منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الثانى: مفـردات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الثانى: مفـردات Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثانى: مفـردات   الباب الثانى: مفـردات Emptyالجمعة 18 أكتوبر 2013, 6:59 am

الباب الثانى: مفـردات
المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة
كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد». يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه»، و«المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل». وفي التنزيل العزيز "إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 105 ) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج). والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.
1 ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:
المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان). هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.
2 ـ المرجعية النهائية الكامنة:
يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان)، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية)، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية»). ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشـارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.
وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.
ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان)، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.
وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني). أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة). فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت)، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.
الرد (رد إلى)
«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة»، و«ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه». والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول "رد المذهب إلى نقاطه الأساسية". وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.
المسافة والحدود والحيز الإنسانى
«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة»، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر». والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين»، و«منتهى كل شيء» هو «حده» (المعنى الأنطولوجي). والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا: «طُبِّقَ عليه الحد»، و«حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي). و«الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه»، و«حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي). وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي). فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هـنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصـوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية»، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.
ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.
والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.

أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية)، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.
المركز
كلمة «المركز» من فعل «ركز»، ويقال " ركز السهم في الأرض " بمعنى «غرزه» و«ركز الله المعادن في الأرض أو الجبال» بمعنى «أوجدها في باطنها». و«المركز» هو «المقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع»، و«مركز الدائرة» هو نقطة داخل الدائرة، تتساوى الشعاعات الخارجة منها إلى المحيط. ونحن نستخدم كلمة «مركز» في هذه الموسوعة بمعنى: مطلق مكتف بذاته، لا يُنسَب لغيره، واجب الوجود، لا يمكن أن تقوم رؤية للعالم بدونه. وفي إطار المرجعية المتجاوزة، فإن مركز الكون متجاوز للكون منزَّه عنه، أما في إطار المرجعية المادية الكامنة فمركز الكون كامن فيه. والمركز عادةً موضع الكمون والحلول أو النقطة التي تتحقق فيها أعلى درجاته، ومن ثم فإن العنصر (المادي) الذي يشغل المركز في المنظومات الكمونية تكون له أسبقية على بقية العناصر.
المبدأ الواحد
«المبدأ الواحد» عبارة تتواتر في هذه الموسوعة وتشير في المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) إلى مصدر وحدة الكون وتماسكه وهو القوة الدافعة التي تضبط وجوده، قوة سارية في الأجسام، كامنة فيها، وتتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد. وهي النظام الضروري الكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضاً، لا يمنحه أو أي كائن آخر أية أهمية خاصة. هذه القوة قد يجسدها الموجود ويصل إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها هي أيضاً قوة غير متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي. وهذه القوة يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، بينما يطلق عليها دعاة وحدة الوجود المادية «قوانين الحركة»، أو أية عبارات أخرى. وحيث إن المبدأ الواحد كامن في الظواهر الطبيعية فنحن نشير إليه أحياناً باعتباره «المبدأ المادي الواحد». والمبدأ الواحد هو عادةً مركز النسق، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة أهمها «الطبيعة/المادة»، وتنويعات أخرى عليها نسميها «المطلقات العلمانية».
المعنى والهدف والغاية
«المعنى» هو «ما يُقصَد بشيء»، و«معنى الكلام» فحواه ومضمونه وما يدل عليه القول أو اللفظ أو الرمز أو الإشـارة. ومن هنا تُستخدَم عبارة «معنى الوجود» أو «معنى الحياة»، أي أن الوجود له هدف وغاية (باليونانية: تيلوس)، و«الغائية» هي الإيمان بأن العالم له معنى وغاية (وعكسها هو «العدمية»)، وهذا ما تفترضه الديانات التوحيدية ("ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك" آل عمران 191) فإن كان للوجود معنى، فحياة كل إنسان لها معنى، ولا يمكن تصوُّر معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم عملية خلقه بالصدفة المحضة، أو تكون حركته حركة مادية آلية مثل حركات الذرة. فإذا كانت حركة الإنسان هي نفسها حركة المادة، وكانت حركة المادة حتمية وتتم خارج وعي الإنسان وخارج أية غائية إنسانية، فإن كل ما يحدث سيحدث، ولا يمكن أن تنطبق عليه معايير خارجة عنه، أي أن كل الأمور تصبح نسبية بل حتمية وتتم تسوية الإنسان بالأشياء. والعلم الطبيعي الذي يتعامل مع الأشياء أو مع الإنسان بمنطق الأشياء ينتج معرفة منفصلة عن القيم الأخلاقية، بل إن تَقدُّم العلم مرتبط تمام الارتباط بانفصاله عن القيمة والغائية (إلى أن تنفصل النزعة التجريبية عن النزعة العقلانية تماماً). ومن هنا التمييز بين «المعنوي» و«المادي»، فالمعنوي مرتبط بالهدف والغاية وهما يتجاوزان المادة، أما المادي فلا هدف له ولا غاية. ونلاحِظ أنه في الحضارات المادية (سواء الوثنية القديمة أو العلمانية الحديثة) التي تعلي شأن المادة وترى أسبقيتها على الإنسان، أي ترى أسبقية المادي على المعنوي، يظهر ما يُسمَّى «أزمة المعنى» التي يعبَّر عنها بتعبيرات مثل «الاغتراب» أو «اللامعيارية (الأنومي)» و«التشيؤ» و«التسلع» وغيرها. ويعبِّر الأدب الحداثي عن أزمة المعنى التي يواجهها الإنسان الغربي.
ويُلاحَظ أن النسبية الحديثة تأخذ شكلاً جديداً تماماً، فهي لا تنكر إمكانية الوصول إلى المعنى، وإنما تطرح إمكانية الوصول إلى معان كثيرة كلها متساوية في الشرعية. وهي تنكر من ثم فكرة الحقيقة الكلية، فالكل بطبيعته، مادياً كان أم روحياً متجاوز للأجزاء، ومن ثم يشير إلى ما وراء الأجزاء وما وراء المادة. فوجود الكل المتجاوز للأجزاء يعني أن الأجزاء خاضعة للكل، وهي خاضعة له حسب فكرة ما ومعنى ما، لوجوس ثابت متجاوز، مطلق، وفي نهاية الأمر ميتافيزيقا، أي الإله، وهنا لا يمكن الاستمرار في إنكار القصد والغاية والمعنى وهرمية الواقع. وفكر ما بعد الحداثة هو تعبير عن هذا الاتجاه الذي يشكل في واقع الأمر إذعاناً كاملاً لأزمة المعنى وعملية تطبيع اللامعيارية التي يواجهها الإنسان الحديث.
التجاوز والتعالى (مقابل الحلول والكمون)
«التجاوز والتعالي» تُترجَم بالإنجليزية بكلمة «الترانسندانس transcendence»، وهي من اللاتينية: «ترانس كنديري transcendere» من مقطعي «ترانس» بمعنى «وراء»، و«كنديري» بمعنى «يتسلق»، أي «يذهب وراء». وكلمة «تجاوز» عادةً ما توضع مقابل «كمون»، و«حلول» (وقد ترجمت الكلمة الإنجليزية إلى الكلمات العربية التالية: «صوري» - «مفارق» - «متسام» - «ترانسندنتالي» - وأحياناً «جواني»). والتعالي هو أن يعلو الشيء ويرقى حتى يصير فوق غيره؛ ولذا فهو شيء مفارق ليس فوقه شيء، وهو يجاوز كل حدٍّ معلوم أو مقام معروف. والشيء المتعالي لهذا السبب يتحدى التجربة المادية والتفسير العلمي المادي. وعكس التعالي والتجاوز الحلول والكمون. بالإنجليزية «مانثيزم pantheism»، و«إمننانس immanence» (انظر الباب المعنون «الحلولية ووحدة الوجود الكمونية»).
وفلسفة التعالي تذهب إلى القول بأن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة أو حقائق مطلقة قائمة بذاتها مجردة من شروط الزمان والمكان، وأن هناك علاقات ثابتة محيطة بالحوادث ومستقلة، أي أن النظام الطبيعي، بكل ما يتسم به من تغيُّر وتعدُّد ونسبية وسيولة وراءه نظام يتسم بالوحدة والثبات والمطلقية، وثمة مركز ثابت للظواهر العارضة متجاوز لها (وهذا ما نسميه «المرجعية المتجاوزة»). ولذا، توصف أية فلسفة تذهب إلى القول بأن في العالم ترتيباً تصاعدياً تخضع فيه الحوادث للتصورات والتصورات للمبادئ بأنها فلسفة متعالية (على عكس فلسفات الحلول والكمون الواحدية التي تأخذ شكل مسطح أفقي تحوي مركزها داخلها أو تكون بغير مركز، ولا يكون فيها أعلى أو أسفل وتتسم بالواحدية).
وفي الأنساق التوحيدية، التعالي الحق هو ارتقاء يستمر إلى غير نهاية إلى أن يصل إلى اللانهاية. والتعالي النهائي، بهذا المعنى، لا يمكن أن يُرد إلى ما هو دونه لأنه لو رُد إلى ما هو دونه لفقد تجاوزه وتعاليه وتَنزُّهه، أي أن فلسفة التعالي الحقة تصل دائماً إلي أن وجود الإله يسبق كل الموجودات الأخرى، ومن ثم فهو سببها النهائي ولكنه منزه عنها وله وجود مستقل، وهو مركزها وهو الغاية التي تسعى نحوها. فالله تعالى هو المتعالي والعالي والعلي وهو «الكبير المتعال» البائن عن خلقه، أي أنه مركز الكون والمدلول النهائي المتجاوز للطبيعة والتاريخ المنزه عنهما. ورغم وجود مسافة تفصل بين الكائن المتجاوز العلي وعالم المادة، فإن له تجلياته في العالم المادي، فالمتجاوز والمتعالي هو اللامحدود اللامتناهي الذي يعبِّر عن وجوده داخل المحدود والمتناهي دون أن يُرد إليهما. وهذه التجليات تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي ولكنها تزوِّده كذلك بقَدْر من التماسك وباتجاه متصاعد لا يمكن فهمهما أو تفسيرهما في إطار مادي محض.
والعلمنة هي إنكار إمكانية التجاوز، فالعالم الطبيعي/المادي مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه (مرجعية كامنة). والإنسان جزء من هذا العالم، فهو إنسان طبيعي/مادي لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة ولا تجاوز ذاته (الطبيعية) أو التحكم ضد التجاوز. فالإنسان القادر على التجاوز لا يمكن التحكم فيه تماماً، ولا يمكن تسويته بالكائنات الطبيعية إذ يظل داخله ما يتحدى القوانين الطبيعية المادية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين المادة ولا يمكن حوسلته.
ويُلاحَظ أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة هو تاريخ تصاعُد معدلات الحلول (الكمون) والإنكار المتصاعد لأي تجاوز، ومن ثم فهو تصاعد للواحدية المادية وتصفية لثنائية المتجاوز/الكامن إلى أن نصل إلى الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة الذي ينكر أي تجاوز وأية مركزية لأي شيء بل ينكر فكرة الكل نفسها باعتبار أن الكل متجاوز للأجزاء.
المطلق والنسبى
«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق»، ويشـار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجـاوز»، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَـب لغيره فهو يتجاوز كل شـيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و«روح الأمة» (جوهرها ومطلقها). وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة).
وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق») عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعة الزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخـلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانـت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.
أما «النسبي»، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد). والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.
ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسـد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.
وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفـة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مـركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس»، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقد حل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.
المركب والبسيط
«المركب» هو الذي يشتمل على عناصر كثيرة متشابكة، ويقابله «البسيط»، وهو الذي يشتمل على عناصر قليلة، وإن كانت كثيرة فهي غير متشابكة. وفي إطار المرجعية الكامنة في الطبيعة والإنسان، يظهر الإنسان الطبيعي/المادي (الذي يُردّ إلى الطبيعة/المادة) وهو كائن يتسم بالبساطة (العضوية أو الآلية) البالغة. أما في إطار المرجعية المتجاوزة، يظهر الإنسان الرباني حاوياً داخله القبس الإلهي (الذي يأتيه من خارج النسق الطبيعي ولا يمكن أن يُردَّ إليه)، ولذا فهو يحوي الأسرار واللامحدود والمجهول والغيب، جنباً إلى جنب مع العناصر الطبيعية الأخرى، ويتشابك داخله المحدود مع اللامحدود، والمعلوم مع المجهول، والجسد مع الروح، والبراني مع الجواني، والعقل مع القلب، وعالم الشهادة مع عالم الغيب. ولذا، لا يمكن أن يُرد مثل هذا الإنسان إلى عالم الطبيعة/المادة ولا يمكن أن يُختَزل إلى صيغ مادية بسيطة، فهو قادر على تجاوزه، إذ ثمة مسافة تفصل بينه وبينها.
المجرد والعينى (أو المتعين)
التجريد، في اللغة، هو «التعرية من الثياب» وهو «التشذيب»، و«جرَّد الشيء» يعني «قشَّره وأزال ما عليه»، و«جرَّد الكتاب» يعني «عراه من الضبط والزيادات»، و«جرَّده من ثوبه» يعني «عرَّاه»، و«جرَّد الجرادُ الأرضَ» يعني «أكل ما عليها من النبات، وأتى عليه فلم يبق منه شيء»، ويقال أيضاً «جرَّد القحطُ الأرضَ» أي «أذهب نباتها».
التجريد، إذن، عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً، وقَصْر الاعتبار عليها، مثلما يُجرَّد امتداد الجســم من كتلته، مع أن هاتين الصفتين لا تنفكان عن الجسم في الوجود الخارجي، فهو عملية تفكيك لظاهرة ما ثم إعادة تركيب لها بهدف عزل الصفة موضع الاهتمام.
والهدف من التجريد توفير إمكانية النظر إلى ما يتصوَّر المرء أنه أهم سمات ظاهرة ما وحدودها في صورتها النقية البحتة (جوهرها) بدون مراعاة مختلف التأثيرات الثانوية والجانبية والعرضية. وهي عملية تحديد وفصل، أي تعيين حدود تتم من خلالها استبعاد جزئيات وتفاصيل وصولاً إلى الظاهرة التي يحاول العقل فهمها، فالتجريد من ثم إستراتيجية تحليلية أساسية. والتجريد مسألة أساسية في عملية صياغة النماذج وفي عملية استخدامها واكتشافها، فالتفكيك والتركيب هما في جوهرهما عمليتان تجريديتان.
ويرتبط التجريد بفكرة الكل، إذ لا يمكن الوصول إلى الكل المتجاوز للأجزاء، والثبات الكامن وراء الصيرورة، والجوهر الكامن وراء الظواهر المتنوعة إلا من خلال عملية تجريدية. ولذا نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة المعادية تعادي التجريد لأنها ترى أن فكرة الكل ملوثة بالميتافيزيقا (باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات) ولأنها تريد أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة حتى يختفي الكل والجوهر، بما في ذلك الكل والجوهر الإنساني، وتؤدي إلى موت الإنسان بعد موت الإله، بل وتزيل ظلال الإله تماماً من الكون، وتأخذ الفلسفة البنيوية موقفاً مغايراً تماماً، فهي تزيد من معدلات التجريد إلى أن تصل إلى مستويات تجريدية عالية جداً، تصل إلى عالم الذرات والأرقام مما يؤدي إلى اختفاء الكل والجوهر الإنساني، فتؤدي هي الأخرى إلى موت الإنسان.
و«العيني» هو «الشخصي»، وهو ما يُدرَك بالحواس، ولذلك نُسب إلى العين، وهو أهم ما يميِّز أيَّ شيء نوعي أو فردي. ويُستخدم المصطلح ليشير إلى حادثة مفردة أو موضوع خاص، فيمكن أن نتحدث عن تفاحة حمراء، وهذا شيء عيني، أما الفاكهة فهي شيء مجرد، أي أن المعيَّن أو المتعين أو العيني يقابل المجرد أو المحسوس:
أ ) يشير المجرد إلى كيفية من كيفيات الموجود، وإلى صفة من صفاته، أما العيني فيشير إلى الموجود بالفعل.
ب) يشير المجرد إلى الوجود الذهني، أما العيني فيشير إلى الوجود الخارجي الحسي المتجسم.
جـ) يشير المجرد إلى ما هو عام ومتكرر في الظاهرة، أما العيني فيشير إلى صفاتها النوعية والفردية والفريدة.
د ) لكل ما تقدَّم، يتسم المجرد بالبساطة والوضوح ويتسم العيني بالتركيب والإبهام.
ومع هذا، يمكن القول بأن المجرد لا يمكن فصله عن العيني تماماً، فلا توجد فكرة مجردة كل التجريد، ولا شيء متعيِّن كل التعيُّن. فهذه حالات افتراضية نماذجية، إذ أن وجدان الإنسان وعقله يوجدان في المنطقة التي يلتقي فيها المجرد بالمتعين. ولذا إن تحدَّث الإنسان عن تفاحة حمراء بعينها فهو لا يستطيع أن يستبعد فكرة الفاكهة المجردة، وإن تحدَّث عن الفاكهة على وجه العموم فإنها تستدعي الثمرات المتعيِّنة المختلفة. ومع هذا، تتطلب عملية الإدراك ونحت النماذج وتشغيلها عملية تجريد (تفكيك وتركيب).
السببية الصلبة واللاسببية السائلة
«السببية» نسبة إلى «السبب»، والسبب هو كل ما كان ذا تأثير وما يترتب عليه مسبب، وهو ما يتوقف عليه وجود شيء، وما يحتاج إليه الشيء في ماهيته أو وجوده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى.
والسبب عند علماء الأخلاق ما يفضي إليه العقل ويبرره، وهو مرادف للحق، نقول: "فلان يبغضني بغير سبب"، أي "بغير وجه حق". والسبب تام وغير تام، فالتام هو الذي يُوجَد المسبب بوجوده، وغير التام هو الذي يتوقف وجود المسبب عليه، ولكن المسبب لا يوجد بوجود السبب وحده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. و«السببي» هو المنسوب إلى «السبب»، و«السببية» هي العلاقة بين السبب والمسبب.
والإشكاليات التي تثار حول العقل هي نفسها التي تثار حول السببية، فهل السببية شيء كامن في الأشياء نفسها، بمعنى أن السبب (شيء ما كامن في الظاهرة) هو الذي يؤدي بالفعل إلى النتيجة المادية، أم أن السببية علاقة اقتران مطرد وحسب، بمعنى أنه كلما حدث (أ) حدث (ب) دون أن تكون (أ) هي المؤدية إلى (ب) وبدون أن تكون (ب) ناتجة عن (أ) بالضرورة؟ وإن لم تكن السببية كامنة في الأشياء نفسها - فهل هي، إذن، أمر مفطور في عقولنا من قبل قوة حاكمة للعالم، أم أننا نفرضها على الواقع فرضاً (لأنها تخدم مصالحنا).
والنظريات المادية التي تحاول أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ مادي واحد (أو مقولات مادية) تتأرجح في معظم الأحيان بين افتراض السببية الصلبة وبين إنكار السببية تماماً. أما السببية الصلبة، فهي الإيمان بأن لكل ظاهرة (طبيعية أم إنسانية - بسيطة أم مركبة) سبباً واضحاً ومجرداً وبأن علاقة السبب بالنتيجة علاقة حتمية بمعنى أن (أ) تؤدي دائماً وبنفس الطريقة وحتماً إلى (ب). كما أنها سببية مطلقة بمعنى أنها تغطي كل المعطيات والظواهر بشكل مطلق في كل تشابكها وتداخلها وتفاعلها. ولحظة نهاية التاريح هي لحظة إدخال كل شيء في شبكة السببية الصلبة المطلقة، وهي أيضاً لحظة الاستنارة الكاملة، حين تتم إنارة كل شيء وضمن ذلك الإنسان فيُستوعَب في شبكة السبب ويدخل القفص الحديدي.
والسببية الصلبة المطلقة تؤدي إلى التفسيرية الصلبة المطلقة، بمعنى أن يحاول الإنسان التوصل إلى الصيغة/ القانون العام الذي يفسر الكليات والجزئيات وعلاقاتها. والسببية الصلبة المطلقة تترجم نفسها إلى صورة مجازية آلية أو صورة مجازية عضوية مصمتة لا تحتوي على أي فراغات أو مسافات، ولا تتحمل أي عدم استمرار، وتلغي أي حيز بما في ذلك الحيز الإنساني. وتسود السببية الصلبة المطلقة في عصر المادية البطولي (عصر التحديث) والثنائية الصلبة والعقلانية المادية.
ولكن النماذج المادية تفشل، بطبيعة الحال، في إدخال العالم (الطبيعة والإنسان) في شبكة السببية الصلبة. كما أنه، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية الواحدية، يتراجع المركز إلى أن يختفي ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح الواقع في حالة سيولة غير مفهومة، والعقل نفسه جزء من الصيرورة غير قادر على تجاوزها، ومن ثم غير قادر على إدراك الواقع كسبب ونتيجة. وهنا، بدلاً من السببية الصلبة المطلقة، تظهر اللاسببية السائلة واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة (عصر ما بعد الحداثة).
وهناك بطبيعة الحال من يحاول الحفاظ على موقف وسط بين السببية الصلبة المطلقة واللاسببية العدمية (مثل كانط على سبيل المثال) ولكنه موقف يستند إلى أرضية واهية، ولذا فعادةً ما تتفتَّت هذه الوسطية وتتحول إلى حتمية واحدية صارمة (كما هو الحال في المنظومات الهيجلية) أو إلى لاسببية سائلة (كما هو الحال في النظم المعادية للهيجلية [نيتشه وغيره]).
السببية الفضفاضة
تفترض النظم التوحيدية وجود المركز خارج العالم ولذا فالعالم مترابط ومن ثم بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى قدر معقول من المعرفة، ولكن ترابط العالم ليس صلباً ولا مطلقاً ولا عضوياً مصمتاً إذ يتخلله الحيز الإنساني وهو ما يسمح بوجود الأسرار والتركيب والثنائيات والانقطاع، فهو نظام يعترف بوجود قدر من الاستمرار ومن ثم بالسببية ولكنها سببية فضفاضة تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج ولكن ليس بشكل حتمي معروف مسبقاً. ولذا لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى القانون العام والنهائي الذي يجعله قادراً على معرفة الكون معرفة كاملة ومن ثم يمكنه إدخال كل شيء شبكة السببية الصلبة، وعلى الإنسان أن يقنع بقدر من التحكم في الكون والتوازن معه.
الواحدية الكونية: المادية أو المثالية / الروحية
«الواحدية» مصدر صناعي من كلمة «واحد»، وتُعبِّر عن واقع تآصل ظواهر مختلفة وعن كونها تُرَدُّ إلى أصل أو جوهـر واحد. وقد عرَّف المجمع اللغوي بالقاهرة كلمة «الواحدية» (في الفلسفة) بأنها مذهب يَرُدّ الكون كله إلى مبدأ واحد، كالروح المحض أو كالطبيعة المحضة. أما «أُحادية»، فهي من كلمة «أُحاد». وهي، في مثل «جاء الأضياف أُحادَ»، بمعنى «واحداً بعد واحد»، أي «جاء الأضياف واحداً واحـداً». فهي إذن تدل على الانفراد. ومن هنـا، فقد اسـتُخدم المصدر الصناعي «أُحادية» حديثاً للتعبير عن حالة الانفراد. وهي تعني، في التعبير الفلسفي، رد الظاهرة (وهي بطبيعتها متعددة الجوانب)، أو أية عملية، إلى أحد أوجهها دون أوجهها الأخرى. فيقال مثلاً «النظرة الأحادية»، أي النظرة التي تضع في اعتبارها عنصراً واحداً دون عناصر أخرى في الظاهرة كان لابد من وضعها في الاعتبار. والاختلاف كبير بين المفهومين: الواحدية والأحادية. ويمكن القول بأن الواحدية الكونية مفهوم أُنطولوجي (وجودي) ينسب الواحدية إلى الكون، بينما الأحادية مفهوم إبستمولوجي (معرفي) يرى أن الأحادية خاصية تسم بعض طرق التعريف والتحليل والإدراك.
وفي هذه الموسوعة، نستخدم عبارة «واحدية كونية» للإشارة إلى الرؤية الحلولية الكونية القائلة بأن الكون بأسره يمكن أن يُردّ إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهي قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي تشكل نظاماً ضرورياً كلياً للأشياء لا يمنح الإنسان أو أي كائن آخر أهمية خاصة أو مركزية. وهذا المبدأ الواحد هو الإله في وحدة الوجود الروحية وهو الطبيعة/المادة في وحدة الوجود المادية (وهذا النمط الأخير هو الأكثر شيوعاً، ولذا فنحن نخصص أحياناً ونشير إليه بأنه «الواحدية الكونية المادية» أو «الواحدية المادية» أو «الواحدية الموضوعية المادية»).
ويمكن القول بأن ثمة أنواعاً مختلفة من الواحدية هي تعبير عن مستويات مختلفة من الحلول. فالواحدية الكونية هي حلول الإله في الكون بأسره (وهو عادةً ما يحتفظ باسمه «وحدة الوجود الروحية»). ولكن يمكن أن ينحصر الحلول في الإنسان ومن ثم تظهر «الواحدية الذاتية» التي تترجم نفسها إلى النزعة الإنسانية الهيومانية المتطرفة («الواحدية الإنسانية») وإلى الذاتية الفلسفية. ولكن حينما يتركز الحـلول في جـنس بعينه (الجنس الأبيض ـ شعوب أوربا) تتحول الواحدية الذاتية إلى «واحدية إمبريالية وعنصرية». وحينما ينتقل الحلول من الإنسان إلى الطبيعة تظهر «الواحدية الطبيعية المادية» (أو «الواحدية الموضوعية المادية») ويهتز مفهوم الطبيعة البشرية إذ يظهر الإنسان الطبيعي الذي يذعن للطبيعة/المادة. وتتصاعد معدلات الحلول فتبدأ الكليات في الغياب والتفكك ويغيب مفهوم الإنسانية المشتركة تماماً إلى أن نصل إلى ما يمكن تسميته «الواحدية الذرية» حين ينتشر الحلول في كل أرجاء الكون وذراته فلا يوجد فارق بين إنسان وحيوان، وذكر وأنثى، ومقدَّس ومدنَّس. والواحدية الذرية هي بطبيعة الحال واحدية سائلة (على عكس أشكال الواحدية الأخرى التي تتسم بالصلابة). ويُلاحَظ أن تصاعد معدلات الحلولية يعني تراجع الحيز الإنساني وضموره ثم اختفاؤه الكامل حين يتوحَّد الإله تماماً بالنظام الطبيعي ويصبح الإله هو القانون الطبيعي.
ويمكن القول بأن الواحدية الكونية هي تَوحُّد الإله بالإنسان بالطبيعة (وهذه هي الوثنية القديمة)؛ أما الواحدية المادية فهي تَوحُّد الإنسان بالطبيعة (بعد موت الإله)؛ وهذه هي العلمانية الشاملة الحديثة واللحظة الجنينية الكاملة. ورغم هذه التفرقة المبدئية، فإننا أحياناً نتحدث عن «الواحدية الكونية المادية» إذا استدعى السياق ذلك لنبيِّن الوحدة الكامنة بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية.
ونموذج الواحدية الكونية المادية هو نموذج يدور في إطار المرجعية الكامنة، فهو يفـترض أن مركز العالم كامن فيه. ومن ثم، فإن الكون المادي لا يشير إلى أي شيء خارجه. فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات، تم إلغاء كل الثنائيات الفضفاضة داخله (وضمنها ثنائية الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والخير والشر، والأعلى والأدنى)، وتم تطهيره تماماً من المطلقات والقيم، وتم اختزاله كله إلى مستوى واحد يتسـاوى فيه الإنسـان بالطبيعة هو مستوى القانون الطبيعي/المادي أو الطبيعة/المادة (المطلق العلماني النهائي). وفي مثل هذا العالم الواحدي الأملس لا يوجد مجال للوهم القائل بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية. بل يمكن تطبيق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان، كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصيغ. ويتحول العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامة للحركة (ومن ثم قابل للقياس والتحكم الهندسي والتنميط) وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسلتها.
في هذا الإطار تصبح المعرفة مسألة تستند إلى الحواس وحسب، ويصبح العالم الطبيعي المصدر الوحيد أو الأساسي للمنظومات المعرفية والأخلاقية، وتُردُّ الأخلاق إلى الاعتبارات المادية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وتنفصل الحقائق المادية تماماً عن القيمة، ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق و الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية، وتصبح الحقائق المادية (الصلبة أو السائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة، وتصبح سائر الأمور (المعرفية والأخلاقية) نسبية صالحة للتوظيف والاستخدام. بل إن هذه الرؤية الواحدية المادية، في مراحلها المتقدمة، بإنكارهـا أي ثبات، ينتهي بها الأمر إلى إنكـار وجـود الماهيات والجوهر، بل الإنسانية المشتركة نفسها، باعتبارها جميعاً أشكالاً من الثبات والميتافيزيقا. عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي وهو أيضاً عالم الجماعة الوظيفية والواحدية الوظيفية والإنسان الوظيفي.
ورغم أن «الواحديـة الكونيـة الماديـة» هي الأكثر شـيوعاً، إلا أننا يمكننا أيضاً الحديث عن «الواحدية المثالية» أو «الواحدية الروحيـة»، أي الإيمان بأن ثمة مبدأً واحداً في الكون تُرَدُّ إليه كل الظواهر الإنسانية والطبيعية. وهذا المبدأ قد يكون مثالياً خالصاً: الإله ـ نفس العالم (باللاتينية: أنيموس موندي animus mundi) ـ الروح (بالألمانية: جايست Geist) ـ الروح الدافعة (بالفرنسية: إيلان فيتال élan vital)؛ أو قد يكون شيئاً روحياً اسماً مادياً فعلاً: روح الشعب ـ روح التاريخ ـ جدلية التاريخ ـ البقاء للأصلح ـ حب السيطرة والبقاء ـ اللبيدو. وسواء أكان المبدأ الواحد مادياً خالصاً أو كان مثالياً أو مثالياً اسماً مادياً فعلاً، ففي إطار الواحدية يُرَدّ كل شيء إلى هذا المبدأ وتذوب الأجزاء في الكل وتنتفي هويتها ويختفي التعدد ويختفي الإنسان ككيان مستقل.
و«الواحدية» غير «التوحيد» أو «الوحدانية»، فالوحدانية والتوحيد يدوران في إطار المرجعية المتجاوزة التي تفترض أن مركز الكون متجاوز له وأن الإله ليس كامناً في الكون وإنما متجاوز له، فهو الواحد الأحد العلي، ولكن وحدانية الإله لا تُلغي التعدد والتنوع والهوية المتعينة للأشياء. بل هي على العكس ضمان لها، فهو المركز المتجاوز الذي لا يمكن أن يتوحد معه شيء. والإنسان ليس ذاتاً مطلقة لا حدود لها ولا موضوعاً مطلقاً خاضعاً تماماً للحدود، إذ يتمتع بهوية مُتعيِّنة يتضح تَعيُّنها من خلال الحدود. والإنسان ليس حراً تماماً في أفعاله، فالمركز المتجاوز يضع حدوداً على هذه الحرية، ولكنه ليس مُسيَّراً تماماً فالمركز المتجاوز هو ضمان حريته.
الثنائية الفضفاضة (التكاملية – التفاعلية)
«الثنائية» مصطلح يقابل «الواحدية» وهي الإيمان بوجود أكثر من مبدأ وأكثر من جوهر في العالم. وفي إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية، فإن مركز الكون يكون كامناً فيه ويتوحد الخالق بمخلوقاته وتختفي الثنائية المبدئية، ثنائية المتجاوز المتعالي والحالّ الكامن، وتختفي معها كل الثنائيات الأخرى لنصل إلى عالم الواحدية المادية والكمون الكامل.
والثنائية الفضفاضة الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في إطار المرجعية المتجاوزة حيث يوجد هذا العالم وما يتجاوزه، فتظهر الثنائية الأساسية: الخالق والمخلوق (أو ثنائية المتجاوز والحال الكامن) والتي تفترض أسبقية الخالق على كل ما هو مخلوق وأن الخالق لا يمكن أن يُرد إلى مخلوقاته أو يلتحم بها أو يذوب فيها. وهي ثنائية فضفاضة تفاعلية (لا تعادلية)، إذ أن الإله مفارق للعالم ولكنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه (أي أنه ليس مفارقاً حتى التعطيل). والثنائية التفاعلية الفضفاضة مختلفة عن الاستقطاب (أو الثنائية الصلبة أو الاثنينية) حيث يقف كل طرف في الثنائية مقابل الطرف الآخر. وتَنتُج عن هذه الثنائية الفضفاضة ثنائية تكاملية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة (وثنائية النزعة الجنينية والنزعة الربانية) وتفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها بسبب وجود المرجعية المتجاوزة، أي الإله الذي يسـتخلفه في الأرض، ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيـها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليـس بمركز الكون.
الثنائية الصلبة (الثنوية – الأثينية)
«الثنائية الصلبة» (ويُقال لها «الثنوية» و«الاثنينية») هي غير الثنائية الفضفاضة، فالثنائية الصلبة تفترض تساوي عنصرين تساوياً كاملاً (رغم وجود صراع بينهما) وهذا أمر غير ممكن إلا في إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية (إذ أن المرجعية المتجاوزة تجعل مثل هذا التساوي أمراً مستحيلاً لأن وجود الإله ـ المدلول المتجاوز ـ يعطي للعالم شكلاً هرمياً بحيث يصبح أحد عناصر الثنائية أفضل من الآخر، وإن تساويا يكون ثمة تكامل بدلاً من الصراع). وأهم أشكال الثنائية الصلبة في النظم الحلولية الكمونية الروحية ثنائية الخير والشر، حيث يتصارع إلهان: واحد هو إله الخير والنور، والآخر هو إله الشر والظلام. وهي محاولة حلولية لتفسير وجود الشر. وعادةً ما تُحسَم قضية الشر بأن يلتحم إله الشر بإله الخير ويصبحان واحداً، كما أن الشر يُفسَّر بأنه مجرد وجه آخر للخير، أي أن الشر في جميع الحالات ليس له وجود حقيقي. أما في إطار النظم الحلولية الكمونية المادية فأهم أشكال الثنائية الصلبة هي ثنائية الإنسان والطبيعة. إذ يحل الإله في الكون ثم يختفي ويصبح مركز الكون داخله يتأله الإنسان وتتأله الطبيعة، وهذا أمر مستحيل فتأله الإنسـان يعني أنه يسـبق الطبيعة ويريد أن يهزمها ويسـخرها، وتأله الطبيعة يعني أنها تسبق الإنسان ومن ثم فإنها تستوعبه. وتُعبِّر هذه الثنائية الصلبة عن نفسها في التأرجح بين الذات وبين الموضوع، وبين الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية (كما هو الحال في الحالة الجنينية). والثنائية الصلبة هي في واقع الأمر شكل من أشكال الواحدية باعتبار أن العنصرين المتصارعين لا يوجد بينهما اختلاف جوهري. وعادةً ما تُحسَم الثنائية الصلبة باندماج العنصرين (وهو أمر متيسِّر لأنهما متساويان وتعارضهما عادةً ناجم عن أن الواحد مقلوب الآخر ولا يختلف عنه في البنية)، أو بانتصار العنصر الأقوى. وفي حالة الصراع بين الإنسان والطبيعة، فإن الطبيعة هي التي تنتصر لأنها أكثر شمولاً ومادية، وينتهي الأمر بعد مرحلة أولية من الواحدية الإنسانية والتمركز حول الذات الإنسانية إلى الواحدية الموضوعية المادية والتمركز حول الموضوع المادي.
الطبيعة البشرية
يشير مصطلح «الطبيعة البشرية» إلى «طبيعة الإنسان»، أي جوهره وإلى السمات الأساسية التي تُميِّز الإنسان وتفصله عن غيره من الظواهر الكونية، ويرتبط بهذا المصطلح مفهوم «الإنسانية الواحدة»، ونحن نفضل استخدام مصطلح «الإنسانية المشتركة» بدلاً من ذلك.


الباب الثانى: مفـردات 2013_110


عدل سابقا من قبل ahmad_laban في الأحد 23 مارس 2014, 11:09 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

الباب الثانى: مفـردات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى: مفـردات   الباب الثانى: مفـردات Emptyالجمعة 18 أكتوبر 2013, 7:12 am

الباب الثالث:  النزعة الجينية

«النزعة الجنينية» مصـطلح قمنا بصياغته لنصف نزعة نتصور أنها أصلية كامنة في النفس البشرية، وهي نزعة لرفض كل الحدود وإزالة المسافة التي تفصل بين الإنسان وما حوله حتى يصبح كائناً لا حدود له. ولكن حينما تتحقق هذه الرغبة، يجد الإنسان نفسه جزءاً من كل أكبر منه يحتويه ويشمله. وهذه الرغبة في إزالة الحدود هي، في واقع الأمر، رغبة في التخلص من تركيبية الذات الإنسانية وتعيُّنها ومن عبء الخصوصية والوعي الإنساني، وهي محاولة للهرب من الواقع الإنساني بكل ما فيه من ثنائيات وتدافع، وخير وشر، وإمكانيات نجاح وفشل، ونهوض وسقوط، وحرية وحتمية، ومحاولة التجاوز والتكيف، أي أنها نزعة للهروب من الحيز الإنساني المُركّب إلى عالم واحدي أملس بلا حدود.

هذا العالم الذي يهرب إليه الإنسان يشـبه الرحم حيث كان يعيـش الجـنين بلا حدود ولا قيود خارج أي حيز إنساني، لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن رحم أمه ولا توجد مسافة أو حيز تفصل بينهما، أو يشبه حياة الطفل الرضيع في الأشهر الأولى من حياته، حين كان يتصور أنه لا يزال جنيناً في الرحم لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن أمه وأنه جزء لا يتجزأ منها، وحينما يمسك بثديها يتصور أنه قد تحكَّم في العالم بأسره وأنه قد تواصل مع العالم كله، وأن الدائرة قد انغلقت تماماً فيشعر بالطمأنينة الكاملة.

هذه الحالة الجنينية الرحمية حالة دائرة عضوية مطلقة مصمتة لا تتخللها أية مسافات (واحدية عضوية) لا تختلف كثيراً عن حالة وحدة الوجود حين يحل المبدأ الواحد في الإنسان والطبيعة ويمتزج بهما تماماً، فتختفي الثنائيات والخصوصيات ولا يوجد سوى جوهر واحد في العالم أو مركز واحد. ولهذا تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية (الجنس ـ الرحم ـ ثدي الأم ـ الأرض) ومن خلال الصور المجازية العضوية حيث يصبح الجزء جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الكل. وهي حالة من التأيقن الكامل حيث يتحد الدال والمدلول، والشكل والمضمون، والصورة والفكرة، والمقدَّس والمدنَّس، وتذوب الجواهر الفردية في جوهر كوني واحد، والجزئيات في كل واحد. فالحالة الجنينية هي الواحدية بامتياز.

الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط جينى عام

تعبِّر النزعة الجنينية عن نفسها من خلال نمط أساسي هو نمط التأرجح بين الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة، وبين الصلابة والسيولة الشاملة:

1 ـ الواحدية الذاتية:

يدور الإنسان في الحالة الجنينية في إطار المرجعية الكامنة، فهو داخل الدائرة العضوية المغلقة يظن أنه مكتف بذاته، ومرجعية ذاته، مركز الحلول والقداسة، اللوجوس، الذي لا يُرد إلى شيء خارج محيط دائرته، ولا يمكن أن تُفرَض عليه حدود أو سدود أو قيود. وهو يرفض التجريد، فالتجريد يعني وجود المسافة التي تفصل الجزء عن الكل، وهو الآلية التي يدرك الجزء من خلالها أنه الكل، ويعرف أنه جزء وليس الكل، وأن العالم مختلف عن الذات، ومن ثم فالإنسان في الحالة الجنينية يعيش في عالم الحواس بشكل مباشر. وهو يرفض الرؤية الثنائية الفضفاضة التي تعني وجود الذات ووجود الآخر. وهو يتصور أنه قادراً على أن يتحكم في كل شيء وأن يبتلع كل شيء حتى يصبح كل شيء جزءاً لا يتجزأ منه، أي أن يصبح سوبرمان إذ أنه هو البداية والنهاية، فهو متمركز حول ذاته، تسـود في عالمـه الواحدية الذاتية (والإنسانية الهيومانية والإمبريالية).

في هذا الإطار تظهر الواحدية الإمبريالية ثم يظهر ما يمكن أن نسميه «الإباحية المعرفية». فمع إسقاط الحدود، تسقط الحدود الوجودية (نسبة إلى الوجود) والمعرفية والأخلاقية فلا حرام ولا حلال، ولا محرمات ولا حُرمات. فكل إنسان يوجد داخل قصته الصغيرة لا يبرحها، لا يكترث بالمنظومات التي توجد خارجه، والهدف من وجوده هو تعظيم اللذة (لذته هو) والمصلحة (مصلحته هو) ليحوسل العالم لمصلحته، تماماً كما كان يفعل مع ثدي أمه أو في رحمها. وهو انطلاقاً من هذا يعامل الآخر خارج أي إطار اجتماعي، فإن كان من الجنس الآخر فهو يستهلكه لتحقيق اللذة (دون أي التزام تجاه الأطفال، ثمرة اللذة العابرة)، وإن كان من الأعراق الأخرى فهو يبيدهم أو يستعبدهم (دون اكتراث بحقوقهم وإنسانيتهم)، فهو شخصية إمبريالية توسعية كاملة، لا حدود لها.

2 ـ الثنائية الصلبة:

ولكن رغم هذا الإحساس بالواحدية الذاتية، يظل العالم الموضوعي قائماً صلباً. وقد ترفض الذات المتمركزة حول نفسها أن تتفاعل مع الموضوع، ولكن الموضوع هناك، لا يختفي ولا يتلاشى، فتظهر حالة أولية من الاستقطاب والثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية المادية). ولكنها ثنائية وهمية، إذ تتفكك الذات تدريجياً وتدرك مركزية الموضوع فتذوب فيه وتختفي الواحدية الذاتية لتهيمن الواحدية الموضوعية أو الواحدية الطبيعية/المادية أو الواحدية الصلبة.

3 ـ الواحدية الموضوعية المادية:

مع اختفاء الحدود والمسافة التي تفصل الكل عن الجزء، يختفي الحيز الإنساني الذي يفصل الذات عن الموضوع، فيذوب الجوهر الإنساني ويمتزج بالكل الموضوعي، ومن ثم تتحول الذات الإمبريالية المكتفية بذاتها إلى جزء من كل وتُرد في كليتها إلى ما هو خارجها تماماً، أي إلى هذا الكل. وهكذا تختفي الواحدية الذاتية التي نجمت عنها ازدواجية الذات والموضوع، واختفى الجزء وذاب ليظهر الكل (الرحم ـ الطبيعة ـ الإله)، أو أية تنويعات عليه (مثل: الفولك ـ الدولة ـ اللبيدو ـ الحتمية التاريخية ـ البقاء المادي) حيث تتمركز الذات حول الموضوع، الذي يصبح مركز الكون وموضع الحلول، اللوجوس الذي يرتكز إليه الكون، وتظهر الواحدية الموضوعية الصلبة (وهذا ما نسميه «التمركز حول الذات» الذي يؤدي إلى «التمركز حول الموضوع»).

ورغم الاختلاف الظاهر بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع فإنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها: إنكار الثنائية والتركيب وإمكانية التجاوز واختفاء الذات الإنسانية، الاجتماعية والمركبة، التي ترضى بالحدود التي تفصلها عن الطبيعة والمجتمع، فهذه الحدود هي التي تخلق لها حيزاً إنسانياً اجتماعياً تاريخياً يمكنها أن تتحرك فيه بقدر من الحرية، وتمارس إرادتها داخل حدوده، فتكتسب منه تعينها وهويتها. ووعيها الإنساني ككيان مستقل حر، يتفاعل مع العالم ويتجاوزه دون أن ينكره، يدرك حدوده دون أن يُرد إليها ودون أن تُطبَّق عليه هذه الحدود.

4 ـ الواحدية السائلة:

الحالة الجنينية سواء في تمركزها حول الذات أو تمركزها حول الموضوع هي حالة صلبة، تدور حول مركز (لوجوسنتريك logo-centric). ولكن ثمة مرحلة جنينية ثالثة هي حالة من السيولة الشاملة والنسبية المطلقة. وإذا كانت الحالة الجنينية في المراحل الأولى تعني إنكار الحدود تماماً والمسافة والحيز الإنساني، فإنها في المرحلة الأخيرة تعني تقبُّل المسافة باعتبارها أمراً قائماً ونهائياً. ولكن المسافة هنا هوة (أبوريا) لا يمكن اجتيازها إذ يختفي مفهوم الإنسانية المشتركة. فرغم اختفاء الرحم الكوني الأكبر ورغم انشطار الجنين الكوني إلى عدة أجنة واختفاء التجسُّد الكوني الأعظم، إلا أن كل جنين يعيش داخل رحمه، يظن أنه لا حدود له ولا قيود عليه، فيذوب بطبيعة الحال فيما حوله. ولذا بدلاً من القصة العضوية الكبرى والنظرية الشاملة التي تنتظم كل شيء، يدور كل إنسان في قصته الجنينية الصغرى دون وجود قصة كبرى. وفي حالة المراحل الأولى (الصلبة) تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها على هيئة التأيقن والتحام الدال بالمدلول. ولكن في المرحلة السائلة ينفصل الدال عن المدلول ويبدأ رقص الدوال. وعلى مستوى النصوص بدلاً من الإيمان بحرفية النص ونهائيته تظهر حالة التناص، وهي أن تتسـاوى كل النصوص وتتـداخل ويحـيل كل نص إلى نص آخر وتحيل كل كلمة إلى كلمة أخرى.

وتعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها في كثير من النماذج المعرفية عبر العصور مثل الغنوصية، والنماذج الاختزالية التي ترد العالم إلى عنصر واحد أو اثنين، ولعل من أهمها نموذج العلمانية الشاملة الذي يمثل انتصاراً للحالة الجنينية (فالإنسان الطبيعي/المادي هو تجسُّد للحالة الجنينية). ويمكن القول بأن كثيراً من النزعات المرتبطة بالعلمانية الشاملة مثل النزعة التعاقدية والرغبة في التحكم التكنولوجي والحلم باليوتوبيا التكنولوجية ونهاية التاريخ والإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يسري قانون واحد طبيعي/مادي على كل من الإنسان والحيوان والجماد، هي جميعاً تعبير عن النزعة الجنينية.

وإذا كانت الفلسفة الهيجيلية بواحديتها وعضويتها هي تعبير عن الحالة الجنينية في حالة الصلابة الأولى فإن فلسفة نيتشه هي تعبير عن حالة السيولة. وما بعد الحداثة هو انتصار حالة الجنينية الواحدية السائلة. فحديث دريدا عن عالم بلا إشارات، عالم برئ من الصيرورة الكاملة، عالم لا مركز له non logo-centric، هو وصف لعالم الحالة الجنينية في حالة السيولة الشاملة. وإذا كان النظام الاستعماري القديم تعبيراً عن النزعة الجنينية الغربية في مرحلة الصلابة، فإن النظام العالمي الجديد تعبير عنها في مرحلة السيولة. ونحن نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية والنزعة الربانية.

الطبيعة / المادة

«الطبيعة/المادة» مصطلح نستخدمه كثيراً في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «الطبيعة». ومفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية،

وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.

2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان)، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها، وهي قوانين كامنة فيها.

3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية).

4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.

5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان). وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.

ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي»، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي»، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي»، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقـول «الإنسـان المادي»، وبدلاً مـن «الطبيعيـة (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism)» نقول «مادية». وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة»، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه.

المادية

«المادية» هي المصدر الصناعي من كلمة «المادة»، وهي لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض. ويمكن للإنسان المادي المغالى في ماديته أن يكون زاهداً تماماً في النقود والدنيا (كما هو الحال مع إنجلز وإسبينوزا). ويمكن القول بأن كل الفلسفات إما مادية أو غير مادية، ولا يمكن تجزيء هاتين المقولتين إلى ما هو أصغر منهما. والفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعية والبشرية)، ومن ثم فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه، وأي منظومات فكرية أو قيمية متجاوزة للمادة. ولذا، فإن الفلسفة المادية تَرُدُّ كل شيء في العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام والكامنة فيها والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها. قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وإن دخل عنصر غير مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية.

وكلمة «مادة» قد تبدو لأول وهلة وكأنها كلمة واضحة، ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ومع هذا، يمكن تعريف الشيء المادي تعريفاً إجرائياً بأنه ذلك الشيء الذي تكون سائر صفاته مادية: حجمه ـ كثافته ـ كتلته ـ لونه ـ سرعته ـ صلابته ـ كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها ـ سرعة دورانه ـ درجة حرارته ـ مكان الجسم في الزمان والمكان... إلخ. والصفات المادية هي الصفات التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء)، فالمادة ليست لها أية سمة من سمات العقل: الغاية ـ الوعي ـ القصد ـ الرغبة ـ الأغراض والأهداف ـ الاتجاه ـ الذكاء ـ الإرادة ـ المحاولة ـ الإدراك... إلخ، أي أن المادي ليس له أية سمة من السمات التي تُميِّز الإنسان كإنسان.

ويمكن القول بأن الأطروحات الأساسية للفلسفة المادية هي ما يلي:

1 ـ لا يوجـد إلا المادة، ولا توجد أية صفات سـوى الصفات المادية. فالمادة أزلية، فهي لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم. وهي الأصل الراسخ لكل الموجودات، وهي الجوهر الواحد والمبدأ الوحيد الأول والأخير الذي تُردُّ إليه جميع ظواهر الحياة المادية والإنسانية والحوادث التاريخية.

2 ـ لا توجد أية صفات سوى الصفات المادية، وطبيعة كل شيء وخصائصه إنما هي نتيجة تركيب لبعض ذرات هذه المادة تم بشكل آلي ومن تلقاء نفسه من خلال الحركة الأزلية للمادة. أما أحوال الشعور والفكر والعقل، فهي ظواهر تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon) ناتجة عن ذلك الجوهر. ولا يوجد سوى الكم في العالم، وكافة الكمَّات يمكن المقارنة بينها (أما الكيف فهو مجرد شكل من أشكال الكم)، أي أنه لا يوجد سوى الكمي، أما الكيفي فهو ظاهري.

3 ـ عادةً ما تُقرن المـادة بالحـركة، فالمادة والحركة لهما وحدهما وجود وحقيقة نهائية. ولكن الحركة كامنة في المادة، ومن ثم فإن المادة ليس لها سبب أو محرك أول.

4 ـ حركة المادة حركة آلية محايدة ليس لها قصد أو غاية أو معنى، وهي خاضعة لقوانين طبيعية لا تختلف ولا تتغيَّر أو خاضعة لقانون الصدفة.

5 ـ كل تَغيُّر، مهما اختلف مجاله، له أساس مادي. وكل الظواهر تتغيَّر وتختفي وتذوب في مادة كونية أزلية. والتطور، بما في ذلك التطور في المجتمعات الإنسانية، هو نتيجة تطور متصل في القوى المادية، ولا علاقة له بالقيم أو الغائية الإنسانية.

والمادية ترى أسبقية المادة على الإنسان بكل نشاطاته، وهي تمنح العقل مكانة تالية على المادة. ولذا، ليس للعقل أية فعالية سببية، ووجوده ليس ضرورياً لاستمرار حركة المادة في العالم. وتُقر نظرية المعرفة المادية (في مراحلها الأولى) بإمكانية قيام المعرفة، فالعالم قابل لأن يُعرَف لأنه مُعطَى لإحساسنا ووعينا، بل إن مادية العالم هي شرط لمعرفته. ولمعرفة هذا العالم، لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/المادة؛ فهناك أولاً حواسه الخمس التي ترصد المحسوسات، وهناك عقله الذي يرتب ويُركِّب المحسوسات ولكنه غير منفصل عن الوجود المادي الحسي ـ فالمعرفة هي انعكاس الواقع الخارجي في دماغنا عبر إحساساتنا وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء. ويمكن للإنسان أن يكتسب المزيد من المعرفة من خلال التجريب ومراكمة المعلومات في ذاكرته. وفي بعض أشكال المادية، لا توجد حدود للمعرفة، فكل ما هو موجود قابل لأن يُعرَف، أما التساؤلات الميتافيزيقية فهي ليست موجودة أو ليست موضوعاً للمعرفة.

والمادة لا تسبق العقل وحسب وإنما تسبق كل ما هو إنساني، فهي مثلاً تسبق الأخلاق (ولذا فإن الأخلاق تُفسَّر تفسيراً مادياً ووفقاً لقانون طبيعي)، فمنطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذي يتحكم في الأخلاق الإنسانية تماماً مثلما تتحكم الجاذبية في سقوط التفاحة. ولذا، تنادي المذاهب الأخلاقية المادية بأن الشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة. وثمة قيم أخرى في النظام المادي، ولكنها قيم مادية مثل البقاء والنمو والحركة. وإذا كانت القوة هي الآلية التي يتم بها حسم الصراع في عالم الطبيعة، فهي تصبح بالتالي الآلية الأخلاقية المادية الكبرى.

والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالشعور والإحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ الطبيعي/المادي الواحد، فهي مجرد تعبير عن شيء مادي يُوجَد في الواقع المادي. والمادة تسبق التاريخ، ولذلك فإن كل تَطوُّر (اجتماعي وتاريخي) يتوقف على الظروف المادية والاقتصادية (على سبيل المثال: تَطوُّر أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج والمصلحة الاقتصادية). وأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو شرط تَطوُّر الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. بل إن المشاعر الإنسانية الكونية الأولية مثل مشاعر الأبوة والأمومة والرغبة في الاطمئنان والائتناس بالآخر، ومظاهر النبل والخساسة، كلها أمور مادية. وكما يقول الماديون، فإن البناء الفوقي (الفكري والعقلي والنفسي) يُردُّ، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المادة، وما لا يُردُّ إلى المادة لا وجود له، وقبول وجوده هو سقوط في الميتافيزيقا والغيبية والجهالة.

وهذه هي نقطة انطلاق الحداثة المادية الغربية والفلسفات العلمانية الشاملة، وهي فلسفات حلولية كمونية واحدية مادية تَردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر وجود قانونين أحدهما يسري على الطبيعة/المادة ويسري الآخر على الطبيعة البشرية. وبدلاً من ذلك، تؤكد هذه الفلسفات وجود قانون طبيعي واحد يسري على كل الظواهر ليتساوى، في ذلك، الإنسان والأشياء (وهذا هو أساس فكرة وحدة أو واحدية العلوم). ولذا، فالنتيجة المنطقية للفلسفات العلمانية المادية الشاملة حينما تُطبَّق على الإنسان بصرامة هي تفكيكه ورده إلى القوانين الطبيعية/المادية والإحاطة به ككائن لا استقلال له عن النظام الطبيعي/المادي.

الإنسان الطبيعى (المادى)

«الإنسان الطبيعي» هو «الإنسان الطبيعي/المادي»، أي الإنسان الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة في المادة، يعيش بالطبيعة/المادة وعلى الطبيعة/المادة. والإنسان الطبيعي/المادي تعبير متبلور عن النزعة الجنينية وعن اختفاء النزعة الربانية،

ولذا نجد نفس النمط الذي تتسم به النزعة الجنينية يعبِّر عن نفسه من خلاله: التأرجح بين الواحدية والثنائية وبين الصلابة والسيولة:

1 ـ الإنسان الطبيعي/المادي إنسان بلا حدود، يتمتع بكل السمات الأساسية للطبيعة/المادة، فهو مكتف بذاته، مرجعية ذاته، ومعيارية ذاته، لا توجد أية حدود أو سدود أو قيود عليه: اجتماعية أو تاريخية أو أخلاقية أو جمالية، فهو سوبرمان حقيقي. إنسان يعيش في الزمان الطبيعي الحر وليس في الزمان التاريخي الإنساني الذي تتحكم فيه القيم والأعراف، فهو تعبير واضح عن الواحدية الذاتية.

2 ـ هذا يعني في واقع الأمر أنه لا توجد مسافة تفصله عن الطبيعة أو عن قوانينها الكامنة في المادة، فما هو إلا جزء عضوي لا يتجزأ منها، لا يمكنه تجاوزها، حدودها حدوده، فضاؤها فضاؤه، أي أن الحيز الإنساني يختفي تماماً.

3 ـ هذا يعني أن الإنسان خاضع تماماً لقوانين الطبيعة الكامنة في المادة تحركه أينما شاءت لا يمكنه الفكاك من حتمياتها، يُرد في كليته إلى النظام الطبيعي/المادي، يمكن تفسيره في إطار مقولات طبيعية/مادية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة: وظائفه البيولوجية (الهضم ـ التناسل ـ اللذة الحسية)، ودوافعه الغريزية المادية (الرغبة في البقاء المادي ـ القوة والضعف ـ الرغبة في الثروة)، والمثيرات العصبية المباشرة (بيئته المادية ـ غدده ـ جهازه العصبي)، فهو سبمان حقيقي، تعبير واضح عن الواحدية الموضوعية المادية.

ويمكننا الآن أن نتعامل مع سمات الإنسان الطبيعي/المادي:

1 ـ جوهر الإنسان الطبيعي ليس جوهراً إنسانياً، مستقلاً وفريداً، وإنما هو جوهر طبيعي/مادي، فالإنسان لا يختلف، بشكل جوهري، عن الكائنات الطبيعية الأخرى. قد يكون سلوك الإنسان أكثر تركيباً من سلوك الكائنات الطبـيعية الأخـرى، ولكـن الاخـتلاف بينه وبينها هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع. ولذا فالإنسان، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، هو وأفكاره وتاريخه وأشواقه وأحزانه مجرد جزء من بناء فوقي وهمي يُرد، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى البناء المادي التحتي الحقيقي، الطبيعة/المادة وقوانينها.

2 ـ الإنسان الطبيعي، شأنه شأن الكائنات الطبيعية، جزء من النظام الطبيعي، وهو نظام واحدي صارم لا يعرف الثنائيات أو التركيب وليس بإمكان كائن تجاوزه، ولذا فالإنسان الطبيعي إنسان أحادي البُعد (إنسان وظيفي) سلوكه يتبع نسقاً منطقياً واضحاً يمكن التنبؤ به. ولذا يمكن اختزاله إلى تلك الصيغ الكمية والرياضية البسيطة المستخدمة في العلوم الطبيعية، ويمكن تفسيره من خلال مقولات مادية محضة، ويمكن توظيفه وحوسلته وجعله مادة استعمالية نافعة.

3 ـ لأن الطبيعـة يمكن أن توجـد دون الإنسـان فيمكن القول بأنه لا يشكل المركز في الكون، فما هو إلا جزء عرضي فيه، وينبغي عليه أن يزعن لقوانينها وألا يحاول تجاوزها.

4 ـ معرفة الإنسان الطبيعي، محدودة بحدود الطبيعة والعلاقات بينها، فالإنسان، شأنه شأن الكائنات الطبيعية جزء من برنامج طبيعي مادي، ذاتي الحركة والتنظيم. بل يُلاحَظ أن الحيوانات العليا تشترك مع الإنسان (الطبيعي) في درجات من الذكاء ووسيلة من وسائل الاتصال والتنظيم الاجتماعي وأشكال من الاقتصاد، ولكنها جميعاً تتسم بالبساطة والمنطقية البالغة. ويشير علي عزت بيجوفيتش، المفكر الإسلامي رئيس جمهورية البوسنة، إلى أن صناعة الأدوات واستخدامها (وهي ظاهرة تدل على التقدُّم الشديد في حلقة التَطوُّر) تُمثِّل استمراراً للتَطوُّر البيولوجي، وهو تَطوُّر خارجي كمي يمكن تتبُّعه من الأشكال البدائية للحياة حتى ظهور الحيوان الكامل. فالوقفة المنتصبة، واكتمال اليــد، واللغة والذكاء، كلها حالات ولحظات من التطور تبقى بطبيعتها في إطارهـا الحيواني. والإنسان، عندما استخدم لأول مرة حجراً لكسر ثمرة صلبة أو لضرب حيوان، فلابد أنه فعل شيئاً مهماً جداً ولكنه ليس جديداً كل الجدة، ذلك لأن آباءه الأوائل من فصيلته الحيوانية حاولوا فعل الشيء نفسه.

من هذا المنظور يمكن القول بأن عقل الإنسان ليس له أية فعالية، فوجوده ليس ضرورياً لحركة الكون. بل إن العقل والخيال ومقدرة الإنسان على التجاوز والترميز والتجريد تشكل عوائق تقف في طريق محاولة الإنسان الإذعان للطبيعة والتحرك معها والخضوع لحتمياتها.

5 ـ الإنسان الطبيعي/المادي، شأنه شأن كل الكائنات الطبيعية لا يعرف القلق أو التفكير في المجهول ولا يفكر في مصيره ولا في مصير الكون، ولا تعكر صفوه أية أسئلة معرفية، نهائية وكلية كبرى، فأسئلته كلها أسئلة عملية مادية محصورة بالبيئة والاحتياجات المادية المباشـرة. وعقل كل من الإنسـان (الطبيعي) والحيوان صفحة بيضاء تُسـجَّل عليها الأحاسيس المادية، ولذا فإن كليهما يدرك السطح بكفاءة عالية ولا يحاول الغوص إلى باطن غير مادي مُتوهَّم. وكلاهما لا ينسب إلى الأشياء دلالات رمزية غير موجودة في جبلة الأشـياء المادية.

6 ـ يمكن تفسير قيم هذا الإنسان الطبيعي/المادي ودوافعه ونشاطاته على أُسس طبيعية/مادية. فما يحركه هو أخلاقيات طبيعية/مادية برانية تستند إلى المنفعة والمصلحة والرغبة في البقاء الكامنة في المادة. قد يتوهم الناس أن القيم من لدن الإله أو من إبداع الإنسان، وهذا وهم. فمصدر القيم هو الطبيعة، ومن ثم يمكن من خلال دراسة الطبيعة وقوانينها المختلفة دراسة إمبريقية أن نصل إلى منظومات قيمية ومعرفية وجمالية (طبيعية/مادية) يستطيع الإنسان أن يعيش بها وأن يحقق مصلحته وبقاءه المادي ولذته.

7 ـ الطبيعة البشرية، شأنها شأن الطبيعة المادية، في حالة حركة دائمة وتغيُّر دائم، ولذا لا توجد إنسانية مشتركة، ولا يمكن أن توجد أية معايير دينية أو أخلاقية أو حتى إنسانية، فمثل هذه المعايير خاضعة لقوانين الحركة.

8 ـ على المستوى الرمزي يتم إدراك الإنسان الطبيعي من خلال رموز طبيعية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة وهي عادةً صور مجازية مستمدة من عالم الحيوان والنبات (عضوية) أو من عالم الأشياء (آلية) أو خليط منهما.

وتَصدُر الفلسفات المادية عن الإيمان بأسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان ولذا فهي تركز على الإنسان الطبيعي والجوانب الطبيعية/المادية من الوجود الإنساني، وتَرُد كل جوانب الوجود الإنساني الأخرى له، ولذا فهي تُلغي ثنائية الإنسان/الطبيعة (والرباني الجنيني) حتى تسود الواحدية المادية. ولذا، فنحن نربط بين الإنسان الطبيعي والنزعة الجنينية التي تعفي الإنســان من عـبء الهوية والمسـئولية والاخـتيار وتدور في إطـار الواحدية المادية.

والعـلوم الإنسـانية في الغرب، وكذلك النماذج التحليلية السـائدة فيها، تدور معظمـها حول مفهوم الإنسان الطبيعي، ولذا فهي تنظر إلى الإنسان باعتباره مجموعة من الوظائف البيولوجية والحقائق المادية، فالإنسان مجرد نظام طبيعي كغيره من النظم الطبيعية ويخضع بدوره للقواعد الحتمية الصلبة للطبيعة، ويمكن تفكيكه إلى أجزائه المادية الأساسية إلى أن يتلاشى تماماً في النهاية. وحتى في تطوُّره، نجد أن الإنسان الطبيعي لا يختلف عن الحيوان الطبيعي، فهما نتيجة عملية تَطوُّر طويلة تبدأ من أدنى أشكال المادة حيث لا يوجد أي تميُّز واضح بينهما؛ فكلاهما مجرد وظائف بيولوجية، وكلاهما نتاج لبيئته وعمله ولمحاولة البقاء من خلال الصراع والتكيف.

وتَطوُّر الإنسان الطبيعي، مثل تَطوُّر الحيوان الطبيعي، داخل نسق بسيط مستمر منطقي، ومهما بلغ من تركيب فهو يظل داخل إطار الطبيعة/المادة. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد أوضح إنجلز أن الإنسان نتاج علاقات اجتماعية (أو بدقة أكثر) نتاج أدوات الإنتاج الموجودة، إنه مجرد نتاج حقائق [مادية] معينة". ولقد أخذ داروين هذا الإنسان اللاشخصي بين يديه ووصف تَقلُّبه خلال عملية الاختيار الطبيعي حتى أصبح إنسـاناً قادراً على الكلام وصناعة الأدوات وعلى أن يمشي منتصباً. ثم يأتي علم البيولوجيا ليستكمل الصورة، فيرينا أن كل شيء يرجع إلى أشكال الحياة البدائية التي هي بدورها عملية طبيعية كيميائية: لعب بالجزيئيات (أما الحياة والضمير والروح فلا وجود لها، وبالتالي فليس هناك جوهر إنساني). وإنسان نيتشه، نتاج عملية التطور هذه، هو إنسان كامل اسماً، فهو في جوهره حيوان كامل خاضع تماماً لقوانين التطور الطبيعية. وكل المدن الفاضلة المادية (اليوتوبيات التكنولوجية التكنوقراطية)، التي تُدار على أسس علمية/مادية، يظهر فيها إنسان مثالي تماماً، إنسان في مثالية النحل والنمل والحيوانات التي تبلغ الغاية في التنظيم، وهي كائنات تعيش في مجتمعها بشكل آلي منطقي؛ كالإنسـان الآلي المغسـول في الرشـد المادي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه؛ إنسان لا يختار ولا يقرر، فكل شيء قد تم اختياره وتقريره له؛ وهو لا يحمل أية أعباء أخلاقية، فهو يتصرف بشكل آلي حسب طبيعته؛ وطبيعته لا خير فيها ولا شر ولا قلق ولا أسئلة كبرى. إن هذا الإنسان الآلي هو تَطوُّر طبيعي للإنسان الطبيعي/المادي لا يختلف عنه في الجوهر.

إن عالم الإنسان الطبيعي عالم واحدي براني أملس. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد دأب الماديون على توجيه نظرنا إلى الجانب الخارجي للأشياء. فيقول إنجلز: إن اليد ليست عضو العمل فقط وإنما هي أيضاً نتاج العمل.. فمن خلال العمل اكتسـبت اليد البشـرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات روفائيل، وتماثيل ثورفالدسن، وموسيقى باجانيني".

"إن ما يتحدث عنه إنجلز هو استمرار النمو البيولوجي وليس النمو الروحي. ولكن الإنسان ليس مجرد وظائف بيولوجية. والنمو البيولوجي وحده، حتى لو امتد إلى أبد الآبدين، ما كان بوسعه أن يمنحنا لوحات روفائيل، ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ".

ونحن نضع في مقابل الإنسان الطبيعي الإنسان الإنسان، وهو إنسان غير طبيعي/مادي يحوي داخله عناصر (ربانية) متجاوزة لقوانين الحركة (التي تسري على الإنسان والحيوانات) ومتجاوزة للنظام الطبيعي/ المادي. وهذه العناصر هي التي تشكل جوهر الإنسان والسمة الإنسانية لإنسانيته وتفصله عن بقية الكائنات وتُميِّزه كإنسان. فالإنسان الإنسان (غير الطبيعي)، هو الإنسان الحق، أما الإنسان الطبيعي فهو الإنسان الذي لا يحوي جوهراً إنسانياً (ولذا فهو يمتزج بسهولة مع الكائنات الطبيعية ويتصف بصفاتها). فهو تعبير عن النزعة الجنينية والرغبة في فقدان الذات والحدود.

وهنا يطرح بيجوفيتش مفهوم ازدواجية الطبيعة الإنسانية التي "جاء أحد جانبيها من الأرض (الطبيعة/المادة) وجاء الآخر من السماء". والوظائف البيولوجية والنشاطات الطبيعية (مثل الصيد وصنع الأدوات) هي التي جاءت من الأرض، أما النشاطات الأخرى (مثل الدين والفن) فهي ليست من سمات الإنسان الطبيعي وإنما من سمات الإنسان الإنسان، وهو كائن مركب متعدد الأبعاد، قَلق يسأل أسئلة كلية، يحمل عبء الهوية والمسئولية الخلقية، لا يمكن اختزاله في صيغ رياضية كمية كما لا يمكن رده في كليته إلى عالم الطبيعة/المادة وواحديته المادية، ولذا فهو يعيش ثنائية فضفاضة لا يمكن إلغاؤها.

الإنسان الاقتصادى والإنسان الجسمانى (الجنسى) 

هناك ـ في تصوُّرنا ـ تنويعان أساسيان على فكرة الإنسان الطبيعي: الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني أو الجنسي.

1 ـ الإنسان الاقتصادي:

إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، وإنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج. وهو يعبِّر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف الإنسان سوى صالحه الاقتصادي، ولذا فهو إنسان يتسم بالتقشف والإنتاج وحب التراكم. وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة (شأنه شأن الطبيعة) دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وتحركه القوانين الاقتصادية، وتحكمه حتمياتها (تماماً مثل الإنسان الطبيعي الذي يخضع لقوانين الطبيعة وحتميات القانون الطبيعي لا يملك تجاوزاً لها)، إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها وإنما ينتمي إلى عالم الاقتصاد العام، وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء، وهذا هو إنسان ماركس وآدم سميث. ويُشار إلى هذا الإنسان في النظم الرأسمالية بأنه «دافع ضرائب»، أما في النظم الاشتراكية فيمكن أن يكون «بطل الإنتاج».

2 ـ الإنسان الجسماني أو الجنسي:

إنسان فرويد وبافلوف الذي تحركه دوافعه الجنسية وغدده وجهازه العصبي. وهو يعبِّر عن مبدأ اللذة ولا يعرف سوى متعته ولذته؛ إنسان الاستهلاك والترف والتبذير؛ إنسان فرويد والسـلوكيين، وهو إنسان أحـادي البُعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.

إن الإنسان الطبيعي هو نفسه الإنسان الاقتصادي، وهو نفسه الإنسان الجسماني، وقد تختلف المضامين ولكن البنية واحدة. ولو أننا وضعنا كلمة «اقتصاد» أو كلمة «جنس» بدلاً من كلمة «طبيعة» لظل كل شيء على ما هو عليه ولما غيَّرنا شيئاً من خطابنا.

وثنائية الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني تُعبِّر عن نفسها من خلال مرحلتين في تاريخ الاقتصاد العلماني: المرحلة التقشفية التراكمية وتليها المرحلة الفردوسية التي بدأت في العالم الرأسمالي في بداية القرن العشرين، وبدأت في شرق أوربا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت في العالم الثالث بين أعضاء النخب الحاكمة المتغربة. وما يسود الآن في المجتمعات الحديثة هو خليط بين الاثنين.


الباب الثانى: مفـردات 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثانى: مفـردات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثانى: الجـيتو
»  الباب الثانى عشر: الهيكل
» الباب الثانى: الشعب المختار
» الباب الثانى عشر: الاتحاد السـوفيتي
» الباب الثانى: الحقوق والحريات

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: