المفهـوم الصهيوني/الإسرائيلي للصراع العربى الإسرائيلى
Zionist-Israeli Concept of Arab- Israeli Conflict
لإدراك الأبعاد الحقيقية للمفهوم الصهيوني/ الإسرائيلى للسلام قد يكون من المفيد العودة إلى أحد المؤتمرات الصهيونية الأولى (في عشرينيات هذا القرن) حين طرح أحد المستوطنين الصهاينة السؤال التالي: هل تريد الحركة الصهيونية الحرب مع العرب أم لا؟ وطرح السؤال على هذا النحو يُلقي كثيرًا من الضوء على القضية موضع البحث: فهل السلام مسألة إرادة ورغبة، أم أنها مسألة بنية تشكَّلت على أرض الواقع، لها حركية مستقلة، تدوس كل من يقف في طريقها، بما فى ذلك دعاة السلام من المستوطنين الصهاينة؟ ومن الواضح أن المستوطنين الصهاينة، في لحظات صدق كثيرة، تجاوزوا الاعتذاريات الصهيونية البلهاء وأدركوا أن الأرض مأهولة وأنهم جاءوا لاغتصابها وأن أهلها لذلك سيشتبكون معهم دفاعاً عن حقوقهم. ففي خطاب له في 9 يولية 1936 أمام اللجنة السياسية لحزب الماباي عرَّف موشيه شاريت الثورة العربية بأنها ثورة الجماهير التي تمليها المصالح القومية الحقة، وأضاف أن الفلسطينيين يشعرون أنهم جزء من الأمة العربية التي تضم العراق والحجاز واليمن، ففلسطين بالنسبة لهم هي وحدة مستقلة لها وجه عربي، وهذا الوجه آخذ في التغير، فحيفا من وجهة نظرهم كانت بلدة عربية، وها هي ذا قد أضحت يهودية. ورد الفعل ـ كما أكد شاريت ـ لا يمكن أن يكون سوى المقاومة. وفي 28 سبتمبر من نفس العام، كان شاريت قاطعًا في تشخيصه للحركة العربية على أنها ثورة ومقاومة قومية وأن القيادة الجديدة تختلف عن القيادات القديمة. كما لاحظ وجود عناصر جديدة في حركة المقاومة: اشتراك المسيحيين العرب بل والنساء المسيحيات في حركة المقاومة، كما لاحظ تعاطف المثقفين العرب مع هذه الحركة، وبيَّن أن من أهم دوافع الثورة هو الرغبة في إنقاذ الطابع العربي الفلسطيني وليس مجرد معارضة اليهود.
وقد توصَّل بن جوريون لنفس النتائج وبطريقة أكثر تبلورًا عام 1938 حين قال: « نحن هنا لانجابه إرهابًا وإنما نجابه حرباً، وهي حرب قومية أعلنها العرب علينا. وما الإرهاب سوى إحدى وسائل الحرب لما يعتبرونه اغتصاباً لوطنهم من قبل اليهود، ولهذا يحاربون. ووراء الإرهابيين توجد حركة قد تكون بدائية ولكنها ليست خالية من المثالية والتضحية بالذات. يجب ألا نبني الآمال على أن العصابات الإرهابية سينال منها التعب، إذ أنه إذا ما نال من أحدهم التعب، سيحل آخرون محله. فالشعب الذي يحارب ضد اغتصاب أرضه لن ينال منه التعب سريعًا... وحينما نقول إن العرب هم البادئون بالعدوان وندافع عن أنفسنا ـ فإننا نذكر نصف الحقيقة وحسب. ومن الناحية السياسية نحن البادئون بالعدوان وهم المدافعون عن أنفسهم، إن الأرض أرضهم لأنهم قاطنون فيها بينما نحن نريد أن نأتي ونستوطن، ونأخذها منهم، حسب تصوُّرهم».
كان ثمة إدراك واضح المعالم من جانب الصهاينة لطبيعة الغزوة الصهيونية وطبيعة المقاومة العربية. ولكن السلوك الناتج عن هذا الإدراك كان متبايناً، فكان هناك نمط من الصهاينة أدرك طبيعة الجرم الكامن في عملية تغييب العرب هذه فتنكر لرؤية الصهيونية تمامًاً وتخلى عنها، وعاد إلى أوربا. وهناك كثيرون من حزب بوعالي صهيون (عمال صهيون) عادوا إلى الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية حتى يشاركوا في الثورة الاجتماعية وحتى لا يشاركوا في الإرهاب الصهيوني. ولكن هؤلاء قلة نادرة على ما يبدو، وعلى كلٍّ فإنهم يختفون تمامًا من التواريخ الصهيونية ومن الإدراك الصهيوني، ولذلك فهم لا يؤثرون من قريب أو بعيد في البرنامج السياسي الصهيوني أو سلوك الصهاينة نحو العرب.
وهناك نمط ثان من الصهاينة أدرك طبيعة المقاومة العربية ولكنه لم يطرح رؤيته الصهيونية جانباً، وبذل محاولات يائسة أن يعيد صياغة المشروع الصهيوني بطريقة تستوعب وجود العربي الحقيقي وتأخذه في الحسبان. ولكن من المُلاحَظ أن مثل هذه الشخصيات تحولت بالتدريج إلى شخصيات هامشية، من وجهة نظر صهيونية، تنتمي إلى منظمات هامشية وتدافع عن رؤى هامشية لا تؤثر في المركز أو الممارسات الصهيونية الأساسية. ولعل سيرة يتسحاق إبشتاين وآرثر روبين (وكلاهما كان مسئولا عن الاستيطان الصهيونى) وغيرهما خير دليل على ذلك. فهؤلاء الصهاينة، نظراً لاحتكاكهم الدائم بالواقع العربي، أدركوا مدى تركيبية الموقف فطرحوا صيغاً مركبة نوعاً مثل الدولة ثنائية القومية وطالبوا بالتعاون مع الحركة القومية العربية وأسَّسوا جمعية بريت شالوم ثم جمعية إيحود لإجراء حوار مع العرب يعترف بهم ككيان قومي ولا يتعامل معهم كمجرد مخلوقات اقتصادية. ولكن المحاولات كلها ظلت في نهاية الأمر تعبيراً عن ضمير معذب أكثر منها ممارسات حقيقية. ولعل يهودا ماجنيس من أكثر الشخصيات المأساوية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، فقد أدرك الخلل العميق فى وعد بلفور منذ البداية بإنكاره وتغييبه للعرب، وأدرك مدى عمق الصراع المحتمل بين المستوطنين الصهاينة والعرب؛ ولذا قضى حياته كلها يحاول أن يصل إلى صيغة صهيونية تنيرها لحظة الإدراك النادرة دون جدوى. وانتهى به الأمر أن تنكَّر له مجلس الجامعة العبرية التي كان يترأسها.
ويمكن أن نذكر في هذا السياق آحاد هعام الذي رأى الدماء العربية النازفة فولول وكأنه أحد أنبياء العهد القديم، يستمطر اللعنات على شعبه لم اقترف من آثام. ومع هذا نجده بعد ذلك في لندن مستشاراً لحاييم وايزمان، في الفترة التي سبقت إصدار وعد بلفور، يدلي له بالنصيحة بخصوص كيفية الاستيلاء على فلسيطين، ولا يُذكِّره من قريب أو بعيد بالمقاومة العربية ـ أو بالدماء النازفة. وينتهي به المطاف أن يستقر هو ذاته على الأرض الفلسطينية، بكل ما يحمل ذلك من معان اغتصاب وقهر. ولكنه حتى وهو في فلسطين، بعد وعد بلفور، ظلت تخامره الشكوك بخصوص المشروع الصهيوني وظل موقفه مبهماً حتى النهاية.
وهناك أخيراً النمط الثالث، وهو أكثر الأنماط شيوعًا وهو النمط الذي يؤدي إدراكه لحقيقة المشروع الصهيوني وأبعاد المقاومة العربية إلى مزيد من الشراسة الصهيونية. ولنضرب مثلاً على هذا النمط الصهيوني بفلاديمير جابوتنسكي ـ زعيم الحركة الصهيوني المراجعة ـ الذي أدرك منذ البداية أن الصراع بين الصهيونية كحركة استيطانية مغتصبة للأرض والعرب أمر حتمي، فلم يختبىء وراء السحابة الكثيفة من الاعتذاريات الصهيونية عن الحقوق اليهودية الأزلية، كما لم يختبىء وراء الحجج الليبرالية عن «شراء» فلسطين، أو وراء الحجج الاشتراكية عن «رجعية القومية العربية» وخلافه من الاستراتيجيات الإدراكية (انظر: «الادراك الصهيونى للعرب»)، وإنما أكد دون مواربة أن الصهيونية جزء من التشكيل الاستعماري الغربي الذي لم يكن بمقدوره أن يحقق انتشاره إلا بحد السلاح، ولذلك طالب منذ البداية بتسليح المستوطنين الصهاينة (تمامًا مثلما يتسلح المستوطنون الأوربيون في كينيا وفي كل مكان)، أي طالب بتعديل موازين القوى بطريقة تخدم التحيز الصهيوني. فالعرب ـ حسبما صرَّح ـ لن يقبلوا بالصهيونية (وتحيزاتها ورؤيتها) إلا إذا وجدوا أنفسهم في مواجهة حائط حديدي.
ونفس النتيجة توصَّل إليها بن جوريون، إذ أن إدراكه للمقاومة العربية كان يحيِّده التزامه بالرؤية الصهيونية، ولذا توصل إلى أنه لا مناص من فرض هذه الروية عن طريق القوة وحد السيف. ولذا لم يبحث الزعيم الصهيوني عن سلام مع العرب، فمثل هذا السلام ـ على حد قوله ـ مستحيل، كما أنه لم يحاول أن يعقد اتفاقية معهم، فهذا ولا شك سراب، بالنسبة لبن جوريون، « إن هو إلا وسيلة وحسب، أما الغاية فهي الإقامة الكاملة للصهيونية، لهذا فقط نود أن نصل إلى اتفاق [مع العرب]. إن الشعب اليهودي لن يوافق، بل لن يجسر على أن يوافق، على أية اتفاقية لا تخذم هذا الغرض. ولذا فالاتفاق الشامل أمر غير مطروح الآن، [فالعرب] لن يستسلموا في إرتس يسرائيل إلا بعد إن يستولى عليهم اليأس الكامل، يأس لا ينجم عن فشلهم في الاضطرابات التي يثيرونها أو التمرد الذي يقومون به وحسب وإنما ينجم عن نمونا [نحن أصحاب الحقوق اليهودية المطلقة في هذا البلد]. ثم استمر يقول: لا يوجد مثل واحد في التاريخ أن أمة فتحت بوابات وطنها [للآخرين]. إن تشخيصي للموضوع أنه سيتم التوصل إلى اتفاق [مع العرب] لأنني أؤمن بالقوة، قوتنا التى ستنمو، وهي إن حققت هذا النمو، فإن الاتفاق سيتم إبرامه». وهكذا تم عقد اتفاقيات «السلام مع العرب».
ولا يختلف شاريت عن هذه الرؤية التي تذهب إلى أن المثل الأعلى الصهيوني لابد أن تسانده القوة حتى يمكن فرضه على الواقع، وهو أيضاً يتبنَّى سياسة الحائط الحديدي، شأنه في هذا شأن بن جوريون وجابوتنسكى: « لا أعتقد أننا سنصل إلى اتفاق مع العرب حتى تنمو قوتنا. ولكني أعتقد أنه ستحين اللحظة حين نصبح أكثر قوة وسنبرم اتفاقًا ثابتاً مع بريطانيا العظمى، كقوة مع قوة أخرى، وسنصل إلى اتفاق مع العرب كقوة مع قوة أخرى. لكن الشرط الأساسي هو ألا ينظر لنا العرب باعتبارنا قوة محتملة وإنما باعتبارنا قوة فعلية».
وقد أدرك وايزمان منذ البداية أن أي سلام مبني على العدل، أي يؤدي إلى إعطاء الفلسطينيين كافة حقوقهم السياسية والدينية والمدنية، عواقبه وخيمة، إذ أنه سيؤدي إلى «سيطرة العرب على الأمور». فلو تم تأسيس حكومة في إطار هذا السلام العادل، فإن العرب سيمثَّلون فيها، وهي حكومة ستتحكم في الهجرة والأرض والتشريع ـ وبذا سيحقق الصهاينة السلام ـ ولكنه «سلام المقابر» (على حد قوله). والصهاينة شأنهم شأن كل من في موقفهم، كانوا لا يبحثون عن سلام المقابر لأنفسهم، وإنما للآخرين، ولذا فالاتفاق الذي يتحدث عنه جابوتنسكي ثم بن جوريون وشاريت ووايزمان ليس اتفاقاً مع العرب باعتبارهم كياناً مستقلاً له حقوقه وفضاؤه التاريخي والجغرافي إنما هو اتفاق مع طرف آخر تم تغييبه أو ترويضه عن طريق القوة والحائط الحديدي، ولذا فهو يقنع بالبقاء حسب الشروط التي يفرضها الآخر. وهذه رؤية ولا شك واقعية: إذ كيف يمكن أن يتوقع أحد من العرب أن يرضخوا طواعية لرؤية تلغي وجودهم؟
وهذا، على كلٍّ، ما أدركه العرب منذ البداية، فرغم كل البيانات الصهيونية المعقولة عن السلام والحوار والتفاوض والأخوة العربية اليهودية والأخذ بيد العرب، كان العرب يعرفون أن الصهاينة قد رفضوا أن يستقروا في المنطقة باعتبارهم رعايا عثمانيين وأصروا على أن يأتوا تحت راية الاستعمار الإنجليزي ورماحه وبمساعدة جيوشه وبوارجه، وأن وعد بلفور قد منحهم فلسطين، وأشار بشكل عابر إلى حقوق «الجماعات غير اليهودية»، أي أن الصياغة اللفظية نفسها لوعد بلفور قد قامت بتهميشهم وتغييبرهم على مستوى المخطط، ولم يبق سوى التنفيذ والممارسة. ولم يكن العرب غافلين عن المفاهيم الصهيونية مثل العمل العبري أو عن المؤسسات الصهيونية مثل الكيبوتس والهستدروت والهاجاناه التي تستبعدهم وتستعبدهم وتُغيِّبهم. وفي علاقاتهم اليومية مع مؤسسات حكومة الانتداب كانوا يعرفون أن بوابات وطنهم قد فُتحت على مصراعيها ليهود الغرب ليستوطنوا فيه، كما كانوا يدركون أنه بغض النظر عن نوايا بعض الصهاينة الطيبة وبغض النظر عن إدراكهم لطبيعة المشروع الصهيوني وطبعية المقاومة العربية فإن الواقع الذى كان آخذاً في التشكُّل كان واقعاً صراعياً، فالصهاينة كانوا يهدفون دائماً إلى زيادة عدد اليهود في فلسطين وإلى إقامة كيان اقتصادي اجتماعى (عسكري) منفصل، وفي نهاية الأمر مهيمن. وقد تنبأ نجيب عازوري، هذا المؤلف الفلسطيني العربي المسيحى الذي كانوا من أوائل من أدرك حقيقة ما يحدث « بأن الصراع سيستمر إلى أن يسود طرف على الآخر». وهذا الرأي ليس رأياً متشائماً ينكر المثاليات، وإنما هو رأى واقعى تشكل في ضوء الطموحات والممارسة، وفي ضوء ما حدث في الواقع بالفعل.
وقد تنبه أحد زعماء حزب الاستقلال في فلسطين إلى أن الرؤية الصهيونية للسلام مع العرب، مهما بلغت من اعتدال، هي في نهاية الأمر رؤية وهمية (أيديولوجية بالمعنى السلبيى للكلمة)وأن أي تحقُّق لها يعني سلب حقوق العرب. ولذا حينما كتب له يهودا ماجنيس يقترح إمكانية التخلي عن فكرة الدولة اليهودية على أن يسمح لجماعة يهودية أن تتمتع بحكم ذاتي محدود في فلسطين، رد عليه قائلاً: « لا أرى أي شيء في اقتراحاتك سوى استفزاز صريح ضد العرب، الذين لن يسمحوا لأحد أن يقاسمهم حقوقهم الطبيعية. أما بالنسبة لليهود فليس لديهم أية حقوق سوى ذكريات روحية مفعمة بالكوارث والقصص المحزنة. ولذا من المستحيل عقد لقاء بين زعماء الشعبين: العربي واليهودي». وكان العرب يدركون تمامًا أن الحديث العذب عن التقدم الزراعي والصناعي وخلافه إنما هو حديث عن التغييب وعن سلب الوطن. إن التقدم في إطار غير متزن من القوة لصالح المغتصب يعني أن العربي سيفقد كل شيء، وبخاصة إذا كان الآخر لا يعترف بالعرب ككيان تاريخي وإنما كمخلوق اقتصادي. ولذا تغيِّر كثير من الشعوب المقهورة إستراتيجياتها التحررية وبدلاً من البحث عن التقدم تفضل الدفاع عن البقاء من خلال التشرنق.
ولعل هذا هو الذي يفسر رفض موسى العلمي لكلمات بن جوريون (الحلوة العذبة) حين تقابلا عام 1936 في منزل موشي شاريت. فطبقاً لما جاء على لسان بن جوريون بدأ الحديث بترديد النغمة (القديمة) التي أعدها عن المستنقعات التي تم تجفيفها، والصحارى التي تزدهر بالخضرة، والرخاء الذي سيعم الجميع. ولكن العربي قاطعه قائلاً: «اسمع ياخواجه بن جوريون، إنني أفضل أن تبقى الأرض هنا جرداء مقفرة مائة عام أخرى، أو ألف عام أخرى إلى أن نستطيع نحن استصلاحها ونأتي لها بالخلاص». وهنا مارس بن جوريون إحدى لحظات الإدراك النادرة ولم يسعه إلا الاعتراف بأن العربى كان يقول الحقيقة، وأن كلماته هو بدت مضحكة وجوفاء أكثر من أي وقت مضى. وهكذا أدرك الصهاينة والعرب من البداية أن الصراع بينهما له طابع بنيوي وأدركا أن السلام الذي يعرضه الصهاينة هو سلام المقابر، سلام مبني على الظلم والحرب. والأمر لا يختلف كثيراً هذه الأيام. فلا يزال السلام المبني على العدل يعني، في واقع الأمر، مشاركة العرب الكاملة في حكم فلسطين، أي أنه سلام المقابر بالنسبة للصهاينة. ولذا يحاول الصهاينة التوصل إلى السلام المبني على الحرب والظلم، وإلى الأمن المبني على الإكراه والعنف.
المفهـوم الصهيوني/الإسرائيلي للسلام
Zionist-Israeli Concept of Peace
ظلت بنية الصراع العربي الإسرائيلي واضحة حتى عام 1967 مع هزيمة العرب، ومنذ ذلك الحين بدأ الحديث عن "السلام" والرغبة في التسوية من جانب الطرفين. ويرى دعاة السلام أن الرغبة في السلام من الطرفين العربي والإسرائيلي أصبحت قوية وصادقة وحقيقية، وهو أمر قد يكون مفهوماً بالنسبة للعرب (بعد الهزائم المتكررة). ولكن الأمر بالنسبة للإسرائيليين قد يحتاج إلى قليل من الشرح والتفسير.
ويمكننا أن نـدرج الأسـباب التالية التي ولَّدت لـدى الإسرائيليين الرغـبة في السـلام:
1 ـ لم تأت الانتصارات العسكرية بالسلام للإسرائيليين رغم أن الآلة العسكرية الإسرائيلية وصلت إلى ذروة مقدرتها الحربية، بل إنها أتت لهم بالمزيد من الحروب وتحققت النبوءة القائلة بأن أقصى ما يطمح له المستوطنون الصهاينة هو حالة من "الحرب الراقدة".
2 ـ منطق جيش الشعب (النظامي والاحتياطي) لم يَعُد ممكناً بالسهولة التي كان عليها سابقاً وذلك بسبب مقتضيات الاقتصاد الإسرائيلي في إطار النظام العالمي الجديد والتكنولوجيا المتقدمة.
3 ـ لم يَعُد الإسرائيليون قادرين على تحمُّل الحرب الدائمة والاستنفار المتواصل، باعتبار أن الحرب الخاطفة الساحقة، أي الحرب بدون تكلفة بشرية واقتصادية عالية، لم تَعُد ممكنة.
4 ـ تزايدت تكلفة الحرب وهو ما يعني تزايُد اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة. والولايات المتحدة حليف موثوق به تماماً، ومع هذا بدأت تظهر عليه علامات تثير القلق مثل تزايد المزاج الانعزالي الذي قد يتحول في أية لحظة (بضغط من القوى الشعبوية) إلى تحرُّك سياسي يرفض التورط في مغامرات خارجية وإلى تخفيض المعونات الاقتصادية لحلفائه وعملائه.
5 ـ ومما يزيد الرغبة في السلام عند المستوطنين الصهاينة أن الشعب اليهودي (أي الجماعات اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم)قرر عدم ترك منفاه وهو ما يثير قضية سبب بناء المستوطنات أساساً (هذا في الوقت الذي يتزايد فيه العرب في الأراضي الفلسطينية التي احتلت قبل عام 1967).
6 ـ وقد بدأت تظهر علامات الإرهاق والتذمر بين المستوطنين الصهاينة ويظهر هذا في أزمة الخدمة العسكرية والتكالب على الاستهلاك.
7 ـ بدأ العرب يطورون نظماً هجومية ودفاعية، صاروخية وربما ميكروبية تعادل القوة النووية الإسرائيلية.
8 ـ مسألة التسليم والاستسلام، وبخاصة بالنسبة للفلسطينيين حتى بعد أوسلو، لم تَعُد واردة (مَنْ يستسلم لمَنْ؟).
9 ـ رغم كل سلبيات اتفاقيات أوسلو إلا أن قيام السلطة الفلسطينية يشكل أول اختراق للعمق الإستراتيجي الإسرائيلي، إذ توجد كتلة بشرية ضخمة (مليونا فلسطيني في الأرض المحتلة بعد عام 1967، مليون في الأراضي المحتلة بعد عام 1948) لهـا مؤسـساتها وإرادتها وطموحاتها.
10 ـ لخص المفكر الإستراتيجي المصري أمين هويدي الموقف في هذه الكلمات: "نحن نعيش الآن كعقارب سامة وضعت في أنبوب واحد ستلدغ بعضها بعضاً قبل أن تموت وتفنى، أو كراكبي سيارة أصبحت في منتصف السفح تحاول أن تصل إلى القمة، فإن سقطت إلى القاع تحطمت بمن فيها. وعليها ـ أي إسرائيل ـ أن تعرف سواء وهي تحت قيادة بيريز أو نتنياهو أنه إن كان في يدها الأرض ففي يدنا السلام، وإن كان بيديهم عناصر القوة ففي يدنا عناصر القدرة من مياه وأرض وسوق وقوة بشرية ورأس مال وغاز ونفط، وإن كان في قدرتهم اختراق الحدود ففي يدنا مقومات الوجود. وعليها أن توقن أخيراً بأنها إن كانت قد فشلت في تحقيق الهيمنة الإقليمية عن طريق استخدام القوة فإن مصيرها لن يكون أفضل حالاً لو أنها حـاولت ذلك عن طريق وسـائل أخرى".
لا شك إذن في أن الرغبة الإسرائيلية في السلام حقيقية وصادقة. ولكن بنية الصراع لا تزال قائمة، فالدولة الصهيونية هي دولة استيطانية إحلالية، اغتصبت الأرض وحاصرت سكانها. ولا يزال المستوطنون الصهاينة متمسكين بالأرض والسيادة عليها وبمحاولة فرض سلام المقابر على الفلسطينيين. ولذا نرى أن ما حدث هو أن الرؤية العدوانية القمعية لا تزال كما هي والسلوك العدواني والقمعي لم يتغيَّر وما تغيَّر هو الديباجة والخطاب نظراً لتغيُّر الظروف الدولية وظهور النظام العالمي الجديد المبني على التفكيك والإغواء بدلاً من المواجهة المباشرة مع شعوب العالم الثالث. ولذا بدلاً من دق طبول الحرب، فإن الإعداد للحرب يستمر على أن تُعزَف نغمات السلام. وتبدأ معزوفة السلام الإسرائيلية بالمناداة بالبُعد عن عُقَد التاريخ وأن تتناسى كل دول المنطقة خلافاتها لمواجهة الخطر الأكبر (الاتحاد السوفيتي ـ الإسلام... إلخ). وأن نقطة البداية لابد أن تكون الأمر الواقع. وهذا المفهوم يفترض أن إسرائيل ليست التهديد الأكبر، مع أن الأمر الواقع الذي يُطلَب منا أن نبدأ منه يقول عكس ذلك. فهو أمر واقع مؤسَّس على العنف ويؤدي إلى الظلم والقمع وهو ليس ابن اللحظة وإنما هو نتيجة ظلم تاريخي ممتد من الماضي إلى الحاضر. وهذا الظلم والقمع هو مصدر الصراع والحروب والاشتباك. فالمسألة ليست عُقَداً آنية أو تاريخية، وإنما بنية الظلم التي تشكلت في الواقع ولا يمكن تأسيس سلام حقيقي إلا إذا تم فكُّها.
بعد تناسي عقد التاريخ يطالب الصهاينة بوقف المقاومة واستسلام الفدائيين مقابل تسليم بعض المدن والقرى التي لا "تنسحب" منها القوات الإسرائيلية الغازية، وإنما "يُعاد نشرها"، وهذا ما يسمونه «الأرض مقابل السلام». والقوات الإسرائيلية لا تنسحب، لأن أرض فلسطين هي أرض الشعب اليهودي، والقوات الوطنية لا تنسحب من أرض الوطن وإنما يعاد نشرها فيه وحسب. ولذا رغم اتخاذ هذه الخطوة الرمزية الإعلامية فإن الاستيطان سيستمر على قدم وساق (تحدَّث شامير عن استمرار التفاوض في مدريد لمدة عشر سنوات والمضي أثناء ذلك في الاستيطان) والقدس ستظل عاصمة إسرائيل الأبدية.
إن كل هذه التصورات للسلام تنبع من إدراك أن أرض فلسطين هي إرتس يسرائيل، وأن الإسرائيليين لهم حقوق مطلقة فيها، أما الحقوق الفلسطينية فهي مسألة ثانوية، فالأرض في الأصل أرض بلا شعب. وتتبدَّى هذه الخاصية بشكل واضح ومتبلور في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي. وتصوُّر إسرائيل لمستقبل المنطقة لا يختلف كثيراً عن ذلك، فالمركز هو إسرائيل وهي التي تمسك بكل الخيوط، أما بقية "المنطقة" فهي مساحات وأسواق. وإسقاط عُقَد التاريخ هنا يعني إسقاط الهوية التاريخية والثقافية بحيث يتحول العرب إلى كائنات اقتصادية، تحركها الدوافع الاقتصادية التي لا هوية لها ولا خصوصية. هنا تظهر سنغافورة كصورة أساسية للمنطقة وكمثل أعلى: بلد ليس له هوية واضحة ولا تاريخ واضـح، نشـاطه الأسـاسي هو نشاط اقتصادي محض. وحينما يتحول العالم العربي إلى سنغافورات مفتتة متصارعة فإن الإستراتيجية الاستعمارية والصهيونية للسلام تكون قد تحققت دون مواجهة ومن خلال "التفاوض" المستمر! جاء في مجلة نيوزويك الأمريكية أنه بعد أن قبل الرئيس السادات توقيع اتفاقية كامب ديفيد طلب تخصيص رقعة ما في القدس تُرفع عليها الأعلام العربية، فاقترح أعضاء الوفد الإسرائيلي أن تُرفع الأعلام على المقابر العربية، أي أنه اقترح "سلام المقابر". أما ديان فارتفع عن هذا قليلاً ووصف طلب الرئيس السادات بأنه "بقشيش"، أي أنه اقترح سلام السادة والعبيد. وما بين المقابر والبقشيش يقع المفهوم الإسرائيلي للسلام.
بيريــــز ونيتنياهــــو ورؤيتهــــما للســــلام
Peres and Netenyahu: Their Views of Peace
حدثت تشققات عديدة في الإجماع الصهيوني لأسباب عديدة(عدم تجانس المهاجرين اليهود ـ تزايد الاستهلاكية والعلمنة في المجتمع الإسرائيلي). ولكن أهم الأسباب هو اندلاع الانتفاضة التي فرضت على عدد كبير من المستوطنين أن يكتشفوا أن الحلم الصهيوني القديم بتوسعيته المستمرة أمر مستحيل، وأنه في إطار النظام العالمي الجديد من الصعب التمسك به وأن مشكلة إسرائيل السكانية (تزايد العرب وتناقص اليهود بسبب الإحجام عن الإنجاب وبسبب جفاف المصادر البشرية في الخارج) آخذة في التفاقم. لكل هذا انقسم الصهاينة فيما بينهم من دعاة التمسك بالأرض المحتلة دون التنازل عن شبر واحد من الأراضي (صهيونية الأراضي) مقابل من يطالبون بالتنازل عن بعض الأراضي نظير الاحتفاظ بالصبغة اليهودية الخالصة للدولة الصهيونية. ولذا يمكن القول بأن الفريق الأول الذي يمثله نيتنياهو (لا يملك رؤية للسلام) أما الفريق الثاني (الذي يمثله بيريز) فله رؤية محددة للسلام. وقد فصَّل بيريز رؤيته هذه في كتابه الشرق الأوسط الجديد فهو يذهب إلى أن السلام لابد أن ينطلق من نوايا جماعية لدى أطرافه المعنية تدفع باتجـاه الثقـة وتزيل مشـاعر الشك والقلق، ومن ترتيبات ومؤسسات مشتركة، فتصبح المنظمات الإقليمية مفتاح الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة. وبالتالي، فإن القضاء على مشكلات الإقليم لا يتم بالاتفاقات الثنائية، بل عن طريق ثورة عامة في المفاهيم. من هنا، يجب أن تعكس السوق الإقليمية المشتركة توجُّـهات جديدة في المنطقة بحـيث يسـود نمط الحضارة الغربي، الذي أصبحت "السـوق" بمقتضـاه أكثر أهـمية من الـدول المنفردة، وأصبح الجو التنافسي أهم من وضع الحواجز على الطريق. ولهذا، ينبغي ألا تؤجَّل العلاقات الاقتصادية أو ترتبط بعملية السلام؛ إذ في الإمكان الشروع في تعاون اقتصادي لامتصاص المعارضة السياسية، وفي الإمكان بالتالي أن تقوم العلاقات الاقتصادية بتسويق العلاقات الدبلوماسية.
وهذه الرؤية تقتضي توفير مناخات اقتصادية تطبيعية تهمِّش الشأن القومي التاريخي («العقد التاريخية» كما يسمونها، و«الذاكرة التاريخية» كما نسميها نحن) وتلغيه وتُحل محله شأناً جيو اقتصادياً جديداً، وهذا ما دعاه بيريز"الشرق الأوسط الجديد" باعتباره وحدة متكاملة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، بما يحقق الهدف الإسرائيلي المتمثل في "إسرائيل العظمى" عبر السيطرة على المنطقة ويضمن أمنها عبر موافقة معظم الأنظمة العربية المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ على ضمان أمن إسرائيل (انظر: «السوق الشرق أوسطية»). في هذا الإطار يمكن السماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين المحتلة على أن تظل هذه الدولة خاضعة للاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. أما رؤية نتنياهو فترفض الفكرة السابقة وتعارض أسلوب بيريز، باعتبار أنها أضعفت السياسة الإسرائيلية وشلتها إستراتيجياً، فالمؤسسات والاتفاقات التي ركزت عليها حكومة بيريز فشلت جميعها في توفير الأمن لإسرائيل، ولذلك لابد من إجراءات أكثر حسماً.
وإعادة ترتيب سلم الأولويات وفق رؤية أخرى طرحها نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس ليكون:
1 ـ الأمن قبل الاقتصاد، والأرض ملازمة للأمن (وهو ما يعني استمراراً لفكرة العمق الإستراتيجي) فلابد من وضع أسس جديدة للمفاوضات تستند إلى مبدأ "السلام مقابل السلام" بدلاً من مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي أدَّى إلى تراجُع مكانة إسرائيل الإستراتيجية. وعلى الجيش الإسرائيلي أن يتولَّى مباشرةً حماية الإسرائيليين في أي مكان دون قيود أو حدود. والسلطة الفلسطينية مطالبة بتوفير الأمن لإسرائيل، أما الجولان فهو غير قابلة للتفاوض في هذه المرحلة لأنها تشكل العمق الإستراتيجي لإسرائيل .
2 ـ الاقتصاد قبل السياسة، فإسرائيل القوية هي التي تجذب الاستثمار، وتصبح قوة اقتصادية تقود المنطقة، وتدخل الاقتصاد العالمي دون حاجة إلى جسر شرق أوسطي لأنه جسر الفقراء. ولكن شعار "الأمن قبل الاقتصاد" لا يلغي الاقتصاد أو يغفله، لأن عنصر الأمن الداخلي الإسرائيلي هو الشرط الأساسي لجذب الاستثمار وازدهار الاقتصاد. وترفض هذه الرؤية فكرة أن تراجع عملية التسوية يمكن أن يؤدي إلى تراجُع معدلات النمو الاقتصادي في إسرائيل، لأن الهجرة اليهودية ستواصل تحريك الاقتصاد الإسرائيلي بجانب التطور التكنولوجي والمساعدات الخارجية.
3 ـ السياسة قبل السلام، فالسلام يجب أن يُبنَى على مرتكزات موضوعية راسخة بصرف النظر عن القادة والزعماء، لأن الفرق بين إسرائيل والعرب هو الاختلاف في القيم السياسية المتعلقة بالديموقراطية وحقوق الإنسان. وتنطلق هذه الرؤية مما أشار نتنياهو إليه في كتابه من أن "السلام" الذي يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط هو السلام المبني على الأمن، أي الردع، إذ أن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن الدول العربية جميعها ذات نظم استبدادية، وبالتالي فإن "سلام الردع" هو البديل الوحيد الممكن، فكلما بدت إسرائيل قوية أبدى العرب موافقتهم على إبرام سلام معها. لذا، فإن الأمن، أي قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم، هو العنصر الحيوي للسلام، ولا بديل عنه.
وثمرة هذا الموقف هو غياب أية إستراتيجية للسلام. وكما يقول عزمي بشارة: "إن الليكود يكتفي بطرح الحكم الذاتي الموسع على الفلسطينيين في ظل السيادة الإسرائيلية. ويكتفي في الحالة السورية بمحاولة التوصل إلى اتفاق أمني في لبنان في هذه المرحلة لا يقود بالضرورة إلى اتفاق سلام، بل يضمن الأمن الحدودي كما في الجولان. وفي الحالة الفلسطينية، لا يقبل الليكود الأرض مقابل السلام، ويطرح مقابلها السلام مقابل السلام، أما في الحالة اللبنانية، فإنه مستعد لإعادة الأرض دون السلام: الأرض مقابل الأمن فقط".
أعــــراض بركوخبـــــا Bar Kochba Syndrome
«أعراض بركوخبا» عبارة نحتها المفكر الإسرائيلي يهوشفاط هركابي ليصف الحالة العقلية للإسرائيليين في مواجهة الأزمات. وقد توجَّه كثير من المفكرين الإسرائيليين إلى قضية الشخصية الإسرائيلية إبَّان الانتفاضة المباركة. وقد أعاد بعض هؤلاء طرح قضية عجز اليهود وافتقارهم للسلطة وذهبوا إلى أن الإسرائيليين، بل الشعب اليهودي بأكمله، يفتقرون إلى تقاليد الدولة، أي ممارسة الحكم (وهذا يعني افتقارهم إلى الحس التاريخي). ومن أهم الشخصيات التي توجَّهت بالنقد للشخصية الإسرائيلية يهوشفاط هركابي، فهو يذهب إلى أن الإسرائيليين يميلون نحو إضفاء طابع ذاتي على عناصر النجاح فيقول: "إن مشكلة إسرائيل ليست سياسية دائماً، وإنما وراء سياسية (ميتاسياسية) وتكمن في تَشوُّه تفكيرها الأساسي: تمجيد الوهم ـ القصور في إدراك أن الواقع تحدَّد بحدود الممكن، وأن ما هو غير واقعي لا يوجد ولن يوجد ـ تمجيد الإدارة الطوعية أو الإرادية كما لو كان هذا كافياً لتحقيق الأهداف. نحن نرفض معطيات الواقع دون أن ندرك أن العدو له إرادة لابد أن تؤخذ في الحسبان، ونضع سياستنا بشكل مجرد، حسب احتياجات الصهيونية كأننا نعيش في فراغ [الأسطورة المعادية للتاريخ] ونتجاهل النظام العالمي والأمن ومتطلباتهما من الآخرين. وكل هذا نابع من ضيق أفق يتعارض مع التاريخ".
هذا الوصف "فقدان الارتباط بالواقع" يبدو أنه "كتالوج" جاهز عند هركابي. فقد ذكر في طي نقده للشخصية العربية أشياء من هذا القبيل. ولكن الطريف هذه المرة أنه لا يكتفي بانتقاد الشخصية الإسرائيلية ولا يكتفي بأن ينسب لها هذا الإغراق في الذاتية والأسطورية وإنما يرى أن الشخصية العربية لا يمكنها أن تسقط في هذه الذاتية المعادية للتاريخ، ويقول: "إن العوامل الموضوعية التي تعبِّر عنها أعداد العرب الهائلة واتساع أرضهم قد أنقذتهم من الاضطرار للجوء للعناصر الذاتية لضمان النجاح! بكل ما يتضمن هذا من تشويه للواقع... إن الاتجاه العربي هو دائماً نحو التمثل الزمني للعناصر الموضوعية التي تضمن نجاحهم". (وهذه الأقوال تفصلها مسافة شاسعة عما قاله عنا في أواخر الستينيات).
هذا الانغماس في الذاتية يعبِّر عن نفسه ـ في تصوُّر هركابي ـ في اتجاه انتحاري بين الإسرائيليين. فالقضية التي تواجههم ليست أن دولتهم ستتحوَّل إلى دولة «أبارتهايد»، وإنما القضية هي أنهم لن يكونوا إذا ما استمروا متخندقين في الأسطورة الخاصة. ويضرب هركابي مثلاً مشابهاً وهو ما حدث لليهود إثر التمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (125 ـ 132م). فأعضاء هذا التمرد دخلوا الحرب تدفعهم حمى مشيحانية ترى أن نهاية الأيام (أو التاريخ) وشيكة. وقد أعلن بعض الحاخامات أن بركوخبا زعيم التمرد هو الماشيَّح. وبدون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان أعلن بركوخبا وأتباعه التمرد على روما فتم القضاء عليهم وعلى ثورتهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين. ويُسمِّي هركابي مرض الذاتية هذا الذي يؤدي إلى الانتحار «أعراض بركوخبا»، وهو ينصح الإسرائيليين بتغيير هذا الجانب من شخصيتهم القومية.
أعراض ننتنياهو: الإدراك الإسـرائيلي للسـلام في الوقــت الحــاضر
The Netentyahu Syndrome: Israeli Perception of Peace at the Present
الحديث عن «السلام» في الظروف القائمة في الشرق الأوسط وفي ظل الموازين الراهنة كان تجاوزاً في حق المعنى الذي تدل عليه الكلمة! ذلك أن السلام لم يكن القضية المطروحة لا من جانب بيريز ولا من جانب نتنياهو. إن السلام ـ لكي لا يَنْسى أحد ـ يقيمه توازن في القوى تشعر معه كل الأطراف أن لها مصلحة فيه تُعطي من أجلها بمقدار ما تأخذ. إذن فإن السلام قسمة متكافئة، وخصوصاً حين تلتحق به أوصافه الطبيعية كالعادل والشامل. أما حين تميل الموازين وتُرجَّح تماماً لصالح طرف واحد، فإن هذا الطرف لا يكون مسعاه من أجل السلام، وإنما يكون مسعاه من أجل تثبيت وترسيخ انتصاره، أي أن هدفه يصبح النصر وليس السلام.
والحاصل أن هذه النقطة هي مكمن الاتفاق ومكمن الخلاف في اللحظة نفسها بين بيريز ونتنياهو. كلاهما يشعر أن إسرائيل في وضع يسمح لها بتجاوز حدود السلام إلى حدود النصر. لكن بيريز له رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على حلم شرق أوسطي مركزه إسرائيل. أما نتنياهو فله رؤية في تثبيت وترسيخ النصر تعتمد على أولوية أن تكون "كامل أرض إسرائيل" هي القاعدة التي يتحلق حولها الشرق الأوسط بحقائق القوة، وهذا هو إطار الحلم الشرق أوسطي! أي أن كلاً من الرجلين لا يتحدث عن السلام بالمعنى الذي يتصوَّره العرب، وإنما يتحدث عن نصر جاء وقته وتسمح الموازين الآن بتثبيته وترسيخه. وفي هذه النقطة وليس في غيرها ينحصر الخلاف بين الرجلين: ليس عن السلام وإنما عن النصر! أولهما بحلم الشرق أوسطية يفتح الأفق الأوسع، والثاني بحلم كامل أرض إسرائيل يصنع المركز القاعدة! وصوَّت الناخبون في إسرائيل، وظهرت نتائج أصواتهم، وكان انحيازهم واضحاً لنتنياهو.
والتحليل التفصيلي لمعنى الأرقام التي حَمَلت نتنياهو إلى رئاسة الوزارة في إسرائيل كاف لإظهار عدة حقائق:
1 ـ أن إسرائيل تعرف نفسها كمجتمع حرب ولكنها لا تعرف نفسها كمجتمع سلام.
2 ـ أن هذا المجتمع لا يريد أن يدفع مقابلاً للسلام، وإنما يريد ـ كما يُقال ـ أن يعطي "السلام مقابل السلام". وهذا معناه بالضبط تثبيت وترسيخ النصر دون حاجة إلى تكافؤ في المبادئ أو في المصالح، بعد أن بطَل التكافؤ في موازين القوى.
3 ـ أن هذا المجتمع ليس جاهزاً لكي يبت في المؤجلات المعلقات وهي كثيرة (المستوطنات ـ اللاجئون ـ الحدود النهائية).
ثم إنه ليس مستعداً على الإطلاق لإعطاء شبر من الأرض في القدس مع العلم بأن أقصى ما كان يفكر فيه بيريز هو رفع علم عربي ـ أي علم عربي أو إسلامي! ـ على المسجد الأقصى، ورفع علم الفاتيكان على كنيسة القيامة. وحينما جرى الإلحاح عليه في أن الرأي العام العربي يريد القدس الشرقية، كان اقتراحه ـ جاداً ـ إنشاء مدينة جديدة بين رام الله والقدس يُطلَق عليها اسم «القدس العربية»، وذلك يحل المعضلة!
4 ـ إن هذا المجتمع يريد إسرائيل دولة يهودية، ولعل متابعة عدد الأصوات طوال نهار الانتخابات ودراسة حركة الإقبال مع ساعات هذا النهار توضحان:
أ) أن هذا المجتمع يرفض أن ينجح رئيس وزرائه بأصوات عربية.
ب) أن هذا المجتمع يرفض ـ مع ملاحظته لاتجاه الأصوات العربية ووزنها ـ أن يقبل تحويل إسرائيل إلى دولة متعددة القوميات.
5 ـ أن هذا المجتمع في إسرائيل لا يستطيع أن يعيش إلا بالأسطورة التوراتية رغم كل مظاهر التقدم في حياته، والدليل أنه في هذه الانتخابات الحاسمة كان المستفيد الأساسي بمعايير القوة هو الأحزاب الدينية. فكل الأحزاب التي تقول بالعصر ـ مهما كانت درجة استيعابها للعصر ـ فَقَدت من مقاعدها، سواء في ذلك الليكود أو العمل. أما الأحزاب التي ربحت فهي أحزاب: شاس (10 مقاعد)، والحزب الديني القومي (9 مقاعد)، وإسرائيل بعاليا (7 مقاعد)، وحزب المفدال (وإليه ينتمي قاتل رابين) (4 مقاعد)، وحزب موليديت (مقعدان). وهذه هي الأحزاب المرجحة لأي ائتلاف حكومي في إسرائيل، لأن المجتمع لا يأتمن حزباً واحداً بأغلبية كاملة، أو حزبين مع احتمال ائتلاف صريح بينهما.
6 ـ إن هذا المجتمع ـ رغم ذلك ـ يريد وجوهاً جديدة. وبموت موشى ديان، واغتيال إسحق رابين، وسقوط شيمون بيريز، فإن الجيل الأول بعد جيل المؤسسين (وايزمان ـ بن جوريون ـ بيجين) قد اختفى من الساحة، بينما يتقدم جيل جديد في الخمسين من عمره أو أقل. فتلك هي القاعدة التي تؤمن بها المجتمعات التي تعرف قيمة تعاقب الأجيال، حتى إن كانت من نوع هـذا المجتـمع الغريب الأقرب ما يكون بكتله وأفراده، وتصرفات الكل وسلوكهم، إلى المجتمعات القَبَلية رغم التكنولوجيا العالية. ومن اللافت للنظر أن كل الذين بقوا من الجيل القديم (الجيل الثاني بعد المؤسسين) كانوا، وبغير استثناء، من معسكر الحرب وليسوا من معسكر السلام. وتكفي في ذلك الإشارة إلى الجنرالات: شارون، وموردخاي، وإيتان. وهم جميعاً رجال مارسوا القتل بأيديهم خارج ميادين القتال في أكثر الأحوال، وكلهم اقتحموا طريقهم إلى أهم المواقع في الوزارة الجديدة عنوة في معظم الأحيان، وابتزازاً في أحيان أخرى!
7 ـ إن المفارقة الكبرى التي تلفت النظر على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في هذه الظروف هي: أن العرب راجعوا أنفسهم ـ بحق أو بغير حق ـ في خطاب الحرب، وقبلوا خطاب السلام. وأن الإسرائيليين لم يراجعوا أنفسهم ـ عملاً وفعلاً ـ في خطاب السلام، بل إنهم في لحظة الحقيقة أعرضوا عنه وأثبتوا أنه ليس اختيارهم الطوعي أو الطبيعي! ولم يكـن هـناك ما يغفر لبيريز: لا قربه من بن جوريون منشئ الدولة، ولا إشرافه على المشروع النووي الإسرائيلي حاميها النهائي، ولا حصوله على اتفاق أوسلو وأبسط ما فيه تحقيق الشرعية القانونية النهائية لقيام الدولة اليهودية، وهي اعتراف صاحب الحق الفلسطيني بالرضا والقبول والتوقيع بأن ملكيته انتقلت إلى مالك آخر: إسرائيل!
يتبع إن شاء الله...