الجزء الثالث: العنصرية والإرهاب الصهيونيان
الباب الأول: العنصرية الصهيونية
الأسـاس الفكري للعنصرية الصهيونية ضد اليهود والعرب
Intellectual Origins of Zionist Racism Against Jews and Arabs
تنطلق الصهيونية من توليفة من الأفكار العلمانية الشاملة التى شاعت في الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. ولعل أهم هذه الأفكار هو الفكر العنصري أو العرْقي الذي يرى البشر جميعاً مادة ولذا فالاختلافات بينهم مادية، كامنة في خصائصهم العرْقية والتشريحية، وأن البشر مادة بشرية يمكن أن تُوظَّف فتكون نافعة ويمكن أن لا يكون لها نفع. ومن هنا تَبرُز أهمية الاختلافات العرْقية (لون الجلد ـ حجم الرأس... إلخ) كمعيار للتفرقة بين البشر. والخصائص الحضارية ورقي شعب ما وتَخلُّفه هو نتيجة صفاته العرْقية والتشريحية، ومن ثم فتقدُّم أو تَخلُّف شعب مسألة عرْقية متوارثة.
وتنبع الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة من هذا التشكيل العلماني الإمبريالي العرْقي فهي تفترض أن ثمة شعباً عضوياً يحوي داخله خصائصه العرْقية والإثنية. وهذا الشعب غير نافع يمكن نقله إلى أرض خارج أوربا لتوظيفه لصالحها ليتحول إلى عنصر نافع. وقد استخدمت الصهيونية النظريات العرْقية الغربية لتبرير نقل الشعب العضوي اليهودي المنبوذ من أوربا ولتبرير إبادة السكان الأصليين ليحل أعضاء هذا الشعب محلهم.
وقد عبَّرت النظرية العرْقية الغربية عن نفسها على مستويين:
أ) داخل أوربا:
طبَّق منظروا العرْقية النظريات نفسها على شعوب أوربا وأقلياتها، فاتجه الألمان إلى وضع الآريين، وخصوصاً التيوتون، على رأس الهرم، كما نجد الإنجليز يضعون العنصر الأنجلو ساكسوني (الإنجليزي الأمريكي) عند هذه القمة. وقد كان هناك أيضاً من السلاف من فعل ذلك. وعلى أية حال، فإن الشعوب البيضاء (الشقراء) في الشمال تجيء على القمة، أما الشعوب الداكنة في الجنوب (الإيطاليون واليونانيون) فكانت توضع في منتصف الهرم، وفي قاعدة الهرم كان يوضع الغجر واليهود. وقد ظهرت أدبيات عرْقية معادية لليهود تحاول إثبات عدم انتمائهم لأوربا وانفصالهم عنها حضارياً أو عرْقياً كما تحاول إثبات تدنيهم.
ب) خارج أوربا:
الشعوب الملونة خارج أوربا هي شعوب متخلفة حضارياً وعرْقياً، على حين أن الرجل الأبيض متقدم متحضر، الأمر الذي يضع على الإنسان الأبيض عبئاً ثقيلاً ويفرض عليه أن يغزو بقية العالم ويهزم شـعوبها ويبيد أعـداداً منهم حتى يتم إدخال الحضارة عليهـم. وقد تبنَّت الصهيونية كلا جانبي النظرية العرْقية الغربية، فاستخدمت النظرية العرْقية في مجالها الأوربي لتفسير ظاهرة نبذ الشعب العضوي اليهودي وضرورة نقله، واستخدمت النظرية العرْقية في مجالها العالمي لتبرير عملية طرد العرب من بلادهم.
وقد ترجمت العنصرية الصهيونية نفسها إلى شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ولفهم هذا الشعار قد يكون من الأفضل قلبه. فنقول: "شعب [يهودي منبوذ طفيلي لا نفع له في أوربا لا ينتمي لها لا وطن له فهو] بلا أرض، [ولذا يجب نقله إلى] أرض [لا تاريخ فيها ولا تراث ولا بشر فهي] بلا شعب [وإن وُجد الشعب يمكن إبادته أو طرده من وطنه]". فكأن الصهيونية تعني عمليتي نَقْل أو ترانسفير: لليهود من أوطانهم أو المنفى إلى فلسطين، وللفلسطينيين العرب من وطنهم فلسطين إلى المنفى. ولذا، فالعنصرية الصهيونية ليست موجَّهة ضد العرب وحسب وإنما ضد أعضاء الجماعات اليهودية أيضاً.
العنصرية الصهيونية ضد اليهود Zionist Racism Against Jews
انظر: «العداء الصهيوني لليهود» ـ «الرفض الصهيوني لليهودية» ـ «غزو الدياسبورا» ـ «الخلاص الجبري» ـ «التهجير (الترانسفير) الصهيوني لأعضاء الجماعات اليهودية» ـ «إرهاب (ترانسفير) يهود العراق».
الإدراك الصهيوني للعرب Zionist Conception of the Arabs
تهدف نظرية الحقوق الصهيونية إلى تبرير استيلاء اليهود على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب التوصل إلى رؤية للذات الغازية (اليهود)، ورؤية تكميلية للآخر موضوع الغزو (العرب). وقد تناولنا رؤية الصهاينة لليهود باعتبارهم شعباً أبيض أو شعباً مقدَّساً يهودياً خالصاً أو شعباً اشتراكياً تقدمياً (انظر: «الاعتذاريات الصهيونية العنصرية ونظرية الحقوق اليهودية المطلقة»). وسنتناول في هذا المدخل رؤية الصهاينة للعرب. يُلاحَظ أن طريقة صياغة الرؤية الصهيونية للعرب تتسم بكثير من سمات الخطاب الصهيوني، ابتداءً بالإبهام المتعمد وانتهاءً بالتزام الصمت، كما يُلاحَظ تصاعد معدلات التجريد إلى أن نصل إلى النقطة التي يتحقق فيها النموذج الصهيوني الإدراكي.
وهي التغييب الكامل للعرب:
1 ـ العربي كعضو في الشعوب الشرقية الملونة (تخفيض العربي):
وهذا التصور هو تصور تكميلي لرؤية اليهود كأعضاء في الحضارة الغربية البيضاء، فالجنس الأبيض هو موضع القداسة أما الأجنـاس الأخرى فتقع خارجها، والعربي هو من هذه الأجنـاس المتخلفـة. وفي إطار هذا التصوُّر، يُقدِّم الصهاينة وصفاً للشخصية العربية على أنها شخصية متخلفة، ومثل هذا الوصف أمر شائع في الاعتذاريات العنصرية وفي أدبيات الاستعمار الأوربي، فالوصف هنا ليس وصفاً للعربي بقدر ما هو وصف لأي آسيوي أو أفريقي (أو حتى أي أمريكي أسود). والاستعمار الصهيوني، في أحد تصوُّراته لنفسه، كان يرى أنه جزء (تابع) لا يتجزأ من الحركة الإمبريالية الغربية، ومن الهجمة العسكرية الحضارية على الشرق العربي لإدخال الحضارة والسكك الحديدية والبلاستيك والقنابل.
وقد بلوَّر وايزمان قضية الصراع العربي الصهيوني بالأسلوب نفسه الذي بررت به الحضارة الغربية مشروعها الاستعماري في الأمريكتين وآسـيا وأفريقيا. و"إننا ما زلنا نسـمع حتى الآن أناساً يقولون: حسناً، ربما كان ما أنجزتموه عظيماً تماماً، ولكن العرب في فلسطين قد ألفوا حياة الدعة والسكينة، وكانوا يركبون الجمال، وكان منظرهم رائعاً، وكانت صورتهم منسجمة مع منظر الطبيعة. فلماذا لا تظـل هـذه الصورة كما لو كانت متحـفاً أو حديقة عامـة؟ لقد وفدتم إلى البلاد من الغرب حاملين معرفتكم وإصراركم اليهودي، ولذا فصورتكم لا تنسجم مع مناظر الطبيعة. إنكم تجففون المستنقعات، وتقضون على الملاريا بطريقة تؤدي إلى انتقال البعوض إلى القرى العربية. إنكم ما زلتم تتحدثون العبرية بلكنة سقيمة ولم تتعلَّموا حتى الآن كيف تستخدمون المحراث بطريقة سليمة، وتستخدمون بدلاً من الجمل سيارة. ومن جهة أخرى فإن هذا يُذكِّر المرء بالصراع الأبدي بين الجمود من جهة والتقدم والكفاءة والصحة والتعليم من جهة أخرى. إنها الصحراء ضد المدنية".
ولم يكن من الضروري في هذا الإطار الاستعماري العرْقي القيام بأية دراسة دقيقة للضحية، وإنما كان يُكتفَى بالحديث عن مدى تَقدُّم الحضارة الغربية، ومدى تَقدُّم الإنسان الأبيض، كما كان يُكتفَى بالإشارة إلى تخلُّف الإنسان غير الأبيض (سواء كان أسود أو أصفر أو أسمر). فالأمور كانت واضحة للعيان، ومن هنا كانت هذه الأوصاف أوصافاً عمومية لا تُركِّز على السمات المتعيِّنة للضحية. وعلى أية حال، فإن أي تفكير عنصري لابد أن يتسم بهذا التعميم والتجريد والانتقاء، وإلا وجد نفسه أمام وجود متعين محسوس له قداسته وله قيمته الإنسانية والحضارية المحددة، وله كيانه الخاص، الأمر الذي يجعل من العسير تَقبُّل الاعتذاريات التي تُسوِّغ استغلاله أو إبادته.
وصورة العربي المتخلف صورة مهمة في الأدبيات الصهيونية. فقد لاحظ المفكر الصهيوني آحاد هعام سنة 1891، أن المستوطنين الصهاينة يعاملون العرب باحتقار وقسوة، وينظرون إليهم باعتبارهم متوحشين صحراويين، وعلى أنهم شعب يشبه الحمير، لا يرون ولا يفهمون شيئاً مما يدور حولهم. كما لاحظ أحد الرواد الصهاينة في أوائل القرن أن الصهاينة يعاملون العرب كما يعامل الأوربيون السود. وأما أهارون أرونسون (1876 ـ 1919) أحد زعماء المستوطنين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد حذر الرواد الصهاينة من أن يقطنوا بجوار الفلاح العربي القذر الجاهل الذي تتحكم فيه الخرافات، وأكد لهم أن كل العرب مرتشون.
ويتصف العربي، حسب تصور وايزمان، بصفات قريبة من التي ذكرناها من قبل، فهو عنصر منحط يحاول الجري قبل أن يستطيع السير، وهو شعب غير مستعد للديموقراطية ومن السهل أن يقع تحت تأثير البلاشفة والكاثوليك [كذا] كما ورد في رسالة وايزمان إلى أينشتاين بتاريخ 30 نوفمبر 1929. أما الفيلسوف الأمريكي هوراس كالن، فإنه لم يرى العربي إلا في صورة شيخ قبيلة من صحراء النقب، يلبس هو وأولاده ساعات مستوردة لا تبيِّن الوقت، ويحملون أقلاماً لا يستعملونها في جاكتات غربية يرتدونها فوق جلابيبهم، ووظيفتهم الأساسية هي تهريب الحشيش بطبيعة الحال. وفي أحد استطلاعات الرأي (نُشرت نتائجه عام 1971)، جاء أن 76% من الإسرائيليين يؤمنون بأن العرب لن يصلوا إلى مستوى التقدم الذي وصل إليه اليهود. ونعتقد أنه لا يفيد كثيراً أن نأتي بمزيد من الأدلة والقرائن والبراهين من أعمال بن جوريون أو جابوتنسكي أو غيرهما من الكُتَّاب الصهاينة، إذ أن مثل هذا سيكون مجرد توثيق كميّ وتمدُّد أفقي لا يغيِّر ملامح الصورة كثيراً.
وفي هذا الإطار، نلاحظ أن العربي الجديد، وهو المقابل البنيوي لليهودي الأبيض، لا يأتي ذكره إلا في النادر. ومن هذه اللحظات النادرة ما دوَّنه هرتزل في يومياته حينما كان في القاهرة يتفاوض في شأن أحد مشروعاته الاستيطانية، فقد استمع الزعيم الصهيوني إلى محـاضرة عـن الري، ويبدو أنه رأى بعـض المصريين واستمع إلى أسئلتهم، فكتب يقول: "[المصريون] هم سادة المستقبل هنا، ومن العجيب أن الإنجليز لا يرون ذلك، فهم يعتقدون أنهم سيتعاملون مع الفلاحين إلى الأبد". ثم أخذ هرتزل بعد ذلك يصف كيف أن الاستعمار نفسه يخلق الجرثومة التي تقضي عليه، وذلك لأنه يعلِّم الفلاحين الثورة. ثم أبدى هرتزل دهشته لفشل البريطانيين في إدراك هذه الحقيقة البسيطة. ويحق للمرء أن يتعجب لفشله هو نفسه في إدراكها، إذ أنه ذهب ليتفاوض في اليوم التالي بشأن منطقة العريش لتكون موطناً للاستيطان الصهيوني. ويبدو أن ما حدث هو لحظة إدراك تاريخية نادرة من جانب الزعيم الصهيوني فَهم فيها الاستعمار البريطاني باعتباره ظاهرة تاريخية إنسانية لا تتسم بالثبات. ولكنه غاص، مرة أخرى، في الأسطورة الصهيونية الحلولية العضوية، فاستثنى الاستعمار الصهيوني المقدَّس والمطلق من هذا القانون التاريخي الإنساني، ولم تُترجَم لحظة الإدراك نفسها إلى حكمة إنسانية أو سلوك عقلاني.
وقد رسم هوراس كالن صورة الفلسطيني في المستقبل، كما يحب أن يراها، فقال: "لو حصل اللاجئون على جوازات سفر وغيرها من الوثائق التي تُمكِّنهم من التحرك بحرية، ولو حصلوا على مبلغ كاف من المال ليشـقوا به طريقهم إلى مكـان من المُتوقَّع أن يجدو فيه سـبل العيـش المعقولة. وقيل لهم إن هذا هو كل ما سيحصلون عليه ولا شيء آخر أبداً، لو حدث هذا لبدأوا عندئذ في الاعتماد على النفس"، أي أن تحديث الشخصية العربية سينتج عنه أن يفهم العرب الحقوق اليهودية في إطارها الحلولي العضوي باعتبارها حقوقاً مقدَّسة أزلية لا تقبل النقاش ولا تخضع للتغير.
كما أن التصوُّر الصهيوني يقوم على أن تحديث الشخصية العربية قد يؤدي بالفعل إلى تلاشي الشخصية العربية نفسها، أو أنها ستكتشف أنه لا توجد هوية عربية، وإنما هوية سنية أو شيعية أو مصرية (فرعونية). وهكذا تتبخر القومية العربية وتظهر الدويلات الإثنية الدينية على النمط الإسرائيلي. ولكن الحديث عن الإنسان العربي في المستقبل هو في نهاية الأمر حديث نادر في الكتابات الصهيونية.
2 ـ العربي ممثلاً للأغيار (تجريد العربي):
وينطلق هذا التصوُّر من التصوُّر الصهيوني لليهودي باعتباره يهودياً خالصاً (وأنه وحده موضع الحلول ويوجد داخل الدائرة المقدَّسـة). ويصبح العـربي ممثلاً لكل الأغيار (الذين يقعـون خـارج نطـاق دائرة الحلول والقداسة)، أي أنه تصوُّر ينبع من الثنائية الحلولية الصلبة. وقد وُصف الأغيار في الأدبيات الصهيونية بأنهم: ذئاب، قتلة، متربصون باليهود، معادون أزليون لليهود. و«الأغيار» مقولة مجردة، بل إنها أكثر تجريداً من مقولة «اليهودي» في الأدبيات النازية، أو مقولة «الزنجي» في الأدبيات العنصرية البيضاء. وهي أكثر تجريداً لأنها لا تضم أقلية واحدة، أو عدة أقليات، أو حتى عنصراً بشرياً بأكمله، وإنما تضم كل الآخرين في كل زمان ومكان. وقد وضع الصهاينة الإنسان العربي على وجه العموم، والفلسطيني على وجه الخصوص، داخل مقولة «الأغيار» حتى يصبح بغير ملامح أو قسمات.
وتظهر مقولة «الأغيار» هذه في وعد بلفور (أهم الوثائق الصهيونية) حيث أشار إلى العرب (الذين كانوا يشكلون أكثر من حوالي 93% من مجموع السكان) على أنهم الجماعات غير اليهودية، دون تحديد هذه الجماعات أو ذكر اسمها، حتى تظل هذه الجماعات عند مستوى عال من التجريد. إن هذه الجماعات غير اليهودية هي أية جماعة إنسانية تشغل الأرض التي سيستوطن فيها الشعب اليهودي. وبينما كان هرتزل يتفاوض بشأن كريت موقعاً للاستيطان الصهيوني كتب عن الجماعات غير اليهودية التي تقطنها بطريقة تنم عن عدم الاكتراث والتجريد، فقد وصفهم بأنهم "عرب، يونانيون، هذا الحشد المُختلَط من الشرق". أما تشرنحوفسكي، في قصيدته «وقت الحراسة» التي كتبها في تل أبيب عام 1936، فلم يُكلِّف خاطره الإشارة إلى العرب، بل يتحدث عن الأغيار فحسب، بوصفهم رجال الصحراء المتوحشين، وهم بهذا، يصبحون شيئاً عاماً مجرداً خالياً من القداسة، وجزء من الطبيعة يَسهُل التعامل معه واصطياده وإبادته.
وفي إسرائيل، لا يتحدثون عن «اليهود والعرب»، وإنما يتحدثون عن «اليهود وغير اليهود». وكما يقول إسرائيل شاهاك، فإن كل شيء في إسرائيل ينقسم إلى يهودي وغير يهودي. وينطبق هذا التقسيم على كل مظاهر الحياة فيها، حتى على ما يزرع من خضراوات من طماطم وبطاطس وغيرها. وفي هذا الصدد، قد يكون من المفيد أن نتذكر أن الحاخام أبراهام أفيدان حين أوصى الجنود الإسرائيليين بقتل المدنييين الأغيار أو غير اليهود كان يعني في الواقع العرب فحسب، ولا شك في أن جنود جيـش الدفاع الإسـرائيلي يعرفون تماماً ما كان يرمي إليه الحاخـام.
هذا هو التصوُّر الصهيوني للعربي (الممثل للأغيار) في الماضي والحاضر، فماذا عن الإنسان العربي ممثل الأغيار في المستقبل؟ هنا نجد أن الزمان قد تجمَّد وأُلغي، كما هو شأن الكتابات الصهيونية دائماً، فالأغيار ذئاب في الماضي والحاضر والمستقبل. والإنسان العربي الخانع الخاضع للعنف الصهيوني، هو نفسه الإنسان العربي المقاتل الأزلي ضد اليهود: كلاهما جزء من مخطط ميلودرامي أزلي. وقد وصف رئيس جمهورية إسرائيل السابق إسحق بن تسفي المقاومة العربية في أوائل القرن الحالي بأنها مجرد مذبحة يرتكبها أعداء اليهودة في فلسطين، حرَّض عليها قنصل روسيا القيصري، أي أن معاداة اليهود هي هي لا تتغيَّر، فهي تأخذ شكل مذابح في روسيا أو مقاومة عربية في فلسطين! وفي المؤتمر الصهيوني السابع (1905)، طرح أحد الصهاينة تصوراً مماثلاً للتصور الذي طرحه هرتزل عن الإنسان العربي في المستقبل، وحذَّر من أن الفلاحين الفلسطينيين سيثورون ضد الاستعمار الصهيوني، كما طالب المستوطنين الصهاينة بأن يسلكوا سلوكاً مختلفاً حتى لا يشتد الصراع مع العرب.
وقد ردَّ أحد المستوطنين الصهاينة بأن الفلاحين العرب سيتحولون ضد اليهود مهما كان تصرف وسلوك اليهود حيالهم، فثورة الفلسطينيين ليست محاولة لرد العدوان والظلم الواقع عليهم، وإنما هي تعبير عن العداء الأبدي الذي يبديه الأغيار نحو اليهود "هذا الشعب الذي طُرد من بلاده". وهذا التفسير السهل الذي يشرح كل شيء لا يزال شائعاً في إسرائيل حتى بين المثقفين. ويُفسِّر الكاتب الإسرائيلي يهوشاوا المقاومة العربية بأنها شيء غير مفهوم، ودوافعها غير عقلانية إلى حدٍّ كبير، فثمة شيء ما في اليهود يؤدي إلى إثارة جنون الأغيار. والعرب، بوصفـهم أغياراً، لا يشذون عن هذه القاعدة. والواقع أن مقولة «الأغيار» (العرب) تُعفي الصهاينة من مسئولية التوجُّه المحدَّد للمسألة الفلسطينية وللإنسان العربي.
3 ـ تهميش العربي:
إن عملية التجريد السابقة تستهدف تهميش العربي حتى لا يشغل مركز الأحداث بالنسبة لفلسطين. والعربي الهامشي نمط أساسي في الإدراك الصهيوني للعرب. إن الصهاينة ينكرون وجود أية هوية سياسية للعرب عامة، وللفسطينيين على وجه الخصوص، أو أية مشاعر قومية من جانبهم. فالصهاينة في إدراكهم للثورات العربية ضدهم، ينكرون طبيعتها القومية والسياسية ويؤكدون لأنفسهم ولرفاقهم أن الدافع إليها ليس حب الأرض أو الوطن أو التمسك بالتراث، فالدافع إليها هو التعصب الديني. وقد كان الصهاينة يلومون المسيحيين العرب، أحياناً، باعتبارهم الأعداء الحقيقيين لمشروعهم الاستيطاني، ويصورون المسلمين في صورة الفريق الطيب الذي يمكن التفاهم معه. وكانوا أحياناً أخرى يفترضون العكس، فيؤكدون أن المسلمين هم العدو الحقيقي، وأن المسيحيين هم الفريق الذي يبدي استعداداً كبيراً للتعاون. وكانت الجماهير الفلسطينية بالنسبة إليهم مجرد غوغاء يتلاعب بها المهيجون الإقطاعيون والأفندية ولا تحركها الدوافع القومية. ويرى سمحا فلابان أن وايزمان كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن تمرُّد هذه الجماهير ليس تعبيراً صادقاً عن حركة قومية خلاقة وإنما كانت تمليه الاعتبارات الإقطاعية والقَبَلية الضيقة.
وإلى جانب هذا، كان الصهاينة يرون الفلسطيني أو العربي حيواناً أو مخلوقـاً اقتصـادياً محضاً تحركه الدوافع الاقتصادية المباشـرة. ولذا، فيمكن حل المشكلة العربية (حسب هذا التصور) في إطار اقتصادي لا يكون سياسياً بالضرورة. ولعل من الأمثلة الأولى على هذه الإستراتيجية الإدراكية رشيد بك، هذا العربي الذي تم تخليقه حسب المواصفات الصهيونية في رواية هرتزل الأرض الجديدة القديمة، فهو يؤكد أن الوجود الصهيوني قد عاد على العرب بالنفع الكبير: لقد زادت صادرات البرتقال عشر مرات، كما أن الهجرة اليهودية كانت خيراً وبركة، خصوصاً بالنسبة لملاك الأراضي لأنهم باعوا أرضهم بأرباح كبيرة. وظل لفيف من الصهاينة يؤمنون إيماناً راسخاً بإمكان التغلب على معارضة الفلسطينيين عن طريق توضيح المزايا الاقتصادية الجمة التي سيجلبها الاستيطان الصهيوني، وعن طريق حثهم على الرحيل إلى البلاد العربية بعد إعطائهم التعويض الاقتصادي المناسب عن وطنهم. وكانت إحدى القناعات الإدراكية عند وايزمان أن تطوُّر فلسطين سيؤدي إلى أن يفقد العرب الاهتمام بالمعارضة السياسية.
ويؤكد وولتر لاكير وغيره من المؤرخين أن السياسة الرسمية للصهيونية في العشرينيات (ويمكن أن نضيف: وبعدها) هي عدم الدخول في مناقشات سياسية مع العرب، بأية حال، وحصر أيَّ تفاوض في التعاون الاقتصادي وحده، وعدم التعرض لطبيعة النظام السياسي. ويُلاحَظ أن الإستراتيجية الإدراكية هنا تهدف إلى إسقاط الطبيعة القومية لردة الفعل العربية، فلو تم تصنيفها كحركة قومية فإن منطق التصنيف نفسه يؤدي إلى ضرورة الاعتراف بالعرب كجماعة قومية لها أرض قومية وتراث قومي ومجال قومي ومجموعة من الحقوق القومية تنسف الادعاءات الصهيونية القومية بشأن الأولوية القومية الأزلية لليهودي في أرض فلسطين.
ومع هذا، فقد كانت القومية العربية أحياناً تفرض نفسها على الإدراك الصهيوني فرضاً كدافع محرك للجماهير العربية. وهنا، كان الصهاينة يتبنون إستراتيجيتين أخريين هما في جوهرهما تعبير أكثر حذقاً وصقلاً عن محاولة تهميش العربي ونزع الصبغة السياسية عنه. أما الأولى، فهي الاعتراف الجزئي بالطبيعة القومية للثورات الفلسطينية مع تفسيرها تفسيراً يجردها من مضمونها الإنساني ويفصلها عن الحركات القومية المماثلة فتصبح بالتالي قومية ناقصة لا تستحق أن تحصل على أية حقوق. والقومية العربية، حسب هذا الإدراك، إن هي إلا قومية مصطنعة تابعة للإنجليز وللقوى الخارجية وعميلة لهم. كما أن الصهاينة كانوا أحياناً يرون القومية العربية مجرد رد فعل للاستيطان الصهيوني ليست لها وجودها الحقيقي، ومحاولة لسلب الصهيونية ليست لها دينامية ذاتية مستقلة. وكان الصهاينة العماليون يصفون القومية العربية بأنها قومية رجعية، أو كما قال حاييم أرلوسوروف فإنهم قومية تهيمن عليها قوى الرجعية الاجتماعية والطغيان السياسي ولم تبرز داخلها قيادات سياسية مثل صن يات صن أوغاندي.
وأما الإستراتيجية الإدراكية الثانية، فهي مواجهة القومية العربية كأمر واقع يفرض نفسه فيتم الاعتراف بها كقومية كاملة مع تقليص مجال فعاليتها بحيث لا تضم الفلسطينيين. ويقول أحد مؤرخي الحركة الصهيونية إن الإسهام الأساسي لوايزمان في النظرة الصهيونية إلى العرب تتلخص في تمييزه بين العرب والفلسطينيين، إذ كان يرى إمكانية التوصل إلى اتفاق مع القومية العربية، بل مساومتها، مقابل أن يتخلى العرب عن مطالبهم في فلسطين. وكان أيضاً، حسبما ورد في كتاب فلابان، صاحب النظرية القائلة بأن فلسطين جزء غير مهم من الوطن العربي الكبير. وكان أرلوسوروف موافقاً على التعاون مع العرب، ولكنه كان متشائماً بشأن التعاون مع الفلسطينيين. ويمكن أن نرى مفاوضات وايزمان/فيصل ومعظم اتصالات الصهاينة مع العرب في هذا الإطار. بل إن الصهاينة قدَّموا عام 1930 مشروعاً طرحه موشيه بينكوس نائب رئيس تحرير دافار ونال تأييد بن جوريون الحذر، وهو في جوهره تعبير عن هذه الإستراتيجية. كان المشروع يدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تصبح جزءً من اتحاد فيدرالي يضم الشرق العربي بأسره. وكان المفروض أن يشكل الفلسطينيون أقلية داخل الدولة المفتوحـة، ولكنهـا هي نفسها كانت تشكل أقلية داخل اتحاد الدول العربيـة.
ولعل هذه الإستراتيجيات الإدراكية هي أذكى الإستراتيجيات على الإطلاق وأكثرها تَفرُّد ودهاءً وتعبيراً عن خصوصية الصهيونية كحركة استيطانية إحلالية لا تهدف إلى غزو العالم واستبعاده (على طريقة النازية) وإنما إلى الاسـتيلاء على الأرض الفلسـطينية وحدها دون سـكانها. فعملية التهميش هنا تصبح مقصورة على الضحية المباشرة، أي الفلسطيني، دون حاجة إلى استجلاب عداء الآخرين، سواء في الشرق أو في الغرب. ولا تزال محاولة تهميش العرب نمطاً أساسياً في الإدراك الإسرائيلي للعربي.
4 ـ العربي الغائب:
إن ذكر العرب، ولو في مجال التشهير بهم، هو اعتراف ضمني بهم، ولكن الصهاينة يحاولون إخفاء العرب بإدخالهم في مفهوم مقولة «الأغيار» المجردة. هذا الاتجاه يصل إلى قمته فيما يمكن أن نسميه مقولة «العربي الغائب»، فبدلاً من الإخفاء الجزئي خلف مقولة مجردة، تصل محاولة الإخفاء إلى حد الإغفال الكامل، فالصهاينة أحياناً لا يذكرون العربي بخير أو شر، ويلزمون الصمت حيال الضحية، ويُظهرون عدم الاكتراث الكامل بها (وهذه إحدى سمات الخطاب الصهيوني). والواقع أن مقولة «العربي الغائب» كامنة في مقولة «اليهودي الخالص». وكلما تزايدت معدلات الحلولية العضوية وتركزت القداسة في اليهود، اتسعت الدائرة وزاد استبعاد الآخر تدريجياً إلى أن يختفي تماماً ويغيب حين يصبح اليهودي الخالص هو اليهودي المطلق ذي الحقوق المطلقة الخالدة التي لا تتأثر بوجود الآخرين أو غيابهم. وهكذا، فإن نظرية الحقوق المطلقة تعني غياب أية حقوق أخرى غياباً تاماً.
ويُفسِّر بعض المفكرين ظاهرة العربي الغائب بأنها محاولة للتهرب من حقيقة صلبة تتحطم عندها كل الآمال الصهيونية. فيقول عالم السياسة الإسرائيلي شلومو أفنيري: "إن الرواد الصهاينة الأولون لم يكن في مقدورهم مواجهة حقيقة أن ثمن الصهيونية هو نقل العرب، ولذا أخذت آليات الدفاع عن النفس شكل تَجاهُل تَعيُّن المشكلة العربية. فالتمسك بالرؤية الصهيونية لم يكن ممكناً دون اللجوء بشكل غير واع لخداع النفس. ويقول ليبوفيتس: إن الصهاينة الأوائل لم يريدوا (لأسباب نفسية واضحة) رؤية الحقيقة، ولم يدركوا أنهم كانوا يضللون أنفسهم ورفاقهم. ومهما كانت الدوافع، فإن من الواضح أن الصهاينة أرادوا أرض فلسطين دون فلسطينيين (أرضاً بلا شعب)، ولذا كان يجب أن يختفي العرب ويزولوا.
وإفراغ فلسطين من كل سكانها أو معظمهم (أي تغييبهم) هو أحد ثوابت الفكر الصهيوني، وهو عنصر مُتضمَّن بشكل صامت في الصيغة الصهيونية الأساسية. وهذا أمر منطقي ومفهوم، إذ لو تم الاستيلاء على الأرض وبقي سكانها عليها لأصبح تأسيس الدولة الوظيفية مستحيلاً، ولتم تأسيس دولة عادية تمثِّل مصالح سكانها بدرجات متفاوتة من العدل والظلم. فيهودية الدولة (مع افتراض تغييب السكان الأصليين) هو ضمان وظيفيتها وعمالتها. ومن هنا، كان اختفاء العرب حتمياً، ومن هنا كانت الصفة الأسـاسية للاسـتعمار والاستيطان الصهيوني وهي كونه استعماراً إحلالياً، فصهيونيته تكمن في إحلاليته، كما أن إحلاليته هي التعبير الحتمي عن صهيونيته (ويهوديته المزعومة).
ورغم أن رَصْد مقولة «العربي الغائب» وتوثيقها أمر بالغ الصعوبة لأن ما هو غائب لا يمكن رصده وتوثيقه بالطريقة التقليدية التي تعتمد على الاقتباسات والنصوص وتحليلها. ومع هذا، فإن هناك عدداً كبيراً من التصريحات والمفاهيم الصهيونية لا يمكن فهمها إلا في إطار مقولة «العربي الغائب». ويمكن أن يندرج تحت هذا كل ذلك الحديث المسـتفيض عن الأرض المقدَّسـة وإرتـس يسـرائيل وصهيون وأرض الميعاد، فهو حديث يستند في نهاية الأمر إلى افتراض غياب فلسطين العربية. والحديث عن استيطان المهاجرين من روسيا القيصرية باعتبارها «عاليا»، أي «صعود»، والحديث عنهم باعتبارهم «معبيليم»، أي يهود يدخلون فلسطين كما دخلها العبرانيون القدامى رغم كل الصعـاب والعـوائق، هو أيضاً حديث يفترض غياب العرب وغياب تاريخهم.
بل إنه يمكن القول بأن المصطلح الصهيوني ككل (نفي، عـودة، تجميع المنفيين... إلخ) يفترض هذا اليهودي الخالص الذي يفترض بدوره العربي الغائب. وقراءة أي نص صهيوني وفهم أي برنامج صهيوني أمر صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، من دون افتراض مقولة العربي الغائب كمثل أعلى ونقطة تحقُّق. ويعبِّر الإدراك الصهيوني للعرب عن نفسه من خلال الهيكل الاقتصادي والقانوني للمستوطن الصهيوني ابتداءً من قانون العودة (عودة يهود المنفى إلى أرض الميعاد)، مروراً بقوانين الصندوق القومي اليهودي (القوانين التي تمكِّن الشعب المقدَّس من الاستيلاء على الأرض المقدَّسة)، وانتهاءً بالقوانين التي تمنع العرب من العودة إلى فلسطين (العربي الغائب أو الذي يجب أن يغيب).
يتبع إن شاء الله...