الحدود التاريخية والأمنية والاقتصادية
Historic, Economic and Security Borders
تتسـم الصهـيونية بأنها أيديولوجية تنفي كلاً من التاريخ والجغرافيا. فهي تحاول إلغاء تواريخ الجماعات اليهودية في العالم وتاريخ الفلسطينيين في فلسطين حتى تحقق الترانسفير المطلوب: نقل اليهود من المنفى إلى فلسطين، ونقل الفلسطينيين من فلسطين إلى المنفى. ولكن الترانسفير لا يتم في الزمان وحسب، وإنما يتم في المكان (الجغرافيا). وإذا كانت الصهيونية قد ألغت الحدود التاريخية فهي قد ألغت أيضاً الحدود الجغرافية حتى يمكن القول بأن إسرائيل دولة "بلا حدود" فحدودها تقف مؤقتاً عند آخر موقع عسكري تحتله بانتظار أن تتقدم إلى موقع جديد. وقد استخدمت إسرائيل نظرية الأمن كوسيلة للتوسع من أجل الوصول إلى "الحدود الآمنة"، ولذلك لا يوجد دستور للدولة ينص على حدود سـياسية معيـنة. وبصفـة عامة لم يكن الإسرائيليون، إجمالاً، راضين عن حدود الكيان الصهيوني، كما حددتها اتفاقات الهدنة لسنة 1949، وهي الاتفاقات التي جاءت أصلاً لتكرس الأمر الواقع الذي فرضته القوة الصهيونية.
ويميِّز موشيه ديان بين "الحدود الدائمة" و"الحدود التي تضمن السلامة" أو "الحدود الآمنة"، فالسلام يعتمد على "نوع الحدود وطبيعتها"، وهو ما يتفق في التمييز الصهيوني بين "خطوط الهدنة وخطوط وقف إطلاق النار من جهة" والحدود "الطبيعية" و"الآمنة" و"التاريخية" من جهة أخرى. فالصهيونية نظرت إلى الأراضي العربية التي تطمع في السيطرة عليها باعتبارها "الأجزاء المحتلة من الوطن القومي اليهودي" أو "الأقسام المتممة لأرض إسرائيل التاريخية"، وما أن استتب الأمر للعدوان وتوطدت أقدام الاحتلال حتى تم الترويج للحديث عن "المناطـق المحررة"، والمطالبة بتأمين حدود طبيعية تضمن الســلام وتسـد الحاجـات الاقتصادية. وقد نظر القادة الصهاينة إلى حدود الهدنة التي كانت قائمة عام 1949 (احتلال النقب الأوسط والجنوبي والجليل الأعلى وإيلات [قرية أم الرشراش المصرية]) على أنها تفتقر إلى العمق الإستراتيجي حيث لا يتجاوز عرض إحدى النقط الدقيقة بين الضفة الغربية حيث كان يتواجد الجيش الأردني وساحل البحر المتوسط 12 ميل.
وبعد حرب 1967 اعتبرت إسـرائيل أنها وصلت إلى "الحـدود الآمنة"، وهو المصطلح الذي نشأ من حرص القادة الصهاينة على إيجاد مسوغ لتبرير السيطرة على الأراضي العربية المحتلة إبان حرب 1967، ويُعرِّفها إيجال آلون بأنها: "الحدود السياسية التي تعتمد على عُمق جغرافي وحواجز طبيعية كالحواجز المائية والجبلية والصحراوية والممرات الضيقة التي تحول دون تقدُّم القوات البرية الآلية". وهو لا شك يقصد بالحواجز المائية قناة السويس ونهر الأردن ونهر الليطاني، ويقصد بالحواجز الجبلية هضبة الجولان، وبالحواجز الصحراوية والممرات الضيقة سيناء وممراتها، فهذه الحواجز الطبوغرافية توفر لإسرائيل عمقاً إستراتيجياً يمكِّنها من الرد المناسب على أي هجوم عربي.
وللدلالة على أهمية هذه الأراضي بالنسبة لإسرائيل صرَّح إسحق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بعد حرب 1967 بأن "إسرائيل سوف ترتكب غلطة تاريخية، فيما لو تخلت عن المكاسب الإقليمية التي حققتها". ويؤكد "أننا وصلنا في حرب يونيه إلى خطوط عسكرية مثالية تعتبر في الوقت الحاضر أهم ما حققنا". والشرط الأساسي الذي وضعه رابين لتخلِّي إسرائيل عن بعض مكاسبها أو "انسحابها إلى خطوط أكثر تقلصاً من حدود يونيه 1967" ليس إلا اعتراف العرب بوجود إسرائيل". ومن الواضح أن الانسحاب الكامل مسألة غير واردة في مخططات إسرائيل، ويعتبره رابين غلطة تاريخية. والسلام الذي تحدَّث عنه رابين لا يختلف كثيراً عن التسليم بالأمر الواقع والاستسلام لشروط إسرائيل ومطالبها التوسعية تحت ستار "الحدود الآمنة" وإغراء تقليص "الحدود الحالية" بعض الشيء.
ويمكن القول بأن نظرية الحدود الآمنة لم تكن مُدرَجة في المفهوم الإسرائيلي قبل حرب 1967 حيث كانت إستراتيجيتها تعتمد على "الضربة الأولى الهجومية" أو "الحرب الاستباقية" و"نقل الحرب إلى أرض العدو"، ولكن انتصار 1967 وتبنِّي نظرية "الحدود الآمنة" دفعها إلى اعتماد إستراتيجية "الدفاع الثابت المرن أو الإيجابي" مع "إستراتيجية الردع". ولكن حرب 1973 نسفت كل آمال إسرائيل وأحلامها بحدود آمنة، وثبت بشكل قاطع أن كل الخطوط الدفاعية التي اعتمدت فيها إسرائيل على هذه الحدود واعتبرتها آمنة فشلت عند أول تجربة لها في حرب 1973، وهو ما جعلها تعود إلى إستراتيجيتها القديمة والأصيلة القائمة على الحرب الإجهاضية أو الاستباقية ونظرية "الردع" و"ذرائع الحرب".
إلا أن نظرية "الحدود الآمنة" ظلت رغم فشلها تحتل في الإستراتيجية الإسرائيلية مركزاً مهماً باعتبارها التبرير الوحيد لاحتفاظ إسرائيل بالأراضي المحتلة. ويبدو بشكل واضح أن هذه النظرية أصبحت جزءاً من الإستراتيجية السياسية الإسرائيلية أكثر من كونها جزءاً من العقيدة العسكرية، فقد تحوَّلت "الحدود الجغرافية" الآمنة إلى "حدود سياسية" آمنة، فأصبح من المهم لأمن إسرائيل أن تتدخل في شأن كل بلد عربي سواء كان مجاوراً لها أو غير مجاور ومن المحيط إلى الخليج، باعتباره بؤرة معادية لهـا. وهكذا يصبح مفهـوم الأمن الإسرائيلي مزدوجاً، فهو مفهوم سياسي بمعنى أن لإسرائيل الحق في إبداء رأيها في أية مشكلة تخص العالم العربي كله باعتبار أن هذه تؤثر في أمن إسرائيل، ومفهوم جغرافي بمعنى أن لإسرائيل الحق في الوصول إلى "حدود آمنة ومُعترَف بها" وأنها وحدها تحتفظ بحق تحديد هذه الحدود ورَسْمها.
وقد لحقت تطورات مهمة بمفهوم الحدود في الفكر الصهيوني وتتمثل أهم هذه التطورات في ازدياد أهمية الصواريخ الباليستية باعتبار أنها تُضعف أهمية الحدود الطبيعية والعمق الإستراتيجي. ولكن أهمية هذا المتغير ليست حاسمة لدى جميع التيارات الصهيونية، كما برزت مفاهيم مثل "المنطقة الأمنية" في جنوب لبنان، و"المنطقة منزوعة السلاح" في سيناء، والمفاوضات على جعل الجولان منطقة منزوعة السلاح، وذلك مقابل تخفيض حجم ونوع الجيوش العربية، وفي الواقع فليس هناك ما يمنع الجيش الإسرائيلي من اجتياز تلك المناطق إذا اقتضت الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. وتكشف هذه التطوُّرات عن وجود اقتناع إسرائيلي بأن إسرائيل لن تكون آمنة سواء احتفظت بالأراضي أو تخلت عنها، وأن أية حدود لن تكون آمنة إن لم تكن نابعة من اعتراف وتسليم عربيين بوجود إسرائيل في المنطقة. وهذا ما لم يتم حتى الآن لأن إسرائيل قائمة على الأُسس والمبادئ الصهيونية. وقد حاولت إسرائيل قدر استطاعتها أن تحتفظ بحدودها الأمنية الجغرافية والديموجرافية عبر بنود اتفاق أوسلو.
ولذا يُقسِّم هذا الاتفاق الأراضي الفلسطينية إلى ثلاثة قطاعات: أ، ب، جـ.
ـ القطاع (أ):
يشمل المدن الفلسطينية الست الكبيرة في الضفة، وهي جنين ونابلس وطولكرم وقلقليلة ورام الله وبيت لحم والخليل، وتصل مسـاحتها إلى نحو 3% من مسـاحة الضفة الغربية وتضم 20% من السكان، وقد تم الانسحاب الإسرائيلي منها بعد تأخير وتأجيل، وبعد الاحتفاظ بـ 20% من أرض الخليل لتقيم فيها 400 مستوطن صهيوني. وفي هذه المناطق ستكون للمجلس الفلسطيني المسئولية الكاملة عن الأمن الداخلي والنظام العام والمسئوليات المدنية.
ـ القطاع (ب):
ويُشكِّل 27% من الأراضي الفلسطينية ويضم 450 بلدة وقرية تتولَّى إسرائيل بموجبه سلطة الأمن العليا لحماية مواطنيها ومكافحة الإرهاب، وتكون لهذه السلطة الأسبقية على المسئولية الفلسطينية المدنية ومسئولية النظام العام، وإقامة 25 نقطة شرطة فلسطينية في مدن وقرى محددة.
ـ القطاع (جـ):
وهو تحت إدارة إسرائيلية منفردة ويضم 70% من الأراضي الفلسطينية وفيه حوالي 136 ألف مستوطن، فيشمل المناطق غير المأهـولة والمسـتوطنات والمناطق ذات الأهمـية الإسـتراتيجية لإسرائيل. وكان من المفترض أن يكتمل الانسحاب من القطاعين ب، جـ حسب الاتفاق بعد 18 شهراً من انتخاب المجلس التشريعي (يناير 1996) أي ينتهي في يوليه 1997، وهو ما لم يتم على أرض الواقع. ويعتبر التطور الأكثر أهمية بروز فكرة الحدود الاقتصادية لتمتد حدود الدولة الصهيونية فتشمل أية منطقـة تمثل لها مصلحة اقتصادية.
العلاقة الكولونيالية بين الاقتصاد الإسرائيلي وما تبقى من الاقتصاد الفلسطيني
Colonial Relationship between the Israeli Economy and What is Left of the Palestinian Economy
العلاقة الكولونيالية بين الدولة المستعمرة والدولة المستعمَرة علاقة غير متكافئة إذ تقوم الدولة المستعمرة بما تملكه من قوة عسكرية، بنهب الدولة المستعمَرة واستغلال ثرواتها وقدراتها الاقتصادية. وتشمل عملية النهب الاستعماري استغلال المواد الخام والثروات الطبيعية والطاقات البشرية، وبخاصة الأيدي العاملة، واعتبار البلد المستعمَر سوقاً لتصريف المنتجات والبضائع الفائضة عن حاجة الدولة المستعمرة. وتؤدي هذه العملية إلى تشويه اقتصاد البلد المستعمَر وإضعاف هياكله الإنتاجية ليصير في حالة تبعية كاملة لاقتصاد البلد المستعمر يستحيل عليه الفكاك منها. والاستعمار الصهيوني للأراضي العربية الفلسطينية نموذج بيِّن وكاشف لطبيعة هذه العلاقة الكولونيالية، علاوة على أنه استعمار استيطاني قائم على نَقْل اليهود من جميع أنحاء العالم إلى الأراضي المحتلة ليستنزفوا ثرواتها وإمكاناتها الاقتصادية على حساب سكانها العرب الأصليين، الذين يتم طردهم والاستيلاء على أرضهم وموارد المياه الخاصة بهم أو محاصرتهم في معازل، واستغلال طاقتهم البشرية كعمالة رخيصة وسوق مضمونة، مفتوحة أمام البضائع الإسرائيلية. وقد استهدفت السياسة الاقتصادية الإسرائيلية الحيلولة دون إمكانية قيام اقتصاد فلسطيني معتمد على نفسه.
وقد تمكَّنت إسرائيل من إخضاع اقتصاديات الضفة الغربية وغزة بسبب سيطرتها العسكرية والمؤسساتية من جانب، ولكون اقتصادها أكبر حجماً وأقوى من الاقتصاد الفلسطيني من جانب آخر، فسنَّت من القوانين ما يكفل لها الهيمنة والسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني، حيث تجري الحياة الاقتصادية في ظل الاحتلال تحت قيود صارمة. فالحكومة الإسرائيلية تسيطر على الموارد الأساسية والبنية التحتية في مجالات الأرض والمياه والكهرباء والطرق وأنظمة الاتصالات.
لقد تحركت السلطات الإسرائيلية من أجل تحقيق أهدافها المتعلقة بإضعاف الاقتصاد الفلسطيني وإبقائه في حالة تبعية كاملة عبر مجموعة من الممارسات والإجراءات المتكاملة. فقامت من ناحية أولى بتقليص سيطرة الفلسطينيين على الموارد الطبيعية، فسيطرت السلطات الإسرائيلية على جميع مصادر المياه، بحيث إن الضفة الغربية لم تَعُد تستهلك إلا 15% ـ 20% من مياهها، أما الباقي فيُستخدَم في إسرائيل أو المستوطنات. وسيطرت السلطات الإسرائيلية على معظم الأراضي الفلسطينية عير المصادرة المستمرة، بحيث إنه كانت إسرائيل قد سيطرت بحلول عام 1994 على 68% من أراضي الضفة الغربية و40% من أراضي قطاع غزة.
وقامت الدولة الصهيونية من ناحية أخرى بعرقلة النشاط الاقتصادي. فوضعت الإدارة العسكرية للأراضي المحتلة يدها على جميع مرافق النشاط الاقتصادي، وعلى أساس ذلك الإشراف، أصبح على كل من يريد إقامة منشأة اقتصادية أو توسيع منشأة قائمة أن يحصل على رخصة الإدارة العسكرية، التي غالباً ما كانت تماطل في منح التراخيص أو ترفضها تماماً. كما تم مضاعفة الضرائب على النشاط الاقتصادي. علاوة على ذلك فقد قامت سلطات الاحتلال بإغلاق المصارف العربية والأجنبية التي تعمل في الأراضي الفلسطينية عقب الاحتلال مباشرةً، ولم تسمح بالعمل إلا لفروع المصارف الإسرائيلية. وبذلك تحكمت إسرائيل في العمليات المصرفية والمالية، وأصبحت العملة الإسرائيلية هي النقد الرئيسي المتداول.
ومن ناحية ثالثة تمت عملية سلب المصادر المالية الفلسطينية عبر قنوات ثلاثة تمثلت في الضرائب الجمركية على السلع المستوردة، وضرائب الدخل، والضمان الاجتماعي على العمالة الفلسطينية في إسرائيل. والعائد الذي تحصل عليه إسرائيل من جراء استخدام عملتها النقدية (الشيكل) عملة رسمية في الأراضي المحتلة أو ما يُسمَّى بـ «ريع السيادة». وقد بلغ مجموع هذه الاقتطاعات نحو 15% ـ 20% من حجم الناتج القومي الإجمالي الفلسطيني في العام الواحد. وتفيد تقديرات البنك الدولي أن ما دفعه الفلسطينيون من أموال الضرائب منذ أواسط الثمانينيات يفوق ما تنفقه إسرائيل في الأراضي المحتلة.
وقامت السلطات الإسرائيلية من ناحية رابعة بتخريب البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني وإهمال المرافق والخدمات العامة، حيث انخفض حجم الإنفاق الحكومي كنسبة من الناتج القومي الإجمالي من 15% عام 1968 إلى 8% عام 1990 في الضفة، ومن 14% إلى 10% في غزة في الفترة نفسها. وعمدت السلطات الإسرائيلية ـ من ناحية أخرى ـ إلى السيطرة على التجارة الخارجية، ففرضت على الأراضي المحتلة اتحاداً جمركياً أحادي الجانب وغير متكافئ، بحيث تُمنح حرية تامة لدخول البضائع الإسرائيلية إلى أسواق الضفة والقطاع، مقابل فرض القيود على دخول البضائع الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية. ونتج عن ذلك قيام المستورد الفلسطيني باستيراد بضائع إسرائيلية بتكلفة تبلغ أضعاف ما هي عليه في البلاد المجاورة، كما نتج عنها حالة تبعية واضحة، فإسرائيل تستوعب 65% من الصادرات الفلسطينية، وتحصل على 90% من الوارادات إلى فلسطين.
وقد ظلت التجارة بين الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل في الأساس نشاطاً من جانب واحد. فالمنتجات الإسرائيلية تدفقت إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من غير أية إعاقة، في حين فرضت قيود كثيرة لا تتعلق بالتعريفة الجمركية (الأمن ـ السلامة والصحة ـ الحظر على الواردات) على الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل، ولم يكن مسموحاً للفلسطينيين أن يستوردوا إلا من خلال إسرائيل. إن الاقتصاد الإسرائيلي مرهون بقيد السوق الذي يؤدي دور المحدد القسري الذي تحاول إسرائيل تجاوزه من خلال السياسة، فهناك أزمة فَيْض الإنتاج الناجمة عن التفاوت بين وتيرة نمو الطاقة الإنتاجية ووتيرة نمو الطاقة الاستهلاكية، فسعت إسرائيل إلى ربط اقتصاديات الضفة وغزة ربطاً وثيقاً بها، مع بقائهما منعزلتين من بعضهما البعض، وتبنت سياسة "الجسور المفتوحة" عبر إقامة وحدة جمركية وحيدة الجانب مع إسرائيل، ووضعت الحواجز والعراقيل لإضعاف القطاعات الإنتاجية الفلسطينية (الزراعة والصناعة).
وظلت القطاعات الاقتصادية خاضعة لثقل سيطرة القوانين والسياسات الإسرائيلية، التي استخدمت تَحكُّمها في منح التراخيص لعرقلة النمو الصناعي عن طريق رَفْضها المتكرر منح التراخيص للفلسطينيين الراغبين في إنشاء مصانع. وأدَّت الأسعار المرتفعة الناجمة عن المصادرة المكثفة للأراضي الفلسطينية، والقيود المفروضة على استخدامها، وغياب النظام المصرفي الذي يؤمِّن التسليف، وفقر البنى التحتية والخدمات الداعمة للمشاريع إلى وَضْع المزيد من العراقيل أمام نمو قطاع الصناعة. وفي قطاع الزراعة أدت مصادرة الأراضي والتحكم في موارد الميـاه إلى فرض قـيود واسـعة على الزراعة الفلسطينية، وأدَّت المنافسة غير المتكافئة مع السلع الإسرائيلية إلى إضعاف قطاع الزراعة الفلسطينية، كما صارت شركات السياحة الفلسطينية ملحقة بالشركات الإسرائيلية أو الدولية. لقد أدى تراكم هذه التطورات إلى إحداث تشويه قطاعي في الاقتصاد الفلسطيني، حيث انكمش القطاع الصناعي وتراجع القطاع الزراعي، حتى أن حصة الصناعة والزراعة في مطلع التسعينيات كانت لا تتعدى 35% من الناتج القومي الإجمالي، مع أن متوسط حصة هذين القطاعين في البلاد النامية تزيد عن 50%.
وبذلك تمكنت السياسة الإسرائيلية من تغيير بنية الاقتصاد الفلسطيني ليصبح تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي وغير قابل لتكوين الأرضية الضرورية لدولة مستقلة. ولكنها، مع هذا، لم تتمكن من تحقيق هدفها الآخر الذي يتمثل في خلق ظروف اقتصادية في الأراضي المحتلة تساعد في إضعاف حوافز مقاومة الاحتلال. فانبعثت سياسة تفكيك الصلة بين الدخل الفلسطيني والإنتاج الفلسطيني، وفي الواقع فإن زيادة الدخل لم تتناقض مع التخريب البنيوي للاقتصاد ما دامت تلك الزيادة تأتي من مصادر خارجية. بل إن زيادة الدخل بالطريقة التي تمت بها أثناء الاحتلال شكلت آلية لإضعاف القطاعات الإنتاجية، فالعمالة الفلسطينية في إسرائيل تعمل بأجور أعلى من الأجور المتاحة في الاقتصاد الفلسطيني وهو ما أضعف القطاعات الإنتاجية عبْر رفع تكلفة الإنتاج وتغيير هيكل الأسعار بصورة غير ملائمة للإنتاج.
لقد اعتمدت إسرائيل مجموعة من السياسات لتحقيق هدف إضعاف مقاومة الاحتلال عبر زيادة الدخل، فقامت بتشجيع اليد العاملة الفلسطينية على العمل داخل إسرائيل، واتبعت سياسة الجسور المفتوحة مع الأردن ليتمكن الفلسطينيون من تصدير بضائعهم إلى الأردن ومنه إلى العالم العربي، وكي يتمكن أصحاب الخبرات والمثقفين من السفر والعمل في الأردن وأقطار الخليج العربي. وتُعتبَر العمالة الفلسطينية إحدى نتائج السيطرة على الاقتصاد الفلسطيني. ويعود سبب إقبال إسرائيل على الاستعانة بالعمالة الفلسطينية إلى رفض الإسرائيليين القيام بالأعمال اليدوية والمتدنية، بسبب ارتفاع مستوى الدخل الذي يعود في جانب كبير منه إلى الاعتماد على المعونات الخارجية (وهو ما يشير إلى تراجُع المفاهيم الصهيونية مثل العمل العبري واقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج، وتصاعُد النزعة الاستهلاكية). ولجأ الإسرائيليون إلى الاستعانة بالعمالة العربية التي بلغت أكثر من مائة ألف فلسطيني، بما يمثل نحو 35% من العمال الفلسطينيين، وذلك بسبب تفشِّي البطالة.
وأدَّت العمليات الفدائية والاستشهادية وعمليات المقاومة المسلحة، وخصوصاً في عامي 1993 ـ 1994، إلى انخفاض أعداد العمال الفلسطينيين بشكل حاد نتيجة سياسات الحظر والإغلاق. ولتعويض هذا النقص في الأيدي العاملة لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى استيراد عمالة أجنبية من الخارج بخاصة من تايلاند ورومانيا ومصر. وأدَّى ذلك إلى وصول نسبة البطالة إلى معدلات كبيرة جداً في الضفة والقطاع، وصلت في قطاع غزة إلى نحو 60% أحياناً. وتوصف السياسة الإسرائيلية تجاه الاقتصاد الفلسطيني بأنها تعتمد على "الازدهار الشخصي والركود المجتمعي (إندفيديوال بروسبرتي آند كوميونال ستاجنيشن (individual prosperity and communal stagnation)، ويطلق عليها البعض «دي ديفيلوبمنت de-development»، أي أنها ممارسات تقود إلى نتائج معاكسة لعملية التنمية الاقتصادية، ويطلق عليها آخرون «إنترنال كولونياليزم internal colonialism» أو «الاستعمار الداخلي» الذي يختلف عن الاستعمار الخارجي على أساس أن أهدافه ليست عسكرية وسياسية فحسب، بل إنه يعمل بصورة رئيسية على محور اقتلاع السكان الأصليين وترحيلهم عن وطنهم، وفرض علاقة تبعية تقزيمية على أولئك الذين يبقون في الوطن.
أما فيما يتصل بالفلسطينيين في الأراضي المحتلة قبل عام 1948 فقد مرت سياسة الاقتصاد الإسرائيلية تجاههم بعدة مراحل. فبعد أن كانت السياسة الإسرائيلية تقوم خلال فترة الحكم العسكري (1948 ـ 1966) على أساس منع أيِّ نشاط اقتصادي في المناطق العربية يهدف إلى إقامة اقتصاد عربي يعتمد على نفسه، أخذت هذه السياسة في الفترة الثانية 1967 ـ 1974 تُبدي بعض الاهتمام بالوضع الاقتصادي العربي وتجري محاولات بسيطة لدمجه في الاقتصاد الإسرائيلي. لكن المرحلة منذ عام 1976 التي تميَّزت بتنامي الوعي الوطني عند الأقلية العربية، أثبتت أن صانع القرار في إسرائيل لا يفكر في دمج الاقتصاد العربي في الاقتصاد الإسرائيلي، بل يعمل على اختراقه. ففي الوقت الذي بدأ فيه رأس المال الإسرائيلي في دخول المناطق العربية وإقامة مشاريع مشتركة مع العرب، تعاظم الاهتمام بموضوع الخطر السكاني وضرورة تهويد الجليل.
ويمكن القول بأن السياسة الإسرائيلية ذات طبيعة احتوائية تجاه الفلسطينيين حيث صرفت جُل اهتمامها في أوائل السبعينيات إلى مسـائل وقضايا ثقافية واجتماعـية بـدلاً من التركيز على البُعْد الاقتصادي، محتجة بأن قصور النمو في القطاع العربي إنما يُعزى إلى تخلُّف الثقافة والقيم العربية. وبصفة عامة فإن الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في إسرائيل يخضع لسياسة التمييز العنصري، حيث يتضح أن وجود العرب بشكل فعال في قطاعي الزراعة والصناعة محظور، فمن غير المسموح لهم الوجود في المؤسسات التعاونية الزراعية، كما أنهم لا يستطيعون العمل في أية شركة صناعية إسرائيلية لها علاقة بصناعة السلاح، كذلك لا يحق لهم العمل في المنشآت الحكومية المهمة.
أما من ناحية الدخل، فهناك فارق كبير بين معدل دخل الأسرة اليهودية ومعدل دخل الأسرة العربية، وتقديرات عام 1983 تبيِّن أن معدل دخل الفرد العربي هو 46% فقط من دخل الفرد اليهودي. والعمال العرب ممنوعون من العمل في صناعة الإلكترونيات والمصنوعات الكهربائية وبناء السفن وصناعة الأسلحة التي تقع كلها تحت سيطرة المجمع العسكري/الصناعي في إسرائيل، وذلك لأسباب أمنية. ويشكل العمال العرب نحو 25% من عدد العمال غير المهرة في إسرائيل، ويعمل العامل العربي في متوسطه خمس ساعات أسبوعياً أكثر من نظيره اليهودي، ونسبة البطالة بين العمال العرب دائماً أعلى من نسبة اليهود. وقد حاول الشعب الفلسطيني ـ بنجاح جزئي ـ خلال الانتفاضة أن يفكِّك خيوط نسيج السيطرة الاقتصادية عن طريق مقاطعة البضائع الإسرائيلية ومقاومة دفع الضرائب، وتشجيع الإنتاج المحلي وهو ما أدَّى إلى حدوث تحسُّن ملموس في القطاعين الزراعي والصناعي بسبب سياسة الاعتماد على النفس. فمقاطعة السلع الإسرائيلية عملت على إضعاف التأثير السلبي للمنافسة غير المتكافئة، وتدعيم الإنتاج الفلسطيني، وبذلك نجحت الانتفاضة في جعل الاحتلال الإسرائيلي أكثر تكلفة من الناحية الاقتصادية.
لقد أحدثت الانتفاضة تغييراً جذرياً في علاقة إسرائيل بالأراضي المحتلة إذ انقلب الاحتلال من عملية تعود على إسرائيل بالأرباح الاقتصادية إلى عملية مكلفة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهو ما أدَّى بالسلطات الإسرائيلية إلى انتهاج أسلوب جديد منذ عام 1991، وهذا الأسلوب المتدرج والبطئ يهدف إلى الإنعاش الاقتصادي عن طريق رفع بعض القيود المفروضة على حرية النشاط الاقتصادي، وعن طريق مساعدة بعض المشاريع الزراعية والصناعية. ولكن الهدف الرئيسي للاحتلال ـ وهو ربط الاقتصاد الفلسطيني بعلاقة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي ـ ما زال هدف السياسة الإسرائيلية الجديدة، فالاختلاف بين السياستين القديمة والجديدة لا يتعلق بالهدف وإنما بالأسلوب فقط. فالهدف مثلما كان في الماضي هو زيادة اعتماد الفلسطيني على مصادر خارجة عن الإنتاج الفلسطيني، لكن بدلاً من أن يتم ذلك عبر تشغيل الفلسطينيين في إسرائيل، تُقام مصانع في المناطق المحتلة لا يمكنها أن تنتج إلا باستخدام مواد أولية إسرائيلية، ولا أن تبيع إنتاجها إلا عن طريق وسائل التصدير الإسرائيلية.
كما حاول المفاوضون الفلسطينيون إعادة التفاوض بشأن العلاقة الاقتصادية بين الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، ولكن الاتفاق الاقتصادي الفلسطيني/الإسرائيلي كرَّس واقع التبعية لإسرائيل، وذلك من خلال إعطاء لجنة إسرائيلية/فلسطينية مشتركة صلاحيات واسعة تنتقص من السيادة الاقتصادية في مناطق الحكم الذاتي، وأبقى الاتفاق أسواق الضفة وغزة مفتوحة بالكامل أمام السلع الإسرائيلية، وتم اعتماد الشيكل الإسرائيلي وقبوله قانونياً لتسوية المدفوعات، وأصبح لإسرائيل حق تحديد عدد العمال الفلسطينيين الذين يُسمَح لهم بالعمل لديها، وذلك رغم أنه أعطى الفلسطينيين هامشاً للحركة في بعض المجالات الاقتصادية. وبذلك يمكن القول بأنه في ظل اتفاق الحكم الذاتي فإن إسرائيل مستمرة في التمتع بصلاحية السيطرة على التطور الاقتصادي، وكما كان الأمر في السابق فإنها ستتصرف بما ينسجم مع نظرتها الخاصة إلى الوضع النهائي للمناطق المحتلة.
التوسـعية الصهيونيـة والمـياه العــربية
Zionist Expansionism and Arab Waters
تُعتبَر مصادر المياه العربية من أهم الموارد الطبيعية التي من أجلها تصرُّ إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي العربية. وتنظر دول الشرق الأوسط إلى المشكلة المائية بشكل عام من منطلق الحاجات القائمة ما عدا إسرائيل، حيث تنظر إلى المشكلة من زاوية عدم كفاية الموارد المائية القائمة حالياً لتلبية طموحاتها في مجال تهجير يهود العالم. ولذلك قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 بوضع يدها على ما يتصل باستغلال موارد المياه وتوزيعها وإدارتها. وبناءً على ذلك، أصبحت موارد المياه السطحية والجوفية كافة تحت سيطرة الحاكم العسكري الإسرائيلي، الذي يتصرف فيها وفق الأهداف الإسرائيلية.
شكَّل وضع المياه هذا أخطر عقبة أمام التنمية الاقتصادية/ الاجتماعية الفلسطينية؛ فهو بكل بساطة عملية نَهْب مستمر ومُبرمَج لموارد المياه الفلسطينية. إن مجموع إيرادات المياه السنوي يبلغ 700 مليون متر مكعب في الضفة الغربية، و60 مليون متر مكعب في قطاع غزة. وتنقل إسرائيل سنوياً إليها، أو إلى المستوطنات في الأراضي المحتلة، ما بين 515 مليون متر مكعب و530 متر مكعب؛ وهذا يعني أنها تقوم سنوياً بنهب ما نسبته 68% من المياه الفلسطينية. وقد أسفرت هذه السياسة الإسرائيلية عن حدوث ضَغْط شديد على موارد المياه الفلسطينية. ففي قطاع غزة هبطت مناسيب المياه الجوفية إلى أقل من منسوب إعادة التخزين الطبيعي، ونَجَم عن ذلك تردي نوعية المياه المتاحة من جراء المياه الملوثة والملحية.
وتشير الإحصاءات الإسرائيلية إلى أن عدد السكان في إسرائيل عام 1994 بلغ حوالي 5.1 مليون نسمة، ومن المفترض ـ في ظل تزايد عدد السكان الملحوظ عما كان عليه في السنوات السابقة عبر التهجير المستمر ـ أن يكون دائم البحث عن موارد مائية جديدة، وهو ما يعني إمكانية اللجوء إلى العمليات الحربية للسيطرة على بعض منابع المياه في المنطقة كما حدث سابقاً. ومن هنا ينظر الإسرائيليون إلى مياه الضفة الغربية بوصفها مصادر أمن قومي لا يجوز التنازل عنها. وقد استمرت إسرائيل، في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في التمسك بالسيطرة على المياه. وبدلاً من تخلِّي إسرائيل عن المياه في مناطق الحكم الذاتي فإنها ما زالت تصرُّ على ضرورة البحث عن مصادر جديدة خارجية لتزويد الضفة والقطاع، مشيرة بذلك إلى أن حقوق المياه في هذه المناطق إنما أصبحت إسرائيلية بحكم الاحتلال والأمر الواقع. ويؤكد رئيس لجنة المياه عن الجانب الإسرائيلي في المفاوضات المتعددة الأطراف كاتس عوز: "أن مياه الضفة الغربية كانت وستبقى إسرائيلية حتى بعد إقامة الحكم الذاتي".
إسرائيل الكبرى جغرافياً أم إسرائيل العظمى اقتصادياً؟
Greater Israel: Geogaphically or Economically ?
«إسرائيل الكبرى» مصطلح يتواتر في الأدبيات الصهيونية، بشكل كامن في كتابات المعتدلين وبشكل علني في كتابات من يُقال لهم «المتطرفون». و«إسرائيل الكبرى» مصطلح غير محدد المعالم يضم بكل تأكيد الأراضي الفلسطينية التي ضُمَّت عام 1967. ولكن بما أن حدود أرض الميعاد أو إرتس يسرائيل محل خلاف بين المفسرين، فإن المطالبين بضم كل أراضي إسرائيل يختلفون فيما بينهم حول ما يجب ضمه وما يجب تركه. ومفهوم إسرائيل الكبرى لم يَعُد مفهوماً مهماً في الفكر الإستراتيجي الصهيوني في إسرائيل، فظهور النظام العالمي الجديد قد غيَّر وظيفة إسرائيل وطبيعة دورها، ولم يَعُد ضم الأراضي مسألة حيوية بالنسبة لها، بل أصبح (من وجهة نظر بعض الصهاينة) عنصراً سلبياً. فإسرائيل تحاول الآن أن تلعب دوراً وظيفياً جديداً يتطلب منها التغلغل في العالم العربي بالتعاون مع بعض النخب الثقافية والسياسية العربية الحاكمة كجزء من عملية تدويل المنطقة وضمها إلى السوق العالمية والنظام العالمي الجديد. وهذا يتطلب أن تتخلى إسرائيل عن لونها اليهودي الفاقع وكل المتتاليات السياسية والعسكرية المرتبطة بهذا اللون. وإسرائيل الكبرى جزء من المتتالية القديمة التي طرحت إسرائيل كدولة يهودية غربية وقاعدة للاستعمار الغربي في العالم العربي تلعب دور الشرطي وتحـاول اغتصاب الأرض وطرد السـكان أو تسـخيرهم. أما إسرائيل الجـديـدة فهي جدُّ مختلفة. وكما قال بيريز: "إن الشعب اليهودي لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة... إنه يريد فقط أن يشتري ويبيع وأن يستهلك وينتج. فعظمة إسرائيل تكمن في عظمة أسواقها".
وقد حدث تحوُّل في اللهجة الصهيونية مثَّله بعض قادة حزب العمل واليسار الإسرائيلي مثل شيمون بيريز ويوسي بيلين ويوسي سريد. حدث هذا التحول في اتجاه التخلي عن نظرية "الحدود الجغرافية" واستبدال نظرية "الحدود الاقتصادية" بها، ويعود هذا التحوُّل إلى استنتاجهم أن القدرة على احتلال المزيد من الأرض العربية غير ممكن بدون التكلفة الباهظة للاحتلال المستمر وامتلاك الأقطار العربية أسلحة تهدد الأمن الإسرائيلي من جهة، ولعجزها عن إسكان الأراضي المحتلة بالمستوطنين اليهود من جهة أخرى. في ظل عجزها عن توفير الأمن لهم أولاً، ومتطلبات الحياة الاستيطانية ثانياً.
إن الظروف الذاتية والموضوعية تستلزم استبدال نظرية مشروع "إسرائيل الكبرى" جغرافياً بمشروع "إسرائيل العظمى" اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً بحيث يستطيع النفوذ والسيطرة الاقتصاديين أن يحققا الأهداف الصهيونية بصورة أكثر رسوخاً وأطول عمراً، وأقل كلفة وخسارة بشرية. أما مشروع إسرائيل الكبرى جغرافياً عندما يضم الفلسطينيين فإن جسمها يتلوث وتظل حبلى بالمشاكل والاضطرابات، وتبقى عرضة للمجابهات المسلحة مع الجيران، وللتوتر في علاقاتها الدولية وللأوضاع الاقتصادية المتقلبة ولانخفاض عدد المهاجرين إليها. فالطريق إلى إسرائيل الكبرى يمر عبر الحروب والمجابهات العسكرية، أما الطريق إلى "إسـرائيل العـظمى" فيمر عبر الدبلوماسية والتلويح بالقوة، فإسرائيل العظمى تظل محتفظة بتفوق عسكري نوعي قائم بالأساس على الرادع النووي.
إن "إسرائيل العظمى" تقبل التنازل عن بعض الأراضي العربية المكتظة بالسكان، والتي تعتبرها حقاً تاريخياً وجزءاً من أراضي إسرائيل التوراتية ولكنها، كما يقول بيريز، ستكون قد "أدت واجباً تاريخياً تجاه نفسها، وذلك بحماية طابعها الخاص من الإفساد والتشويه". ومقابل ذلك سوف تُرفَع المقاطعة العربية عن إسرائيل وتُفتَح أسواق المنطقة أمام البضائع الإسرائيلية. وتقوم السوق الشرق أوسطية على أساس تكامل الطاقات وتقسيم العمل بين النفط العربي، والمياه التركية، والكثافة السكانية والسوق المصرية، والخبرة والمهارة الإسرائيلية، وتُحَل مشكلة المياه في إسرائيل بإقامة مشاريع مشتركة لاستثمار مياه الأنهار الكبرى في المنطقة. وهذا المشروع هو الذي سوف يحقق الأمن لإسرائيل ويحقق "إسرائيل العظمى" التي لن تحكم الفلسطينيين فقط بل ستحكم العرب جميعاً، وتتحقق لها السيطرة والهيمنة والتربع على كامل المنطقة وثرواتها، وتدجين الشعب العربي وتطويعه، وتخريب النسيج الاجتماعي في العالمين العربي والإسلامي، وهذا تأكيد استمرارية مشروعها الأساسي القائم على التوسع. ومع هذا لا يزال جزء كبير من اليمين الصهيوني يؤمن في قرارة نفسه ويتمسك بفكرة إسرائيل الكبرى، فقد صرَّح إسحق شامير في لحظة تأثُّر وجداني عميق من تدفُّق المهاجرين المستوطنين السوفييت بأن "إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصياً" وأنه "بدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم"؛ ونتنياهو ما زال يريد العودة إلى "الحدود التوراتية" بإعادة الحياة إلى إسرائيل الكبرى.
السوق الشرق أوسطية Middle East Market
ظهر اتجاه داخل النظام السياسي للدولة الصهيونية يتبنى مقولة أن اعتماد التفوق العسكري وحده لا يُلبِّي مطامع إسرائيل في التحوُّل إلى قوة إقليمية لها دورها وحضورها الشرعي في المنطقة، وأن على إسرائيل أن تهيئ نفسها لترتيب اتفاقات "سلام" مع الدول العربية المجاورة، تقوم على تجاوز القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، لأن المصالح الاقتصادية الهائلة المستجدة ستؤدي إلى تذويب هذه المشكلات. وهذه هي المقولة الأساسية التي يستند إليها النظام العالمي الجديد: إن الإنسان كائن اقتصادي دوافعه اقتصادية ومطامحه اقتصادية، وإن الاختلافات الاقتصادية يمكن حلها، وإن خَلْق مصالح اقتصادية مشتركة بين الدول يجعل شعوبها تنسى أفكاراً بالية مثل السيادة والكرامة القومية. وبهذه الطريقة يحاول النظام العالمي الجديد أن يحوِّل العالم إلى سوق واحدة كبيرة لا تعرف الحدود، تمر فيها الشركات عابرة القارات والقوميات دون أن يعوقها عائق وتستطيع أن تبيع سلعها لمستهلكين يتسمون بالعمومية ولا يكترثون بالحدود القومية أو فكرة السيادة أو الحدود أو الأحلام الإنسانية المتجاوزة للمادة، أي أن يظهر الإنسان الطبيعي في كل أنحاء العالم (وهذه هي قمة الترشيد المادي وهذه هي العولمة الحقة). وبهذه الطريقة يقضي النظام العالمي الجديد على كل أشكال المقاومة داخل العالم الثالث ويمكن أن يقوم بتفكيك الشعوب دون أن يضطر إلى اللجوء للمواجهة، التي أصبحت مكلفة بل مستحيلة.
وهذا التحوُّل نحو الاقتصاد لا يعكس تراجعاً عن الأهداف الإسرائيلية الإستراتيجية والهيمنة السياسية والعسكرية وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية، وإنما هو تحوُّل في التكتيك والإجراءات لتحقيق هذه الأهداف في ظل التغيرات والتحولات الجديدة على المستويين العالمي والإقليمي، فيتم إدماج إسرائيل في المنطقة وفق شروط تحفز نموها الاقتصادي، القائم على تفوُّقها التكنولوجي والعلمي، فتصبح إسرائيل الكبرى مفهوماً اقتصادياً لا جغرافياً، وفي هذه الحالة لا يعتبر قيام كيان فلسطيني محدود الصلاحيات خطراً على وجودها لأن اندماجه مع إسرائيل يُيسِّر عملية الهيمنة عليه وتوجيهه. وقد تم استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» ليكون بالإمكان إدراج الكيان الصهيوني ضمن المنطقة العربية.
ويقوم المشروع الشرق أوسطي على عدة مبادئ أساسية أهمها:
أن تحقيق السلام على أرض الواقع مرتبط بالتفاعل الاقتصادي، وأن خَلْق مصالح اقتصادية مُتبادَلة بين الأطراف الداخلة فيه يؤدي إلى تسهيل التوصل إلى حل سياسي، ويصبح هذا المشروع مفتاح حل جميع مشكلات العالم العربي من خلال ترويج مقولة السلام الذي يجلب الرخاء والتنمية، بحيث يحل محل الإنسان العربي والمسلم الخاص، إنسان اقتصادي عام لا يمارس أية رغبة في تجاوز واقعه المادي الاستهلاكي المباشر، حدوده حدود السوق، وأفقه أفق السلعة، وفضاؤه متعته، وسماؤه لذته. ويقوم هذا المشروع على إعطاء دور كبير للقطاع الخاص ورجال الأعمال، أو ما يُسمَّى «خصخصة صنع السلام» لأن صُنْع السلام في الشرق الأوسط أهم وأكثر تعقيداً من أن يُترَك للسياسيين والدبلوماسيين وحدهم، بل يجب أن تساعدها وتدعمها علاقات تجارية واقتصادية يقوم بها القطاع الخاص.
وأهم آليات تحقيق الشرق أوسطية المؤتمرات الاقتصادية، التي تتم قيادتها عبر مؤسسات من خارج المنطقة لا من داخلها، مُمثَّـلة في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (سويسرا) ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك، كما أنها لم تَعُد مقصورة على ممثلي الدول بل تضم مستويات مختلفة من الحكومات ورجال الأعمال والمنظمات الدولية. وقد تم عقد ثلاثة مؤتمرات للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدار البيضاء (1994) وعمان (1995) والقاهرة (1996). وتهدف هذه المؤتمرات الاقتصادية إلى زيادة نفوذ القطاع الخاص وقطاع رجال الأعمال بحيث يصبحون لوبي (جماعة ضغط) قوية داخل أي نظام سياسي. وفي الوقت نفسه يزيد تفاعُل أعضاء هذه الفئة بعضهم مع بعض ومع المستثمرين الأجانب والشركات ذات النشاط الدولي من جهة أوربا. وهو تفاعُل سيتم في إطار المصالح الاقتصادية المجردة من القيم الأخلاقية أو القومية. وستتصاعد عملية التعامل تدريجياً إلى أن يتحول الشرق الأوسط بأسره إلى سوق مشتركة (على غرار الجماعة الأوربية) تسوده مجموعة من المشاريع الضخمة تموِّلها مؤسسات التمويل الدولية ويتم ربط كل هذا بالسوق العالمية ) أي السوق الغربية).
يتبع إن شاء الله...