الباب الثانى: اليهودية والإسـلام
أســـــلمة اليهـــــودية وتهـــــويد الإســـــلام Islamization of Judaism and Judaization of Islam
«أسلمة اليهودية» و«تهويد الإسلام» مصطلحان قمنا بسكهما لنصف علاقة التأثير والتأثر بين اليهودية والإسلام. ويُلاحَظ أن مقارنة الأديان ودراسة العلاقة بينهما تنصرف عادةً إلى دراسة الشعائر والمصطلحات ومدى التشابه بينهما، الأمر الذي يؤدي بها إلى السطحية. ففي مجال مقارنة الإسلام باليهودية سيُلاحظ الدارس أن شعيرة الختان وحَظْر أكل لحم الخنزير يوجدان في كل من اليهودية والإسلام (بينما تغيب في المسيحية). وأن الشهادة في الإسلام تؤكد أن الله واحد، كما أن دعاء الشماع في اليهودية يؤكد أيضاً أن الله واحد، بينما تظهر عقيدة التثليث في المسيحية. ويَخلُص الباحث من ذلك إلى أن الإسلام أقرب إلى اليهودية منه إلى المسيحية.
ولعل الغائب هنا هو أهم شيء وهو النموذج المعرفي الذي يستند إليه النموذج التحليلي والتفسيري والتصنيفي. فهذا النموذج هو الذي يحدد المعنى العميق والكامن (والحقيقي) للشعائر وللدوال سواء كانت كلمات أم صلوات. فالختان داخل إطار حلولي ليس علامة على طاعة الإله وإنما هو علامة على التميز، وقل الشيء نفسه عن قوانين الطعام، بل عن الشهادة والشماع (انظر: «الختان» ـ «الشماع»).
وقد قمنا في هذه الموسوعة بمحاولة لمقارنة الأديان من هذا المنظور في مداخل هذا القسم والقسم الذي يليه.
ونحن، في دراستنا، نرى أن ثمة نسقين دينيين أساسييين (بل رؤيتين أساسيتين للكون)، إحداهما توحيدية ترى أن الله واحد متجاوز للطبيعة والتاريخ والإنسان (ومع هذا فهو يرعاها)، والأخرى حلولية ترى أن الله يحل في الطبيعة والتاريخ والإنسان فيتوحد الجميع في واحدية مادية كونية يسودها قانون واحد. ونحن نرى أن جوهر النسق الديني الإسلامي هو التوحيدية المتجاوزة، بينما نجد أن النسق الديني اليهودي هو تركيب جيولوجي تراكمي داخله طبقة توحيدية وأخرى حلولية وأن الطبقة الحلولية زادت قوةً وترسخاً واكتسبت مركزية على مرّ الزمن.
ولذا، فإن أسلمة اليهودية تعني تزايد درجات التوحيد داخل النسق الديني من خلال احتكاك اليهودية بالإسلام، ويتبدَّى هذا في الفكر القرّائي وفكر موسى بن ميمون. ويصل هذا الاتجاه إلى ذروته في محاولة موسى بن ميمون، في مصر، أن يؤسلم بعض الشعائر الدينية اليهودية مثل الصلاة.
وتهويد الإسلام يقف على طرف النقيض من ذلك فهو يعني تسلُّل العناصر الحلولية إلى الإسلام، ويتبدَّى هذا في الإسرائيليات وفي فكر عبد الله بن سبأ وكعب الأحبار. وبإمكان القارئ أن يعود أيضاً إلى المدخلين التاليين: «المواحدانية» و« البروتستانتية والإصلاح الديني»، ليرى تطبيقاً للنموذج نفسه على العقيدة المسيحية، حيث نجد أن فكرة الإله الواحد، داخل الإطار الحلولي، يمكن أن تكتسب مضموناً جديداً يبعدها تماماً عن التوحيد ويقربها من الواحدية الكونية.
القــّراءون: تاريـخ Karaites:History
«قرّاءون» مصطلح يقابله في العبرية «قرّائيم» أو «بني مقرّا»، أو «بعلي هامقرّا» أي «أهل الكتاب». وقد ُسمِّي القرّاءون بهذا الاسم لأنهم لا يؤمنون بالشريعة الشفوية (السماعية) وإنما يؤمنون بالتوراة (المقرّا) فقط (ولذا يمكن القول بأنهم أتباع اليهودية التوراتية، مقابل اليهودية التلمودية أو الحاخامية). والقرّاءون فرقة يهودية أسسها عنان بن داود في العراق في القرن الثامن الميلادي وانتشرت أفكارها في كل أنحاء العالم. ولم تُستخدَم كلمة «قرّائين» للإشارة إليهم إلا في القرن التاسع إذ ظل العرب يشيرون إليهم بالعنانية نسبةً إلى مؤسس الفرقة.
ويبدو أن ظهور هذه الفرقة يعود إلى عدة أسباب وعوامل داخل التشكيل الديني اليهودي وخارجه، من أهمها انتشار الإسلام في الشرق الأدنى وطرحه مفاهيم دينية وأطراً فكرية جديدة كانت تشكل تحدياً حقيقياً للفكر الديني اليهودي وبخاصة بعد أن غلبت عليه النزعة الحلولية الموجودة داخله. ويبدو أيضاً أنه كانت هناك، منذ هدم الهيكل عام 70م، عناصر دينية رافضة لليهودية الحاخامية من بين بقايا الصدوقيين والعيسويين أتباع أبي عيسى الأصفهاني (690)، وأتباع يودغان.وقد أخذ القرّاءون عن الصدوقيين فكرة منع إشعال النار يوم السبت،وأخذوا عن العيسويين إيمانهم بأن عيسى (عليه السلام) ومحمداً (صلى الله عليه وسلم) رسولان من عند الله،كما أخذوا الترهب عن أتباع يودغان. وهناك نظرية تذهب إلى أن يهود الجزيرة العربية الذين وُطِّنوا في عهد عمر في البصرة وغيرها من بقاع العالم الإسلامي، ولم يكونوا يعرفون التلمود، كانوا من أهم العناصر التي ساعدت على انتشار المذهب القرّائي.
ومن المعروف أن اليهودية، حتى ذلك الوقت، لم تكن قد صاغت عقائدها الدينية بشكل محدد وواضح، فقد كانت اليهودية لا تزال مجموعة من الممارسات الدينية تشرف الحلقات التلمودية على تنفيذها وعلى إصدار الفتاوى بشأنها حسبما تقتضيه الظروف، وهو ما يعني أن البناء العقائدي كان لا يزال غير متماسك ويسمح بتفسيرات كثيرة. ويضاف إلى كل هذا، الوضع الاقتصادي المتردي لأعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً بين أولئك الذين استوطنوا المناطق الحدودية بعيداً عن سلطة هذه الحلقات. أما القرّاءون أنفسهم فيُرجعون تاريخهم إلى أيام يُربعـام الأول، حينما انقسـمت المملكة العـبرانية المتحـدة إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية (928 ق.م). أما المؤسسة الحاخامية فكانت تشـيع أن عنان بن داود أسَّـس الفرقـة لأسباب شخصية.
وبعد انشقاقهم عن اليهودية الحاخامية، ظل القرّاءون (حتى بداية القرن العاشر) في حالة جمود يختلفون فيما بينهم وينقسمون. ويُقال إن يهود الخزر اعتنقوا يهودية قرّائية، وأنهم انتشروا في شرق أوربا بعد سقوط مملكة الخزر، ولذا نجد أن كثيراً من القرّائين في روسيا وبولندا يذكرون أن لغتهم هي التركية. ومع هذا، دافع القرقساني (أحد مفكريهم) عن هذا الانقسام بقوله: إن القرّائين يصلون إلى آرائهم الدينية عن طريق العقل، ولذا فإن الاختلاف بينهم أمر طبيعي. أما الحاخاميون، فإنهم يدَّعون أن آراءهم، أي الشريعة الشفوية، مصدرها الوحي الإلهي. فإن كان هذا هو الأمر حقاً، فلا مجال للاختلاف في الرأي بينهم. ومن ثم، فإن وجود مثل هذه الاختلافات يدحض ادعاءاتهم التي تنسب الشريعة الشفوية لأصل إلهي.
ويُلاحَظ أثر التفكير الديني الإسلامي على فكر القرّائين، وخصوصاً في عصرهم الذهبي في منتصف القرن التاسع. ويُعَدُّ بنيامين النهاوندي، وهو أول من استخدم مصطلح «قرّائي»، أهم مفكري القرّائين، كما يُعتبَر ثاني مؤسسي الفرقة حيث عاش في بلاد فارس في أواخر القرن التاسع، ثم تبعه مفكرون آخرون من أهمهم أبو يوسف يعقوب القرقساني الذي عاش في القرن العاشر.
وفي الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر، انتشر المذهب القرّائي بين مختلف أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في مصر وفلسطين وإسبانيا الإسلامية حيث عمل اليهود الحاخاميون على طَرْدهم منها، وفي الإمبراطورية البيزنطية قبل الفتح العثماني. ومع حلول القرن السابع عشر، انتقل مركز النشاط القرّائي إلى ليتوانيا وشبه جزيرة القرم التي يعود استيطان القرّائين إياها إلى القرن الثاني عشر.
وابتداءً من القرن التاسع عشر، يبدأ فصل جديد في تاريخ القرّائين بعد ضم كل من ليتوانيا (عام 1793) وشبه جزيرة القرم (عام 1783) إلى روسيا. فحتى ذلك الوقت، كانت المجتمعات التقليدية التي وُجد فيها اليهود تُصنَّف كلاًّ من اليهود الحاخاميين واليهود القرّائين باعتبارهم يهوداً وحسب دون تمييز أو تفرقة. ولكن الدولة الروسية اتبعت سياسة مختلفة إذ بدأت تعامل القرّائين كفرقة تختلف تماماً عن الحاخاميين، فأعفت أعضاء الجماعة القرّائية من كثير من القوانين التي تطبَّق على اليهود، مثل: تحديد الأماكن التي يمكنهم السكنى فيها (منطقة الاستيطان)، وتحديد عدد المسموح لهم بالزواج والخدمة العسكرية الإجبارية، وعدم امتلاك الأراضي الزراعية في مناطق معيَّنة. وقد حاول القرّاءون قدر استطاعتهم أن يقيموا حاجزاً بينهم وبين الحاخاميين، فقدموا مذكرات للحكومة القيصرية يبينون فيها أنهم ليسوا كسالى أو طفيليين مثل اليهود الحاخاميين، وهي اتهامات كانت شائعة ضد اليهود في ذلك الوقت. كما أن القرّائين كانوا يؤكدون أنهم لا يؤمنون بالتلمود الذي كانت الحكومة الروسية ترى أنه العقبة الكأداء في سبيل تحديث يهود روسيا. وقد قام المؤرخ والعالم القرّائي أبراهام فيركوفيتش بإعداد مذكرة موثقة للحكومة القيصرية تبرهن على أن اليهود هاجروا من فلسطين قبل التهجير البابلي، وبالتالي فإن تطورهم الديني والتاريخي مختلف تماماً عن اليهود الحاخاميين. وقد أُعيد تصنيف اليهود القرّائين بحيث اعتُبروا قرّائين روسيين من أتباع عقيدة العهد القديم. وقد أثَّر هذا في الهيكل الوظيفي للقرّائين، فبينما كان معظم اليهود الحاخاميين (في القرم) من الباعة الجائلين والحرفيين وأعضاء في جماعات وظيفية وسيطة، كان القرّاءون يحصلون على امتيازات استغلال مناجم الفحم، وكانوا من كبار الملاك الزراعيين الذين تخصصوا في زراعة التبغ (وقد احتكروا تجارته في أوديسا)، كما كانت تربطهم علاقة جيدة مع السلطات القيصرية.
وبلغ عدد اليهود القرّائين في القرم حين ضمها الروس نحو 2400، ووصل العدد إلى 12.907 عام 1910، وإلى عشرة آلاف عام 1932. ويصل عددهم الآن حوالي 4571. وحينما ضمت القوات الألمانية القرم وأجزاء أخرى من أوربا إبان الحرب العالمية الثانية، قرَّر النازيون أن القرّائين يتمتعون بسيكولوجية عرْقية غير يهودية. ولذا، فلم تُطبق عليهم القوانين التي طُبِّقت على الحاخاميين. وقد جاء في بعض المصادر أن موقف القرّائين من أحداث الحرب العالمية الثانية كان يتراوح بين عدم الاكتراث والتعاون مع النازيين. ويوجد تجمُّع قرّائي آخر في ولاية كاليفورنيا يضم حوالي 1200 يهودي معظمهم من أصل مصري.
وعند إنشاء الدولة الصهيونية، كان القرّاءون معادين لها بطبيعة الحال، ولكن الدعاية الصهيونية والسياسية التي انتهجتها بعض الحكومات العربية والمبنية على عدم إدراك الاختلافات بين الحاخاميين والقرّائين جعلت معظمهم يهاجر من البلاد العربية إلى إسرائيل وغيرها من الدول. ويبلغ عدد القرّائين في إسرائيل نحو عشرين ألفاً، توجد أعداد كبيرة منهم في الرملة، وزعيمهم وحاخامهم الأكبر هو حاييم هاليفي، ويعيش بعضهم في أشدود. وهناك اثنا عشر معبداً قرّائياً ومحكمة شرعية. ويمكن القول بأن معظم القرّائين في إسرائيل من أصل مصري (حيث هاجروا إليها عام 1950). والواقع أن انتماءهم الديني القرّائي لا يزال قوياً، ولذا فإن ثمة خلافات دائمة بينهم وبين اليهود الحاخامين، الأمر الذي ينعكس على العلاقات فيما بينهم داخل المستوطنات المشتركة.
القـــــّراءون: فكـــر دينــي Karaites: Religious Thought
تأثر القرّاءون بعلم الكلام عند المسلمين، وبالعقلانية الإسلامية بشكل عام. وتأثر مؤسس الفرقة، عنان بن داود، بأصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. ويُقال إن اليهود القرّائين يمثلون احتجاج الفرد وضميره الحر ضد عبء السلطة المركزية والتقاليد الجامدة. ومن هنا، فقد وُصفوا بأنهم «بروتستانت اليهودية». ومن الصعب قياس مدى دقة الوصف، وخصوصاً حين يُستخدَم الإطار المرجعي لدين ما لوصف دين آخر. ولكن، وبغض النظر عن مدى دقة الوصف، فإن من المتفق عليه أن الفرقة القرّائية تمثل أكبر احتجاج على اليهودية الحاخامية حتى العصر الحديث (حين ظهرت الفرق اليهودية الحديثة، وخصوصاً اليهودية الإصلاحية). وهي تمثل احتجاجاً بلغ من الضخامة حد أن اليهودية الحاخامية اضطرت إلى تحديد عقائدها وأفكارها على يد سعيد بن يوسف الفيومي (سعديا جاءون). وإذا كان الفيومي قد تأثر بالفكر الديني والفلسفي الإسلامي، فإن الاحتجاج القرّائي كان أكثر استيعاباً لهذا الفكر وأشد تأثراً به. ويتضح هذا التأثر في واقع أن القرّائين قد جعلوا النص المقدَّس المكتوب، أي العهد القديم، المرجع الأول والأخير في الأمور الدينية كافة، والمنبع لكل عقيدة أو قانون. وقد هاجم القرّاءون التلمود، وهدموه، وفندوا تراثه الحاخامي باعتباره تفسيراً من وضع البشر (أي أنهم وضعوا التوراة التي يُقال لها «المقرّا» مقابل المشناه بمعنى «التكرار الشفوي»). والواقع أن رفض الشريعة الشفوية هو في جوهره رفض النزعة الحلولية التي ترى أن الإله يحل بشكل دائم في الحاخامات، ومن ثم يتساوى الاجتـهاد الإنساني والوحي الإلهي، والتمسك بالنص الإلهي المكتوب.
ومع هذا، كان للقرّائين تراثهم التفسيري الذي يقابل التلمود، ولكنه ظل مجرد اجتهادات خاضعة للنقاش لا تصطبغ بصبغة نهائية أو مقدَّسة. وقد حدد عنان بن داود الأمور بقوله: « ابحث في الكتاب المقدَّس بعناية تامة ولا تعتمد على رأيي ». بل إن بعض القرّائين كانوا يستعينون باجتهادات الشريعة الشفوية، ولكنهم كانوا ينظرون إليها باعتبارها اجتهادات دينية ليست لها قداسة، وبالتالي غير ملزمة دينياً. كما أنهم يرون أنه لا اجتهاد مع النص، بمعنى أنه إذا كان النص واضحاً، فينبغي عدم فرض أية تفسيرات عليه أو استعارة تفسيرات الآخرين، على عكس تفسيرات التراث الحاخامي التي كانت تتعامل مع النص بشكل متعسف لفرض المعنى المطلوب. وقد وضع القرّاءون أصولاً للتفسير يظهر فيها تأثير الفكر الإسلامي.
فكان التفسير يستند إلى العناصر التالية بالترتيب:
1 ـ المعنى الحرفي.
2 ـ الإجماع.
3 ـ القياس.
4 ـ العقل.
أما تصوُّرهم للإله، فقد تم تطهيره تماماً من أية بقايا وثنية أو طبائع بشرية، فالإله هو خالق السماوات والأرض من العدم، وهو الخالق الذي لم يخلقه أحد، ولا شكل له ولا مثيل له، إله واحد أرسل نبيه موسى وأوحـى إليه التـوراة التي تنقل الحـق الكـامل الذي لا يمكن تغييره أو تعديله، وخصوصاً من خلال العقيدة الشفوية. وعلى المؤمن أن يعرف المعنى الحق للتوراة. وقد أرسل الإله الوحي إلى أنبياء آخرين، ولكن درجة النبوة لديهم أقل منها عند موسى، وسيبعث الإله الموتى، ويحاسبهم يوم القيامة، ويعاقب المذنب ويكافئ المثيب. وكل هذا يعني أن الإله عادل وسيحاسب كل فرد على أفعاله، وأن الإنسان خير، وأن الروح لا تفنى. ويؤمن القرّاءون بأن الإله لا يحتقر هؤلاء الذين يعيشون في المنفى، بل هو على العكس يود أن يطهرهم من خلال عذابهم إلى أن يعود الماشيَّح (لكن عقيدة الماشيَّح قد اختفت في بعض صيغ الفكر القرّائي الأولى). وغني عن القول إن معظم العقائد السابقة تبين أثر الفكر الإسلامي التوحيدي.
ولا يوجد في الفكر القرّائي هذا العدد الضخم من الأوامر والنواهي التي حددها الفكر الحاخامي. وتختلف صلاة القرّائين عن صلاة الحاخاميين في عدة أوجه، أهمها أن القرّائين يكتفون بصلاتين: واحدة في الصباح، وأخرى في المساء، وتتضمن صلاتهم الشماع، ولكنهم حذفوا الثماني عشرة بركة (شمونه عسريه). كما أن شكل الصلاة عند القرّائين استقر وأخذ شكلاً نهائياً، على عكس الصلاة عند الحاخاميين. ويرتدي القرّاءون شال الصلاة (طاليت) أثناء أدائها، ولكنهم لا يرتدون تمائم الصلاة (تفيلِّين)، ولا يضعون تمائم الباب (مزوزوت) على منازلهم لأن الإشارات الواردة بشأن هذه التمائم ذات معنى مجازي على عكس ما يتصور الحاخاميون الذي فسروا الإشارات تفسيراً حرفياً. ولا يحتفل القرّاءون بعيد التدشين لأنه ظهر بعد تدوين التوراة، ولهم تقويم خاص بهم. كما أن قوانين الطعام عند القرّائين تختلف عنها لدى الحاخاميين، وخصوصاً في القواعد الخاصة باللحم واللبن. وتتسم قواعد الزواج عند القرّائين بالتزمت إذ زادوا عدد المحارم زيادة غير عادية. كما أن القرّائين يصومون سبعين يوماً (من 13 نيسان إلى 23 سيفان) على طريقة المسلمين، بل يُحرِّم بعضهم استخدام الأدوية حيث لا شافي إلا الإله.
وقد اشتد الصراع بين القرّائين والحاخاميين إلى حد أن كل طائفة قامت بتكفير الأخرى وإعلان نجاستها وحرمانها من رحمة الإله. وقد اعتبر الحاخاميون طائفة القرّائين من الأغيار في شئون الطعام والشراب والزواج. وفي العصر الحديث، بذل القرّاءون جهوداً كبيرة للاحتفاظ بالمسافة بينهم وبين الحاخاميين.
ومع هذا، لم تنتشر اليهودية القرّائية بين اليهود، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفسير. ويُقال إن القرّائين كانوا يضمون في صفوفهم كثيراً من التقاة الذين تمسكوا بالتفسير الحرفي للتوراة، وقد أدَّى هذا إلى تَجمُّد فكرهم، وتحوُّلهم إلى حفرية دينية. ولقد وجد كثير من الجماعات القرّائية في تربة إسلامية. ولعلهم وجدوا أن من المنطقي، بعد أن طهروا اليهودية من النزعة الحلولية، وبعد فَرْض الصيغة التوحيدية عليها، أن يعتنقوا الإسلام، وخصوصاً أن ثمة إشارات إلى أن عنان بن داود كان يؤمن، مثله مثل أبى عيسى الأصفهاني، بأن عيسى (عليه السلام) ومحمداً (صلى الله عليه وسلم) من الأنبياء.
عنـــان بــن داود (القرن الثامن الميلادي) Anan Ben David
مؤسس مذهب القرّائين، ويُقال إنه كان ابن رأس الجالوت في العراق. وقد درس ابن داود الشريعة، ولكن رؤساء الحلقات التلمودية رفضوا تعيينه مكان أبيه، حسب المصادر اليهودية الحاخامية، فرفض الإذعان لقرارهم ودخل في خلاف حاد معهم عام 762. وحينما أُلقي به في السجن بتهمة التمرد، طالب بالإفراج عنه باعتبار أنه ينتمي إلى جماعة دينية مختلفة عن الجماعة اليهودية، فأُجيب طلبه. وبعد الإفراج عنه، أسس ابن داود الفرقة الجديدة في الفترة 762 ـ 767 والتي كانت تُسمَّى في بادئ الأمر بـ «العنانية»، ونشــر عـام 770 كتاـبه سـفر هامتسـفوت باللغـــة الآرامــية (كتاب الأوامـر والنواهــي) ولم يبــق من الكتاب سوى بضعة أجزاء. ولكن لا يمكن تفسير ظهور هذه الفرقة على أساس هذا الحادث الشخصي، فمن الواضـح أن اليهــودية كانت تواجــه تحـدياً فكــرياً ضخمـاً بعد انتـشار الإســلام، وكـان عليــها أن تستجيب له. وكان عـنان بن داود يمـثل أولى هــذه الاســتجابات، ثـم تبـعه سعيد بن يوسف الفيومي، المتحدث باسم اليهودية الحاخامية ومحددها.
وحجر الزاوية في فكر عنان بن داود هو العودة إلى النص المقدَّس المكتوب نفسه، أي العهد القديم، مستخدماً طريقة القياس التي استقاها من الفقه الإسلامي، وخصوصاً من فكر الإمام أبي حنيفة. كما أنه رفض الشريعة الشفوية التي تعبِّر عن الحلولية اليهودية. وقد بذل ابن داود جهداً كبيراً في تفسير التناقضات الموجودة في العهد القديم. وكان يفضل التشدد في كثير من الأمور، مثل الزواج وشعائر السبت. ومع هذا، يظل المفتاح الأساسي لفهم فكره الديني هو عبارته: "فلتبحث بعناية فائقة في النص، ولا تعتمد على رأيي".
بنيامــين بـن موســى النهــاونـدي (منتصف القرن التاسع الميلادي) Benjamin Ben Moses Nahawandi
عالم قرّائي عاش في فارس والعراق. ويُعَدُّ (مع عنان بن داود) مؤسس المذهب القرّائي. وهو صاحب مصطلح «قرّائي». وكان النهاوندي يتسم بعلمه الواسع في العلوم الإسلامية الدينية والدنيوية. كما أنه حدَّد عقائد القرّائين، وبذل جهداً كبيراً في تطهير الفكر الديني من أية اتجاهات لخلع صفات بشرية على الإله. ولذا، فقد أصر على قوله بأن الشريعة لم تُوحَ إلى موسى مباشرة وإنما أُوحيَت إليه من خلال ملاك. وأصر على أن الإله لم يَخلُق العالم مباشرة وإنما خلقه من خلال ملاك أيضـاً (وقد رفض القرّاءون رأيه هذا). ورغم تأكيده أهـمية النص المقدَّس، كما هو الحال مع القرّائين، فإنه لم يمانع في الاستفادة من الشـريعة الشـفوية (أي تفاسـير الحاخامات) دون أن يخلع عليها أية قداسة. وقد وضع النهاوندي معظم مؤلفاته بالآرامية، ومن أهمها شروح العهد القديم، إلى جانب بعض الدراسات القانونية الأخرى.
أبو يوسـف يعقوب القرقسـاني (النصف الأول من القرن العاشر الميلادي) Abu Yusuf Yaqub Qirqisani
عالم قرّائي اسـتوعب العلوم الإسـلامية الدينيـة والدنيويـة في عصره، وكان على إلمام كبير بالتراث الحاخامي. وأهم كتبه كتاب الأنوار والمراتب (بالعربية)، وهو مصنف في القوانين القرّائية، أما الكتاب الثاني فهو كتاب الرياض والحدائق، وهو تعليق على الأجزاء التي لا تتناول الشرائع في العهد القديم. وهو، في جميع كتاباته، يُحكِّم عقله ويستند إلى قواعد التفسير التي وضعها العلماء القرّاءون من قبله.
أبراهـام فيركوفيتـش (1786-1874) Abraham Firkovich
عَالم قرّائي روسي بولندي المولد، بذل جهوداً كبيرة لفصل اليهود القرّائين عن اليهود الحاخاميين، فهاجم اليهودية الحاخامية والحسيدية هجوماً لاذعاً. وقد قدَّم فيركوفيتش مذكرة عام 1825 إلى الحكومة الروسية القيصرية بيَّن فيها أن القرّائين يتسمون بالنشاط والإنتاجية، على عكس اليهود الحاخاميين الذين يتسمون في رأيه بالكسل والطفيلية. وقد اقترح في المذكرة أن تقوم الحكومة القيصرية بتهجير الحاخاميين من المناطق المتاخمة للحدود الغربية، حتى تُوقفهم عن الاشتراك في عمليات التهريب، وحتى يتم تشجيعهم على الاشتغال بالزراعة (وقد كان القرّاءون في شبه جزيرة القرم يشتغلون بكل المهن، ومنها الزراعة، كما كانوا يمتلكون مزارع تبغ). وقد بيَّن فيركوفيتش في دراساته أن القرّائين هاجروا من فلسطين بعد انقسام مملكة سليمان، وأنهم استوطنوا القرم منذ القدم، وأن قبيلة الخزر تهوَّدت على أيديهم. وقد قام بجمع العديد من المخطوطات العبرية في فلسطين (وربما مصر)، كما استشهد بالاكتشـافات الأثرية، وخصــوصاً شواهد القبور اليهودية، ليثبت قوله. ونشر فيركوفيتش آراءه عام 1872، وقد تقبَّلها كثير من المؤرخين اليهود في عصره. ولكن بعض العلماء يرون أن فيركوفيتش كان يزيف الشواهد التاريخية لتأييد وجهة نظره، ولا تزال هذه القضية خلافية. وتُعَدُّ مجموعتا فيركوفيتش بالمكتبة العامة في سانت بطرسبرج أكبر مجموعتي كتب ومخطوطات عبرية في العالم.
يتبع إن شاء الله...