الباب الثالث عشر: الصهيونية الإثنية العلمانية
الصهيونية الإثنية العلمانية Secular Ethnic Zionism
»الصهيونية االإثنية العلمانية» هي «الصهيونية الثقافية» أو «الصهيونية الروحية» ونشير لها أحياناً بـ «الصهيونية العلمانية». وهي اتجاه صهيوني في تيار الصهيونية الإثنية ينطلق من الصيغة الصهيونية الأساسية ويهتم بقضايا الهوية والوعي ومعنى الوجود، ويرى أن المشروع الصهيوني مهما كان توجُّهه السياسي الاقتصادي لابد أن يكون ذا بُعْد إثني يهودي. ومجال الصهيونية الإثنية العلمانية هو كل يهود العالم، ولذا فهي لا تُفرِّق بين المستوطنين الصهاينة ويهود العالم. وتنادي الصهيونية الإثنية العلمانية بأن يتحول المُستوطَن الصهيوني إلى مركز لإحياء الإثنية اليهودية، وترى أن الثقافة اليهودية لا يمكن أن تستمر دون هذا المركز.
وفيما يتصل بالعقيدة اليهودية، فإن الصهيونية الإثنية العلمانية ترى أنها قضت نحبها، وأن ما يمكن أن يحقق الاستمرار هو الإثنية اليهودية التي يمكن أن تصبح موضع المطلقية ومصدر القداسة. وخلفية الصهيونية الإثنية هي نفسها خلفية الصهيونية على وجه العموم من تعثُّر عملية التحديث في شرق أوربا إلى وصولها إلى طريق مغلق عام 1880، الأمر الذي جعل استمرار حركة التنوير اليهودية صعباً. ويُضاف إلى هذا، الوضع الإثني الخاص ليهود شرق أوربا المتمثل في ثقافتهم اليديشية القديمة نوعاً ما وفي ثقافتهم العبرية الجديدة. ويضاف إلى ذلك أيضاً وضعهم الاقتصادي الوظيفي المتميِّز. كما يجب أن نضع في الاعتبار فكرة القومية العضوية والشعب العضوي (الفولك) التي أثرت في اليهود تأثيراً سلبياً عميقاً بنبذهم، وتأثيراً عميقاً إيجابياً بطرح نموذج الحركة لهم.
ويُعَدُّ المفكر اليهودي الروسي آحاد هعام أهم المفكرين في هذا التيار، كما تعد أفكاره الأفكار الأساسية لهذه المدرسة. ويمكن أن نضم إليه أليعازر بن يهودا (1858 ـ 1922). كما يُصنَّف مارتن بوبر (1878 ـ 1965) ضمن أتباع هذا الاتجاه بسبب تقديسه للشعب اليهودي، وبسبب رؤيته الحوارية الحلولية، ولاستخدامه مصطلح الفكر القومي العضوي.
وبسبب اختلاف المستويات، لا يوجد تناقض بين الصهيونية الإثنية العلمانية والتيارات الصهيونية الأخرى، كما أن الصراع لا ينشب إلا بينها وبين أتباع الصهيونية الإثنية الدينية. ويمثل فكر الصهيونية الإثنية العلمانية فريقان، أحدهما في إسرائيل والآخر خارجها. أما الفريق الإسرائيلي فيؤكد مركزية (أو أرستقراطية) الدولة الصهيونية في حياة الدياسبورا بل يتخطى أحياناً حدود الصيغة الآحاد هعامية وينادي بإلغاء أو «نفي» الدياسبورا أو اعتبارها مجرد جسر أو قنطرة. أما الفريق الثاني فهم صهيونيو الدياسبورا (الصهاينة التوطينيون في الخارج)، وهم أكثر اقتراباً من الصيغة الأصلية. وهؤلاء يرون ضرورة وجود مركز ثقافي في إسرائيل حتى يستمد التراث اليهودي أسباب الحياة والاستمرار فيدعم هويتهم اليهودية الآخذة في التآكل في مجتمعاتهم العلمانية، ولكنهم لا يرون أية ضرورة للاستيطان في إسرائيل. والمشكلة بالنسبة إليهم هي، إذن، مشكلة يهودية وليست مشكلة يهود، كما أن الدولة بالنسبة إليهم وسيلة ثقافية وليست غاية، تماماً كما كان الحال مع آحاد هعام.
والواقع أن أغلبية يهود المُستوطَن الصهيوني الساحقة (من أقـصى اليمين حتى أقـصى اليسـار) من أتباع الصهيونية الإثنية العلمانية. وكذلك غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ممن يناصرون الصهيونية هم من أتباع هذا التيار، وخصوصاً في صياغته التي تتركهم وشأنهم في أوطانهم ولا تطلب منهم الهجرة.
جمعية بني موسى Bene Moses
»بني موسى» تقابلها في العبرية «بني موشيه». وبني موسى جمعية صهيونية سرية(أسست على غرار المحافل الماسوننة) تشكل إحدى جمعيات أحباء صهيون، أُسِّست في روسيا عام 1889 في 7 آذار (تاريخ مولد موسى بحسـب تقاليد فلكلور بعض الجماعات اليهودية) واستمرت في نشاطها حتى عام 1897. ويعود الفضل في تأسيسها إلى يهوشاوا بارزيلاي الذي عاد من فلسطين وقد امتلأ استياءً من أحوال المستوطنين من الناحيتين الثقافية والإثنية، إذ يبدو أنهم كانوا مُستوعَبين تماماً في الأعمال الاستيطانية ولم يطوروا الطابع اليهودي الإثني في المستوطنات. وتعود سرية الجمعية إلى تفكير آحاد هعام النخبوي (الذي تولَّى رئاسة الجمعية). فآحاد هعام كان متأثراً تماماً بنيتشه وإن كان الخطاب النيتشوي يكتسب مصطلحات ونبرة يهودية في حالته. ولذا، فقد وجد أن هذا البعث الثقافي لا يمكن أن يتم إلا على يد مجموعة من الكهنة التي تكرس حياتها لتحقيق هذا الهدف سواء داخل فلسطين أو خارجها. وهذه المجموعة من الكهنة تصبح بمنزلة المرشدين للأمة بأسرها سواء داخل فلسطين (بين المستوطنين) أو خارجها لتثقيف الأجيال الصاعدة (من التوطينيين).
وكان كل فرع من فروع الجمعية يتكون من خمسة أشخاص على الأقل، كما كانت معرفة العبرية أحد شروط الالتحاق بالجمعية. وقد ووُجهت الجمعية بمعارضة من جانبين: الصهاينة العمليين (التسلليين) بزعامة ليلينبلوم وكانوا يرون أن الهدف المباشر والعامل الأساسي هو نقل اليهود وتوطينهم، وتأتي الأمور الثقافية في المرتبة الثانية. أما الجانب الآخر من جماعات المعارضة، فقد كانت تشكلها الأوساط الأرثوذكسية إذ عرَّفت الانتماء اليهودي باعتباره انتماءً إثنياً دينياً وليس إثنياً علمانياً (كما فعلت الجمعية). وقد أسست الجمعية مدارس لتعليم العبرية وداراً للنشر في وارسو وأصدرت مجلة (عبرية) هاشيلواح.
وبعد تأسـيس المنظـمة الصهـيونية، انحـلت الجمــعية. ومع هذا، فقد استمر آحاد هعام في التعبير عن فكرها وفي معارضة الصهاينة الذين رفضوا تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية بدرجة كافية وتركوها عارية من الديباجات بحيث ظلت الحركة مجرد حركة تنقل اليهود من أوربا.
العصبة الديموقراطية Democratic Faction
جماعة من المثقفين الصهاينة في المنظمة الصهيونية في الفترة بين 1901 و1903. وجدوا أن هرتزل ركَّز السلطة كلها في يده وأنه لا يهتم إلا بالأمور السياسية وحدها، وطالبوا بتوسيع نطاق العضوية والقيادة، كما طالبوا بالاهتمام بالجوانب الثقافية والاجتماعية. وكان معظم أعضاء هذه العصبة من الطلبة اليهود الذين جاءوا من شرق أوربا وكانوا يدرسون في ألمانيا وسويسرا. وقد تأثر هؤلاء جميعاً بآراء آحاد هعام وبصهيونيته الإثنية العلمـانية وبالأفكـار الديموقراطية الشـائعة آنذاك. وقد كان أعضاء العصبة يدركون التحدي الذي تشكله الحركات الثورية، ولذا فقد وجدوا أن الحركة الصهيونية لابد أن توسِّع قاعدتها الديموقراطية حتى تستجيب لهذا التحدي. وقد بدأت العصبة بعد المؤتمر الصهيوني الرابع (1900) الذي حدث فيه التصادم بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة الإثنيين العلمانيين، حيث عارض الدينيون قيام المنظمة بأي نشاط ثقافي (باعتبار أنه سيكون نشاطاً علمانياً).
وقد عقد أعضاء العصبة مؤتمراً عاماً في أبريل 1901 عشية المؤتمر الصهيوني الخامس في بازل واشترك فيه حاييم وايزمان وليو موتزكين حيث وجه المشاركون النقد لهرتزل بسبب أسلوبه التسلطي وتركيزه السلطة في دائرته الداخلية وتعامله مع الأثرياء والطبقات الحاكمة بين اليهود وغير اليهود، كما أشاروا إلى إهمال هرتزل الجوانب العملية (الاستيطانية) والجوانب التربوية (الإثنية) في النشاط الصهيوني. وقد تحاشى هرتزل المواجهة معهم لأنه كان يدرك منذ البداية ما لا يدركونه، وهو أن الصهيونية لن تقوم لها قائمة بالاعتماد على الجهود الذاتية وأنه لابد من الاعتماد على الإمبريالية، ومن ثم لابد من التفاوض والسعي المستمرين، ويتطلب هذا بالضرورة تركيز السلطة في يد شخص أو مجموعة صغيرة تتحرك بكفاءة وسرية لعقد الصفقة مع الحضارة الغربية. وفيما يتصل بالجوانب الإثنية، فإن هرتزل لم يكن يكترث بها لأنه لم يكن يعرف عنها الكثير، ولذا فإنه لم يمانع فيها ولم يشجعها. والواقع أن صياغته المراوغة ساعدت كثيراً على تَقبُّل الإثنية، ولكن كان لابد من التخفف منها قليلاً في البداية حتى لا يَفزَع يهود الغرب المندمجون. وقد حاول هرتزل منع مناقشة برنامج العصبة، ولكنه طرح البرنامج للنقاش بعد أن هدد أعضاء العصبة بالانسحاب من المؤتمر.
وحينما تمت مناقشة البرنامج، صوَّت هرتزل شخصياً لصالحه وتم تبنيه من قبَل المؤتمر. وحين نُشر البرنامج في صيف عام 1902، فإنه كان يتضمن الدعوة إلى الدراسة العلمية للأحوال الطبيعية في فلسطين وإلى العمل النشيط وأن يكرس الصهاينة أنفسهم للمشروع الصهيوني بكل إخلاص، وهي قرارات أقل ما توصف به أنها مضحكة إذ لا تمس العملية الأساسية في هذه المرحلة وهي التفاوض مع الدولة العظمى الراعية. وبعد أن عقد الصهاينة الروس مؤتمر منسك (1902) واعترفوا بوجود تيارين لهما حقوق متساوية (أحدهما ديني والآخر علماني)، فقدت العصبة قوتها الدافعة. والخلاف بين هرتزل والعصبة الديموقراطية خلاف صهيوني نماذجي، أي أنه اختـلاف بين تيـارات لا توجـد بينها أية خلافـات حقيقية، وتظل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كامنة بشكلٍّ صلب في كل رؤاهم وأقوالهم.
آحاد هعام (1856-1927) Ahad Ha-am
»آحاد هعام» عبارة عبرية تعني «أحد العامة». و«آحاد هعام» هو الاسم الذي اشتهر به الكاتب الروسي (وكان يكتب بالعبرية) آشر جينزبرج. ويُعَدُّ آحاد هعام من أهم الكُتَّاب والمفكرين في أدب العبرية الحديث، كما يُعَدُّ فيلسوف الصهيونية الثقافية ( أى الصهيونية الاثنية العلمانية) بل المؤسس الحقيقي للفكر الصهيوني والذي خرج من تحت عباءته كل المفكرين الصهاينة، خصوصاً العلمانيين، ابتداءً من مارتن بوبر وانتهاءً إلى هارولد فيش. وقد نشـأ آحاد هعام في عائلة حسـيدية في قرية صغيرة بالقرب من كييف، وكان أبوه عضواً في حركة حبد. تلقَّى تعليماً يهودياً تقليدياً حتى أن معلمه منعه من تعلم الألفبائية الروسية لأن هذا كان يُعَدُّ ضرباً من الهرطقة. ولكنه، مع هذا، التحق في نهاية الأمر بمدرسة ثانوية في روسيا. وقد دفعته دراسته الجديدة إلى هَجْر الحسيدية، ثم تخلَّى بعد ذلك عن كل إيمان ديني وإن كان قد عبَّر عن إعجابه بالحسيدية في إحدى مقالاته، وذلك بسبب طابعها اليهودي الإثني (أي اليهودية كفلكلور). ولا شك في أن النزعة الحلولية المتطرفة في الحسيدية قد تركت أثرها فيه وفي بنيان فكره.
وقد استقر آحاد هـعام عام 1886 في أوديسـا للعمل في التجارة، وأوديسا إحدى المدن الجديدة التي أنشأها القياصرة على البحر الأسود بعد ضمها من الدولة العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر وقد أصبحت مركزاً تجارياً مهماً ونشيطاً. وقد تم توطين أعضاء الجماعة اليهودية، مع غيرهم من الروس البيض، كعنصر استيطاني يخلق وجوداً أو كثافة سـكانية روسـية بيضاء، أي أن اليهـود تم توطينهم كروس، ولذا فقد مُنحوا حقوقاً ومزايا كثيرة. وكانت أوديسا تختلف كثيراً عن جو الشـتتل، كما كانت بعـيدة عن مراكز الدراسـة الأرثوذكسية، وكانت مركزاً مهماً لأدب العبرية والفكر الصهيوني في روسيا.
ثقَّف آحاد هعام نفسه بنفسه، فدرس العلوم وقرأ أدب حركة التنوير وتعلَّم بعض اللغات الأوربية ودرس الفلسفة. فتأثر بالفلسفة الوضعية في روسيا من خلال أعمال المفكر الروسي بيساريف الذي عرَّفه على أعـمال جـون ســتيورات ميل. وقد تأثر كذلك بفلسفة لوك، ولكن هربرت سبنسر (المفكر الاختزالى التبسيطى) وفلسفته العضوية الداروينية كان لهما أبعد الأثر في تفكيره، وكان هو نفسـه يَعُد سبنسر (المفكر الاختزالى التبسيطى) أقرب المفكرين إلى قلبه. كما تأثر بفلسفة نيتشه وهردر تأثراً عميقاً، شأنه في هذا شأن كثير من المفكرين والمثقفين اليهود في عصره. ويتجلى عمق تأثر آحاد هعام بنيتشه في زعمه أن النيتشوية واليهودية صنوان.
ذهب آحاد هعام إلى أن الذي خرج من الجيتو ليس اليهود وحسب وإنما اليهودية نفسها. لقد خرجت إلى عالم حديث يمثل قوة جذب هائلة بهرت اليهود، الأمر الذي يشكل خطراً حقيقياً على الاستمرارية اليهودية وعلى الهوية اليهودية، كما يؤدي إلى فقدان اليهود إحساسهم بالوحدة والترابط وإلى ضعف تمسُّكهم بقيمهم وتقاليدهم.
كما خرجت اليهودية، علاوة على ذلك، إلى عالم مُشبَّع بالروح القومية العضوية حيث يتعيَّن على الغريب الذي يريد أن يندمج في مثل هذه الحضارة أن يطمس شخصيته وينغمس في التيار الغالب. ولذا، فإن الاندماج حل أتى من الخارج يهدف إلى خَلْق حياة جديدة تماماً لا علاقة لها بالهوية اليهودية، وبالتالي فإن الوحدة اليهودية ستتفتت وتنقسم اليهودية إلى أكثر من نوع واحد، يختلف كل نوع منها باختلاف البلد الذي ينتمي إليه اليهودي. وفي الواقع، فإن القومية العضوية ترفض الآخر حتى لو أراد الاندماج والذوبان فيها، ولذا فإن حل الذوبان لم يكن مطروحاً أصلاً في الوسط السلافي أو الجرماني الذي كان يتحرك فيه اليهود (أي أن فكرة الشعب العضوي تُصنِّف الآخر على أنه عضو في الشعب العضوي المنبوذ، والآخر هنا هو اليهود في المحيط الجرماني والسلافي أي في كل أوربا).
وقد خرج اليهود واليهودية من الجيتو في لحظة كان الدين اليهودي فيها قد تحوَّل إلى عبء حقيقي، فأهل الكتاب قد أصبحوا عبيداً للكتاب حتى أصبح عمل هذا الكتاب هو أن يُضعف كل قوى الإبداع الذاتي والعاطفي لدى اليهود ويحطمها. وتحوَّل القانون إلى قانون مكتوب جامد، وتَوقَّف تَطوُّر اليهود، واختفى العالم الداخلي تماماً، وأصيب اليهود بالشلل الحضاري. ولذا، كان السؤال هو: هل يمكن تطبيع اليهود وتحرير الروح اليهودية من أغلالها لتعود إلى الاندماج في مجرى الحياة الإنسانية دون أن تضحي بالهوية اليهودية وبالطابع الخاص لها؟.
حسب تصوُّر آحاد هعام، تأخذ المسألة اليهودية شكلين: أحدهما في الشرق، وثانيهما في الغرب. وقد نجحت المسألة اليهـودية في الغـرب في إعـتاق اليهــود ثم في إفقادهم هويتهم اليهودية، كما نجحت في تعريضهم لمسألة معاداة اليهود الأمر الذي أعاد اليهودي لعالمه اليهودي لا حباً فيه وإنما هرباً من معاداة اليهود. ولكنه عند عـودته وجـد العـــالم اليهودي ضيقاً لا يُشبع حاجاته الثقافية، بل إن العالم اليهودي لم يَعُد جزءاً من ثقافته (فهو يهودي غير يهودي). ولذا، فهو يصبو إلى إنشاء دولة يهودية يستطيع أن يعيش فيها حياة تشبه حياة الأغيار التي يحبها ويحقق فيها لنفسه كل ما يريد من أشياء يراها الآن أمامه ولا يستطيع الوصول إليها.
وهو إن لم يستوطنها بنفسه وبقى حيثما يكون، فإن مجرد وجودها على الأقل سوف يرفع مكانته أينما كان، فلن يُنظَر إليه نظرة احتقار باعتباره عـبداً يعتـمد على استـضافة أهـل البلاد له. إن الدولة اليهودية، بل مجرد التفكير فيها، هو شيء يشفيه من مرض نفسي هو الشعور بالضعة، فمحور المشكلة في الغرب هو الفرد اليهودي المندمج الذي تُسبِّب له معاداة اليهود شيئاً من الإحباط والإحساس بالضعة. أما يهود الشرق فهم على عكس ذلك، فالمشكلة بالنسبة إليهم ذات شقين: شق مادي وشق ثقافي. لكن دولة هرتزل لن تَحُل أياً من المشكلتين، فهي لا تكترث أصلاً بالجانب الثقافي. أما فيما يتعلق بالجانب المادي، فإن آحاد هعام كان يرى استحالة إخلاء أوربا من اليهود الفائضين، فالدولة اليهودية لن تُوطِّن سوى قسم من اليهود في فلسطين، وبالتالي فإن حل المشكلة حلاًّ كلياً أمر غير ممكن. وسيظل الاعتماد على الحلول الأخرى المطروحة ضرورياً (مثلاً: زيادة عدد المزارعين والعاملين بالمهن اليدوية من اليهود). وفي نهاية الأمر، فإن حل الشق المادي سيعتمد في الأساس على الحالة الاقتصادية وعلى المستوى الثقافي للأمم المختلفة التي تُوجَد فيها أقليات يهودية.
وإذا كانت الحلـول المطـروحة لا تُجـــدي ومحكوماً عليها بالفشل، فما الحل إذن؟ يجد آحاد هعام أن الدواء يوجد في الداء نفسه، أي القومية العضوية بعد تهويدها. ويرى آحاد هعام أن الدين اليهودي رغم جموده الذي سقط فيه كان مهيئاً أكثر من أي دين آخر لعملية التحديث، فهو دين عقلاني جماعي يؤكد أهمية العقل والجماعـة (وليـس كالدين المسـيحي الذي يؤكــد أهمـية الإيمان والفرد). كما أن عقيدة التوحيد في نظره هي في جوهرها اكتشاف مبكر لوحدة الطبيعة ولفكرة القانون العلمي والمعرفة العلمية التي تتجاوز الإحساس المباشر. (وما يتحدث عنه آحاد هعام هو في واقع الأمر الواحدية الكونية)، فهو يشير إلى أن الفريسيين الذين صاغوا اليهودية الحاخامية رفضوا كلاًّ من الأسينيين (دعاة الروح) والصدوقيين (دعاة المادة) وزاوجوا بينهما (أي وحدوا الروح والمادة وألغوا الثنائية التي تسم الأنساق التوحيدية وأحلوا محلها الواحدية الحلولية الكونية الكامنة في كلٍّ من العبادات الوثنية القديمة والعلمانية الحديثة)، وهذا هو إنجاز يفنه الأكبر وهو أيضاً ما حفظ اليهودية على مر العصور.
لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال العودة إلى الدين، فآحاد هعام كان ملحداً، وقد سماه آرثر هرتزبرج «الحاخام اللا أدري» (وهذه مفارقة لا يمكن أن يُوجَد لها مثيل في المسيحية أو في الإسلام، ولكن التركيب الجيولوجي لليهودية يسمح بها). وحينما ذهب آحاد هعام إلى فلسطين ورأى أحجار حائط المبكى، لم تتحرك أية مشاعر دينية داخله، بل وجدها رمزاً للخراب الذي حاق بالشعب اليهودي. ولم يكن الدين بالنسبة إليه سوى شكل من أشكال التعبير عن الروح القومية اليهودية الأزلية المتجسدة في التاريخ، وهو وعاء كامن في الذات وليس مقياساً مطلقاً خارجاً عنها، فالدين اليهودي مجموعة من الأفكار اليهودية تضرب بجذورها في الطبيعة (اليهودية) أو التاريخ (اليهودي).
ولذا، فإن العودة تكون لهذا المطلق ولهذا المطلق وحده، أي للذات الإثنية اليهودية مصدر الدين اليهودي والتي ستحل محله، والتي سيخلع القداسة عليها تماماً كما فعل مفكرو ودعاة القومية العضوية في ألمانيا وشرق أوربا. وهو، في هذا، كان متأثراً بهيجل وهردر والمفكرين السلاف والألمان الذين كانوا يرون الإثنية مطلقاً، وقيمة في حد ذاتها. وكما هو واضح، فإن آحاد هعام يقف في هذا على الطرف النقيض من التراث الديني اليهودي. وعلى سبيل المثال، فإن سعيد بن يوسف الفيومي ذكر أن اليهود شعب من أجل التوراة أو بسببها، وبذلك جعل الشعب أداة، أما آحاد هعام فيرى أن كل شيء أداة لتأكيد هوية الشعب حتى الدين نفسه.
ويذهب آحاد هعام إلى أن ثمة اتجاهاً عاماً نحو القومية العضوية بدأ يسود بين اليهود في شرق أوربا. فاللغة العبرية لم تَعُد اللسان المقدَّس لليهود وإنما أصبحت لغة الأدب العبري العلماني وبدأت تحل محل الدين كإطار للوحدة. وقد ساهم هو نفسه في هذا التيار وأضفى صبغة علمانية على مفاهيم دينية، مثل الشعب المختار، لتصبح مصطلحاً نيتشوياً يُسمَّى «السوبر أمة» أو «الأمة المتفوقة»، التي تُعلي شأن القوة والإرادة.
وانطلاقاً من هذه المفاهيم العضوية، طرح آحاد هعام نظريته الخاصة بما يُسمَّى «الصهيونية الثقافية» التي تهدف إلى بَعْث أو تحـديث الثقافة اليهودية التقليدية حتى يمكنها التعايش مع العصـر الحديث. ويمكن إنجاز ذلك من خلال إطار القومية العضوية. ولذلك، اقترح آحاد هعام إنشاء مركز ثقافي في فلسطين يسبق تأسيس الدولة اليهودية يكون بمنزلة مركز عضوي للفولك (أو الشعب العضوي) اليهودي يمكن أن تؤكد الهوية اليهودية نفسها من خلاله على أسس عصرية. ففي فلسطين يستطيع اليهود أن يستوطنوا وأن يعملوا في شتى فروع الحياة من زراعة وأعمال يدوية إلى علوم طبيعية. ومثل هذا المركز العضوي سيصبح مع مرور الزمن مركزاً للأمة تستطيع روحها أن تظهر وتتطور من خلاله إلى أعلى درجات الكمال التي بوسعها الوصول إليها بشكل مستقل.
ومن هذا المركز ستُشع الروح القومية اليهودية العضوية إلى سائر الجماعات اليهودية في العالم فتبعث فيهم حياة جديدة تُقوِّي وعيهم القومي وتُوطِّد أواصر الوحدة بينهم. ومن خلال هذا المركز ستنمو الشخصية اليهودية وستُزال منها الشوائب التي عَلقت بها نتيجة سنوات طويلة من الشتات وستُولِّد شخصية جديدة فخورة بهويتها اليهودية. لكن عملية البعث العضوي هذه لا يمكن أن تتم دفعة واحدة، وبعملية سياسية بسيطة، فهي عملية حضارية طويلة بطيئة بطء النمو العضوي. ولا يعترض آحاد هعام على تأسيس دولة يهودية في فلسطين تضم أغلبية يهودية، ولكنه يرى أن الدولة ستكون تتويجاً لعملية النمو العضوية البطيئة والثمرة النهائية وليس بذرة البدء. بل إن المركز الثقافي سيؤدي إلى قيام رجال في أرض إسرائيل نفسها يستطيعون، متى حان الوقت، أن يؤسسوا دولة هناك، لا تكون دولة يهود وإنما دولة يهودية بالمعنى الحلولي للكلمة؛ دولة عبرية علمانية. والدولة في هذا الإطار ليسـت نهاية في ذاتها، وإنما وسيلة للتعبير عن الذات القومية، وهي نتاج فعل حضاري بطيء وليس انقلاباً سياسياً مفاجئاً.
وقد كان موقف آحاد هعام من الجماعات اليهودية في العالم ينبع من موقفه العضوي نفسه، فقد رفض الحل الدبنوفي ورفض فكرة البعث اليهودي في أنحاء العالم المختلفة أينما وُجدت جماعات يهودية (مع تغيُّر مركز اليهودية من بابل إلى الأندلس إلى نيويورك)، فمثل هذا الرأي تعددي تنوعي. وفي الوقت نفسه، لم يأخذ آحاد هعام بالموقف الصهيوني المتطرف المبني على تصفية الجماعات، فقد رأى أن مركزه الروحي، ودولته اليهودية داخل الإطار العضوي، ستعمق الوعي الإثني عند أعضاء الجماعات اليهودية وتزيد الفواصل بينهم وبين جيرانهم الأغيار.
ويثير البرنامج الثقافي عند آحاد هعام مشكلتين أساسيتين:
1 ـ فهو لم يتحـدث قـط عن آليات إنشـاء المركز الروحي (الدولة اليهودية)، كما لم يطرح برنامجاً سياسياً، بل ترك المسألة غامضة. ولعله ترك هذه الأمور لدعاة الصهيونية العملية والصهيونية الاستيطانية الذين كانوا سيتكفلون بالإجراءات كافة، وضمنها الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها. وعلى كلٍّ كان نيتشه (وكذلك داروين) رابضاً وراء كل سطور كتاباته.
2 ـ وهناك مشكلة الثقافة التي يطرحها: فقد رفض كل ثقافات اليهود الموجودة بالفعل، سواء الثقافة اليديشية في شرق أوربا أو التراث السفاردي الذي كان لا يجهله. ولكن هذا أمر لم يسبب له أرقاً، فقد كان يطرح ما سماه «الثقافة اليهودية» الخالصة بديلاً لكل هذه الثقافات المتعينة.
وقد نزل آحاد هعام إلى ميدان النشاط الصهيوني، فانضم إلى جماعة أحباء صهيون وأصبح مفكرها الأساسي، لكنه ما لبث أن انتقد سياسة هذه الجمعية الداعية إلى الاستيطان التسللي في فلسطين وذلك في مقال بعنوان "ليس هذا هو الطريق". وقد عزَّز مقاله الأول بدراستين نقديتين كتبهما بعد زيارتيه لفلسطين عامي 1891 و1893. ومن أهم مقالاته الأخرى، "الدولة اليهودية والمسألة اليهودية" (1897) و"الجسد والروح" (1904).
برتولد فايفــــل (1875-1937) Bertold Feiwel
زعيم صهيوني وُلد في مورافيا ودرس القانون في فيينا. تعرَّف إلى هرتزل (وكان أحد الذين عاونوه على تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول (1897). وأصبح فايفل رئيس تحرير مجلة دي فيلت عام 1901، وقد أكد في مقالاته أن الصهيونية يجب ألا تَحصُر نفسها في النشاط الدبلوماسي، وإنما يجب أن تعمل على تجديد الحياة الفكرية والروحية للدياسبورا (الجماعات اليهودية في العالم). وأسَّس في العام نفسه مع آخرين، من بينهم مارتن بوبر وليو موتزكين وحاييم وايزمان، العصبة الديموقراطية، وذلك إبان المؤتمر الخامس (1901).
وأسَّس فايفل، مع بوبر وتريتش وآخرين، دار نشر يهودية أصدرت كتاباً عن مذبحة اليهود في كيشينيف عام 1903. وقد قام بترجمة عدة كتب لمؤلفين يهود من وسط أوربا، من بينها مختارات من الشعر اليديشي نشرت بعنوان التقويم اليديشي، ويُعَدُّ أول من ترجم الشـعر اليــديشي إلى الألمانية. ثم دخل فايفل عالم المال والبنوك. وقد أمضى فترة الحرب الأولى في سويسرا، ثم انتقل إلى إنجلترا حيث أصبح من مستشاري وايزمان. وقد ترأس مجلس مديري الصندوق القومي (كيرين هايسود) من 1919 حتى 1921. ولكنه استقال من منصبه بسبب المرض ثم ارتحل عام 1933 إلى فلسطين حيث تُوفي.
ليون سـيمون (1881-1965) Leon Simon
رجل دولة بريطاني، وقائد صهيوني توطيني. كان من تلاميذ آحاد هعام ومن دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية، وهو الذي كتب سيرة حياة آحاد هعام وترجم أعماله إلى الإنجليزية. وكان مسئولاً عن الدعاية الصهيونية في بريطانيا. زار فلسطين عام 1918، واشترك في إصـدار عدة صـحف صهيونية في بريطانيا مع هاري ساخر، واهتم بالجامعة العبرية. استقر في القدس منذ عام 1946. وبعد عام 1953، غادر إسرائيل، ثم استقر في لندن حيث تُوفي عام 1965.
لويــس نامييـر (1888-1960) Lewis Namier
صهيوني ومؤرخ بريطاني من دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية. وُلد في جاليشيا الشرقية واستقر في إنجلترا منذ عام 1907. التحق بالجيش البريطاني مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعمل في قسم الدعـاية بين عامي 1915 و1917، وفي الإعـلان بين عامي 1917 و1918، وفي الاستخبارات بين عامي 1918 و1920. وعُيِّن عام 1920 محاضراً في التاريخ الحديث في أكسفورد. وقد اهتم ناميير بالدراسات التاريخية حتى عام 1929. وفي هذا العام، أصبح الأمين السياسي للوكالة اليهودية وهو الموقع الذي احتفظ به حتى عــام 1931. وقد تَسـنَّى له أن يعمـل مع وايزمـان. عــاد إلى التــدريس في مانشــستر بين عامي 1931 و1938 ثم أخذ إجازة بدون مرتب حتى 1945 ليعمل مستشاراً سياسياً للمكتب التنفيذي للوكالة اليهودية في لندن. زار فلسطين وإسرائيل عدة مرات، وقد طرح نفسه غير مرة بوصفه يهودياً قومياً. لقد كان الشعب اليهودي بالنسبة إليه أمة، كما كان يعتبر الدين مسألة شخصية لا علاقة لها بالولاء للشعب (اليهودي) ولم يكن ناميير متديناً على الإطلاق فقد كان صهيونياً علمانياً، وقد نال لقب فارس عام 1952.