الجزء الخامس: أزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية
الباب الأول: أزمة الصهيونية
أزمة الصهيونية: تعريف Crisis of Zionism: Definition
«أزمة الصهيونية» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المشاكل التي تواجهها الصهيونية كعقيدة تستند إليها الدولة الصهيونية، وتدَّعي لنفسها الشرعية على أساسها، وتؤسس علاقتها بيهود العالم والعالم الغربي من خلالها. ومن المعروف أن المشروع الصهيوني قد حقق نجاحات كثيرة لا شك فيها، مثل احتلال الأرض الفلسطينية بالقوة وطرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين من ديارهم ووضع الباقين منهم تحت قبضته الإدارية والعسكرية الحديدية. كما نجح المشروع الصهيوني في نقل كتلة بشرية ضخمة استوطنت في هذه البقعة وأسست بنية تحتية زراعية صناعية عسكرية وانتصرت في عدة حروب ضد جيوش الدول العربية. ويحصل المشروع الصهيوني على الدعم غير المشروط من التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، وبخاصة من الولايات المتحدة، التي تقف في الوقت الحاضر على رأس هذا التشكيل. ولكن رغم كل هذه الإنجازات المهمة، التي لا يمكن التهوين من شأنها، يردد أصحاب المشروع الصهيوني أنفسهم أن مشروعهم يواجه أزمة حقيقية، حتى أن عبارة «أزمة الصهيونية» أصبحت مصطلحاً أساسياً في الخطاب السياسي، ولا تخلو صحيفة إسرائيلية من عبارات مثل «صهيونية بدون روح صهيونية» و«انحسار الصهيونية». وتُناقَش الأزمة الصهيونية بشكل شبه مستمر في المؤتمرات الصهيونية الواحد تلو الآخر. ونحن نذهب إلى أن أسباب هذه الأزمة بنيوية، أي لصيقة ببنية الاستيطان الصهيوني نفسه. ولذا بدأت الأزمة مع بداية هذا الاستيطان عام 1882، ولم يحلها إنشاء الدولة بل زادها تفاقماً وإن ظلت في حالة كمون إلى أن تبدَّت بشكل واضح عام 1967، وزادت حدتها مع حرب الاستنزاف وحرب 1973، ووصلت إلى لحظة حرجة مع هزيمة الدولة الصهيونية في لبنان ثم مع اندلاع الانتفاضة.
وعناصر الأزمة كثيرة من أهمها:
قضية الهوية اليهودية (من هو اليهودي؟)، وتطبيع الشخصية اليهودية، ومشكلة اليهود الشرقيين، وهوية الدولة اليهودية، والأزمة السكانية والاستيطانية، وتحجُّر الثقافة السياسية الصهيونية، وتصاعُد معدلات العولمة والأمركة في المستوطن الصهيوني. وعناصر الأزمة الصهيونية متشابكة (كما سيتضح لنا أثناء التعرض لجوانبها كلٌّ على حدة)، فمشكلة الهوية والصراع بين الدينيين والعلمانيين مرتبطة بالأزمة السكانية (الديموغرافية)، وكلاهما مرتبط بأزمة الهجرة والاستيطان وبقضية تطبيع الشخصية اليهودية. كما أن أزمة صهاينة الداخل مرتبطة من بعض النواحي بأزمة صهاينة (ويهود) الخارج، وتتبلور العناصر في قضية اليهود الشرقيين (من السفارد واليهود العرب ويهود البلاد الإسلامية). ورغم علمنا بهذا التشابك، إلا أننا فصلنا العناصر بعضها عن بعض كضرورة تحليلية. وكل القضايا السابقة تشكل تحدياً للصهيونية وتقوض شرعيتها أمام يهود العالم ويهود المستوطن الصهيوني والدول الغربية الراعية للمشروع الصهيوني (وهذه هي الشرعية الصهيونية مقابل شرعية الوجود، أي شرعية النظام الاستيطاني أمام السكان الأصليين، أي الفلسطينيين).
وقد أدَّت الأزمة إلى انفراط العقد الاجتماعي الصهيوني أو على الأقل تآكله. فقد كان هناك اتفاق على بعض المقولات الأساسية، مثل أن اليهود شعب واحد (يضم الدينيين واللادينيين والإشكناز والسفارد وغيرهم)، وهو شعب يطمح للعودة إلى أرضه للاستيطان فيها، وأن الصهيونية ستنهي حالة المنفى وستقوم بتطبيع اليهود. لقد فشلت الصهيونية في كل هذا، فاليهودي (هذا المكوِّن الأساسي لهذا الشعب اليهودي) لم يعرَّف بطريقة ترضي كل الأطراف، وهو شعب يرفض العودة لوطنه القومي، الأمر الذي يخلق أزمة سكانية استيطانية. ولهذا، لم يَعُد هناك اتفاق على المكونات الأساسية للصهيونية وأهدافها المبدئية، فالرؤية ليس لها ما يساندها في الواقع، والواقع صلب لا يود أن يخضع للرؤية. وقد ترجم هذا التآكل نفسه إلى عدم اكتراث بالمشروع الصهيوني الذي ترجم نفسه بدوره إلى عدم الإيمان بالقيم الصهيونية «الريادية» المبنية على التقشف وتأجيل الإشباع. وبدلاً من ذلك، ظهر السعار الاستهلاكي والنزوع نحو الأمركة والعولمة والخصخصة، وهي حالة لا تصيب الصهاينة وحدهم وإنما تصيب أيَّ مجتمع يفتقر إلى الاتجاه ولا يحل مشكلة المعنى. ولكن رغم كل هذا التآكل يظل هناك إجماع صهيوني لم يتآكل وهو رفض الاعتراف بالفلسطينيين وحقهم في هذه الأرض التي تم اغتصابها.
ولكن قبل أن نعرض لعناصر الأزمة الصهيونية المختلفة يجب أن نشير إلى أن بوسع المجتمعات الإنسانية أن تعيش في حالة أزمة مستمرة لعشرات السنين دون أن "تنهار من الداخل"، إن لم تُوجَّه لها ضربة من الخارج. والتجمع الصهيوني ليس استثناءً من هذه القاعدة، وخصوصاً أن كميات المساعدات التي تصب فيه من الولايات المتحدة تزيد عن ثمانية بلايين دولار لمجموع عدد السكان الذي يبلغ عددهم حوالي أربعة ملايين، الأمر الذي يجعل التجمُّع الإسرائيلي (الاستيطاني الوظيفي) من أكثر المجتمعات تلقياً للمساعدات الخارجية بالنسبة لعدد السكان. فالتجمُّع الصهيوني لا يحوي مكونات بقائه واستمراره داخله، فهو يستمدها من دولة عظمى تكفله وترعاه. ومن الواضح أن إسرائيل مدركة تماماً لأبعاد أزمتها وأنه لا حل لها داخل إطار ما هو قائم. وقد أدَّى هذا إلى استقطاب شديد، فطرح حلاّن: الأول، الصهيونية الحلولية العضوية، ويتسم بالصلابة، والثاني، صهيونية عصر ما بعد الحداثة، ويتسم بالسيولة.
الأزمة البنيوية للصهيونية Structural Crisis of Zionism
«الأزمة البنيوية للصهيونية» عبارة نستخدمها للإشارة إلى طبيعة الأزمة الصهيونية وهي أزمة لصيقة ببنية الصهيونية نفسها. فالمواجهة مع السكان الأصليين ليست كما يظن البعض مسألة عرضية، وإنما هي نتيجة حتمية وملازمة لتحقق المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية. وأزمة الصهيونية، رغم بنيويتها، تزداد حدة وانفراجاً حسب الظروف التاريخية. ونحن نذهب إلى أن الأزمة تفاقمت بعد "انتصار" 1967 وهو ما حوَّله إلى عملية انتشار. ولأن طبيعة الأزمة بنيوية فلا يمكن حلها إلا عن طريق تغيير البنية نفسها، أي العلاقات التي تأسَّست في الواقع. ونحن نذهب إلى أن صهيونية الدولة (أو يهوديتها المزعومة) هي أساس عنصريتها وبنية التفاوت والظلم التي تأسَّست في فلسطين، ومن ثم فلا سبيل لحل الأزمة إلا عن طريق نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية.
الأزمــة الصهيونيــة وبنيــة الأيديولوجيــة الصهيونيــة
Crisis of Zionism and the Structure of Zionist Ideology
تعود الأزمة الصهيونية إلى عدة أسباب بنيوية تنصرف إلى صميم المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي.
ولكن ثمة سمات تتسم بها بنية الأيديولوجية الصهيونية نفسها ساعدت على تفاقم الأزمة نذكر منها ما يلي:
1 ـ ثمة مسافة بين أقوال أي إنسان وأفعاله، فالقول الإنساني بطبيعته لا يتفق تماماً ولا يتطابق مع الفعل الإنساني. ولكن في حالة القول الصهيوني نجد أن المسافة التي تفصله عن الواقع شاسعة حتى يصبح القول كله (أحياناً) ديباجة لا علاقة لها بأي واقع، فهي تهدف أولاً وأخيراً إلى التبرير والتسويغ. ويعود هذا إلى أن الصهيونية لم تنبع من واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وإنما هي صيغة أساسية توصلت لها الحضارة الغربية في عصر نهضتها وبداية تجربتها الاستعمارية الاستيطانية للتعامل مع الجماعات اليهودية ففرضتها عليها ثم تبنتها هذه الجماعات، أي أن حالة التبعية أو الذيلية الصهيونية للعالم الغربي ليست مسألة تنصرف إلى أمور السياسة والاقتصاد وإنما إلى بنية الأيديولوجية نفسها وأصولها الحضارية والفكرية.
2 ـ قامت الحضارة الغربية بنقل بعض أعضاء هذه الجماعات ككتلة بشرية مستقلة تُوطَّن في وسط العالم العربي عن طريق القوة العسكرية، فهي صيغة لا علاقة لها بالواقع العربي الذي زُرعت فيه.
3 ـ لكل هذا نجد أن الفكر الصهيوني فكر اختزالي يتجاهل معطيات الواقع سواء أكان الأمر يتعلق بواقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم أم واقع الفلسطينيين العرب. وتتضح هذه الاختزالية في إنكار التاريخ والتفكير في وضع نهاية له: تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية والتاريخ العربي في فلسطين. كما يتضح في إنكار الجغرافيا. ففلسطين تصبح إسرائيل، وهي بلد لا حدود لها، إذ أن حدودها توجد داخل مفهوم إرتس يسرائيل الديني.
4 ـ لكل هذا نجد أن العقيدة الصهيونية أيديولوجية فاشية، نسق عضوي مغلق يخلع القداسة على الأرض (أرض الميعاد) والشعب (الشعب المختار) وينكر الآخر (الصراع مع الأغيار والعقلية الجيتوية). ومثل هذه الأيديولوجيات تُكْسب حاملها قوة ومناعة وصلابة، ولكنها في الوقت نفسه تتسم بالجمود والانغلاق. ومن ثم فكثير من التناقضات الكامنة داخل الأيديولوجية أو في واقعها حينما تتبدى في الواقع، تظهر بشكل عنيف إن لم يكن فجائياً.
وقد حدثت داخل الدولة الصهيونية وخارجها تطورات عميقة من أهمها ظهور النظام العالمي الجديد وتصاعُد معدلات العلمنة بين يهود العالم وتبنِّي المعسكر العربي خطاباً برجماتياً بل انكماش المطالب العربية. ويستمر التجمُّع الصهيوني ونخبته الحاكمة في استخدام نفس الخطاب الصهيوني القديم ويدركون العالم من خلال المقولات القديمة للثقافة السياسية الصهيونية. وهو وضع يهدد بتصعيد الأزمة.
5 ـ تستند الأيديولوجية الصهيونية إلى فكرة الهوية وإلى تعريف عضوي ضيق لهما، ولذا فإن أية تحديات لهذه الفكرة تسبب شرخاً عميقاً في المجتمع.
6 ـ ثمة تناقضات عديدة داخل القول الصهيوني نفسه، فالتناقض ليس بين القول والفعل وحسب وإنما بين قول صهيوني وآخر، فدعاة القول الصهيوني لم يتفقوا فيما بينهم على الحد الأدنى فيما يتصل بكثير من القضايا النظرية الأساسية (حدود الدولة ـ الهوية اليهودية ـ موقفهم من يهود العالم) وإنما اتفقوا على الحد الأدنى من الفعل وحسب (نقل بعض يهود العالم إلى فلسطين وتوظيفهم داخل إطار الدولة الوظيفية).
كل هذه السـمات البنيوية في الأيديولوجية سـاهمت في تفاقم الأزمة، إلا أن السبب الأساسي لها يظل أنه حين وُضعت هذه العقيدة الصهيونية موضع التنفيذ أفرزت الكثير من المشاكل بعضها خاص بالمستوطن الصهيوني ويهود العالم، والبعض الآخر خاص بالفلسطينيين (فيما نسميه «المسألة الفلسطينية»). وحسب تصوُّرنا لا يوجد حل داخل إطار الأمر الواقع الصهيوني لأيِّ من هذه المشاكل. وقد تفرز الصهيونية حلولاً يمينية صلبة (الصهيونية الحلولية العضوية) أو يسارية سائلة (صهيونية عصر ما بعد الحداثة)، ولكنها حلول لا تتوجَّه إلى جذور المشكلة. وأزمة الصهيونية متشابكة تتداخل فيها أسباب مع الأخرى وكذلك الأسباب والنتائج والأيديولوجية والواقع.
ومع هذا لضرورات تحليلية سـنقسِّم أوجـه هذه الأزمة (في إطار الشرعية الصهيونية) إلى أربعة أقسـام نتناول كل قسم في مدخل مستقل أو في عدة مداخل:
1 ـ إشكالية الديني والعلماني.
2 ـ أزمة الهوية.
3 ـ الأزمة السكانية والاستيطانية.
4 ـ تفكُّك الأيديولوجية الصهيونية من خلال تصاعُد النزعات الاستهلاكية (والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة).
العلمانيـــة الشــــاملة والدولــــة الصهيونيـــة
Comprehensive Secularism and the Zionist State
تَصدُر الحركة الصهيونية عن الصيغـة الصهيونية الأسـاسية الشاملة، ولكنها تم تهويدها، أي إدخال ديباجات يهودية عليها، واتفق الجميع على أن تكون الدولة الصهيونية «دولة يهودية». ولكن مضمون كلمة «يهودية» كان يختلف من تيار صهيوني لآخر، فهرتزل كان يتحدث عن دولة علمانية لليهود، بينما تحدث الحاخام إسحق كوك عن دولة يهودية تعبِّر عن حلول الإله في الشعب وامتلائه بالقداسة. ورغم اختلاف الديباجات إلا أن العلمانية الشاملة، سيطرت على الدولة الصهيونية، شأنها في هذا شأن معظم البلاد الصناعية المتقدمة. ويُلاحَظ أنه توجد ثلاثة مصطلحات في إسرائيل لوصف الانتماء الديني أو غيابه. أما المصطلح الأول، فهو «داتي» وهو مصطلح يُستخدَم عادةً للإشارة إلى المتدينين الأرثوذكس ورثة اليهودية الحاخامية. ولكن هناك مصطلحين يصفان اليهود الذين انسلخوا عن اليهودية الحاخامية: «حيلونى» و « ماسوراتى». أما مصطلح «حيلوني» فيعنى «علماني» (من فعل «حل» بمعنى «حدث» أو «جرى» أو «صادف» أو «حال» الشيء أي «تحوَّل من حال إلى حال»). ومصطلح «حيلوني» شأنه شأن مصطلح «علماني» في اللغة العربية ومصطلح «سكيولار secular» في اللغة الإنجليزية ومصطلح «لائيك laique» في اللغة الفرنسية مختلط الدلالة. فالشخص الذي يوصف بأنه «حيلوني» يمكن أن يؤمن أو لا يؤمن بالإله.
ولكن المصطلح في المعجم الحضاري الإسرائيلي يزداد اختلاطاً واضطراباً بسبب وجود مصطلحات أخرى مثل «ماسوراتي» أي «تقليدي» أو «محافظ». والكلمة تشير إلى اليهودي الانتقائي في ممارساته الدينية، والذي يؤدي بعض الشعائر دون البعض. ونصف سكان إسرائيل يصفون أنفسهم بأنهم «حيلوني» (زادت النسبة إلى 60% عام 1997)، وتبلغ نسبة الماسوراتي 30%. ويصف 17% منهم أنفسهم بأنهم «متدينون» والباقي من أعضاء العبادات الجديدة (الآخذة في الانتشار في إسرائيل). وكثيرون يترددون في تسمية أنفسهم «حيلوني» (أي «علمانيين») بسبب ما قد يوحي به المصطلح من الإلحاد ويفضلون صفة «تقليديين» أو «محافظين» («ماسوراتي»). ولكن، مع هذا، تجب الإشارة إلى أن «التقـليدي» في إطار يهـودي قد تعـني أيضاً شـيئاً قريباً من الإلحاد، إذ يمكن أن يُقيم اليهودي التقليدي الشعائر ويعطيها مضموناً وثنياً قومياً دون إيمان بالإله، كما هو الحال مع الصهاينة، واتباع اليهودية المحافظة وإن كان الاستخدام الأكثر شيوعاً هو «اليهودي المحافظ»، أي من يقيم بعض الشعائر وحسب. وبطبيعة الحال مما يزيد الأمر اضطراباً أن مصطلح «يهودي» يكاد يكون دالاً دون مدلول، في الدولة العلمانية التي يُقال لها يهودية.
ويُلاحَظ، في إسرائيل، أن من السهل على اليهودي تأدية شعائر دينه إذ أن إيقاع الحياة وقوانين الدولة تساعده على ذلك. ومع هذا، ففي استطلاع للرأي أُجري عام 1975، وصف 55% أنفسهم بأنهم «متدينون جداً» أو «متدينون» فحسب، ووصف 45% أنفسهم بأنهم ليسوا متدينين على الإطلاق. ولكن حين طُبِّق على المتدينين ستة معايير للتدين، مثل عدم قيادة السيارة يوم السبت والذهاب إلى المعبد، ظهر أن 15% منهم فقط هم المتدينون حسب المعايير الستة وتم تصنيف 15% من هؤلاء على أنهم يقيمون الشعائر بشكل عام، مع ملاحظة أن هذه هي رؤيتهم لأنفسهم حيث لم يُختبر قولهم. ووصف 40% أنفسهم بأنهم تقليديون أو محافظون، في حين صرح 30% بأنهم ليسوا متدينين على الإطلاق. ولتوضيح مضمون صفة «تقليدي»، تنبغي الإشارة إلى أن الأغلبية العظمى من الإسرائيليين صرحوا بأنهم لا مانع لديهم من الذهاب إلى السينما وركوب المواصلات يوم السبت، الأمر الذي يتنافى مع الشريعة. ومع هذا، قال 70% إنهم يوقدون الشموع في منازلهم في ذلك اليوم، وهو ما يعني أنهم اختاروا من الشعائر ما يتناسب مع الحياة العلمانية. إذ أن إيقاد الشموع عمل رومانسي لطيف لا يكلِّف كثيراً ولا يشكل قيداً على الحرية أو على الذات ولا يتطلب أية تضحية، وإلى جانب ذلك فهو ذو قيمة رمزية ترفع معنويات الشخص الذي يؤدي هذا الطقس. ومن الممكن بطبيعة الحال افتراض أن عدداً كبيراً من هؤلاء يوقد الشموع لأسباب إثنية لا علاقة لها بالدين.
وفيما يتصل بالطعام الشرعي، صرح 70% عام 1975 بأن تناول الطعام الشرعي أمر مهم ولكنه ليس أمراً ضرورياً أو مفروضاً. وقد انخفضت هذه النسبة إلى 56% في عام 1988. ويُقال إن نصف اللحم المُستهلَك في إسرائيل لحم خنزير. ومع هذا تشير إحدى الإحصاءات إلى أن 27% فقط يأكلون لحم خنزير. ولعل الباقين يستهلكونه ولكنهم لا يصرحون بذلك. وقد بيَّنت إحدى الدراسات أن عدد من يقيم شعائر الطعام في منزله وحسب 66%، وتنخفض النسبة إلى 55% في البيت وخارجه!
وفيما يتعلق بالذهاب إلى المعبد، نجد أنه أصبح عادة سنوية لا أسبوعية أو يومية، تماماً كما هو الحال بين يهود الولايات المتحدة. وقد صرح 63% بأنهم يذهبون إلى المعبد و23% يذهبون كل عيد. وتنخفض النسبة إلى أقل من 10% حينما يكون السؤال عن الذهاب للمعبد كل سبت! ومن الضروري تأكيد أن الذهاب إلى المعبد في العيد لا يكون بالضرورة تعبيراً عن توجُّه ديني بل قد يكون على العكس تعبيراً عن تزايد العلمنة إذ أن المعبد يصبح تعبيراً عن التمسك بالهوية الإثنية.
وقد أدَّى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي إلى انتشار الإباحية. ولم تَعُد تل أبيب وحدها مركزاً للإباحية، بل وصلت الإباحية إلى القدس أيضاً حيث توجد محلات لبيع الأشياء الإباحية على بعد خطوات من حائط المبكى، كما يتزايد بشكل ملحوظ خرق شعائر الدين اليهودي. ويُقال إن المجتمع الإسرائيلي أصبح من أهم مصادر البغايا في العالم، وأن لغة القوادين في أمستردام هي العبرية. وقد أدَّى كل هذا إلى الاصطدام بين العناصر الدينية والعناصر اللادينية. وهذا يعني أن العقيدة اليهودية أصبحت من أهم مصادر الشقاق والتوتر بين اليهود، سواء بين أعضاء التجمُّع الصهيوني في إسرائيل أو بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وتتزايد التناقضات حدة مع تزايد معدلات العلمنة بينهم (للمزيد عن النقد اليهودي الديني للدولة الصهيونية باعتبارها دولة علمانية، انظر: «موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية»).
الدينـــي والعلمــاني فــي الدولـــة الصهيونيـــة
The Religious and the Secular in the Zionist State
رؤية الصراع في إسرائيل على أنه صراع بين المتدينين والعلمانيين هو شكل من أشكال التطبيع المعرفي. فالكيان الصهيوني كيان له خصوصيته وقوانينه، فمعظم المتدينين فيه ليسوا متدينين بالمعنى المألوف، ومعظم العلمانيين ليسوا "علمانيين" أيضاً بالمعنى المألوف للكلمة (فهم ليسوا علمانيين جزئيين وإنما هم علمانيون شاملون بدرجة متطرفة). وإذا حاولنا إعادة تقسيم أعضاء المجتمع الصهيوني من منظور الاقتراب أو الابتعاد عن كل من الدين اليهودي والأيديولوجية الصهيونية.
فيمكننا تقسيمهم إلى أربعة أقسام وليس إلى قسمين اثنين:
1 ـ المتدينون:
وهؤلاء يؤمنون باليهودية ديناً توحيدياً ويرون أن اليهود هم شعب بالمعنى الديني للكلمة أساساً، وأن العناصر القومية الإثنية في الدين اليهودي (مثل العودة والارتباط بالأرض) هي في جوهرها مفاهيم دينية لا يتم تحقيقها إلا بمشيئة الإله. وهذا الفريق معاد للصهيونية رافض للدولة الصهيونية، بل يرى فيها فعلاً من أفعال الشيطان. ولا تزال جماعة الناطوري كارتا (نواطير المدينة) من أهم الجماعات التي تمثل هذا التيار وتطالب بالانضمام لحكومة فلسطينية في المنفى، وهي تكافح ضد الصهيونية ولها نشاط داخل وخارج الكيان الصهيوني.
2 ـ الصهاينة المتدينون (أو الإثنيون الدينيون)، أي الصهاينة من أصحاب الديباجات الدينية:
إذا كان المتدينون يرون أن على اليهودي الانتظار، ويرون العودة إلى صهيون فعلاً من أفعال الهرطقة (دحيكات هاكتس، أي التعجيل بالنهاية) فإن مسار التاريخ المقدَّس بالنسبة لهم يأخذ الشكل التالي: نفي ـ انتظار ـ عودة بمشيئة الإله. ومع هذا تغلغلت الصهيونية في صفوف المتدينين ونجحت في "صهينة" قطاعات كبيرة منهم (في الواقع الغالبية العظمى) بحيث تم طرح تصوُّر مفاده أنه يجب العودة قبل ظهور الماشيَّح دون انتظار لمشيئة الإله للإعداد لعودته وبهذا يأخذ التاريخ الشكل التالي: نفي ـ عودة للإعداد لمقدم الماشيَّح ـ انتظار ـ مقدم الماشيَّح. ومن الواضح أن الشكل الجديد يسقط العنصر الديني إلى حدٍّ كبير بحيث تصبح العودة فعلاً من أفعال البشر يتم تحت مظلة المنظمة الصهيونية، وبالتالي استطاع هذا الفريق المساهمة في مشروع الاستيطان الصهيوني والمشاركة في كل النشاطات الصهيونية ـ الاستيطانية والعنصرية والإرهابية. ولابد من إدراك أن المعسكر الصهيوني الديني (أي صاحب الديباجات الدينية) ليس معسكراً واحداً. فالانقسام السفاردي الإشكنازي يجد أصداءه داخله، فحزب شاس حزب ديني سفاردي. بل يمكن القول بأنه سفاردي أكثر من كونه دينياً، إذ ينضم له المهاجرون من البلاد الإسلامية بغض النظر عن مدى تديُّنهم. وهناك أيضاً الانقسام بين ممثلي حركة حبد الحسيدية من أتباع شنيرسون (ديجيل هاتوراه) وممثلي الجناح الديني الليتواني (المتنجديم) من أتباع الحاخام شاخ (أجودات إسرائيل). وهناك الحزب الديني القومي أقدم الأحزاب الدينية وقد تعاون مع المؤسسة الصهيونية منذ البداية. وهناك المتدينون العاديون والحريديم الذي يوصفون عادة بالتطرف الصهيونى.
3 ـ العلمانيون الشاملون (من الصهاينة):
كانت اليهودية كنسق ديني في أوائل القرن التاسع عشر مع ظهور المجتمع الحديث في أوربا في حالة أزمة عميقة، إذ يبدو أنها تجمدت وتحجرت بحيث أصبح من العسير عليها أن تتطور. وقد ظهرت الصهيونيـة وطرحت نفســها على أنهــا سـتحل محل اليهودية كمصـدر للهـوية، بحيث تصبح اليهودية انتماءً إثنياً بالدرجـة الأولــى (على طـريقـة المشروع القومي في الغرب)، ولكـن هـذه الإثنـــية اليهــودية لا تستند إلى تـراث تاريخــي طويــل كما هــو الحــال مع الهــويات الغـربية كالفرنسـية والإنجلــيزية، وإنمــا تستند إلى التــراث الديــني اليهـودي، كما تســتند إلى اعـتذاريات، هي في جوهرها مطلقة مستمدة من المنطق الديني مثل حـق اليهـود الأزلـي في أرض الميعاد. ولذا من الممكن أن نجد شخصاً ملحداً موغلاً في الإلحاد مثل بن جوريون يقتبس التوراة بل يقوم بتفسيرها. وقد استولى الصهاينة على الخطاب الديني اليهودي بكل ما فيه من إطلاق ديني، فهم علمانيون شاملون وليسوا جزئيين، باعتبار أن العلمانية الجزئية تفترض التعددية والنسبية. وهذا الفريق العلماني الشامل هو الذي أسَّس المنظمة الصهيونية العالمية، وهو الذي شيَّد المستوطن الصهيوني. وأهم ممثل له المؤسـسة العمـالية في إسـرائيل بأحـزابها ومسـتوطناتها وتنظيماتها.
4 ـ العلمانيون الجزئيون (أو الإنسانيون)
وهذا فريق صغير من اليهود الذين يرفضون الدين اليهودي، ولا يقبلون الصهيونية، أو يقبلون صيغة صهيونية يمكن تصنيفها على أنها صيغة علمانية جزئية، بمعنى أنها لا تبحث عن مسوغات لنفسها في الدين اليهودي ولا تخلع على نفسها أيَّ إطلاق ومن ثم فهي تقبل بقدر من المشاركة من العرب. وأهم من يمثل هؤلاء في إسرائيل جماعات صغيرة وشخصيات هامشية مثل حركة حقوق المواطن وأوري أفنيري وآربيه إلياف وشالويت ألوني. والأيديولوجية الصهيونية تستبعد الفريق الأول تماماً وتستبعد الأخير بدرجات متفاوتة وتتوجَّه للفريق الثاني والثالث، وقد نشأ بينهم تحالف أو تفاهم منذ المؤتمر الصهيوني الأول، يستند أساسا إلى ما يسمى «الوضع الراهن».
اهتزاز الوضع الراهن Destabilization of the Status Quo
«الوضع الراهن» عبارة تُستخدَم للإشارة للأمر الواقع الديني بين المستوطنين الصهاينة إبَّان حكم الانتداب. فعلى سبيل المثال، تتوقف المواصلات العامة يوم السبت، ولكن يمكن استخدام السيارات الخاصة أو التاكسيات، وتُغلَق الشوارع في الأحياء التي تقطنها أغلبية متدينة وتُترَك مفتوحة في الأحياء الأخرى. أما في مجال الزواج والطلاق فقد وضعت الصلاحيات المطلقة في يد مؤسسة القضاء الحاخامي التي يسيطر عليها المتدينون (وهو استمرار لنظام الملة العثماني والذي أبقت عليه سلطات الانتداب). وقد تم الاعتراف بالتعليم الديني المستقل، وهو ما يعني أن الدولة عليها أن تموِّله (وقد أصبح فيما بعد هو العمود الفقرى لتطور التطرف الصهيونى، ذى الديباحات الدينية). ولا تُعرَض أفلام سينمائية ابتداءً من يوم الجمعة مساءً، وإن كان يُصرَّح بلعب كرة القدم يوم السبت (على أن تباع التذاكر في اليوم السابق). وقد أرسل بن جوريون عام 1947 (باعتباره رئيس الوكالة اليهودية) خطاباً إلى زعماء أجودات إسرائيل وعد فيه بالحفاظ على الوضع الراهن. وقد تم أيضا اعفاء طلبه المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.
والعقد الاجتماعي الصهيوني يستند إلى قبول «الوضع الراهن» باعتباره الإطار المرجعي لكل العناصر التي تقبل المشروع الصهيوني (ولذا تُرفق اتفاقية الوضع الراهن بكل اتفاق ائتلافي منذ عام 1955). والتفاهم العملي يمكن أن ينصرف إلى التفاصيل والفروع ولكنه غير قادر على حل المشاكل المبدئية، ولذا فالعقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع الصهيوني عقد واه جداً مهدد بالتمزق دائماً وفي أية لحظة. وقد أشرنا إلى أن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تفترض أن اليهود شعب عضوي منبوذ ونافع يمكن توظيفه خارج أوربا لصالحها داخل إطار الدولة الوظيفية. وقد وُلدت الصهيونية على يد صهاينة غير يهود لا يكترثون باليهود وينظرون إليهم من الخارج باعتبارهم مادة استيطانية. ثم انضم إليهم صهاينة يهود غير يهود يشاركونهم عدم الاكتراث هذا. ثم ظهر دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية الذين هوَّدوا الصيغة عن طريق إدخال مصطلحات الحلولية اليهودية العضوية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ونادوا بالقومية اليهودية. لكن القومية، بالنسبة إليهم، تستند في نهاية الأمر إلى قراءة صهيونية لما يسمونه «التاريخ اليهودي» تثبت وجـود شعب يهودي متميِّز مستقل. ولا تُعدُّ كُتب اليهود المقدَّسة مـن هذا المنظور سوى جزء من فلكلور هذا الشعب وتاريخه. ولذا، فإن القومية اليهودية قومية مقدَّسة، ولكنها مختلفة عن الدين اليهودي ومستقلة عنه، بل معادية له أحياناً. ثم كان هناك الجيب الصغير من الصهاينة الإثنيين الدينيين، وقد افـترض هـؤلاء منذ البداية أن الدين هو القومية وأن القومية هي الدين. وهكذا، فبدلاً من القومية بلا دين على طريقة هرتزل (والغرب عامة بعد عصر الإعتاق والاستنارة)، أو القومية بدلاً من الدين على طريقة آحاد هعام (والقومية العضوية الألمانية السلافية)، نصل إلى القومية كدين والدين كقومية على طريقة الشرق الأدنى القديم (الحلولية الوثنية). ولعل أهم مفكري هذا التيار هو الحاخام كوك صاحب الفكر الصهيوني الحلولي الذي هاجم من سماهم «الانشطاريين»، أي الذين يفصلون الدين عن القومية.
وقد حاولت اليهودية الحاخامية محاصرة النزعة المشيحانية الحلولية بأن جعلت العودة منوطة بالأمر الإلهي، فكأنها استعادت شيئاً من الثنائية التوحيدية بدلاً من الواحدية الحلولية. ولكن الصهيونية الإثنية الدينية حطمت السدود الحاخامية الأرثوذكسية وبعثت النزعة الحلولية. ورغم أن مارتن بوبر يُعَد من أتباع الصهيونية الإثنية العلمانية، إلا أن مصطلحه الصهيوني ديني صوفي حلولي عضوي إلى أقصى درجة، إذ يلغي الازدواجيات والحدود ويؤكد أن إسرائيل شعب وأن القومي والمقدَّس يتداخلان في حالته تداخلاً تاماً. ولقد تلقَّى إسرائيل الشعب وحياً دينياً في سيناء، ولكن روح هذا الدين هي روح قوميته. ولا يختلف الوحي الذي تلقاه موسى من الرب عن الروح القومية للشعب. وهكذا يذوب الشعب في الإله ليكوِّنا كلاًّ واحداً غير متمايز، فلقد حل المطلق في النسبي حلولاً كاملاً، كما ابتلع النسبي المطلق ابتلاعاً كاملاً، ولذلك فإن في وسـع اليهـودي أن يعي الإله بأن يعي نفسه، أو كما قال الحاخام كوك: "إن روح إسرائيل وروح الإله هما شيء واحد".
وكما أسلفنا تعايش التياران جنباً إلى جنب: التيار الحلولي الديني (القومية كدين والدين كقومية)، والتيار الحلولي العلماني (القومية كدين)، وتقبلا سياسة الوضع الراهن، وكان من الممكن أن يستمر التياران في التعايش إلى ما لا نهاية، فالخطاب الصهيوني المراوغ كان كفيلاً بذلك. ولكن قبول الوضع الراهن كان مجرد تفاهم عملي، ولم يكن مبدئياً بأيِّ شكل من الأشكال تتحكم فيه توازنات القوى بين الفريقين الديني والعلماني واللاديني.
وقد ظل الوضع الراهن قائماً لمدة سنوات طويلة، ودخلت الأحزاب الدينية كل الائتلافات الوزارية التي حكمت إسرائيل، وقنعت بدور التابع الذي يقنع بقطعة من الكعكة. ولكن مع تزايد علمنة المجتمع الصهيوني وعلمنة يهود العالم وتصاعد الخطاب الديني وزيادة عدد الصهاينة من دعاة الديباجات الدينية وظهور مشكلة اجراءات اليهود زادت حدة الاستقطاب في المجتمع الصهيوني بين الدينيين والعلمانيين. ومن الأمثلة على ذلك الموقف من طلبه المعاهد الدينية، فعند إعلان الدولة، وحين تم اعفاءهم من الخدمة العسكرية، كان عددهم لا يتجاوز 400، ولكن عام 1997 كان عددهم يزيد عن29.000. وهذه الألوف لا تعمل، فهم طلبه وحسب، أى أن نسبة كبيرة من المستوطنين أصحاب الديباجات الدينية يعيشون على نفقة دافع الضرائب الإسرائيلي. ولذا أشار لهم أحد كبار العلمانيين في إسرائيل بأنهم «طفيليين»، وهي كلمة لها مدلول خاص في المعجم الإسرائيلي، فكان يستخدمها أعداء اليهود للإشارة لهم. وقد قال شيمون بيريز حين هُزم في الانتخابات: «لقد هزم اليهود الإسرائيليين»، كما لو كان هناك فريقان يتصارعان في إسرائيل: «يهود متيدينون» ضد «إسرائيليين علمانيين»، والفريق الأخير ليس «يهوديا».
واحتكار المؤسسة الدينية لعمليات الزواج والدفن يثير حفيظة العلمانيين. فالمهاجرون اليهود السوفييت (وعدد كبير منهم «غير يهودى» حسب التعريف الأرثوذكسي)، لا يمكنه أن يتزوج فى إسرائيل أو يدفن حسب الشريعة اليهودية فيها وقد أُخرج جثمان أحدهم بعد خمس أعوام من دفنه حين شكّت المؤسسة الحاخامية فى يهوديته. كما أن أحد المستوطنين من أصل سوفييتى لقي حتفه بعد إحدي الهجمات الاستشهادية الفلسطينية، ومع هذا لم يتم دفنه في مقبرة يهودية. كل هذا أدي إلي أن حوالي نصف الإسرائيليين يري أن الموقف المتأزم من العلمانيين والمتدينين سيؤدى إلي نشوب حرب أهلية. وقد قال الحاخام حاييم ميلر إن الحل هو الفصل بين الفريقين منها للاشتباك بينهما.
الأصوليــة اليهـــودية Jewish Fudmentalism
كلمة «أصولية» هي ترجمة حرفية لكلمة فاندا منتاليزم Fundamentalism، وهي مأخوذة من كلمة فاندمنت Fundament التي تعني «الأساس» أو «الأصل» (من اللغة اللاتينية، كلمة «فاندا منتم» Fundamentum تعني «أساس»). وكلمة «أصولية» الإنجليزية استُخدمت أول ما استخدمت في سياق مسيحي وتعني «حركة بروتستانتية أمريكية» تهدف إلى إعادة تأكيد بعض ما يتصور أنه عقائد ثابتة وأصلية مسيحية مثل قدسية الكتاب المقدَّس وأنه صائب تماماً (بل قد ارتبطت كلمة «أصولية» بالتفسير الحرفي والمباشر لنصوص الكتاب المقدس)، والإيمان بالمعجزات (وخصوصاً الحمل بلا دنس) والبعث الجسدي للمسيح. ثم طبقت هذه الكلمة على الاتجاهات التجديدية في الإسلام ثم الحركات الدينية المتطرفة في اليهودية. و«الأصوليات» الثلاث مختلفة تمام الاختلاف في مضمونها واتجاهها.
وعبارة «الأصولية اليهودية» تُستخدم في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى شكل من أشكال التطرف الديني عادةً «الأرثوذكسي» (وتترجم كلمة «أصولي» أحياناً إلى كلمة «متزمت» أو «متشدد» أو «متطرف» مما يعني ترادف كل هذه المصطلحات مع لفظ «أرثوذكسي». وهذا خلل ناجم عن تطبيق مصطلح ديني، ثم اقتراضه من نسق ديني ما ثم تطبيقه على نسق ديني آخر). ويرى مستخدموا هذا المصطلح أن هذه الأصولية تعود إلى الحاخام أبراهام كوك (الذي كان يشغل منصب الحاخام الإشكنازي في فلسطين) وأنها مستمرة حتى هذه الأيام (على يد ابنه الحاخام تسفي كوك وغيره)، بل إنها آخذة في التنامي. فقد بلغ عدد أعضاء الكنيست «الأصوليين»، أي ممثلي الأحزاب الدينية (المفدال وديجيل هاتوراه وشاس) 23 عضواً (مقابل 16 عضواً في الكنيست السابق) من مجموع 120 عضواً. وتُعد هذه أكبر نسبة في تاريخ إسرائيل السياسي.
وهذا التيار الديني أصبح بمقدوره التحكم في رئاسة الحكومة وإسقاط الحكومات. ولا يمكن تشكيل أية حكومة دون مشاركته (رغم أن أعضاء هذا التيار غير معنيين بالسياسة بالمعنى الضيق للكلمة فهم يهتمون بميزانيتهم بالدرجة الأولى) وهم يستأثرون بوزرارات المستقبل (التعليم ـ الإسكان ـ الأراضي ـ المهاجرون ـ الأديان) ويتحكمون في وزارة حيوية مثل وزارة التعليم، ويُقال إنهم أصبح لهم نفوذ كبير داخل الجيش. فهناك حاخامية عسكرية تتولَّى مهمة التوجيه الفكري والديني داخل القوات المسلحة، وهي تباشر كل شئون الأحوال الشخصية المتعلقة بالعسكريين، وتشرف على المدارس العسكرية الدينية، وتخرِّج أجيالاً مسكونة بالكراهية المطلقة للعرب، كما تتولى الحاخامية إصدار الفتاوى التي تضفي القداسة على الممارسات والجرائم التي يرتكبها الجنود ضد العرب. وقد أوصل هذا التغلغل داخل الجيش عدداً غير قليل من الضباط الأرثوذكس إلى مراتب عليا.
وفي استطلاع أجرته صحيفة يديعوت أحرونوت قال 47% من الإسرائيليين أنهم يتوقعون حدوث حرب أهلية بين المتدينين والعلمانيين اليهود (وقد تكون هذه مبالغة، ولكنها «مبالغة دالة» إن صح التعبير). ودعاة الأصولية اليهودية يقفون الآن بمنتهى الحزم والشراسة ضد أي انسحاب من الضفة والجولان ومع الاستيطان وطرد العرب، وهم مستعدون للذهاب في سبيل الدفاع عن موقفهم هذا إلى أبعد مدى. ولا تنس أنهم يعتبرون باروخ جولدشتاين منفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي قديساً ومثلاً أعلى يجب الاحتذاء به.
والأطروحات الأساسية لهذه «الأصولية» ـ حسب تصوُّر مَن يستخدمون هذا المصطلح ـ كما يلي:
1 ـ إنشاء دولة إسرائيل هو تجسيد للحلم التوراتي اليهودي القديم، رغم أن الحركة الصهيونية نفسها، المؤسسة للكيان الصهيوني، لم تكن حركة دينية، وإنما كانت أيديولوجية سياسية علمانية، ورغم أن الآباء المؤسسين (الحرس القديم) مثل بن جوريون وإيجال آلون، كانوا ملحدين في حياتهم، علمانيين في طرق تفكيرهم. ويسمي كوك هذه الظاهرة (وعد ديني يتحقق على يد علمانيين) «الانشطارية». ولذا بينما يرفض الأصوليون هذا الطابع العلماني للدولة، فإنهم يقبلون بفكرة الدولة اليهودية نفسها (على عكس ناطوري كارتا التي ترفض فكرة الدولة من أساسها).
2 ـ لا يمكن الثقة في الأغيار، بأي شكل، وأرض إسرائيل الكبرى هي أرض يهودية، ولابد للدولة اليهودية أن تعتمد على نفسها وحسب (رغم كل المساعدات الخارجية التي تصب فيها). ولذا لا يفهم أعضاء هذا اليمين الديني الموازنات الدولية حق الفهم. وهم يتصورن أنه لا يمكن عقد سلام مع العرب، بل يجب طردهم أو تهجيرهم. ولذا نجد أن الأغلبية الساحقة لهؤلاء المستوطنين من أصحاب الديباجات الدينية يقضون ضد أى تنازل عن الأرض اليهودية.
وهذه المقولات ليست بالضرورة مقولات دينية ويمكن لأي حزب علماني أن يتبناها. وبالفعل نجد أن اليمين (المؤيد لنتنياهو) يضم في صفوفه متدينين قوميين وعلمانيين. فهو يضم (كما أسلفنا) أحزاب دينية مثل حزب المفدال وشاس وديجيل هاتوراه، ولكنه يضم أيضاً أحــزاب موليــديت وإســرائيــل بعاليـاه وتسوميت. وحزب إسرائيل بعالياه هو حزب الصهاينة المرتزقة، أي المهاجرين السـوفييت الراغبين في تحسين مستواهم المعيشي، أما حزب تسوميت، فهو حزب صهيوني لا ديني. ولا يمكن الحديث عن نتنياهو أو عن جيله بأســره، باعتـباره متـديناً. ولكل هذا نجد صعوبة بالغة في استخدام هذا المصطلح، نظراً لعدم دلالته وتفسيريته.
ولابد من القول بأن الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية تبرر الشيء وعكسه، فهي على سبيل المثال تبرر الاستيلاء على الأرض وعلى إعادتها للعرب (في سبيل الحفاظ على النفس اليهودية "بيكوح نيفيش"). كما يمكن القول بأن اليهودية الحاخامية حاولت، بشكل عام، محاصرة النزعة المشيحانية ولذا جعلتها منوطة بمشيئة الإله، والعودة الشخصية الفعلية (دون انتظار أوامر الإله وتعاليمه) يُعد ارتكاباً لخطيئة «دحيكات هاكتس»، أي «التعجيل بالنهاية» ولذا فالأرثوذكسية تبرر «العودة» وتحرمها في آن واحد. ورغم التأييد الأرثوذكسي للاستيلاء على الأرض فقد أحجم الحاخام شنيرسون عن إتمام رحلته إلى فلسطين قائلاً: "في السماء شهودي، لو كان الأمر بيدي لحثثت الخطى إلى هناك [إلى فلسطين] كالسهم حينما يخرج من قوسه" ولكنه لم يفعل، خشية أن يفسر الصهاينة رحلته هذه على أنها قبول لرؤيتهم، كما أن الحاخام هيرش، زعيم الناطوري كارتا، امتنع عن زيارة حائط المبكى، رغم أنه كان يعيش على بُعد خطوات منه.
يتبع إن شاء الله...