشيحانية ترى أن نهاية الأيام (أو التاريخ) وشيكة. وقد أعلن بعض الحاخامات أن بركوخبا زعيم التمرد هو الماشيَّح. وبدون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان أعلن بركوخبا وأتباعه التمرد على روما فتم القضاء عليهم وعلى ثورتهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين. ويُسمِّي هركابي مرض الذاتية هذا الذي يؤدي إلى الانتحار «أعراض بركوخبا»، وهو ينصح الإسرائيليين بتغيير هذا الجانب من شخصيتهم القومية. 
أعراض ننتنياهو: الإدراك الإسـرائيلي للسـلام في الوقــت الحــاضر 
The Netentyahu Syndrome: Israeli Perception of Peace at the Present 
الحديث عن «السلام» في الظروف القائمة في الشرق الأوسط وفي ظل الموازين الراهنة كان تجاوزاً في حق المعنى الذي تدل عليه الكلمة! ذلك أن السلام لم يكن القضية المطروحة لا من جانب بيريز ولا من جانب نتنياهو. إن السلام ـ لكي لا يَنْسى أحد ـ يقيمه توازن في القوى تشعر معه كل الأطراف أن لها مصلحة فيه تُعطي من أجلها بمقدار ما تأخذ. إذن فإن السلام قسمة متكافئة، وخصوصاً حين تلتحق به أوصافه الطبيعية كالعادل والشامل. أما حين تميل الموازين وتُرجَّح تماماً لصالح طرف واحد، فإن هذا الطرف لا يكون مسعاه من أجل السلام، وإنما يكون مسعاه من أجل تثبيت وترسيخ انتصاره، أي أن هدفه يصبح النصر وليس السلام. 
والحاصل أن هذه النقطة هي مكمن الاتفاق ومكمن الخلاف في اللحظة نفسها بين بيريز ونتنياهو. كلاهما يشعر أن إسرائيل في وضع يسمح لها بتجاوز حدود السلام إلى حدود النصر. لكن بيريز له رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على حلم شرق أوسطي مركزه إسرائيل. أما نتنياهو فله رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على أولوية أن تكون "كامل أرض إسرائيل" هي القاعدة التي يتحلق حولها الشرق الأوسط بحقائق القوة، وهذا هو إطار الحلم الشرق أوسطي! أي أن كلاً من الرجلين لا يتحدث عن السلام بالمعنى الذي يتصوَّره العرب، وإنما يتحدث عن نصر جاء وقته وتسمح الموازين الآن بتثبيته وترسيخه. وفي هذه النقطة وليس في غيرها ينحصر الخلاف بين الرجلين: ليس عن السلام وإنما عن النصر! أولهما بحلم الشرق أوسطية يفتح الأفق الأوسع، والثاني بحلم كامل أرض إسرائيل يصنع المركز القاعدة! وصوَّت الناخبون في إسرائيل، وظهرت نتائج أصواتهم، وكان انحيازهم واضحاً لنتنياهو. 
والتحليل التفصيلي لمعنى الأرقام التي حَمَلت نتنياهو إلى رئاسة الوزارة في إسرائيل كاف لإظهار عدة حقائق: 
1 ـ أن إسرائيل تعرف نفسها كمجتمع حرب ولكنها لا تعرف نفسها كمجتمع سلام. 
2 ـ أن هذا المجتمع لا يريد أن يدفع مقابلاً للسلام، وإنما يريد ـ كما يُقال ـ أن يعطي "السلام مقابل السلام". وهذا معناه بالضبط تثبيت وترسيخ النصر دون حاجة إلى تكافؤ في المبادئ أو في المصالح، بعد أن بطَل التكافؤ في موازين القوى. 
3 ـ أن هذا المجتمع ليس جاهزاً لكي يبت في المؤجلات المعلقات وهي كثيرة (المستوطنات ـ اللاجئون ـ الحدود النهائية). 
ثم إنه ليس مستعداً على الإطلاق لإعطاء شبر من الأرض في القدس مع العلم بأن أقصى ما كان يفكر فيه بيريز هو رفع علم عربي ـ أي علم عربي أو إسلامي! ـ على المسجد الأقصى، ورفع علم الفاتيكان على كنيسة القيامة. وحينما جرى الإلحاح عليه في أن الرأي العام العربي يريد القدس الشرقية، كان اقتراحه ـ جاداً ـ إنشاء مدينة جديدة بين رام الله والقدس يُطلَق عليها اسم «القدس العربية»، وذلك يحل المعضلة! 
4 ـ إن هذا المجتمع يريد إسرائيل دولة يهودية، ولعل متابعة عدد الأصوات طوال نهار الانتخابات ودراسة حركة الإقبال مع ساعات هذا النهار توضحان: 
أ) أن هذا المجتمع يرفض أن ينجح رئيس وزرائه بأصوات عربية. 
ب) أن هذا المجتمع يرفض ـ مع ملاحظته لاتجاه الأصوات العربية ووزنها ـ أن يقبل تحويل إسرائيل إلى دولة متعددة القوميات. 
5 ـ أن هذا المجتمع في إسرائيل لا يستطيع أن يعيش إلا بالأسطورة التوراتية رغم كل مظاهر التقدم في حياته، والدليل أنه في هذه الانتخابات الحاسمة كان المستفيد الأساسي بمعايير القوة هو الأحزاب الدينية. فكل الأحزاب التي تقول بالعصر ـ مهما كانت درجة استيعابها للعصر ـ فَقَدت من مقاعدها، سواء في ذلك الليكود أو العمل. أما الأحزاب التي ربحت فهي أحزاب: شاس (10 مقاعد)، والحزب الديني القومي (9 مقاعد)، وإسرائيل بعاليا (7 مقاعد)، وحزب المفدال (وإليه ينتمي قاتل رابين) (4 مقاعد)، وحزب موليديت (مقعدان). وهذه هي الأحزاب المرجحة لأي ائتلاف حكومي في إسرائيل، لأن المجتمع لا يأتمن حزباً واحداً بأغلبية كاملة، أو حزبين مع احتمال ائتلاف صريح بينهما. 
6 ـ إن هذا المجتمع ـ رغم ذلك ـ يريد وجوهاً جديدة. وبموت موشى ديان، واغتيال إسحق رابين، وسقوط شيمون بيريز، فإن الجيل الأول بعد جيل المؤسسين (وايزمان ـ بن جوريون ـ بيجين) قد اختفى من الساحة، بينما يتقدم جيل جديد في الخمسين من عمره أو أقل. فتلك هي القاعدة التي تؤمن بها المجتمعات التي تعرف قيمة تعاقب الأجيال، حتى إن كانت من نوع هـذا المجتـمع الغريب الأقرب ما يكون بكتله وأفراده، وتصرفات الكل وسلوكهم، إلى المجتمعات القَبَلية رغم التكنولوجيا العالية. ومن اللافت للنظر أن كل الذين بقوا من الجيل القديم (الجيل الثاني بعد المؤسسين) كانوا، وبغير استثناء، من معسكر الحرب وليسوا من معسكر السلام. وتكفي في ذلك الإشارة إلى الجنرالات: شارون، وموردخاي، وإيتان. وهم جميعاً رجال مارسوا القتل بأيديهم خارج ميادين القتال في أكثر الأحوال، وكلهم اقتحموا طريقهم إلى أهم المواقع في الوزارة الجديدة عنوة في معظم الأحيان، وابتزازاً في أحيان أخرى! 
7 ـ إن المفارقة الكبرى التي تلفت النظر على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في هذه الظروف هي: أن العرب راجعوا أنفسهم ـ بحق أو بغير حق ـ في خطاب الحرب، وقبلوا خطاب السلام. وأن الإسرائيليين لم يراجعوا أنفسهم ـ عملاً وفعلاً ـ في خطاب السلام، بل إنهم في لحظة الحقيقة أعرضوا عنه وأثبتوا أنه ليس اختيارهم الطوعي أو الطبيعي! ولم يكـن هـناك ما يغفر لبيريز: لا قربه من بن جوريون منشئ الدولة، ولا إشرافه على المشروع النووي الإسرائيلي حاميها النهائي، ولا حصوله على اتفاق أوسلو وأبسط ما فيه تحقيق الشرعية القانونية النهائية لقيام الدولة اليهودية، وهي اعتراف صاحب الحق الفلسطيني بالرضا والقبول والتوقيع بأن ملكيته انتقلت إلى مالك آخر: إسرائيل! 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Empty
مُساهمةموضوع: المفهــوم الصهـيوني/الإسـرائيلي للحكـم الذاتي    الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية Emptyالخميس 20 مارس 2014, 6:49 pm

المفهــوم الصهـيوني/الإسـرائيلي للحكـم الذاتي 
Zionist-Israeli Concept of Self-Determination 
يدور المفهوم الصهيوني/الإسرائيلي للحكم الذاتي داخل الإطار الصهيوني الاسـتيطاني الإحـلالي، الذي يرى أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنه إن وُجد فيها شعب فوجوده عرضي، وأن هذا الشعب لا يتمتع بنفس الحقوق المطلقة التي يتمتع بها المستوطنون الصهاينة. وقد تفرَّع عن هذا الإطار الكلي عدة أفكار صهيونية مختلفة بشأن الدولة الفلسطينية قد تبدو متضاربة ولكنها في واقع الأمر تتسم بالوحدة. ولتبسيط الصورة حتى يمكن تناولها بشيء من التحليل سنقسِّم المواقف الصهيونية المختلفة إلى ثلاثة، يقترب أولها من الحد الأقصى الصهيوني أي تغييب العرب ويكاد يلتصق به، ويبتعد ثالثها عنه حتى يبـدو كأنه نقيـض، ويقف ثانيها في نقـطة اعتبارية متوسطة بينهما. وقد اخترنا شموئيل كاتس ـ أحد مؤسسي حركة حيروت وقد شغل منصب مستشار رئيس الوزراء مناحم بيجين عام 1978 كممثل للنموذج الأول. وليُعبِّر كاتس عن وجهة نظره في الدولة الفلسطينية يقتبس كلمات بن جوريون الذي يشير فيها إلى «تاريخ اليهود» وإلى "بلاد اسمها يهودا وهي التي نسميها أرض إسرائيل... إن هذه البلاد جعلت منا شعباً، وشعبنا خلق هذه البلاد". ويضيف كاتس: "خلال مئات السنين هذه التي تخللتها عمليات قتل وطرد وتمييز ومستوى معيشي سيء لم يتأثر الوجود اليهودي في فلسطين ولم يتخل اليهود عن عاداتهم وتقاليدهم". 
وخلال هذه الفترة "لم يتأثر التراث اليهودي كما لم تتأثر الثقافة اليهودية أي اللغة العبرية التي بدأ استعمالها في القرن العاشر في طبرية". ونحن لن نحاول تفنيد هذه الأفكار الصبيانية أو الرد عليها فهي من التفاهة بحيث لا يصح أن ينشغل المرء بها إلا بمقدار كونها مؤشراً على حدود صاحبها الإدراكية. وكاتس لا يرى سوى حضور يهودي كامل وثابت عبر التاريخ يقابله غياب عربي كامل. وهذا هو الحد الأقصى الصهيوني الذي ينكر العرب تماماً، فالبشر الذين وُجدوا في فلسطين ليسوا فلسطينيين وإنما مجرد مهاجرين من البلاد المجاورة (عناصر متحركة). 
أما النموذج الثالث فيمثله مائير بعيل، وهو من نشطاء مابام، ومن المنادين بالصهيونية ذات الديباجة اليسارية. وأطروحاته العقائدية وإطاره التاريخي لا يختلفان عن أطروحات وإطار كاتس، فهو يُعرِّف الحركة الصهـيونية بأنهـا حركة تحرُّر وطني (أي حركة تغييب للفلسطينيين). وقد امتازت الصهيونية "بأنها ضمت يهوداً من مختلف الاتجاهات والميول رأوا بأعينهم هدفاً مشتركاً هو جمع شتات الشعب اليهودي وبناء أمة يهودية متجددة على أساس العمل العبري في أرض إسرائيل". فبعيل ينطلق إذن من الإيمان بأن للشعب اليهودي حقوقاً تاريخية كاملة في أرض إسرائيل. ثم يُفسِّر وجود الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين على أساس صهيوني "فلولا قيام الحركة الصهيونية لما ظهر الفرع الفلسطيني التابع للحركة القومية العربية. ويمكن الاعتقاد بأن مجيء اليهود إلى أرض إسرائيل واستيطانهم فيها كان الحافز الذي أدَّى إلى نشوء الكيان الفلسطيني". بل إنه يؤكد أن "من الصعب أن نتصور اليوم كيف كانت ستبدو الأوضاع في أرض إسرائيل لو لم يتحقق فيها الفكر الصهيوني". 
فوجود الفلسطينيين ـ حسب تصوُّره ـ عرضي وتابع للوجود الصهيوني، ولكنه ـ وهنا مصدر الاختلاف بينه وبين كاتس ـ ليس بالضرورة زائلاً، فهو يرى أن بعض الصهاينة قد اعترفوا بحقوق الشعب الفلسطيني "بصفته يمتلك حقوقاً طبيعية في بلاده". ولا ندري ما الفارق بين حقوق اليهود التاريخية وحقوق العرب الطبيعية، ولكن ما يهمنا في سياق هذا المدخل أن ثمة اعترافاً ما بوجود العرب وبحقوقهم. وهذا الاعتراف نابع من خوف عميق من أن العنصر الفلسطيني داخل الدولة الصهيونية يهدد هويتها اليهودية ويهدد الطبيعة الإحلالية للكيان الصهيوني، بل إن بعيل يطرح السيناريو التالي: "هناك مخاوف من أنه إذا استمرت سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة سوف تشتد حدة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، لتصل حمى المقاومة إلى العرب الإسرائيليين المقيمين في المثلث الصغير وفي الجليل بحيث يطلب عرب إسرائيل بعد جيل أو جيلين الانضمام إلى المطالبين بحق تقرير المصير للفلسطينيين". ولكن كيف يمكن التصدي لهذا التيار وتلك الحمى؟ يرى بعيل "أن ذلك يتم من خلال إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل... وكلما سارعت إسرائيل في تقديم مبادرة السلام المقترحة للشعب الفلسطيني كان أفضل لها". ثم يأتي بعد ذلك بحشد هائل من التفاصيل عن الجمارك والكهرباء وعن ارتباط الدولة الجديدة بالأردن، إذ لابد أن تولد الدولة مقيدة. 
أما شلومو أفنيري فهو مثال جيد للنموذج الثاني "الوسط". وأفنيري من كبار المفكرين السياسيين الإسرائيليين (شغل منصب مدير عام وزارة الخارجية في حكومة العمال بين عامي 67 ـ 1977). وهو يتحدث أيضاً عن أرض إسرائيل ذات التراث اليهودي المجيد وأرض الخلاص بالنسبة لليهود. والصهيونية هي الحركة القومية اليهودية التي ستقوم بعملية الخلاص هذه (وهو في واقع الأمر تخليص الأرض وتغييب أصحابها الأصليين، أي العرب). وهو يرى أن المطالب الصهيونية خضعت لقرار التقسيم لأن "أحداً في العالم لم يكن يؤيد المطالب اليهودية"، أي أنه كان خضوعاً عملياً لا علاقة له بالمبادئ الكلية والنهائية. ثم يضيف إلى هذا ديباجات أخلاقية عن "أن الصهيونية تجد صعوبة في المطالبة بحق تقرير المصير لنفسها، ومعارضة منح هذا الحق لفئة سكانية أخرى". ويُسمِّي افنيري نفسه بأنه من أتباع الصهيونية السوسيولوجية (مقابل صهيونية الأراضي) وهي صهيونيه تهتم بالطابع اليهودي للدولة، أما صهيونية كاتس فتركز اهتمامها على ضم الأراضي، ومن هنا حديث «المعتدلين» عن الأرض مقابل السلام. ولكن مهما كانت الأسباب (الضغوط الدولية أو عذاب الضمير الصهيوني أو الخوف على الطابع اليهودي للدولة) فإن افنيري يطرح الحل التالي الذي يسميه حلاً وسطاً: "لا دولة إسرائيل الكاملة ولا دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل استعداد بعيد الأثر لقبول الحل الوسط في إطار حل أردنى ـ فلسطيني". ولعل هذه النماذج الثلاث تغطي كل الاتجاهات السياسية الإسرائيلية تجاه الدولة، مع اختلاف طفيف في الديباجات، فجوش إيمونيم والليكود ينتميان للنموذج الأول بينما تنتمي بعض الأحزاب الصغيرة الليبرالية ومابام للنموذج الثالث، وينتمي المعراخ للنموذج الثاني. فالعمل يقبل التفاوض على الأرض، ويطرح فكرة إمكانية تقديم تنازلات إقليمية في أراضي الضفة والقطاع.
رغم كل الاختلافات بين الاتجاهات الصهيونية الثلاث إلا أنه يجب ملاحظة الوحدة بينهم التي تتبدَّى فيما يلي: 
1 ـ يُلاحظ أن جميع الصيغ الصهيونية، المتطرف منها والمعتدل، اليميني منها واليساري، لا تتوجه البتة لقضية الفلسطينيين الذين طُردوا عام 1948 واستوطنوا سوريا ولبنان والأردن ومصر وأنحاء أخرى متفرقة من أنحاء العالم العربي، ولا تذكر بتاتاً قضية الفلسطينيين الذين يطالبون بحقوقهم في حيفا ويافا وعكا وكل بقعة في أرض فلسطين المحتلة والذين صدر قرار من هيئة الأمم لتأكيد حقهم في العودة إلى ديارهم أو التعويض لمن لا يريد العودة. 
2 ـ لا يتحدث الصهاينة البتة عن الأراضي خلف الخط الأخضر التي خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين مثل الجليل وغيرها من المناطق. وهكذا حوَّل الخطاب الصهيوني الخط الأخضر إلى مطلق صهيوني جديد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلينا قبوله والخضوع له. وهذا أيضاً أمر منطقي ومفهوم، فالتفاوض بشأن الأراضي فيما وراء الخط الأخضر وبشأن حق العرب في السكنى في فلسطين المحتلة قبل 1948 هو في واقع الأمر تفاوض بشأن فك الكيان الصهيوني. 
3 ـ يُلاحَظ أن كل الحلول مبنية على فكرة القسر والخضوع، وأن أحد الأطراف سيدفع الطرف الآخر مضطراً للتسليم بوجهة نظره. فالصهاينة يرون أن رؤيتهم للتاريخ هي الرؤية الوحيدة السليمة التي لا يمكن التراجع عنها على مستوى العقيدة حتى لو تم التراجع عنها على مستوى الإجراءات البرجماتية. وقد لخص ذلك الموقف أهارون ياريف بقوله: "الصهيونية هي حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي.. اصطدمت بالحركة القومية العربية عامة والحركة القومية الفلسطينية خاصة". ولكنه يضيف: "إن أقوالي هذه لا تنطوي على تنازل أو استعداد للتنازل عما نعتبره حقنا التاريخي في إرتس يسرائيل وفي علاقتنا التاريخية بها". هذا الموقف المبدئي السائد في صفوف الجميع يخلق استعداداً كامناً دائماً لدى كل الصهاينة، مهما كان موقعهم على خريطة المُتصل الإدراكي السياسي، أن ينزلقوا دائماً نحو تغييب العرب وإنكار حقهم في إنشاء دولة حقيقية خاصة بهم إن سنحت الظروف، كما أنه يضفي صفة الشرعية على موقف دعاة إسرائيل الكبرى. فالأصل في الموقف الصهيوني هو ابتلاع كل الأرض وتغييب كل العرب، والاستثناء هو المرونة والاستعداد للتفـاوض بشـأن الأرض خارج الخط الأخضر وبشأن الفلسطينيين خارجه. ولعل هذا يفسر كيف أن الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية قد بدأ إبان حكم العمال المعتدلين وأنهم اعتمدوا ملايين الدولارات لإنشاء مستوطنات هناك في الأرض نفسها التي بدأ بيريس بالإعلان عن استعداده للتنازل عنها مقابل السلام. 
في هذا الإطار ظهر مفهوم الحكم الذاتي الذي يرى أن الحقوق اليهودية في فلسطين مطلقة، أما الحقوق الفلسطينية فليست أصيلة. فالأرض ملك للشعب اليهودي وقد تَصادَف وجود شعب فيها. ولذا فإن أية حقوق تُمنح للفلسطينيين هي من قبيل التسامح الصهيوني أو التكيف البرجماتي مع أمر واقع وتعبيراً عن هذا تقرَّر فصل الشعب (العرضي الزائل) عن الأرض الصهيونية. ولذا فالحكم الذاتي هو تعامل مع بشر وليس مع أرض ومنح السكان بعض الحقوق دون أن يكون على الأرض ظل من السيادة فالحكم الذاتي باختصار حكم للشعب دون الأرض. ولذا فالسلطة الفلسطينية ليس لها سلطة على المجال الجوي أو موارد المياه في الأراضي وليس من حقها تشكيل جيش فلسطيني. والفلسطينيون يعيشون في مدن وقرى أشبه بالمعازل في المناطق كثيفة السكان إذ تظل إسرائيل المسئولة عن الأمن في كل المناطق وتحديد المعابر والشواطئ والطرق الرئيسية. فالحكم الذاتي قد منح الفلسطينيين درجة من الاستقلال على أن تبقى الصلاحية في أيدي الصهاينة. وقد وُصفت السلطة الفلسطينية بأنها أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة. فقال أحد الكُتَّاب العرب إن الحكم الذاتي يعني، في واقع الأمر، قيام محمية إسرائيلية تخدم المصالح الإسرائيلية. وقد شبَّهه نتنياهو بالنظام السياسي القائم في أندورا وبورتوريكو (وهي دولة حرة تابعة للولايات المتحدة يحمل سكانها الجنسية الأمريكية دون أن يكون لهم حق التصويت في الانتخابات). ولعل بورتوريكو قد لاقت هوى في نفس نتنياهو لأنها جزيرة وليست جزءاً من الأرض الأمريكية، فهي بمنزلة معزل لسكانها. وقد وصف أحدهم الحكم الذاتي بأنه يُعرِّف فلسطين بأنها 500 قرية وثماني مدن رئيسية تفصل بينها طرق التفافية وتديرها إسرائيل وفق تصوُّرها للأمن، أي أن الوطن الفلسطيني تم تفكيكه ليصبح معازل، تماماً كما فُكِّك مفهوم الفلسطيني ليصبح كائناً اقتصادياً لا انتماء له. 
ونحن نرى أنه قد يكون هناك نقط تشابه كبيرة بين التصور النازي والصهيوني للحكم الذاتي، فالنازيون أسسوا جيتوات كانت تأخذ شكل مناطق قومية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال. فكان يتم إخلاء رقعة من إحدى المدن من غير اليهود ثم يُنقَل إليها عشرات الآلاف من اليهود ويُعاد نشر القوات النازية وتُسلَّم لسلطة يهودية شبه مستقلة تُسمَّى «مجلس الكبراء» (كانت السلطات النازية تعيِّن أعضاءه). وكان لجيتو وارسو (أهم المناطق القومية) طوابعه وشرطته (التي كانت تحرس مداخل الجيتو مع الشرطة البولندية والنازية). وكانت الشرطة اليهودية متعاونة تماماً مع النازيين في كبح جماح اليهود. وكان للجيتو اقتصاده " المستقل " الذي كان يعتمد اعتماداً كاملاً على النظام النازي. فقد كان الجيتو يقوم باستيراد كل ما يحتاجه من مواد صناعية أو غذائية من سلطة الاحتلال النازية على أن يسدد ثمن الواردات بالمنتجات الصناعية التي كان الجيتو ينتجها، أو الخدمات التي كان يؤديها بعض أعضائه. ولكن وضع التبادل لم يكن متكافئاً، فقيمة السلع التي كان الجيتو ينتجها والخدمات التي كان أعضاؤه يؤدونها كانت دائماً دون حد الكفاف، وهو ما كان يعني سوء التغذية وتزايد الفقر ويؤدي إلى الموت جوعاً، وبذلك كانت تتم إبادة اليهـود بالتدريج وببطء دون أفـران غاز. ومع هذا لابد أن ندرك أن ثمة فروق قد لا تكون جوهرية ولكنها كبيرة بين رؤيــة حزب العمل والرؤية الليكودية للحكم الذاتـي تنبـع من تصورهـم لوضع إسرائيل الدولي والمحلي ومقدرتها على قمع الفلسطينيين وتحقيق الأمن لنفسها. وهذه الفروق تعبِّر عن نفسها في البرامج السياسية لكلا الحزبين. ومع هذا من الملاحظ أننا حينما ننتقل من عالم النظرية والبرامج إلى عالم الممارسة فإن نقط الاتفاق والإجماع تؤكد نفسها على حساب نقط الاختلاف. أما رؤية نتنياهو فترفض الفكرة السابقة وتعارض أسلوب بيريز، باعتبار أنها أضعفت السياسة الإسرائيلية وشلتها إستراتيجياً، فالمؤسسات والاتفاقات التي ركزت عليها حكومة بيريز فشلت جميعها في توفير الأمن لإسرائيل.
ولذلك لابد من إجراءات أكثر حسماً، وإعادة ترتيب سلم الأولويات وفق رؤية أخرى طرحها نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس ليكون: 
1 ـ الأمن قبل الاقتصاد، والأرض ملازمة للأمن (وهو ما يعني استمراراً لفكرة العمق الإستراتيجي) فلابد من وضع أسس جديدة للمفاوضات تستند إلى مبدأ "السلام مقابل السلام" بدلاً من مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي أدَّى إلى تراجُع مكانة إسرائيل الإستراتيجية. وعلى الجيش الإسرائيلي أن يتولَّى مباشرةً حماية الإسرائيليين في أي مكان دون قيود أو حدود. والسلطة الفلسطينية مطالبة بتوفير الأمن لإسرائيل، أما الجولان فهو غير قابلة للتفاوض في هذه المرحلة لأنها تشكل العمق الإستراتيجي لإسرائيل . 
2 ـ الاقتصاد قبل السياسة، فإسرائيل القوية هي التي تجذب الاستثمار، وتصبح قوة اقتصادية تقود المنطقة، وتدخل الاقتصاد العالمي دون حاجة إلى جسر شرق أوسطي لأنه جسر الفقراء. ولكن شعار "الأمن قبل الاقتصاد" لا يلغي الاقتصاد أو يغفله، لأن عنصر الأمن الداخلي الإسرائيلي هو الشرط الأساسي لجذب الاستثمار وازدهار الاقتصاد. وترفض هذه الرؤية فكرة أن تراجع عملية التسوية يمكن أن يؤدي إلى تراجُع معدلات النمو الاقتصادي في إسرائيل، لأن الهجرة اليهودية ستواصل تحريك الاقتصاد الإسرائيلي بجانب التطور التكنولوجي والمساعدات الخارجية.  
3 ـ السياسة قبل السلام، فالسلام يجب أن يُبنَى على مرتكزات موضوعية راسخة بصرف النظر عن القادة والزعماء، لأن الفرق بين إسرائيل والعرب هو الاختلاف في القيم السياسية المتعلقة بالديموقراطية وحقوق الإنسان. وتنطلق هذه الرؤية مما أشار نتنياهو إليه في كتابه من أن "السلام" الذي يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط هو السلام المبني على الأمن، أي الردع، إذ أن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن الدول العربية جميعها ذات نظم استبدادية، وبالتالي فإن "سلام الردع" هو البديل الوحيد الممكن، فكلما بدت إسرائيل قوية أبدى العرب موافقتهم على إبرام سلام معها. لذا، فإن الأمن، أي قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم، هو العنصر الحيوي للسلام، ولا بديل عنه. 
وثمرة هذا الموقف هو غياب أية إستراتيجية للسلام. وكما يقول عزمي بشارة: "إن الليكود يكتفي بطرح الحكم الذاتي الموسع على الفلسطينيين في ظل السيادة الإسرائيلية. ويكتفي في الحالة السورية بمحاولة التوصل إلى اتفاق أمني في لبنان في هذه المرحلة لا يقود بالضرورة إلى اتفاق سلام، بل يضمن الأمن الحدودي كما في الجولان. وفي الحالة الفلسطينية، لا يقبل الليكود الأرض مقابل السلام، ويطرح مقابلها السلام مقابل السلام، أما في الحالة اللبنانية، فإنه مستعد لإعادة الأرض دون السلام: الأرض مقابل الأمن فقط". 
أعــــراض بركوخبـــــا Bar Kochba Syndrome 
«أعراض بركوخبا» عبارة نحتها المفكر الإسرائيلي يهوشفاط هركابي ليصف الحالة العقلية للإسرائيليين في مواجهة الأزمات. وقد توجَّه كثير من المفكرين الإسرائيليين إلى قضية الشخصية الإسرائيلية إبَّان الانتفاضة المباركة. وقد أعاد بعض هؤلاء طرح قضية عجز اليهود وافتقارهم للسلطة وذهبوا إلى أن الإسرائيليين، بل الشعب اليهودي بأكمله، يفتقرون إلى تقاليد الدولة، أي ممارسة الحكم (وهذا يعني افتقارهم إلى الحس التاريخي). ومن أهم الشخصيات التي توجَّهت بالنقد للشخصية الإسرائيلية يهوشفاط هركابي، فهو يذهب إلى أن الإسرائيليين يميلون نحو إضفاء طابع ذاتي على عناصر النجاح فيقول: "إن مشكلة إسرائيل ليست سياسية دائماً، وإنما وراء سياسية (ميتاسياسية) وتكمن في تَشوُّه تفكيرها الأساسي: تمجيد الوهم ـ القصور في إدراك أن الواقع تحدَّد بحدود الممكن، وأن ما هو غير واقعي لا يوجد ولن يوجد ـ تمجيد الإدارة الطوعية أو الإرادية كما لو كان هذا كافياً لتحقيق الأهداف. نحن نرفض معطيات الواقع دون أن ندرك أن العدو له إرادة لابد أن تؤخذ في الحسبان، ونضع سياستنا بشكل مجرد، حسب احتياجات الصهيونية كأننا نعيش في فراغ [الأسطورة المعادية للتاريخ] ونتجاهل النظام العالمي والأمن ومتطلباتهما من الآخرين. وكل هذا نابع من ضيق أفق يتعارض مع التاريخ". 
هذا الوصف "فقدان الارتباط بالواقع" يبدو أنه "كتالوج" جاهز عند هركابي. فقد ذكر في طي نقده للشخصية العربية أشياء من هذا القبيل. ولكن الطريف هذه المرة أنه لا يكتفي بانتقاد الشخصية الإسرائيلية ولا يكتفي بأن ينسب لها هذا الإغراق في الذاتية والأسطورية وإنما يرى أن الشخصية العربية لا يمكنها أن تسقط في هذه الذاتية المعادية للتاريخ، ويقول: "إن العوامل الموضوعية التي تعبِّر عنها أعداد العرب الهائلة واتساع أرضهم قد أنقذتهم من الاضطرار للجوء للعناصر الذاتية لضمان النجاح! بكل ما يتضمن هذا من تشويه للواقع... إن الاتجاه العربي هو دائماً نحو التمثل الزمني للعناصر الموضوعية التي تضمن نجاحهم". (وهذه الأقوال تفصلها مسافة شاسعة عما قاله عنا في أواخر الستينيات). 
هذا الانغماس في الذاتية يعبِّر عن نفسه ـ في تصوُّر هركابي ـ في اتجاه انتحاري بين الإسرائيليين. فالقضية التي تواجههم ليست أن دولتهم ستتحوَّل إلى دولة «أبارتهايد»، وإنما القضية هي أنهم لن يكونوا إذا ما استمروا متخندقين في الأسطورة الخاصة. ويضرب هركابي مثلاً مشابهاً وهو ما حدث لليهود إثر التمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (125 ـ 132م). فأعضاء هذا التمرد دخلوا الحرب تدفعهم حمى مشيحانية ترى أن نهاية الأيام (أو التاريخ) وشيكة. وقد أعلن بعض الحاخامات أن بركوخبا زعيم التمرد هو الماشيَّح. وبدون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان أعلن بركوخبا وأتباعه التمرد على روما فتم القضاء عليهم وعلى ثورتهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين. ويُسمِّي هركابي مرض الذاتية هذا الذي يؤدي إلى الانتحار «أعراض بركوخبا»، وهو ينصح الإسرائيليين بتغيير هذا الجانب من شخصيتهم القومية. 
أعراض ننتنياهو: الإدراك الإسرائيلي للسلام في الوقت الحاضر 
The Netentyahu Syndrome: Israeli Perception of Peace at the Present 
الحديث عن «السلام» في الظروف القائمة في الشرق الأوسط وفي ظل الموازين الراهنة كان تجاوزاً في حق المعنى الذي تدل عليه الكلمة! ذلك أن السلام لم يكن القضية المطروحة لا من جانب بيريز ولا من جانب نتنياهو. إن السلام ـ لكي لا يَنْسى أحد ـ يقيمه توازن في القوى تشعر معه كل الأطراف أن لها مصلحة فيه تُعطي من أجلها بمقدار ما تأخذ. إذن فإن السلام قسمة متكافئة، وخصوصاً حين تلتحق به أوصافه الطبيعية كالعادل والشامل. أما حين تميل الموازين وتُرجَّح تماماً لصالح طرف واحد، فإن هذا الطرف لا يكون مسعاه من أجل السلام، وإنما يكون مسعاه من أجل تثبيت وترسيخ انتصاره، أي أن هدفه يصبح النصر وليس السلام. 
والحاصل أن هذه النقطة هي مكمن الاتفاق ومكمن الخلاف في اللحظة نفسها بين بيريز ونتنياهو. كلاهما يشعر أن إسرائيل في وضع يسمح لها بتجاوز حدود السلام إلى حدود النصر. لكن بيريز له رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على حلم شرق أوسطي مركزه إسرائيل. أما نتنياهو فله رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على أولوية أن تكون "كامل أرض إسرائيل" هي القاعدة التي يتحلق حولها الشرق الأوسط بحقائق القوة، وهذا هو إطار الحلم الشرق أوسطي! أي أن كلاً من الرجلين لا يتحدث عن السلام بالمعنى الذي يتصوَّره العرب، وإنما يتحدث عن نصر جاء وقته وتسمح الموازين الآن بتثبيته وترسيخه. وفي هذه النقطة وليس في غيرها ينحصر الخلاف بين الرجلين: ليس عن السلام وإنما عن النصر! أولهما بحلم الشرق أوسطية يفتح الأفق الأوسع، والثاني بحلم كامل أرض إسرائيل يصنع المركز القاعدة! وصوَّت الناخبون في إسرائيل، وظهرت نتائج أصواتهم، وكان انحيازهم واضحاً لنتنياهو. 
والتحليل التفصيلي لمعنى الأرقام التي حَمَلت نتنياهو إلى رئاسة الوزارة في إسرائيل كاف لإظهار عدة حقائق: 
1 ـ أن إسرائيل تعرف نفسها كمجتمع حرب ولكنها لا تعرف نفسها كمجتمع سلام. 
2 ـ أن هذا المجتمع لا يريد أن يدفع مقابلاً للسلام، وإنما يريد ـ كما يُقال ـ أن يعطي "السلام مقابل السلام". وهذا معناه بالضبط تثبيت وترسيخ النصر دون حاجة إلى تكافؤ في المبادئ أو في المصالح، بعد أن بطَل التكافؤ في موازين القوى. 
3 ـ أن هذا المجتمع ليس جاهزاً لكي يبت في المؤجلات المعلقات وهي كثيرة (المستوطنات ـ اللاجئون ـ الحدود النهائية). 
ثم إنه ليس مستعداً على الإطلاق لإعطاء شبر من الأرض في القدس مع العلم بأن أقصى ما كان يفكر فيه بيريز هو رفع علم عربي ـ أي علم عربي أو إسلامي! ـ على المسجد الأقصى، ورفع علم الفاتيكان على كنيسة القيامة. وحينما جرى الإلحاح عليه في أن الرأي العام العربي يريد القدس الشرقية، كان اقتراحه ـ جاداً ـ إنشاء مدينة جديدة بين رام الله والقدس يُطلَق عليها اسم «القدس العربية»، وذلك يحل المعضلة! 
4 ـ إن هذا المجتمع يريد إسرائيل دولة يهودية، ولعل متابعة عدد الأصوات طوال نهار الانتخابات ودراسة حركة الإقبال مع ساعات هذا النهار توضحان: 
أ) أن هذا المجتمع يرفض أن ينجح رئيس وزرائه بأصوات عربية. 
ب) أن هذا المجتمع يرفض ـ مع ملاحظته لاتجاه الأصوات العربية ووزنها ـ أن يقبل تحويل إسرائيل إلى دولة متعددة القوميات. 
5 ـ أن هذا المجتمع في إسرائيل لا يستطيع أن يعيش إلا بالأسطورة التوراتية رغم كل مظاهر التقدم في حياته، والدليل أنه في هذه الانتخابات الحاسمة كان المستفيد الأساسي بمعايير القوة هو الأحزاب الدينية. فكل الأحزاب التي تقول بالعصر ـ مهما كانت درجة استيعابها للعصر ـ فَقَدت من مقاعدها، سواء في ذلك الليكود أو العمل. أما الأحزاب التي ربحت فهي أحزاب: شاس (10 مقاعد)، والحزب الديني القومي (9 مقاعد)، وإسرائيل بعاليا (7 مقاعد)، وحزب المفدال (وإليه ينتمي قاتل رابين) (4 مقاعد)، وحزب موليديت (مقعدان). وهذه هي الأحزاب المرجحة لأي ائتلاف حكومي في إسرائيل، لأن المجتمع لا يأتمن حزباً واحداً بأغلبية كاملة، أو حزبين مع احتمال ائتلاف صريح بينهما. 
6 ـ إن هذا المجتمع ـ رغم ذلك ـ يريد وجوهاً جديدة. وبموت موشى ديان، واغتيال إسحق رابين، وسقوط شيمون بيريز، فإن الجيل الأول بعد جيل المؤسسين (وايزمان ـ بن جوريون ـ بيجين) قد اختفى من الساحة، بينما يتقدم جيل جديد في الخمسين من عمره أو أقل. فتلك هي القاعدة التي تؤمن بها المجتمعات التي تعرف قيمة تعاقب الأجيال، حتى إن كانت من نوع هـذا المجتـمع الغريب الأقرب ما يكون بكتله وأفراده، وتصرفات الكل وسلوكهم، إلى المجتمعات القَبَلية رغم التكنولوجيا العالية. ومن اللافت للنظر أن كل الذين بقوا من الجيل القديم (الجيل الثاني بعد المؤسسين) كانوا، وبغير استثناء، من معسكر الحرب وليسوا من معسكر السلام. وتكفي في ذلك الإشارة إلى الجنرالات: شارون، وموردخاي، وإيتان. وهم جميعاً رجال مارسوا القتل بأيديهم خارج ميادين القتال في أكثر الأحوال، وكلهم اقتحموا طريقهم إلى أهم المواقع في الوزارة الجديدة عنوة في معظم الأحيان، وابتزازاً في أحيان أخرى! 
7 ـ إن المفارقة الكبرى التي تلفت النظر على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في هذه الظروف هي: أن العرب راجعوا أنفسهم ـ بحق أو بغير حق ـ في خطاب الحرب، وقبلوا خطاب السلام. وأن الإسرائيليين لم يراجعوا أنفسهم ـ عملاً وفعلاً ـ في خطاب السلام، بل إنهم في لحظة الحقيقة أعرضوا عنه وأثبتوا أنه ليس اختيارهم الطوعي أو الطبيعي! 
ولم يكـن هـناك ما يغفر لبيريز: 
لا قربه من بن جوريون منشئ الدولة، ولا إشرافه على المشروع النووي الإسرائيلي حاميها النهائي، ولا حصوله على اتفاق أوسلو وأبسط ما فيه تحقيق الشرعية القانونية النهائية لقيام الدولة اليهودية، وهي اعتراف صاحب الحق الفلسطيني بالرضا والقبول والتوقيع بأن ملكيته انتقلت إلى مالك آخر: إسرائيل! 
المفهــوم الصهـيوني/الإسـرائيلي للحكـم الذاتي 
Zionist-Israeli Concept of Self-Determination 
يدور المفهوم الصهيوني/الإسرائيلي للحكم الذاتي داخل الإطار الصهيوني الاسـتيطاني الإحـلالي، الذي يرى أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنه إن وُجد فيها شعب فوجوده عرضي، وأن هذا الشعب لا يتمتع بنفس الحقوق المطلقة التي يتمتع بها المستوطنون الصهاينة. وقد تفرَّع عن هذا الإطار الكلي عدة أفكار صهيونية مختلفة بشأن الدولة الفلسطينية قد تبدو متضاربة ولكنها في واقع الأمر تتسم بالوحدة. ولتبسيط الصورة حتى يمكن تناولها بشيء من التحليل سنقسِّم المواقف الصهيونية المختلفة إلى ثلاثة، يقترب أولها من الحد الأقصى الصهيوني أي تغييب العرب ويكاد يلتصق به، ويبتعد ثالثها عنه حتى يبـدو كأنه نقيـض، ويقف ثانيها في نقـطة اعتبارية متوسطة بينهما. وقد اخترنا شموئيل كاتس ـ أحد مؤسسي حركة حيروت وقد شغل منصب مستشار رئيس الوزراء مناحم بيجين عام 1978 كممثل للنموذج الأول. وليُعبِّر كاتس عن وجهة نظره في الدولة الفلسطينية يقتبس كلمات بن جوريون الذي يشير فيها إلى «تاريخ اليهود» وإلى "بلاد اسمها يهودا وهي التي نسميها أرض إسرائيل... إن هذه البلاد جعلت منا شعباً، وشعبنا خلق هذه البلاد". 
ويضيف كاتس: 
"خلال مئات السنين هذه التي تخللتها عمليات قتل وطرد وتمييز ومستوى معيشي سيء لم يتأثر الوجود اليهودي في فلسطين ولم يتخل اليهود عن عاداتهم وتقاليدهم". وخلال هذه الفترة "لم يتأثر التراث اليهودي كما لم تتأثر الثقافة اليهودية أي اللغة العبرية التي بدأ استعمالها في القرن العاشر في طبرية". ونحن لن نحاول تفنيد هذه الأفكار الصبيانية أو الرد عليها فهي من التفاهة بحيث لا يصح أن ينشغل المرء بها إلا بمقدار كونها مؤشراً على حدود صاحبها الإدراكية. وكاتس لا يرى سوى حضور يهودي كامل وثابت عبر التاريخ يقابله غياب عربي كامل. وهذا هو الحد الأقصى الصهيوني الذي ينكر العرب تماماً، فالبشر الذين وُجدوا في فلسطين ليسوا فلسطينيين وإنما مجرد مهاجرين من البلاد المجاورة (عناصر متحركة). 
أما النموذج الثالث فيمثله مائير بعيل، وهو من نشطاء مابام، ومن المنادين بالصهيونية ذات الديباجة اليسارية. وأطروحاته العقائدية وإطاره التاريخي لا يختلفان عن أطروحات وإطار كاتس، فهو يُعرِّف الحركة الصهـيونية بأنهـا حركة تحرُّر وطني (أي حركة تغييب للفلسطينيين). وقد امتازت الصهيونية "بأنها ضمت يهوداً من مختلف الاتجاهات والميول رأوا بأعينهم هدفاً مشتركاً هو جمع شتات الشعب اليهودي وبناء أمة يهودية متجددة على أساس العمل العبري في أرض إسرائيل". فبعيل ينطلق إذن من الإيمان بأن للشعب اليهودي حقوقاً تاريخية كاملة في أرض إسرائيل. ثم يُفسِّر وجود الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين على أساس صهيوني "فلولا قيام الحركة الصهيونية لما ظهر الفرع الفلسطيني التابع للحركة القومية العربية. ويمكن الاعتقاد بأن مجيء اليهود إلى أرض إسرائيل واستيطانهم فيها كان الحافز الذي أدَّى إلى نشوء الكيان الفلسطيني". بل إنه يؤكد أن "من الصعب أن نتصور اليوم كيف كانت ستبدو الأوضاع في أرض إسرائيل لو لم يتحقق فيها الفكر الصهيوني". 
فوجود الفلسطينيين ـ حسب تصوُّره ـ عرضي وتابع للوجود الصهيوني، ولكنه ـ وهنا مصدر الاختلاف بينه وبين كاتس ـ ليس بالضرورة زائلاً، فهو يرى أن بعض الصهاينة قد اعترفوا بحقوق الشعب الفلسطيني "بصفته يمتلك حقوقاً طبيعية في بلاده". ولا ندري ما الفارق بين حقوق اليهود التاريخية وحقوق العرب الطبيعية، ولكن ما يهمنا في سياق هذا المدخل أن ثمة اعترافاً ما بوجود العرب وبحقوقهم. وهذا الاعتراف نابع من خوف عميق من أن العنصر الفلسطيني داخل الدولة الصهيونية يهدد هويتها اليهودية ويهدد الطبيعة الإحلالية للكيان الصهيوني، بل إن بعيل يطرح السيناريو التالي: "هناك مخاوف من أنه إذا استمرت سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة سوف تشتد حدة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، لتصل حمى المقاومة إلى العرب الإسرائيليين المقيمين في المثلث الصغير وفي الجليل بحيث يطلب عرب إسرائيل بعد جيل أو جيلين الانضمام إلى المطالبين بحق تقرير المصير للفلسطينيين". ولكن كيف يمكن التصدي لهذا التيار وتلك الحمى؟ يرى بعيل "أن ذلك يتم من خلال إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل... وكلما سارعت إسرائيل في تقديم مبادرة السلام المقترحة للشعب الفلسطيني كان أفضل لها". ثم يأتي بعد ذلك بحشد هائل من التفاصيل عن الجمارك والكهرباء وعن ارتباط الدولة الجديدة بالأردن، إذ لابد أن تولد الدولة مقيدة. 
أما شلومو أفنيري فهو مثال جيد للنموذج الثاني "الوسط". وأفنيري من كبار المفكرين السياسيين الإسرائيليين (شغل منصب مدير عام وزارة الخارجية في حكومة العمال بين عامي 67 ـ 1977). وهو يتحدث أيضاً عن أرض إسرائيل ذات التراث اليهودي المجيد وأرض الخلاص بالنسبة لليهود. والصهيونية هي الحركة القومية اليهودية التي ستقوم بعملية الخلاص هذه (وهو في واقع الأمر تخليص الأرض وتغييب أصحابها الأصليين، أي العرب). وهو يرى أن المطالب الصهيونية خضعت لقرار التقسيم لأن "أحداً في العالم لم يكن يؤيد المطالب اليهودية"، أي أنه كان خضوعاً عملياً لا علاقة له بالمبادئ الكلية والنهائية. ثم يضيف إلى هذا ديباجات أخلاقية عن "أن الصهيونية تجد صعوبة في المطالبة بحق تقرير المصير لنفسها، ومعارضة منح هذا الحق لفئة سكانية أخرى". ويُسمِّي افنيري نفسه بأنه من أتباع الصهيونية السوسيولوجية (مقابل صهيونية الأراضي) وهي صهيونيه تهتم بالطابع اليهودي للدولة، أما صهيونية كاتس فتركز اهتمامها على ضم الأراضي، ومن هنا حديث «المعتدلين» عن الأرض مقابل السلام. ولكن مهما كانت الأسباب (الضغوط الدولية أو عذاب الضمير الصهيوني أو الخوف على الطابع اليهودي للدولة) فإن افنيري يطرح الحل التالي الذي يسميه حلاً وسطاً: "لا دولة إسرائيل الكاملة ولا دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل استعداد بعيد الأثر لقبول الحل الوسط في إطار حل أردنى ـ فلسطيني". ولعل هذه النماذج الثلاث تغطي كل الاتجاهات السياسية الإسرائيلية تجاه الدولة، مع اختلاف طفيف في الديباجات، فجوش إيمونيم والليكود ينتميان للنموذج الأول بينما تنتمي بعض الأحزاب الصغيرة الليبرالية ومابام للنموذج الثالث، وينتمي المعراخ للنموذج الثاني. فالعمل يقبل التفاوض على الأرض، ويطرح فكرة إمكانية تقديم تنازلات إقليمية في أراضي الضفة والقطاع.
رغم كل الاختلافات بين الاتجاهات الصهيونية الثلاث إلا أنه يجب ملاحظة الوحدة بينهم التي تتبدَّى فيما يلي: 
1 ـ يُلاحظ أن جميع الصيغ الصهيونية، المتطرف منها والمعتدل، اليميني منها واليساري، لا تتوجه البتة لقضية الفلسطينيين الذين طُردوا عام 1948 واستوطنوا سوريا ولبنان والأردن ومصر وأنحاء أخرى متفرقة من أنحاء العالم العربي، ولا تذكر بتاتاً قضية الفلسطينيين الذين يطالبون بحقوقهم في حيفا ويافا وعكا وكل بقعة في أرض فلسطين المحتلة والذين صدر قرار من هيئة الأمم لتأكيد حقهم في العودة إلى ديارهم أو التعويض لمن لا يريد العودة. 
2 ـ لا يتحدث الصهاينة البتة عن الأراضي خلف الخط الأخضر التي خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين مثل الجليل وغيرها من المناطق. وهكذا حوَّل الخطاب الصهيوني الخط الأخضر إلى مطلق صهيوني جديد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلينا قبوله والخضوع له. وهذا أيضاً أمر منطقي ومفهوم، فالتفاوض بشأن الأراضي فيما وراء الخط الأخضر وبشأن حق العرب في السكنى في فلسطين المحتلة قبل 1948 هو في واقع الأمر تفاوض بشأن فك الكيان الصهيوني. 
3 ـ يُلاحَظ أن كل الحلول مبنية على فكرة القسر والخضوع، وأن أحد الأطراف سيدفع الطرف الآخر مضطراً للتسليم بوجهة نظره. فالصهاينة يرون أن رؤيتهم للتاريخ هي الرؤية الوحيدة السليمة التي لا يمكن التراجع عنها على مستوى العقيدة حتى لو تم التراجع عنها على مستوى الإجراءات البرجماتية. وقد لخص ذلك الموقف أهارون ياريف بقوله: "الصهيونية هي حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي.. اصطدمت بالحركة القومية العربية عامة والحركة القومية الفلسطينية خاصة". ولكنه يضيف: "إن أقوالي هذه لا تنطوي على تنازل أو استعداد للتنازل عما نعتبره حقنا التاريخي في إرتس يسرائيل وفي علاقتنا التاريخية بها". هذا الموقف المبدئي السائد في صفوف الجميع يخلق استعداداً كامناً دائماً لدى كل الصهاينة، مهما كان موقعهم على خريطة المُتصل الإدراكي السياسي، أن ينزلقوا دائماً نحو تغييب العرب وإنكار حقهم في إنشاء دولة حقيقية خاصة بهم إن سنحت الظروف، كما أنه يضفي صفة الشرعية على موقف دعاة إسرائيل الكبرى. فالأصل في الموقف الصهيوني هو ابتلاع كل الأرض وتغييب كل العرب، والاستثناء هو المرونة والاستعداد للتفـاوض بشـأن الأرض خارج الخط الأخضر وبشأن الفلسطينيين خارجه. ولعل هذا يفسر كيف أن الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية قد بدأ إبان حكم العمال المعتدلين وأنهم اعتمدوا ملايين الدولارات لإنشاء مستوطنات هناك في الأرض نفسها التي بدأ بيريس بالإعلان عن استعداده للتنازل عنها مقابل السلام. 
في هذا الإطار ظهر مفهوم الحكم الذاتي الذي يرى أن الحقوق اليهودية في فلسطين مطلقة، أما الحقوق الفلسطينية فليست أصيلة. فالأرض ملك للشعب اليهودي وقد تَصادَف وجود شعب فيها. ولذا فإن أية حقوق تُمنح للفلسطينيين هي من قبيل التسامح الصهيوني أو التكيف البرجماتي مع أمر واقع وتعبيراً عن هذا تقرَّر فصل الشعب (العرضي الزائل) عن الأرض الصهيونية. ولذا فالحكم الذاتي هو تعامل مع بشر وليس مع أرض ومنح السكان بعض الحقوق دون أن يكون على الأرض ظل من السيادة فالحكم الذاتي باختصار حكم للشعب دون الأرض. ولذا فالسلطة الفلسطينية ليس لها سلطة على المجال الجوي أو موارد المياه في الأراضي وليس من حقها تشكيل جيش فلسطيني. والفلسطينيون يعيشون في مدن وقرى أشبه بالمعازل في المناطق كثيفة السكان إذ تظل إسرائيل المسئولة عن الأمن في كل المناطق وتحديد المعابر والشواطئ والطرق الرئيسية. فالحكم الذاتي قد منح الفلسطينيين درجة من الاستقلال على أن تبقى الصلاحية في أيدي الصهاينة. 
وقد وُصفت السلطة الفلسطينية بأنها أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة. فقال أحد الكُتَّاب العرب إن الحكم الذاتي يعني، في واقع الأمر، قيام محمية إسرائيلية تخدم المصالح الإسرائيلية. وقد شبَّهه نتنياهو بالنظام السياسي القائم في أندورا وبورتوريكو (وهي دولة حرة تابعة للولايات المتحدة يحمل سكانها الجنسية الأمريكية دون أن يكون لهم حق التصويت في الانتخابات). ولعل بورتوريكو قد لاقت هوى في نفس نتنياهو لأنها جزيرة وليست جزءاً من الأرض الأمريكية، فهي بمنزلة معزل لسكانها. وقد وصف أحدهم الحكم الذاتي بأنه يُعرِّف فلسطين بأنها 500 قرية وثماني مدن رئيسية تفصل بينها طرق التفافية وتديرها إسرائيل وفق تصوُّرها للأمن، أي أن الوطن الفلسطيني تم تفكيكه ليصبح معازل، تماماً كما فُكِّك مفهوم الفلسطيني ليصبح كائناً اقتصادياً لا انتماء له. 
ونحن نرى أنه قد يكون هناك نقط تشابه كبيرة بين التصور النازي والصهيوني للحكم الذاتي، فالنازيون أسسوا جيتوات كانت تأخذ شكل مناطق قومية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال. فكان يتم إخلاء رقعة من إحدى المدن من غير اليهود ثم يُنقَل إليها عشرات الآلاف من اليهود ويُعاد نشر القوات النازية وتُسلَّم لسلطة يهودية شبه مستقلة تُسمَّى «مجلس الكبراء» (كانت السلطات النازية تعيِّن أعضاءه). وكان لجيتو وارسو (أهم المناطق القومية) طوابعه وشرطته (التي كانت تحرس مداخل الجيتو مع الشرطة البولندية والنازية). وكانت الشرطة اليهودية متعاونة تماماً مع النازيين في كبح جماح اليهود. وكان للجيتو اقتصاده "المستقل" الذي كان يعتمد اعتماداً كاملاً على النظام النازي. فقد كان الجيتو يقوم باستيراد كل ما يحتاجه من مواد صناعية أو غذائية من سلطة الاحتلال النازية على أن يسدد ثمن الواردات بالمنتجات الصناعية التي كان الجيتو ينتجها، أو الخدمات التي كان يؤديها بعض أعضائه. ولكن وضع التبادل لم يكن متكافئاً، فقيمة السلع التي كان الجيتو ينتجها والخدمات التي كان أعضاؤه يؤدونها كانت دائماً دون حد الكفاف، وهو ما كان يعني سوء التغذية وتزايد الفقر ويؤدي إلى الموت جوعاً، وبذلك كانت تتم إبادة اليهـود بالتدريج وببطء دون أفـران غاز. ومع هذا لابد أن ندرك أن ثمة فروق قد لا تكون جوهرية ولكنها كبيرة بين رؤيــة حزب العمل والرؤية الليكودية للحكم الذاتـي تنبـع من تصورهـم لوضع إسرائيل الدولي والمحلي ومقدرتها على قمع الفلسطينيين وتحقيق الأمن لنفسها. وهذه الفروق تعبِّر عن نفسها في البرامج السياسية لكلا الحزبين. ومع هذا من الملاحظ أننا حينما ننتقل من عالم النظرية والبرامج إلى عالم الممارسة فإن نقط الاتفاق والإجماع تؤكد نفسها على حساب نقط الاختلاف.


الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثانى: الاستجابة الصهيونية/الإسرائيلية للأزمة
» الجزء الثالث.. الباب الأول: الإقطاع الغربي وجذور المسألة اليهودية
» الباب الثالث عشر: الصهيونية الإثنية العلمانية
» الجزء الثالث.. الباب الأول: العنصرية الصهيونية
» الباب الثالث: الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: