الباب الثانى: مفـردات
المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة
كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد». يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه»، و«المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل». وفي التنزيل العزيز "إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 105 ) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج). والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.
1 ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:
المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان). هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.
2 ـ المرجعية النهائية الكامنة:
يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان)، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية)، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية»). ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشـارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.
وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.
ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان)، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.
وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني). أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة). فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت)، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.
الرد (رد إلى)
«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة»، و«ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه». والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول "رد المذهب إلى نقاطه الأساسية". وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.
المسافة والحدود والحيز الإنسانى
«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة»، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر». والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين»، و«منتهى كل شيء» هو «حده» (المعنى الأنطولوجي). والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا: «طُبِّقَ عليه الحد»، و«حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي). و«الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه»، و«حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي). وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي). فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هـنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصـوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية»، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.
ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.
والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية)، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.
المركز
كلمة «المركز» من فعل «ركز»، ويقال " ركز السهم في الأرض " بمعنى «غرزه» و«ركز الله المعادن في الأرض أو الجبال» بمعنى «أوجدها في باطنها». و«المركز» هو «المقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع»، و«مركز الدائرة» هو نقطة داخل الدائرة، تتساوى الشعاعات الخارجة منها إلى المحيط. ونحن نستخدم كلمة «مركز» في هذه الموسوعة بمعنى: مطلق مكتف بذاته، لا يُنسَب لغيره، واجب الوجود، لا يمكن أن تقوم رؤية للعالم بدونه. وفي إطار المرجعية المتجاوزة، فإن مركز الكون متجاوز للكون منزَّه عنه، أما في إطار المرجعية المادية الكامنة فمركز الكون كامن فيه. والمركز عادةً موضع الكمون والحلول أو النقطة التي تتحقق فيها أعلى درجاته، ومن ثم فإن العنصر (المادي) الذي يشغل المركز في المنظومات الكمونية تكون له أسبقية على بقية العناصر.
المبدأ الواحد
«المبدأ الواحد» عبارة تتواتر في هذه الموسوعة وتشير في المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) إلى مصدر وحدة الكون وتماسكه وهو القوة الدافعة التي تضبط وجوده، قوة سارية في الأجسام، كامنة فيها، وتتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد. وهي النظام الضروري الكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضاً، لا يمنحه أو أي كائن آخر أية أهمية خاصة. هذه القوة قد يجسدها الموجود ويصل إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها هي أيضاً قوة غير متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي. وهذه القوة يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، بينما يطلق عليها دعاة وحدة الوجود المادية «قوانين الحركة»، أو أية عبارات أخرى. وحيث إن المبدأ الواحد كامن في الظواهر الطبيعية فنحن نشير إليه أحياناً باعتباره «المبدأ المادي الواحد». والمبدأ الواحد هو عادةً مركز النسق، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة أهمها «الطبيعة/المادة»، وتنويعات أخرى عليها نسميها «المطلقات العلمانية».
المعنى والهدف والغاية
«المعنى» هو «ما يُقصَد بشيء»، و«معنى الكلام» فحواه ومضمونه وما يدل عليه القول أو اللفظ أو الرمز أو الإشـارة. ومن هنا تُستخدَم عبارة «معنى الوجود» أو «معنى الحياة»، أي أن الوجود له هدف وغاية (باليونانية: تيلوس)، و«الغائية» هي الإيمان بأن العالم له معنى وغاية (وعكسها هو «العدمية»)، وهذا ما تفترضه الديانات التوحيدية ("ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك" آل عمران 191) فإن كان للوجود معنى، فحياة كل إنسان لها معنى، ولا يمكن تصوُّر معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم عملية خلقه بالصدفة المحضة، أو تكون حركته حركة مادية آلية مثل حركات الذرة. فإذا كانت حركة الإنسان هي نفسها حركة المادة، وكانت حركة المادة حتمية وتتم خارج وعي الإنسان وخارج أية غائية إنسانية، فإن كل ما يحدث سيحدث، ولا يمكن أن تنطبق عليه معايير خارجة عنه، أي أن كل الأمور تصبح نسبية بل حتمية وتتم تسوية الإنسان بالأشياء. والعلم الطبيعي الذي يتعامل مع الأشياء أو مع الإنسان بمنطق الأشياء ينتج معرفة منفصلة عن القيم الأخلاقية، بل إن تَقدُّم العلم مرتبط تمام الارتباط بانفصاله عن القيمة والغائية (إلى أن تنفصل النزعة التجريبية عن النزعة العقلانية تماماً). ومن هنا التمييز بين «المعنوي» و«المادي»، فالمعنوي مرتبط بالهدف والغاية وهما يتجاوزان المادة، أما المادي فلا هدف له ولا غاية. ونلاحِظ أنه في الحضارات المادية (سواء الوثنية القديمة أو العلمانية الحديثة) التي تعلي شأن المادة وترى أسبقيتها على الإنسان، أي ترى أسبقية المادي على المعنوي، يظهر ما يُسمَّى «أزمة المعنى» التي يعبَّر عنها بتعبيرات مثل «الاغتراب» أو «اللامعيارية (الأنومي)» و«التشيؤ» و«التسلع» وغيرها. ويعبِّر الأدب الحداثي عن أزمة المعنى التي يواجهها الإنسان الغربي.
ويُلاحَظ أن النسبية الحديثة تأخذ شكلاً جديداً تماماً، فهي لا تنكر إمكانية الوصول إلى المعنى، وإنما تطرح إمكانية الوصول إلى معان كثيرة كلها متساوية في الشرعية. وهي تنكر من ثم فكرة الحقيقة الكلية، فالكل بطبيعته، مادياً كان أم روحياً متجاوز للأجزاء، ومن ثم يشير إلى ما وراء الأجزاء وما وراء المادة. فوجود الكل المتجاوز للأجزاء يعني أن الأجزاء خاضعة للكل، وهي خاضعة له حسب فكرة ما ومعنى ما، لوجوس ثابت متجاوز، مطلق، وفي نهاية الأمر ميتافيزيقا، أي الإله، وهنا لا يمكن الاستمرار في إنكار القصد والغاية والمعنى وهرمية الواقع. وفكر ما بعد الحداثة هو تعبير عن هذا الاتجاه الذي يشكل في واقع الأمر إذعاناً كاملاً لأزمة المعنى وعملية تطبيع اللامعيارية التي يواجهها الإنسان الحديث.
التجاوز والتعالى (مقابل الحلول والكمون)
«التجاوز والتعالي» تُترجَم بالإنجليزية بكلمة «الترانسندانس transcendence»، وهي من اللاتينية: «ترانس كنديري transcendere» من مقطعي «ترانس» بمعنى «وراء»، و«كنديري» بمعنى «يتسلق»، أي «يذهب وراء». وكلمة «تجاوز» عادةً ما توضع مقابل «كمون»، و«حلول» (وقد ترجمت الكلمة الإنجليزية إلى الكلمات العربية التالية: «صوري» - «مفارق» - «متسام» - «ترانسندنتالي» - وأحياناً «جواني»). والتعالي هو أن يعلو الشيء ويرقى حتى يصير فوق غيره؛ ولذا فهو شيء مفارق ليس فوقه شيء، وهو يجاوز كل حدٍّ معلوم أو مقام معروف. والشيء المتعالي لهذا السبب يتحدى التجربة المادية والتفسير العلمي المادي. وعكس التعالي والتجاوز الحلول والكمون. بالإنجليزية «مانثيزم pantheism»، و«إمننانس immanence» (انظر الباب المعنون «الحلولية ووحدة الوجود الكمونية»).
وفلسفة التعالي تذهب إلى القول بأن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة أو حقائق مطلقة قائمة بذاتها مجردة من شروط الزمان والمكان، وأن هناك علاقات ثابتة محيطة بالحوادث ومستقلة، أي أن النظام الطبيعي، بكل ما يتسم به من تغيُّر وتعدُّد ونسبية وسيولة وراءه نظام يتسم بالوحدة والثبات والمطلقية، وثمة مركز ثابت للظواهر العارضة متجاوز لها (وهذا ما نسميه «المرجعية المتجاوزة»). ولذا، توصف أية فلسفة تذهب إلى القول بأن في العالم ترتيباً تصاعدياً تخضع فيه الحوادث للتصورات والتصورات للمبادئ بأنها فلسفة متعالية (على عكس فلسفات الحلول والكمون الواحدية التي تأخذ شكل مسطح أفقي تحوي مركزها داخلها أو تكون بغير مركز، ولا يكون فيها أعلى أو أسفل وتتسم بالواحدية).
وفي الأنساق التوحيدية، التعالي الحق هو ارتقاء يستمر إلى غير نهاية إلى أن يصل إلى اللانهاية. والتعالي النهائي، بهذا المعنى، لا يمكن أن يُرد إلى ما هو دونه لأنه لو رُد إلى ما هو دونه لفقد تجاوزه وتعاليه وتَنزُّهه، أي أن فلسفة التعالي الحقة تصل دائماً إلي أن وجود الإله يسبق كل الموجودات الأخرى، ومن ثم فهو سببها النهائي ولكنه منزه عنها وله وجود مستقل، وهو مركزها وهو الغاية التي تسعى نحوها. فالله تعالى هو المتعالي والعالي والعلي وهو «الكبير المتعال» البائن عن خلقه، أي أنه مركز الكون والمدلول النهائي المتجاوز للطبيعة والتاريخ المنزه عنهما. ورغم وجود مسافة تفصل بين الكائن المتجاوز العلي وعالم المادة، فإن له تجلياته في العالم المادي، فالمتجاوز والمتعالي هو اللامحدود اللامتناهي الذي يعبِّر عن وجوده داخل المحدود والمتناهي دون أن يُرد إليهما. وهذه التجليات تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي ولكنها تزوِّده كذلك بقَدْر من التماسك وباتجاه متصاعد لا يمكن فهمهما أو تفسيرهما في إطار مادي محض.
والعلمنة هي إنكار إمكانية التجاوز، فالعالم الطبيعي/المادي مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه (مرجعية كامنة). والإنسان جزء من هذا العالم، فهو إنسان طبيعي/مادي لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة ولا تجاوز ذاته (الطبيعية) أو التحكم ضد التجاوز. فالإنسان القادر على التجاوز لا يمكن التحكم فيه تماماً، ولا يمكن تسويته بالكائنات الطبيعية إذ يظل داخله ما يتحدى القوانين الطبيعية المادية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين المادة ولا يمكن حوسلته.
ويُلاحَظ أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة هو تاريخ تصاعُد معدلات الحلول (الكمون) والإنكار المتصاعد لأي تجاوز، ومن ثم فهو تصاعد للواحدية المادية وتصفية لثنائية المتجاوز/الكامن إلى أن نصل إلى الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة الذي ينكر أي تجاوز وأية مركزية لأي شيء بل ينكر فكرة الكل نفسها باعتبار أن الكل متجاوز للأجزاء.
المطلق والنسبى
«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق»، ويشـار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجـاوز»، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَـب لغيره فهو يتجاوز كل شـيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و«روح الأمة» (جوهرها ومطلقها). وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة).
وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق») عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعة الزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخـلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانـت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.
أما «النسبي»، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد). والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.
ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسـد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.
وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفـة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مـركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس»، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقد حل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.
المركب والبسيط
«المركب» هو الذي يشتمل على عناصر كثيرة متشابكة، ويقابله «البسيط»، وهو الذي يشتمل على عناصر قليلة، وإن كانت كثيرة فهي غير متشابكة. وفي إطار المرجعية الكامنة في الطبيعة والإنسان، يظهر الإنسان الطبيعي/المادي (الذي يُردّ إلى الطبيعة/المادة) وهو كائن يتسم بالبساطة (العضوية أو الآلية) البالغة. أما في إطار المرجعية المتجاوزة، يظهر الإنسان الرباني حاوياً داخله القبس الإلهي (الذي يأتيه من خارج النسق الطبيعي ولا يمكن أن يُردَّ إليه)، ولذا فهو يحوي الأسرار واللامحدود والمجهول والغيب، جنباً إلى جنب مع العناصر الطبيعية الأخرى، ويتشابك داخله المحدود مع اللامحدود، والمعلوم مع المجهول، والجسد مع الروح، والبراني مع الجواني، والعقل مع القلب، وعالم الشهادة مع عالم الغيب. ولذا، لا يمكن أن يُرد مثل هذا الإنسان إلى عالم الطبيعة/المادة ولا يمكن أن يُختَزل إلى صيغ مادية بسيطة، فهو قادر على تجاوزه، إذ ثمة مسافة تفصل بينه وبينها.
المجرد والعينى (أو المتعين)
التجريد، في اللغة، هو «التعرية من الثياب» وهو «التشذيب»، و«جرَّد الشيء» يعني «قشَّره وأزال ما عليه»، و«جرَّد الكتاب» يعني «عراه من الضبط والزيادات»، و«جرَّده من ثوبه» يعني «عرَّاه»، و«جرَّد الجرادُ الأرضَ» يعني «أكل ما عليها من النبات، وأتى عليه فلم يبق منه شيء»، ويقال أيضاً «جرَّد القحطُ الأرضَ» أي «أذهب نباتها».
التجريد، إذن، عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً، وقَصْر الاعتبار عليها، مثلما يُجرَّد امتداد الجســم من كتلته، مع أن هاتين الصفتين لا تنفكان عن الجسم في الوجود الخارجي، فهو عملية تفكيك لظاهرة ما ثم إعادة تركيب لها بهدف عزل الصفة موضع الاهتمام.
والهدف من التجريد توفير إمكانية النظر إلى ما يتصوَّر المرء أنه أهم سمات ظاهرة ما وحدودها في صورتها النقية البحتة (جوهرها) بدون مراعاة مختلف التأثيرات الثانوية والجانبية والعرضية. وهي عملية تحديد وفصل، أي تعيين حدود تتم من خلالها استبعاد جزئيات وتفاصيل وصولاً إلى الظاهرة التي يحاول العقل فهمها، فالتجريد من ثم إستراتيجية تحليلية أساسية. والتجريد مسألة أساسية في عملية صياغة النماذج وفي عملية استخدامها واكتشافها، فالتفكيك والتركيب هما في جوهرهما عمليتان تجريديتان.
ويرتبط التجريد بفكرة الكل، إذ لا يمكن الوصول إلى الكل المتجاوز للأجزاء، والثبات الكامن وراء الصيرورة، والجوهر الكامن وراء الظواهر المتنوعة إلا من خلال عملية تجريدية. ولذا نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة المعادية تعادي التجريد لأنها ترى أن فكرة الكل ملوثة بالميتافيزيقا (باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات) ولأنها تريد أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة حتى يختفي الكل والجوهر، بما في ذلك الكل والجوهر الإنساني، وتؤدي إلى موت الإنسان بعد موت الإله، بل وتزيل ظلال الإله تماماً من الكون، وتأخذ الفلسفة البنيوية موقفاً مغايراً تماماً، فهي تزيد من معدلات التجريد إلى أن تصل إلى مستويات تجريدية عالية جداً، تصل إلى عالم الذرات والأرقام مما يؤدي إلى اختفاء الكل والجوهر الإنساني، فتؤدي هي الأخرى إلى موت الإنسان.
و«العيني» هو «الشخصي»، وهو ما يُدرَك بالحواس، ولذلك نُسب إلى العين، وهو أهم ما يميِّز أيَّ شيء نوعي أو فردي. ويُستخدم المصطلح ليشير إلى حادثة مفردة أو موضوع خاص، فيمكن أن نتحدث عن تفاحة حمراء، وهذا شيء عيني، أما الفاكهة فهي شيء مجرد، أي أن المعيَّن أو المتعين أو العيني يقابل المجرد أو المحسوس:
أ ) يشير المجرد إلى كيفية من كيفيات الموجود، وإلى صفة من صفاته، أما العيني فيشير إلى الموجود بالفعل.
ب) يشير المجرد إلى الوجود الذهني، أما العيني فيشير إلى الوجود الخارجي الحسي المتجسم.
جـ) يشير المجرد إلى ما هو عام ومتكرر في الظاهرة، أما العيني فيشير إلى صفاتها النوعية والفردية والفريدة.
د ) لكل ما تقدَّم، يتسم المجرد بالبساطة والوضوح ويتسم العيني بالتركيب والإبهام.
ومع هذا، يمكن القول بأن المجرد لا يمكن فصله عن العيني تماماً، فلا توجد فكرة مجردة كل التجريد، ولا شيء متعيِّن كل التعيُّن. فهذه حالات افتراضية نماذجية، إذ أن وجدان الإنسان وعقله يوجدان في المنطقة التي يلتقي فيها المجرد بالمتعين. ولذا إن تحدَّث الإنسان عن تفاحة حمراء بعينها فهو لا يستطيع أن يستبعد فكرة الفاكهة المجردة، وإن تحدَّث عن الفاكهة على وجه العموم فإنها تستدعي الثمرات المتعيِّنة المختلفة. ومع هذا، تتطلب عملية الإدراك ونحت النماذج وتشغيلها عملية تجريد (تفكيك وتركيب).
السببية الصلبة واللاسببية السائلة
«السببية» نسبة إلى «السبب»، والسبب هو كل ما كان ذا تأثير وما يترتب عليه مسبب، وهو ما يتوقف عليه وجود شيء، وما يحتاج إليه الشيء في ماهيته أو وجوده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى.
والسبب عند علماء الأخلاق ما يفضي إليه العقل ويبرره، وهو مرادف للحق، نقول: "فلان يبغضني بغير سبب"، أي "بغير وجه حق". والسبب تام وغير تام، فالتام هو الذي يُوجَد المسبب بوجوده، وغير التام هو الذي يتوقف وجود المسبب عليه، ولكن المسبب لا يوجد بوجود السبب وحده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. و«السببي» هو المنسوب إلى «السبب»، و«السببية» هي العلاقة بين السبب والمسبب.
والإشكاليات التي تثار حول العقل هي نفسها التي تثار حول السببية، فهل السببية شيء كامن في الأشياء نفسها، بمعنى أن السبب (شيء ما كامن في الظاهرة) هو الذي يؤدي بالفعل إلى النتيجة المادية، أم أن السببية علاقة اقتران مطرد وحسب، بمعنى أنه كلما حدث (أ) حدث (ب) دون أن تكون (أ) هي المؤدية إلى (ب) وبدون أن تكون (ب) ناتجة عن (أ) بالضرورة؟ وإن لم تكن السببية كامنة في الأشياء نفسها - فهل هي، إذن، أمر مفطور في عقولنا من قبل قوة حاكمة للعالم، أم أننا نفرضها على الواقع فرضاً (لأنها تخدم مصالحنا).
والنظريات المادية التي تحاول أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ مادي واحد (أو مقولات مادية) تتأرجح في معظم الأحيان بين افتراض السببية الصلبة وبين إنكار السببية تماماً. أما السببية الصلبة، فهي الإيمان بأن لكل ظاهرة (طبيعية أم إنسانية - بسيطة أم مركبة) سبباً واضحاً ومجرداً وبأن علاقة السبب بالنتيجة علاقة حتمية بمعنى أن (أ) تؤدي دائماً وبنفس الطريقة وحتماً إلى (ب). كما أنها سببية مطلقة بمعنى أنها تغطي كل المعطيات والظواهر بشكل مطلق في كل تشابكها وتداخلها وتفاعلها. ولحظة نهاية التاريح هي لحظة إدخال كل شيء في شبكة السببية الصلبة المطلقة، وهي أيضاً لحظة الاستنارة الكاملة، حين تتم إنارة كل شيء وضمن ذلك الإنسان فيُستوعَب في شبكة السبب ويدخل القفص الحديدي.
والسببية الصلبة المطلقة تؤدي إلى التفسيرية الصلبة المطلقة، بمعنى أن يحاول الإنسان التوصل إلى الصيغة/ القانون العام الذي يفسر الكليات والجزئيات وعلاقاتها. والسببية الصلبة المطلقة تترجم نفسها إلى صورة مجازية آلية أو صورة مجازية عضوية مصمتة لا تحتوي على أي فراغات أو مسافات، ولا تتحمل أي عدم استمرار، وتلغي أي حيز بما في ذلك الحيز الإنساني. وتسود السببية الصلبة المطلقة في عصر المادية البطولي (عصر التحديث) والثنائية الصلبة والعقلانية المادية.
ولكن النماذج المادية تفشل، بطبيعة الحال، في إدخال العالم (الطبيعة والإنسان) في شبكة السببية الصلبة. كما أنه، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية الواحدية، يتراجع المركز إلى أن يختفي ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح الواقع في حالة سيولة غير مفهومة، والعقل نفسه جزء من الصيرورة غير قادر على تجاوزها، ومن ثم غير قادر على إدراك الواقع كسبب ونتيجة. وهنا، بدلاً من السببية الصلبة المطلقة، تظهر اللاسببية السائلة واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة (عصر ما بعد الحداثة).
وهناك بطبيعة الحال من يحاول الحفاظ على موقف وسط بين السببية الصلبة المطلقة واللاسببية العدمية (مثل كانط على سبيل المثال) ولكنه موقف يستند إلى أرضية واهية، ولذا فعادةً ما تتفتَّت هذه الوسطية وتتحول إلى حتمية واحدية صارمة (كما هو الحال في المنظومات الهيجلية) أو إلى لاسببية سائلة (كما هو الحال في النظم المعادية للهيجلية [نيتشه وغيره]).
السببية الفضفاضة
تفترض النظم التوحيدية وجود المركز خارج العالم ولذا فالعالم مترابط ومن ثم بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى قدر معقول من المعرفة، ولكن ترابط العالم ليس صلباً ولا مطلقاً ولا عضوياً مصمتاً إذ يتخلله الحيز الإنساني وهو ما يسمح بوجود الأسرار والتركيب والثنائيات والانقطاع، فهو نظام يعترف بوجود قدر من الاستمرار ومن ثم بالسببية ولكنها سببية فضفاضة تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج ولكن ليس بشكل حتمي معروف مسبقاً. ولذا لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى القانون العام والنهائي الذي يجعله قادراً على معرفة الكون معرفة كاملة ومن ثم يمكنه إدخال كل شيء شبكة السببية الصلبة، وعلى الإنسان أن يقنع بقدر من التحكم في الكون والتوازن معه.
الواحدية الكونية: المادية أو المثالية / الروحية
«الواحدية» مصدر صناعي من كلمة «واحد»، وتُعبِّر عن واقع تآصل ظواهر مختلفة وعن كونها تُرَدُّ إلى أصل أو جوهـر واحد. وقد عرَّف المجمع اللغوي بالقاهرة كلمة «الواحدية» (في الفلسفة) بأنها مذهب يَرُدّ الكون كله إلى مبدأ واحد، كالروح المحض أو كالطبيعة المحضة. أما «أُحادية»، فهي من كلمة «أُحاد». وهي، في مثل «جاء الأضياف أُحادَ»، بمعنى «واحداً بعد واحد»، أي «جاء الأضياف واحداً واحـداً». فهي إذن تدل على الانفراد. ومن هنـا، فقد اسـتُخدم المصدر الصناعي «أُحادية» حديثاً للتعبير عن حالة الانفراد. وهي تعني، في التعبير الفلسفي، رد الظاهرة (وهي بطبيعتها متعددة الجوانب)، أو أية عملية، إلى أحد أوجهها دون أوجهها الأخرى. فيقال مثلاً «النظرة الأحادية»، أي النظرة التي تضع في اعتبارها عنصراً واحداً دون عناصر أخرى في الظاهرة كان لابد من وضعها في الاعتبار. والاختلاف كبير بين المفهومين: الواحدية والأحادية. ويمكن القول بأن الواحدية الكونية مفهوم أُنطولوجي (وجودي) ينسب الواحدية إلى الكون، بينما الأحادية مفهوم إبستمولوجي (معرفي) يرى أن الأحادية خاصية تسم بعض طرق التعريف والتحليل والإدراك.
وفي هذه الموسوعة، نستخدم عبارة «واحدية كونية» للإشارة إلى الرؤية الحلولية الكونية القائلة بأن الكون بأسره يمكن أن يُردّ إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهي قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي تشكل نظاماً ضرورياً كلياً للأشياء لا يمنح الإنسان أو أي كائن آخر أهمية خاصة أو مركزية. وهذا المبدأ الواحد هو الإله في وحدة الوجود الروحية وهو الطبيعة/المادة في وحدة الوجود المادية (وهذا النمط الأخير هو الأكثر شيوعاً، ولذا فنحن نخصص أحياناً ونشير إليه بأنه «الواحدية الكونية المادية» أو «الواحدية المادية» أو «الواحدية الموضوعية المادية»).
ويمكن القول بأن ثمة أنواعاً مختلفة من الواحدية هي تعبير عن مستويات مختلفة من الحلول. فالواحدية الكونية هي حلول الإله في الكون بأسره (وهو عادةً ما يحتفظ باسمه «وحدة الوجود الروحية»). ولكن يمكن أن ينحصر الحلول في الإنسان ومن ثم تظهر «الواحدية الذاتية» التي تترجم نفسها إلى النزعة الإنسانية الهيومانية المتطرفة («الواحدية الإنسانية») وإلى الذاتية الفلسفية. ولكن حينما يتركز الحـلول في جـنس بعينه (الجنس الأبيض ـ شعوب أوربا) تتحول الواحدية الذاتية إلى «واحدية إمبريالية وعنصرية». وحينما ينتقل الحلول من الإنسان إلى الطبيعة تظهر «الواحدية الطبيعية المادية» (أو «الواحدية الموضوعية المادية») ويهتز مفهوم الطبيعة البشرية إذ يظهر الإنسان الطبيعي الذي يذعن للطبيعة/المادة. وتتصاعد معدلات الحلول فتبدأ الكليات في الغياب والتفكك ويغيب مفهوم الإنسانية المشتركة تماماً إلى أن نصل إلى ما يمكن تسميته «الواحدية الذرية» حين ينتشر الحلول في كل أرجاء الكون وذراته فلا يوجد فارق بين إنسان وحيوان، وذكر وأنثى، ومقدَّس ومدنَّس. والواحدية الذرية هي بطبيعة الحال واحدية سائلة (على عكس أشكال الواحدية الأخرى التي تتسم بالصلابة). ويُلاحَظ أن تصاعد معدلات الحلولية يعني تراجع الحيز الإنساني وضموره ثم اختفاؤه الكامل حين يتوحَّد الإله تماماً بالنظام الطبيعي ويصبح الإله هو القانون الطبيعي.
ويمكن القول بأن الواحدية الكونية هي تَوحُّد الإله بالإنسان بالطبيعة (وهذه هي الوثنية القديمة)؛ أما الواحدية المادية فهي تَوحُّد الإنسان بالطبيعة (بعد موت الإله)؛ وهذه هي العلمانية الشاملة الحديثة واللحظة الجنينية الكاملة. ورغم هذه التفرقة المبدئية، فإننا أحياناً نتحدث عن «الواحدية الكونية المادية» إذا استدعى السياق ذلك لنبيِّن الوحدة الكامنة بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية.
ونموذج الواحدية الكونية المادية هو نموذج يدور في إطار المرجعية الكامنة، فهو يفـترض أن مركز العالم كامن فيه. ومن ثم، فإن الكون المادي لا يشير إلى أي شيء خارجه. فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات، تم إلغاء كل الثنائيات الفضفاضة داخله (وضمنها ثنائية الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والخير والشر، والأعلى والأدنى)، وتم تطهيره تماماً من المطلقات والقيم، وتم اختزاله كله إلى مستوى واحد يتسـاوى فيه الإنسـان بالطبيعة هو مستوى القانون الطبيعي/المادي أو الطبيعة/المادة (المطلق العلماني النهائي). وفي مثل هذا العالم الواحدي الأملس لا يوجد مجال للوهم القائل بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية. بل يمكن تطبيق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان، كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصيغ. ويتحول العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامة للحركة (ومن ثم قابل للقياس والتحكم الهندسي والتنميط) وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسلتها.
في هذا الإطار تصبح المعرفة مسألة تستند إلى الحواس وحسب، ويصبح العالم الطبيعي المصدر الوحيد أو الأساسي للمنظومات المعرفية والأخلاقية، وتُردُّ الأخلاق إلى الاعتبارات المادية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وتنفصل الحقائق المادية تماماً عن القيمة، ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق و الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية، وتصبح الحقائق المادية (الصلبة أو السائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة، وتصبح سائر الأمور (المعرفية والأخلاقية) نسبية صالحة للتوظيف والاستخدام. بل إن هذه الرؤية الواحدية المادية، في مراحلها المتقدمة، بإنكارهـا أي ثبات، ينتهي بها الأمر إلى إنكـار وجـود الماهيات والجوهر، بل الإنسانية المشتركة نفسها، باعتبارها جميعاً أشكالاً من الثبات والميتافيزيقا. عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي وهو أيضاً عالم الجماعة الوظيفية والواحدية الوظيفية والإنسان الوظيفي.
ورغم أن «الواحديـة الكونيـة الماديـة» هي الأكثر شـيوعاً، إلا أننا يمكننا أيضاً الحديث عن «الواحدية المثالية» أو «الواحدية الروحيـة»، أي الإيمان بأن ثمة مبدأً واحداً في الكون تُرَدُّ إليه كل الظواهر الإنسانية والطبيعية. وهذا المبدأ قد يكون مثالياً خالصاً: الإله ـ نفس العالم (باللاتينية: أنيموس موندي animus mundi) ـ الروح (بالألمانية: جايست Geist) ـ الروح الدافعة (بالفرنسية: إيلان فيتال élan vital)؛ أو قد يكون شيئاً روحياً اسماً مادياً فعلاً: روح الشعب ـ روح التاريخ ـ جدلية التاريخ ـ البقاء للأصلح ـ حب السيطرة والبقاء ـ اللبيدو. وسواء أكان المبدأ الواحد مادياً خالصاً أو كان مثالياً أو مثالياً اسماً مادياً فعلاً، ففي إطار الواحدية يُرَدّ كل شيء إلى هذا المبدأ وتذوب الأجزاء في الكل وتنتفي هويتها ويختفي التعدد ويختفي الإنسان ككيان مستقل.
و«الواحدية» غير «التوحيد» أو «الوحدانية»، فالوحدانية والتوحيد يدوران في إطار المرجعية المتجاوزة التي تفترض أن مركز الكون متجاوز له وأن الإله ليس كامناً في الكون وإنما متجاوز له، فهو الواحد الأحد العلي، ولكن وحدانية الإله لا تُلغي التعدد والتنوع والهوية المتعينة للأشياء. بل هي على العكس ضمان لها، فهو المركز المتجاوز الذي لا يمكن أن يتوحد معه شيء. والإنسان ليس ذاتاً مطلقة لا حدود لها ولا موضوعاً مطلقاً خاضعاً تماماً للحدود، إذ يتمتع بهوية مُتعيِّنة يتضح تَعيُّنها من خلال الحدود. والإنسان ليس حراً تماماً في أفعاله، فالمركز المتجاوز يضع حدوداً على هذه الحرية، ولكنه ليس مُسيَّراً تماماً فالمركز المتجاوز هو ضمان حريته.
الثنائية الفضفاضة (التكاملية – التفاعلية)
«الثنائية» مصطلح يقابل «الواحدية» وهي الإيمان بوجود أكثر من مبدأ وأكثر من جوهر في العالم. وفي إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية، فإن مركز الكون يكون كامناً فيه ويتوحد الخالق بمخلوقاته وتختفي الثنائية المبدئية، ثنائية المتجاوز المتعالي والحالّ الكامن، وتختفي معها كل الثنائيات الأخرى لنصل إلى عالم الواحدية المادية والكمون الكامل.
والثنائية الفضفاضة الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في إطار المرجعية المتجاوزة حيث يوجد هذا العالم وما يتجاوزه، فتظهر الثنائية الأساسية: الخالق والمخلوق (أو ثنائية المتجاوز والحال الكامن) والتي تفترض أسبقية الخالق على كل ما هو مخلوق وأن الخالق لا يمكن أن يُرد إلى مخلوقاته أو يلتحم بها أو يذوب فيها. وهي ثنائية فضفاضة تفاعلية (لا تعادلية)، إذ أن الإله مفارق للعالم ولكنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه (أي أنه ليس مفارقاً حتى التعطيل). والثنائية التفاعلية الفضفاضة مختلفة عن الاستقطاب (أو الثنائية الصلبة أو الاثنينية) حيث يقف كل طرف في الثنائية مقابل الطرف الآخر. وتَنتُج عن هذه الثنائية الفضفاضة ثنائية تكاملية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة (وثنائية النزعة الجنينية والنزعة الربانية) وتفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها بسبب وجود المرجعية المتجاوزة، أي الإله الذي يسـتخلفه في الأرض، ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيـها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليـس بمركز الكون.
الثنائية الصلبة (الثنوية – الأثينية)
«الثنائية الصلبة» (ويُقال لها «الثنوية» و«الاثنينية») هي غير الثنائية الفضفاضة، فالثنائية الصلبة تفترض تساوي عنصرين تساوياً كاملاً (رغم وجود صراع بينهما) وهذا أمر غير ممكن إلا في إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية (إذ أن المرجعية المتجاوزة تجعل مثل هذا التساوي أمراً مستحيلاً لأن وجود الإله ـ المدلول المتجاوز ـ يعطي للعالم شكلاً هرمياً بحيث يصبح أحد عناصر الثنائية أفضل من الآخر، وإن تساويا يكون ثمة تكامل بدلاً من الصراع). وأهم أشكال الثنائية الصلبة في النظم الحلولية الكمونية الروحية ثنائية الخير والشر، حيث يتصارع إلهان: واحد هو إله الخير والنور، والآخر هو إله الشر والظلام. وهي محاولة حلولية لتفسير وجود الشر. وعادةً ما تُحسَم قضية الشر بأن يلتحم إله الشر بإله الخير ويصبحان واحداً، كما أن الشر يُفسَّر بأنه مجرد وجه آخر للخير، أي أن الشر في جميع الحالات ليس له وجود حقيقي. أما في إطار النظم الحلولية الكمونية المادية فأهم أشكال الثنائية الصلبة هي ثنائية الإنسان والطبيعة. إذ يحل الإله في الكون ثم يختفي ويصبح مركز الكون داخله يتأله الإنسان وتتأله الطبيعة، وهذا أمر مستحيل فتأله الإنسـان يعني أنه يسـبق الطبيعة ويريد أن يهزمها ويسـخرها، وتأله الطبيعة يعني أنها تسبق الإنسان ومن ثم فإنها تستوعبه. وتُعبِّر هذه الثنائية الصلبة عن نفسها في التأرجح بين الذات وبين الموضوع، وبين الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية (كما هو الحال في الحالة الجنينية). والثنائية الصلبة هي في واقع الأمر شكل من أشكال الواحدية باعتبار أن العنصرين المتصارعين لا يوجد بينهما اختلاف جوهري. وعادةً ما تُحسَم الثنائية الصلبة باندماج العنصرين (وهو أمر متيسِّر لأنهما متساويان وتعارضهما عادةً ناجم عن أن الواحد مقلوب الآخر ولا يختلف عنه في البنية)، أو بانتصار العنصر الأقوى. وفي حالة الصراع بين الإنسان والطبيعة، فإن الطبيعة هي التي تنتصر لأنها أكثر شمولاً ومادية، وينتهي الأمر بعد مرحلة أولية من الواحدية الإنسانية والتمركز حول الذات الإنسانية إلى الواحدية الموضوعية المادية والتمركز حول الموضوع المادي.
الطبيعة البشرية
يشير مصطلح «الطبيعة البشرية» إلى «طبيعة الإنسان»، أي جوهره وإلى السمات الأساسية التي تُميِّز الإنسان وتفصله عن غيره من الظواهر الكونية، ويرتبط بهذا المصطلح مفهوم «الإنسانية الواحدة»، ونحن نفضل استخدام مصطلح «الإنسانية المشتركة» بدلاً من ذلك.