المجلد السادس: الصهيــونيــــة
الجزء الأول: إشكاليات وموضوعات أساسية
الباب الأول: التعريف بالصيهونية
الصهـيونيــــة: إشـــكالية التعريــف Zionism: The Problem of Definition
كلمة «صهيونية» يصـعب تعريفها بشـكل مبـاشر للأسـباب التالية:
1 ـ التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية تشير إلى "الأمل الصهيوني" وليس إلى الظاهرة الصهيونية، فتُعرَّف الصهيونية، على سبيل المثال بأنها "الحركة الرامية إلى عودة اليهود إلى وطن أجدادهم إرتس يسرائيل حسبما جاء في الوعد الإلهي والآمال المشيحانية لليهود!" وغني عن القول أن الأمل الصهيوني أو المتتالية المفترضة أو المتوقعة تختلف كثيراً عن الواقع الصهيوني أو المتتالية المتحققة.
2 ـ تختلط التعريفات بالاعتذاريات والمنظورات المختلفة بحيث لا تمكن التفرقة بين الواحد والآخر، فالصهيونية قد تكون من منظور البعض هي تحقيق الآمال المشيحانية، ولكنها من منظور البعض الآخر مخطط استعماري استيطاني.
3 ـ يشير المصطلح إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسـة، بل متناقضة أحياناً، في أهدافهـا ومصالحهـا ورؤيتها للتاريخ، أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية.
4 ـ قد يُستخدَم المصطلح مع صفة تحدُّ من حقله الدلالي أو تُوسِّعه كأن نقول «الصهيونية العمالية» و«الصهيونية المسيحية». بل هناك أيضاً «صهاينة صهيون» وهم معارضو مشروع شرق أفريقيا باعتبار أن دعاة هذا المشروع هم صهاينة بدون صهيون (كما أشار بعض دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية إلى صهيونية هرتزل باعتبارها «صهيون بلا صهيونية«).
وإذا كانت الصهيونية تعني "تهجير بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فبأي معنى إذن يمكننا الحديث عن «صهيونية الدياسبورا» أو «الشتات» (الجماعات اليهودية في العالم)،أي صهيونية اليهودي الذي يرفض أن يشترك في عملية الاستيطان الصهيوني وإن كان في الوقت نفسه يرى أن هذا الاستيطان هو الحل الوحيد لمشاكل اليهود؟ ولعل هذا هو الذي حدا بالمفكر الصهيوني العمالي بوروخوف إلى أن ينحت مصطلحاً في غاية الأهمية اختفى من الأدبيات والتواريخ الصهيونية وهو «صهيونية الصالونات»، ويعني صهيونية الطبقة الوسطى التي تهتم بالجوانب الحضارية والثقافية والإثنية (أي ما يُسمَّى «الوعي اليهودي») ولا تهتم كثيراً بالاستيطان. كما نحت آخر (بعد تأسيس الدولة الصهيونية) مصطلح «صهيونية دفتر الشيكات» وهي صهيونية اليهودي الذي يُحدث أصواتاً صهيونية عالية ولكنه يكتفي بدفع مبلغ من المال للمنظمة الصهيونية. ولذا، فإن الصفة هنا في الواقع لا تُعدِّل دلالة المصطلح وحسب، وإنما تغير معناه تغييراً جوهرياً.
5 ـ وهنا يجب أن نثير قضية تتصل بالمجال الدلالي. فإن قَبلنا بأن الصهيوني "هـو من يدعـو إلى تهجير اليهود إلى فلسـطين وتوطينهم فيها"، فهل يمكن أن نُطلق المصطلح على دعوة المعادين لليهود بطرد اليهود من أوطانهم وتوطينهم في فلسطين؟ بل هل يمكن أن نُطلق المصطلح على المشاريع النازية المختلفة للتخلص من اليهود؟ وهل يمكن الحديث عن النازيين كصهاينة؟ وعلى كل حال، فإن هذا ما فعله أدولف أيخمان أثناء محاكمته. فقد أشار إلى نفسه باعتباره صهيونياً يحاول أن يضع شيئاً من الأرض الراسخة تحت أقدام اليهود (باعتبار أن اليهود شعبٌ بلا أرض، أما الأرض الراسخة فهي فلسطين، أرض بلا شعب).
الصهـيونيــــة: تاريـــــخ المفهـــــوم والمصطــلح Zionism: The History of the Concept and the Term
لم يُسك مصطلح «الصهيونية» إلا في القرن التاسع عشر، ولكنه مع هذا يُستخدَم للإشارة إلى بعض النزعات في التاريخ الغربي، بل داخل النسق الديني اليهودي قبل هذا التاريخ. وسنحاول فيما يلي أن نرصد بعض استخدامات المصطلح ونوردها ـ على قدر المستطاع ـ في تسلسلها التاريخي، مع العلم بأن كل دلالة جديدة لا تنسخ بالضرورة ما سبقها، وإنما تُضاف إلىها فتزيد المجال الدلالي اتساعاً وتناقضاً وتجعل المصطلح تركيباً جيولوجياً تراكمياً:
1 ـ الصهيونية بالمعنى الديني: تشير كلمة «صهيون» في التراث الديني اليهودي إلى جبل صهيون والقدس، بل إلى الأرض المقدَّسة ككل، ويُشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم «بنت صهيون». كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية. والواقع أن العودة إلى صهيون فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ أن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن الماشيح المخلِّص سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون (الأرض ـ العاصمة) ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة «صهيون» إيحاءات شعرية دينية في الوجدان الديني اليهودي، فقد جاء في المزمور رقم 137/1 على لسان جماعة يسرائيل بعد تهجيرهم إلى بابل: "جلسنا على ضفاف أنهار بابل وذرفنا الدمع حينما تذكرنا صهيون".
وقد وردت إشارات شتى في الكتاب المقدَّس إلى هذا الارتباط بصهيون الذي يُطلَق عليه عادةً «حب صهيون»، وهو حب يعبِّر عن نفسه من خلال الصلاة والتجارب والطقوس الدينية المختلفة، وفي أحيـان نادرة على شكل الذهاب إلى فلسطين للعيش فيها بغرض التعبد. ولذا، كان المهاجرون اليهود الذين يستقرون هناك لا يعملون ويعيشون على الصدقات التي يرسلها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم.
وقد كان العيـش في فلسـطين يُعَد عملاً من أعمال التقوى لا عمـلاً من أعمال الدنيا، وجزاؤه يكون في الآخرة أو في آخر الأيام، ولذا فإنه لا تربطه رابطة كبيرة بالاستيطان الصهيوني، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) تُحرِّم محاولة العودة الجماعية الفعلية إلى فلسطين وتعتبرها تجديفاً وهرطقة ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية». فاليهودية تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته، وأنها ليست فعلاً بشرياً يتم على يد البشر. وهذه النزعة الصهيونية الدينية (التي تؤكد عنصر تجاوز المادة) لا علاقة لها بالاستيطان الصهيوني الفعلي والمادي في فلسطين ولا حتى بما يُسمَّى «الصهيونية الدينية» في الوقت الحالي.
2 ـ يُطلَق اصطلاح «الصهيونية» أيضاً على نظرة محددة لليهود ظهرت في أوربا (وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية في إنجلترا ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر) وترى أن اليهود ليسوا جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي، لهم ما لبقية المواطنين وعليهم ما عليهم، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم شعباً عضوياً مختاراً وطنه المقدَّس في فلسطين ولذا يجب أن يُهجَّر إليه. وقد استمر هذا التيار المنادي بتوطين اليهود في فلسطين حتى بعد أن خمد الحماس الديني الذي صاحب حركة الإصلاح الديني. ويُطلَق على هذه النزعة اسم «الصهيونية المسيحية»، وهي تمارس في الولايات المتحدة الآن بعثاً جديداً وخصوصاً في بعض الأوساط البروتستانتية (الأصولية) المتطرفة.
3 ـ مع تَزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ظهرت نزعات ومفاهيم صهيونية في أوساط الفلاسفة (ولا سيما الرومانسيين) والمفكرين السياسيين والأدباء، تنادي بإعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أنهم شعب عضوي منبوذ تربطه علاقة عضوية بها استناداً لأسباب تاريخية وسياسية بل"علمية". ويُطلَق على هذا الضرب من الصهيونية «صهيونية غير اليهود» أو «صهيونية الأغيار».
4 ـ يُلاحَظ حتى الآن أن مصطلح «صهيونية» نفسه لم يكن قد تم سكه بعد، ومع هذا كان مفهوم الصهيونية مفهوماً مُتداوَلاً على نطاق واسع بين الفلاسفة والمفكرين والشعراء والمهووسين الدينيين. ولكن مع تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، وبخاصة الشرق الإسلامي، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب (بسبب ظهور الدولة العلمانية المركزية التي همَّشت اليهود كجماعة وظيفية)، ومع تصاعد معدلات العلمنة بدأ مفهوم الصهيونية نفسه في التبلور والتخلص من كثير من أبعاده الغيبية الدينية أو الرومانسية وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة المادية ومصالح الدول.
5 ـ ليس من الغريب إذن أن نجد أن نابليون بونابرت أول غاز غربي للشرق الإسلامي في العصر الحديث وواحد من أهم المعادين لليهود في العالم الغربي (كما يدل على ذلك سجله في فرنسا) وواحد من أهم دعاة العلمانية الشاملة هو أيضاً صاحب أول مشروع صهيوني حقيقي، إذ دعا الصهاينة إلى الاستيطان في "بلاد أجدادهم"!
6 ـ أصبح مفهوم الصهيونية مفهوماً أساسياً في الخطاب السياسي الغربي عام 1841 مع نجاح أوربا في بلورة مشروعها الاستعماري ضد العالم العربي والإسلامي الذي حقق أول نجاح حقيقي له في القضاء على مشروع محمد علي في تحديث مصر والدولة العثمانية، ومع تفاقم المسألة اليهودية التقت المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية وساد التصوُّر القائل بإمكان حل المسألتين من خلال دمجهما.
7 ـ تمت بلورة المفاهيم الصهيونية وملامح المشروع الصهيوني بشكل كامل في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر وعام 1880 على يد المفكـرين الصهاينة غــير اليهـود لورد شافتـسبري ولورانـس أوليفانت. وقد لخص شافتسبري التعريف الغربي لمفهوم الصهيونية في عبارة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض (في كلمات تقترب كثيراً من الشعار الصهيوني)). وقد حاول أوليفانت أن يضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
8 ـ يُلاحَظ أننا نضع تاريخ تطوُّر مفهوم الصهيونية في سياق التاريخ الفكري والسياسي والعسكري الغربي، ولا نعود إلى العهد القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (إلا في محاولة دراسة الديباجات). فحتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم يكن يربط اليهود أو اليهودية علاقة كبيرة بالصهيونية كفكرة أو مفهوم أو مشروع سياسي واقتصادي عسكري. وقد كان هذا هو الرأي السائد في الأوساط الصهيونية حتى عهد قريب. فأول تاريخ رسمي للصهيونية، كُتب بتكليف من المنظمة الصهيونية وكتبه ناحوم سوكولوف (الذي تولى رئاسة المنظمة الصهيونية بعض الوقت) مكوَّن من جزأين كرِّس معظمها لتاريخ الصهيونية بين غير اليهود.
9 ـ بدأت النزعات الصهيونية تظهر بين اليهود أنفسهم في أواخر القرن التاسع عشر مع تفاقم المسألة اليهودية، وعبَّرت عن نفسها في بادئ الأمر عن طريق المساعدات التي كان أثرياء اليهود في الغرب يدفعونها للجمعيات التوطينية المختلفة التي كانت تهدف إلى توطين يهود شرق أوربا في أي بلد (ويشمل ذلك فلسطين) حتى لا يهاجروا إلى غربها فيعرِّضوا مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم الطبقية للخطر.
10 ـ عبَّرت النزعة الصهيونية في شرق أوربا عن نفسها من خلال جماعات أحباء صهيون التي حاولت التسـلل إلى فلسـطين للاسـتيطان فيها. وتُوصَف هذه النزعات أيضاً بأنها «صهيونية» رغم اختلاف الدوافع بين الفريقين الأول والثاني.
11 ـ وقد نحت المصطلح نفسه المفكر اليهودي النمساوي نيثان بيرنباوم في أبريل 1890 في مجلة الانعتاق الذاتي وشرح معناه في خطاب بتاريخ 6 نوفمبر 1891 قال فيه إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون) الموجود حالياً. وفي مجال آخر (في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 صرَّح بيرنباوم بأن الصهيونية ترى أن القومية والعرْق والشعب شيء واحد، وهكذا أعاد بيرنباوم تعريف دلالة مصطلح «الشعب اليهودي» الذي كان يشير فيما مضى إلى جماعة دينية إثنية، فأصبح يشير إلى جماعة عرْقية (بالمعنى السائد في ذلك الوقت)، وتم استبعاد الجانب الديني منه تماماً.
وأصبحت الصهيونية الدعوة القومية اليهودية التي جعلت السمات العرْقية اليهودية (ثم السمات الإثنية في مرحلة لاحقة) قيمة نهائية مطلقة بدلاً من الدين اليهودي، وخلَّصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية والعناصر العجائبية الأخروية، وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم لا من خلال الصدقات. ورغم أن بيرنباوم كان يهدف إلى الدعوة إلى ضرب جديد من التنظيم السياسي مقابل جهود أحباء صهيون التسللية، فإن المصطلح استُخدم للإشارة إلى الفريقين معاً.
وبعد المؤتمر الصهيوني الأول 1897 في بازل، تحدَّد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل (في مقابل المرحلة السابقة على ذلك، أي مرحلة أحباء صهيون بجهودها التسللية المتفرقة)
12 ـ بعد ذلك، بدأت دلالات الكلمة تتفرع وتتشعب، فهناك «صهيونية سياسية» (يُشار إليها أحياناً بعبارة «الصهيونية الدبلوماسية»)، وأخرى «عملية»، وتبعتها «الصهيونية التوفيقية». وكل صهيونية لها توجُّهها وأسلوبها الخاص وإن كانت جميعاً لا تختلف في الهدف النهائي. وتذهب الصهيونية التوفيقية إلى أن كل الاتجاهات الصهيونية غير متناقضة بل يكمل الواحد منها الآخر، ومن ثم يَسهُل التوفيق بينها.
13 ـ تَبلور المفهوم الغربي للصهيونية تماماً في وعد بلفور الذي مُنح "للشعب اليهودي" (أُسقطت عبارة "العرْق اليهودي") والذي أشار للعرب باعتبارهم الجماعات غير اليهودية، أي أن اليهود أصبحوا شعباً بلا أرض وفلسطين أصبحت أرضاً بلا شعب.
14 ـ ثم ظهرت بعد ذلك «الصهيونية الثقافية» و«الدينية» التي أضافت إلى الصهيونية البعد الإثني (الديني والعلماني).
15 ـ ثم ظهرت «الصهيونية الديموقراطية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية الراديكالية«.
16 ـ وبعد عام 1948، ظهرت «صهيونية الدياسبورا«.
ونحن نذهب إلى أنه يوجد في الواقع صهيونيتان لا صهيونية واحدة (صهيونية توطينية وصهيونية استيطانية). ومع هذا، فإنهما يُشار إليهما بدالٍّ واحد: «صهيونية». وذلك برغم أنهما ظاهرتان مختلفتان تماماً، لهما جذور مختلفة وقيادات وأهداف مختلفة.
17 ـ ويُشبِّه يوري أفنيري الصهيونية بالبيوريتانية (بالإنجليزية: بيوريتانيزم Puritanism) في أمريكا، فهي أيديولوجيا الأصول التي أدَّت إلى ظهور المجتمع الأمريكي، ولكنها ماتت ولم تَعُد لها فعالية في هذا المجتمع. ويرى الكاتب الإسرائيلي بوعز إفرون أن على الإسرائيلي في علاقته بالصهيونية أن يكون مثل الأمريكي في علاقته بالبيوريتانية. وبذا، تصبح الدوافع الأيديولوجية أو الاقتصادية التي دفعت الرواد الأوائل (الصهاينة أو البيوريتان) إلى الاستيطان (في فلسطين أو الولايات المتحدة) موضوعاً ذا أهمية تاريخية أو أكاديمية محضة، وليس موضوعاً أساسياً. ويتحدث الكاتب الإسرائيلي أبراهام يهوشاوا عن الصهيونية بوصفها حركة إنقاذ عملية ظهرت حلاًّ للمأزق اليهودي منذ قرن (أي المسألة اليهودية في شرق أوربا)، وهو يعتقد أن العملية قد وصلت إلى نهايتها، أي أن الصهيونية كانت ولم تَعُد.
18 ـ وهناك مصطلح «الصهيونية الجغرافية» الذي ورد في رسالة بعث بها يوسف ضياء الدين الخالدي رئيس بلدية القدس إلى حاخام فرنسا الأكبر صادوق كاهن (الصديق المقرب لكلٍّ من هرتزل ونوردو) يُذكِّره بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية ويسكنها غير اليهود، ويتنبأ بقيام حركة شعبية ضد الصهيونية فيما لو استمرت الحال على ما هي عليه، ولذا فقد نصح الصهاينة بالتخلي عن «الصهيونية الجغرافية»، أي الربط بين صهيون وفلسطين وبضرورة البحث عن أرض أو بلاد أخرى. ولعل هذا المصطلح هو المحاولة العربية الوحيدة لسك مصطلح مسـتقل لوصف الظاهرة. وهو مصـطلح دقـيق إلى حدًّ كبير، فهو يفصل بين الصهيونية وبين أية ديباجات دينية أو علمانية، ويبين أن المستهدف هو الأرض الفلسطينية. كما أن التركيز على عنصر الجغرافيا يبين أن عنصر التاريخ الحي قد استُبعد، ولذا فقد أشار الخالدي في خطابه إلى أن فلسطين هي بلاد اليهود "تاريخياً"، بمعنى أن جزءاً من تاريخهم مرتبط بها، ولكنه تاريخ متحفي بائد، إذ أن فلسطين أصبحت الآن جزءاً من التاريخ العربي الإسلامي. والواقع أن كلمة «جغرافية» تبين شراهة المشروع الصهيوني واستعماريته وإنكاره تاريخ المنطقة ووجود أهلها.
19 ـ وفي الوقت الحاضر، فإن كلمة «صهيونية» تعني في العالم العربي "الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين الذي تَرسَّخ بدعم من الغرب". وتحمل الكلمة إيحاءات دينية لدى كثير من العرب المسلمين أو المسيحيين الذين يرون أن الصراع العربي/الإسرائيلي صراع ديني.
20 ـ لا تحمل الكلمة أي معنى ديني في بلاد العالم الثالث، ولا تشارك شعوب العالم الثالث في الديباجات الصهيونية المختلفة عن "حق" اليهود بسبب اضطهادهم في أوربا أو عن الرابطة الأزلية بأرض الميعاد. وتحمل الكلمة تقريباً الدلالات نفسها التي تحملها في العالم العربي.
21 ـ وحتى نُبيِّن مدى خلل المجال الدلالي، يمكن أن نشير إلى أن الصهيونية حركة عنصرية حسب أحد قرارات هيئة الأمم وأنها ليست كذلك حسب قرارات أخرى.
22 ـ يُلاحَظ أن أزمة الصهيونية عبَّرت عن نفسها من خلال عدد لا ينتـهي من المصطلحات تنـاولناهـا في الباب المعنون «أزمة الصهيونية«.
وقد حاولنا في هذه الموسوعة أن نحدِّد معنى لفظ «صهيونية» ومجاله الدلالي من خلال ما سميناه «الصيغة الصهيونية الأساسية» التي تحوَّلت إلى «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» والتي تم تهويدها وأصبحت «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة اليهودية» أو «المُهوَّدة». وقد عرَّفنا الديباجات والانقسامات المختلفة التي تعطي مضموناً للكلمة. ويمكن اشتقاق فعل من كلمة «صهيونية» فنقول «صَهْيَنَ»َ (بالإنجليزية: زايونايز zionize). ويُستخدَم المصدر من هذا الفعل عادةً بشكل شبه مجازي فيُقال «صهينة يهود العالم» بمعنى أن تسيطر العقيدة الصهيونية على بعض جوانب وجودهم لا كلها، ويُقال «صهينة اليهودية» بمعنى أن الرؤية الصهيونية للكون تصبح هي القيمة الحاكمة داخل النسق الديني اليهودي. وصهينة اليهود واليهودية هي الشكل الخاص الذي تتخذه عملية علمنتها.
الصهـيونيـة: تعريـف Zionism: Definition
تتسم التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية للصهيونية بضعف مقدرتها التفسيرية. فإن كانت الصهيونية هي حركة القومية اليهودية وعودة اليهود لأرض الأجداد (كما تقول بعض المعاجم)، فكيف نُفسِّر أن أغلبية هذا الشعب اليهودي الساحقة لا تزال تعيش في «المنفى» متمسكة به، تدافع عن حقوقها فيه؟ وكيف نُفسِّر امتلاء مخيمات اللاجئين بملايين الفلسطينيين؟ كيف نُفسِّر ما يقومون به من مقاومة؟ ولذا لابد من طرح تعريفات جديدة أكثر تركيبية وشمولاً وتفسيرية تتجاوز كل الاعتذاريات والديباجات (الصهيونية والعربية) لنصل إلى بعض الثوابت الكامنة. وسنحاول إنجاز هذا من خلال عملية تفكيك لما هو ظاهر واكتشاف لما هو كامن وبلورته ثم نعيد التركيب ونطرح تعريفاً جديداً، له مقدرة تفسيرية أعلى.
ونحن نذهب إلى أن ثمة صيغة صهيونية أساسية شاملة تُشكل التعريف الحقيقي للصهيونية، وثمة عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، كامن في هذه الصيغة، وثمة مادة بشرية مُستهدَفة (أعضـاء الجماعات اليهـودية خارج فلسطـين والعـرب الذين يعيشـون فيها).
المـادة البشـرية المستهـدفة Targeted Human Material
«المادة البشرية المُستهدَفة» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المادة البشرية اليهودية التي تشير إليها الصيغة الصهيونية الأساسية باعتبار أنها شعب عضوي منبوذ نافع سيتم نقله خارج أوربا لتوظيفه، أي أن المصطلح يشير إلى اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية استيطانية. واصطلاح «المادة البشرية» ليس من ابتداعنا فقد ورد في كتابات هرتزل الزعيم الصهيوني وفي تصريحات أيخمان الموظف النازي.
ويُلاحَظ وجود مادة بشرية أخرى مُستهدَفة هي «العرب». ولكن مع هذا لم يأت لهم ذكر في العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، ومن ثم لا تشـير إليهم التعريفـات الصـهيونية من قريب أو بعيد، ولكن من المعروف أن السكان الأصليين المغيبين يكون مصيرهم، في المخططات الاستعمارية الغربية، هو عادةً الإبادة أو الطرد.
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة Underlying Zionist Premises
«الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» مصطلح قمنا بصكه للإشارة إلى الثوابت والمسلمات النهائية الكامنة في الاتجاهات الصهيونية كافة مهما اختلفت دوافعها وميولها ومقاصدها وطموحاتها وديباجاتها واعتذارياتها. ولا يمكن وصف أي قول أو اتجاه بأنه صهيوني إن لم يتضمن هذه المسلمات، فهي بمنزلة البنية العامة الكامنة وهي التي تُشـكِّل الأسـاس الكامـن للإجماع الصهيوني.
ويمكن تلخيصها فيما يلي:
أ) اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع، يجب نقله خارج أوربا ليتحوَّل إلى شعب عضوي نافع.
ب) يُنقل هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوربا [استقر الرأي، في نهاية الأمر، على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجية للحضارة الغربية وبسب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة] ليُوطَّن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم على الأقل [كما هو الحال مع التجارب الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية المماثلة[.
جـ) يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره، داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين.
وهذه الصيغة الشاملة لم يُفصح عنها أحد بشكل مباشر، إلا بعض المتطرفين في بعض لحظات الصدق النماذجية النادرة. ولكن عدم الإفصاح عنها لا يعني غيابها، فهي تشكل هيكل المشروع الصهيوني والبنية الفكرية التي أدرك الصهاينة الواقع من خلالها.
ويُلاحَظ أن كثيراً من الأُسس التي تستند إليها الصيغة الشاملة قد اختفى بفعل التطورات التاريخية. فيهود العالم الغربي قد تناقص عددهم واندمجوا بشكل شبه تام في مجتمعاتهم، ولم يَعُد هناك مجال للحديث عن "عدم نفعهم". كما أن عملية نَقْل اليهود ونفي العرب اكتملت معالمها إلى حدٍّ كبير، وخصوصاً أن الترانسفير بعد تأسيس الدولة أصبح عملية هجرة تتم في ظلال قانون العودة. أما بالنسبة للسكان الأصليين فقد تم نفي غالبيتهم عام 1948، ولكن بعد عام 1967 أصبح من الصعب التخلص منهم. وما تبقَّى من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هو دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي، وهذا ما يُشكِّل أساس الإجماع الصهيوني. وعلى كلٍّ ما يتم الإفصاح عنه هو الصياغة المهوِّدة للصيغة الصهـيونية الأساسـية الشـاملة، فهي أكثر صـقلاً، وتبدو أكثر إنسانية، ولذا فإنها تحقق القبول الذي لا يمكن أن تحققه الصيغة غير المهودة بسبب إمبرياليتها وماديتها الشاملة.
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة: تاريخ Underlying Zionist Premises: History
لم تظهر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كاملةً بين يوم وليلة، وإنما ظهرت بالتدريج، وكان يُضاف لكل مرحلة عنصر جديد إلى أن اكتملت مع صـدور وعـد بلفور وتحوَّلت إلى الصـيغة الصهيونية الأسـاسية الشاملة. والواضح أن الصيغة الصهيونية الأساسية تضرب بجذورها في الحضارة الغربية.
وفيما يلي تاريخ موجز لمراحل تشكُّلها واكتمالها:
1 ـ تضرب الصيغة بجذورها في موقف الحضارة الغربية من الجماعات اليهودية وفي وضعهم داخلها، وهو موقف صهيوني ومعاد لليهود في آن واحد؛ أو صهيوني لأنه معاد لليهود. فاليهود شعب مختار عضوي متماسك (شعب شاهد ـ جماعة وظيفية)، ووجوده في مجتمع ما ليس له أهمية في حد ذاته وإنما بمقدار ما يخدم الوظيفة الموكلة إليه. وحين يفقد الشعب وظيفته، لابد من التخلص منه عن طريق نَقْله (أو ربما إبادته). ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق (الشعب العضوي المنبوذ) هي الرقعة المشتركة بين معاداة اليهود والصهيونية، وهي صيغة خروجية تصفوية إذ تطالب بإخراج اليهود من أوربا وتصفيتهم، فالعنصر الأول بشقيه هو جوهر عداء اليهود وهو أيضاً المقدمة الأساسية للصهيونية.
2 ـ وأضيف لهذه الصيغة العنصر الثاني (الكامن تاريخياً وبنيوياً في العنصر الأول) وهو اكتشاف نفع اليهود، ومن ثم إمكانية توظيفهم خارج أوربا (وإصلاحهم). وقد اكتُشف هذا الجزء أو تم تأكيده ابتداءً من القرن السـابع عشـر، عصـر ظـهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية. ويُلاحَظ أن ما يميِّز الصهيونية عن معاداة اليهود هو هذا الجزء. فكلاهما يرى اليهود عنصراً غير نافع يوجد داخل الحضارة الغربية ولكنه لا ينتمي إليها ولا حل للمشكلة إلا بإخراج اليهود. وبينما يلجأ أعداء اليهود إلى إخراج اليهود بشكل عشوائي عن طريق طردهم أو إبادتهم دون تخطيط أو ترشيد، فإن الصهاينة يرشِّدون العملية كلها ويرون إمكانية إخراج اليهود بشكل منهجي وتحويلهم إلى عنصر نافع. كما يُلاحَظ أن مكـونات هـذين العنصرين (المنبوذين ـ النافعين الذين يمكن توظيفهم) هي ذاتها السمات الأساسية للجماعة الوظيفية. ومن ثم، فإن اكتشاف نفع اليهود كان أمراً متوقعاً، إذ أن ذلك لصيق ببنية الجماعة الوظيفية وهو سر وجودها وبقائها، إذ أنها لا يمكن أن يكتب لها البقاء في مجتمع إلا إذا كانت "نافعة" و"تلعب دوراً ضرورياً".
3 ـ تظـل الصيغة الصهيونيـة حتى نهاية القرن التاسـع عشـر مجرد فكرة، ولكنها تتحول إلى حركة منظمة بعد مرحلة هرتزل وبلفور ومضمونها أن يتم التوظيف من خلال دولة وظيفية على أن تشرف على العملية إحدى الدول الاستعمارية الكبرى في الغرب التي تُؤمِّن للمستوطنين موطئ قدم وتضمن بقاء واستمرار الدولة الوظيفية الاستيطانية. ومع وعد بلفور، يصبح المكان الذي ستقام فيه الدولة الوظيفية هو فلسـطين وتتحـول الصيغة الأسـاسية إلى الصـيغة الشـاملة.
ولنا أن نلاحظ أن المفهوم الكامن وراء الصيغة الأساسية الشاملة في الصهيونية الغربية مفهوم محوري في الحضارة الغربية، فلم يتم إدراك اليهود وحدهم من خلاله وإنما تم إدراك كل المنحرفين اجتماعياً، فمثلاً كان يتم نَقْل المساجين إلى أستراليا وتوظيفهم هناك بحيث يتحوَّلون إلى عناصر صالحة؛ أعضـاء في الحضـارة التي نبـذتهم ونقلتهم.
والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة محايدة تماماً، فهي صيغة علمانية نفعية مادية تماماً، رغم كل ما قد يحيط بها من ديباجات مسيحية أو رومانسية، فهي ترى اليهود، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، باعتبارهم مادة نافعة لا قداسة لها. وهي تنظر لوجود اليهود في العالم الغربى نظرة سلبية لابد من وضع نهاية له. ولذا، فهي صيغة تدعو اليهود إلى إنهاء السلبية الدينية والعودة المادية العلمانية إلى فلسطين دون انتظار أي أمر إلهي (الأمر الذي يتنافى مع العقيدة المسيحية الكاثوليكية واليهودية الأرثوذكسية)
والصيغة تُعلمن اليهود (فهم مادة نافعة تُنقَل)، كما تُعلمن المكان الذي سيُنقَلون إليه (فهو مجرد حيز)، وتُعلمن سكانه الأصليين (فمصيرهم إما النـقـل أو الإبـادة)، وتُعلمن وسـيلة النقـل (فهي الإمبريالية)
والصيغة الأساسية الشاملة هي القاسم المشترك الأعظم بين كل الصهيونيات: صهيونية اليهود ـ صهيونية غير اليهود ـ صهيونية اليهود المتدينين ـ صهيونية اليهود العماليين ـ صهيونية اليهود المتمسكين بإثنيتهم ـ صهيونية اليهود غير اليهود، وذلك بغض النظر عن الديباجات والاعتذاريات وزوايا الرؤية. ولا شك في أنها تصلح أساساً تصنيفياً للتفرقة بين الصهيونية وغيرها من الحركات التي توجهت للقضايا نفسها.
والصيغة الشـاملة تصلح أيضاً إطاراً لكتابة تاريخ عام للصهيونية، باعتبارها حركة فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية في الحضارة الغربية (لا بين أعضاء الجماعات اليهودية وحسب)، بحيث لا يتم الفصل بين صهيونية اليهود وصهيونية غير اليهود كما هو مُتَّبع، وإنما يُنظَر إليهما كمراحل مترابطة في سياق تاريخي حضاري واحد.
والصيغة الشاملة هي الأساس الذي يستند إليه ما نسميه «العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود الغرب»، فهذا العقد يتيح الفرصة أمام يهود الغرب لأن يحققوا من خـلال الخروج من العالم الغربي ما فشـلوا في تحقيقـه من خـلال البقاء فيه. وعلى المستوى السياسي، يمكن القول بأن الصيغة الشاملة تعني ربط حل المسألة اليهودية (المادة البشرية المستهدفة) بالمسألة الشرقية (المجال الذي ستُنقَل فيه لتُوظَّف لصالح الحضارة الغربية). وقد تم تهويد الصيغة الشاملة من خلال مجموعة من الديباجات بحيث أصبحت «الصيغة الشاملة المُهوَّدة»، وذلك حتى يتحقق لليهود استيطانها.
ويُلاحَظ أنه في الوقت الحاضر بعد أن استقرت أوضاع الجماعات اليهودية في الغرب، وبعد دمجهم وتَناقُص أعدادهم أصبحت العناصر الأخيرة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي العنصر الأساسي (دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي). وأصبح هــذا هو أسـاس الإجـماع الصهيوني.
يتبع إن شاء الله...