الباب السابع: الصهيونية الاستيطانية (العملية)
الصهيونية الاستيطانية: تعريف Settler Colonial Zionism: Definition
«الصهيونية الاستيطانية» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى الصهيونية التي يؤمن أصحابها بأن الجانب الاستيطاني في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة لابد أن يوضع موضع التنفيذ، وأنهم على استعداد للاضطلاع بهذه الوظيفة. والاستيطان جوهر الصهيونية. والاستعمار الصهيوني هو استعمار استيطاني إحلالي لا يأخذ شكل جيش يقهر أمة ويحتل أرضها ليستغل إمكاناتها الاقتصادية والبشرية لصالح البلد الغازي وحسب وإنما يأخذ شكل انتقال الفائض البشري اليهودي من أوطان مختلفة إلى فلسطين للاستيلاء عليها وطرد سكانها الأصليين والحلول محلهم.
ونحن نُميِّز في هذه الموسوعة بين «الصهيونية التوطينية» و«الصهيونية الاستيطانية»، فالصهيونية التوطينية هي صهيونية يهود العالم الذين يشجعون استيطان اليهود في فلسطين لسبب أو آخر ولكنهم هم أنفسهم لا يهاجرون إليها قط، أما الصهيونية الاستيطانية فهي صهيونية من يستوطن في فلسطين بالفعل. وقد ظهرت الصهيونية الاستيطانية بعد الصهيونية التوطينية إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة، أي يهود شرق أوربا، لم يتبنوا الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة إلا بعد قرون من تبنِّي الأوساط المسيحية البروتستانتية والأوساط الاستعمارية العلمانية للصيغة الصهيونية.
وقد كان ما نطلق عليه «الصهيونية التسللية» أول أنواع الصهيونية الاستيطانية، ثم أعلن بعد ذلك وعد بلفور واستمر الاستيطان وتصاعدت وتيرته تحت رايات الاستعمار البريطاني، في الهجرات الصهيونية الاسـتيطانية المختلفـة (انظر: «الهجرة الصهيـونية الاسـتيطانية [تاريخ[»)
والصهيونية الاستيطانية هي الصهيونية التي تعمل في فلسطين فتنشئ المؤسسات الاستيطانية (الاقتصادية والعسكرية) وتنظم المستوطنين داخل التنظيمات الزراعية العسكرية، وتتعاون مع الدولة الراعية، وتضع الخطط الكفيلة بالقضاء على مقاومة السكان الأصليين بل سَحْقها تماماً، وتقوم بالمهام التي توكلها إليها الدولة الراعية. ولا يتدخل الصهاينة الاستيطانيون، ما وسعهم عدم التدخل، في شئون صهاينة الخارج التوطينيين، ما دام الدعم المالي والسياسي مستمراً وما دام صهاينة الخارج لا يتدخلون بدورهم في شئون المُستوطَن.
والصهيونية الاستيطانية، شأنها شأن الصهيونية التوطينية، قادرة على امتصاص أيِّ مضمون سياسي أو ديني. فهناك مؤسسات استيطانية ذات ديباجات اشتراكية إلحادية، وأخرى ذات ديباجات دينية أو ليبرالية أو فاشية. ولكن يمكن القول بأن الصهيونية العمالية هي التي قامت بتجنيد أعضاء الفائض اليهودي من شرق أوربا وزودتهم بإطار نظري، ثم زرعتهم في فلسطين، وقادت عمليات الإرهاب ضد العرب، إلى أن طردت غالبيتهم. وكانت مؤسساتها الاستيطانية المختلفة وتنظيماتها الثقافية والعسكرية هي المهيمنة تماماً على عملية الاستيطان. وكانت مشاركة الأحزاب الأخرى ـ مثل الأحزاب الدينية والأحزاب الصهيونية ذات الديباجة الليبرالية (الصهاينة العموميون) أو الفاشية (حيروت) ـ مشاركة ضئيلة بالقياس إلى ما أنجزه العماليون. وبعد إعلان الدولة، ظل العماليون مسيطرين على الصهيونية الاستيطانية، إلى أن استولى الليكود على الحكم وقاد المُستوطَن الصهيوني وبدأ يشارك مشاركة أكيدة وفعالة في صياغة سياساته وتوجهاته.
وبعد تأسيس الدولة الصهيونية، نشب صراع بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين إذ ظن التوطينيون أنهم سيستمرون في الإشراف على الدولة والاشتراك في توجيه سياساتها (أوليسوا هم أيضاً أعضاء في الشعب اليهودي وجزءاً من قياداته؟ أوليست الدولة مدينة بوجودها لهم ولجهودهم؟). ولكنهم لم يدركوا أن الدور القيادي الذي لعبوه كان دوراً مؤقتاً بسبب وجودهم في الغرب (راعي المشروع الصهيوني) وتمتُّعهم بحرية الحركة، وبسبب انشغال الاستيطانيين بعمليات تأسيس المؤسسات الاستيطانية وإرهاب العرب.
وكان الصهاينة الاستيطانيون يرون من البداية أن الجماعات اليهودية في الخارج بمنزلة كوبري (جسر) للوطن القومي، أو لبنات في بنائه، أو حتى مستعمرات تُوظَّف في خدمته. وانطلاقاً من هذه الرؤية، وصف بن جوريون المنظمة الصهيونية بأنها كالسقالة التي استُخدمت لبناء الدولة. ولذا، لم يَعُد هناك أي مبرر لوجودها بعد إعلان الدولة، أي أنه عرَّف المنظمة الصهيونية كمجرد أداة وعرَّف علاقة الدولة بالمنظمة على أنها علاقة نفعية مالية وليست عضوية. فالسقالة ليست جزءاً عضوياً من البناء، ولذا يمكن الاستغناء عنها بعد الانتهاء من عملية البناء. وقد كسب الصهاينة الاستيطانيون هذه المعركة وتحوَّلت المنظمة الصهيونية إلى سـقالة دائمة؛ خادم خاضع قانع بدور الأداة الطيعة في يد صاحبها الذي يستخدمها في ابتزاز يهود العالم وامتصاص أموالهم. ومن أهم قادة الصهاينة الاستيطانيين قبل عام 1948 جوزيف ترومبلدور وبن جوريون، أما بعدها فقيادات الاستيطان هم قيادات المستوطن الصهيوني.
الصهيونية العملية Practical Zionism
«الصهيونية العملية» اصطلاح يُطلَق على أحد الاتجاهات الصهيونية في فترة ما قبل هرتزل وبلفور، وهو مصطلح غير دقيق، وسنسميه «الصهيونية العملية التسللية» أو «الصهيونية التسللية» وحسب. والواقع أن كل الحركات الصهيونية حركات عملية مغرقة في العملية، لكن تسللية هذا الاتجاه (مقابل إمبريالية الاتجاهات الأخرى) هو ما يميِّزها.
المشاريع الاستيطانية الصهيونية الخيالية Zionist Utopias
ظهرت في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مجموعة من الأعمال الأدبية أو شبه الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود تتناول بشكل روائي خيالي المجتمع الصهيوني أو الدولة الصهيونية حيث يتم حل كل مشكلات اليهود. ولم يكن ثمة حد فاصل بين الخيال والواقع في هذه الكتابات، كما أنها لم تكن فريدة في هذا المجال وإنما كانت تعبِّر عن اتجاه أساسي داخل الحضارة الغربية في ذلك الوقت.
1 ـ فهي، ابتداءً، حضارة تَصدُر عن مفهوم التقدم اللا متناهي وعن الإيمان بإمكانية التحكم في كل شيء والتوصل لحل نهائي لكل المشاكل وإقامة الفردوس الأرضي في نهاية التاريخ.
2 ـ ساعد التقدم العلمي المذهل في هذه المرحلة على تدعيم هذا الوهم حتى أصبحت نهاية التـاريخ في اعتـقاد الكثيرين توجـد على بُـعْد خطوات.
3 ـ ويمكن القول بأن انتصار الإمبريالية الغربية وتقسيمها للعالم قد عمَّق إحساس الإنسان الغربي بأنه قادر على حل كل مشاكله الاجتماعية عن طريق تصديرها، وكان الاستعمار الاستيطاني الآلية الكبرى لذلك، فكانت المستعمرات تقام لتوطين المتطرفين دينياً وسياسياً البيوريتان والفوضويين (أمريكا الشمالية) والمجرمين (أستراليا) والذين فشلوا في تحقيق الحراك الاجتماعي في مجتمعاتهم (معظم الجيوب الاستيطانية) والفائض البشري اليهودي (الدولة الصهيونية)
4 ـ سادت التفسيرات الحرفية والمشيحانية للعهد القديم، سواءٌ في الأوساط المسيحية البروتستانتية أو في الأوساط اليهودية، مع تصاعد الثورة العلمية وزيادة معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع (وهي مرتبطة بتصاعُد الحلولية التي تسد الثغرة بين الدال والمدلول وبين الظاهر والباطن بحيث لا يُقبَل سوى التفسير الحرفي المباشر وتُرفَض التفسيرات الرمزية أو المجازية). ويظهر هذا أكثر ما يظهر في موقف الوجدان الغربي (المسيحي واليهودي) من إرتس يسرائيل إذ بدأت تتحول من مكان روحي يتطلع إليه المؤمن ليؤسس فيه مملكة الرب في آخر الأيام (ليخرج منها النور للعالمين) إلى بقعة ذات أهمية إستراتيجية يلقى فيها بالفائض اليهودي وتخرج منها الجيوش التي تؤدب الدول المجاورة.
5 ـ يُلاحَظ أن هذه الأعمال شبه الأدبية تتسم بنهاياتها السعيدة ووصولها إلى نهاية التاريخ، وهي بهذا تنتمي إلى الكتابات الطوباوية المماثلة في القرن التاسع عشر والتي كانت لا تزال تدور في إطار الرؤية السطحية التفاؤلية التي طرحها فكر الاستنارة والتي تَصدُر عن إيمان تافه بحتمية التقدم (والحتميات المختلفة) وإمكان تغيير كل شيء، بما في ذلك الطبيعة البشرية نفسها، بما يتفق مع متطلبات العلم الحديث! فهي رؤية ترى إمكانية أن يتجسد المثل الأعلى على هيئة حقيقة اجتماعية في التاريخ. هذا على عكس الطوباويات الأوربية والغربية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين والتي تغلب عليها الروح التشاؤمية نظراً لتعمق الرؤية البشرية وإدراكها أن التحكم الكامل في الكون أمر مستحيل، وأنه لو تحقق بالفعل لكانت الكارثة. وفي هذا الإطار، تمت كتابة هذه الأعمال الأدبية التي لا تتمتع بقيمة أدبية كبيرة، فهي ذات قيمة تاريخية أو حتى ذات قيمة تأريخية محضة، وتصف المشاريع الاستيطانية الصهيونية بشكل خيالي.
وتسـمي المراجع الصهيونية هذه الأعمال باليوتوبيات (جمع «يوتوبيا» أي المدينة الفاضلة) وهي اسم على غير مسمَّى للأسباب التالية:
1 ـ تأخذ العديد من تلك الكتابات شكل البرنامج التفصيلي العملي المحدد، فهي مشروع استيطاني لا يختلف كثيراً عن تلك المشاريع التي تم وضعها موضع التنفيذ بالفعل، أما العنصر الخيالي فهو ينصرف إلى بعض التفاصيل وحسب. ولعل هذا هو الذي دفع هرتزل لأن يقول: "أستطيع أن أؤكد أن ما نراه ليس يوتوبيا. لقد ظهرت العديد من اليوتوبيات قبل بعد توماس مور، لكن لم يفكر أي شخص عقلاني منطقي في وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ، إنها أفكار مسلية لكنها ليست عملية". وقد وضع هرتزل يده على جانب مهم من الحقـيقة، وهو حـرفية ما يُسمَّى باليوتوبيات الصهيونية، إذ أدرك أن هذه اليوتوبيات لا علاقة لها بعالم الحلم المتجاوز وإنما تضرب بجذورها في أرض المشروعات المادية الصلبة. أما الجانب الذي فشل هرتزل في إدراكه، فهو أن يوتوبيا سير توماس مور ليست مسلية وإنما هي عمل فني واع بمثاليته المتجاوزة، واع بأن المدينة الفاضلة بطبيعتها يستحيل تنفيذها، وإنما هي صورة مجازية، شكل من أشكال المجاز، يحاول الكاتب عن طريقها التعبير عن تطلُّع إنساني إلى عالم من المثاليات يتجاوز عالم المادة والحسابات الضيقة والتي يعرف الكاتب مسبقاً أنها مثاليات. ومن هنا نبرته المتهكمة أحياناً، ومن هنا إصراره على تقديم هذا العالم باعتباره عالماً مثالياً، فهو ليس فردوساً أرضياً، وإنما فردوس قلبي يعبِّر عن شيء أزلي في الإنسان، وهذا ما فشل هرتزل (الصحفي النمساوي من الدرجة الثانية) في أن يدركه.
2 ـ تلتزم هذه الأعمال شبه الأدبية الخيالية الصمت الكامل حيال كثير من المشاكل مثل: ماذا لو رفض اليهود الانتقال إلى المدينة الفاضلة المزعومة؟ والأهم من هذا، ماذا سيحدث لسكان الأرض التي ستقام عليها المدينة الفاضلة؟ هل سيمتد العدل ليشـملهم أم أن السـكين تنتظرهم؟ ويمكن الاحتجاج بالقول بأن الأعمال الأدبية الخيالية لا تتعرض لمثل هذه التفاصيل ولا تتناولها بالسلب أو الإيجاب. ولكن الرد على مثل هذا القول هو أن هذه الأعمال الصهيونية تتوجه إلى كثير من التفاصيل، كما أن الخطاب الصهيوني الهلامي المراوغ قد لجأ إلى الحيلة نفسها فيما بعد، وهو عدم ذكر السكان الأصليين من قريب أو بعيد وتغييبهم تماماً.
ومن القصص الطوباوية الصهيونية الأولى قصة صورة العودة لإدموند أيسلر (1850 ـ 1942) وهو يهودي سلوفاكي كتب قصته عام 1882 ونشرها بدون اسم عام 1885. وتتحدث القصة عن هجرة جماعية لليهود من أوربا بسبب اضطهاد عام وجماعي لليهود فيها. وتقوم تلك الجماعة المهاجرة بإقامة دولة في فلسطين يحكمها ملك هو ألفريد (وهو اسم غير يهودي) الذي تنبأ بهذه الهجرة. وتدخل هذه الدولة حروباً مستمرة مع جيرانها وتنتصر عليهم جميعاً ثم يستقر السلام بعد ذلك.
وقد ألهمت هذه القصة تيودور هرتزل كتابة قصته الأرض القديمة الجديدة (التنيولاند) . يتصور هرتزل أن اليهود سيؤسسون مجتمعاً مثالياً عام 1923 في الأرض المقدَّسة. وسيدير المجتمع الجديد مؤسسة تعاونية. وستبدأ التجربة الجديدة بتأسيس شركة استعمارية استيطانية تقوم بنقل اليهود من أوربا ومن أماكن أخرى إلى أرض خاصة بهم. وستحصل الشركة (المساهمة) على ميثاق من السـلطات التركية (فهي شـركة ذات براءة) تعـطي اليهـود الحكم الذاتي، وسيتلقى الأتراك مقابل ذلك مبلغ مليوني جنيه إسترليني كل سنة، وربع الريع الذي تحققه الشركة الاستعمارية، وتظل السيادة القومية في يد الأتراك ثم تقوم الشركة بعد الحصول على الميثاق بحملة دعائية ضخمة بين اليهود وتتفاوض مع الحكومات المختلفة لضمان خروج اليهود بأمن من أوطانهم وتصفية ممتلكاتهم.
وسيكون شكل الحكومة ديموقراطياً وتُؤسَّس الدولة الجديدة على أسس تكنولوجية متقدمة ونظام كفء للري. وستزدهر مدن كثيرة، وتصبح القدس على هيئة متحف. وإلى جانب التكنولوجيا، يوجد الاقتصاد التعاوني حيث تختلط الأشكال الرأسمالية وحرية الملكية بالأشكال الاشتراكية التي تضع بعض الحدود على حركة رأس المال. ورغم أن المجتمع الجديد مجتمع يضم أغلبية يهودية، إلا أنه لا يستبعد غير اليهود، فهو مجتمع غربي، حضارته أوربية يعتمد على التعددية اللغوية، وليس له أية ملامح يهودية خاصة (فهو صهيون بلا صهيونية). وهذا يتفق تماماً مع رؤية هرتزل، فهو صهيوني يهودي غير يهودي. وقد هاجم آحاد هعام هذه الرواية لخلوها من المضمون اليهودي.
ورواية الأرض القديمة الجديدة لا تختلف كثيراً عن دولة اليهود، فهي مكتوبة بالطريقة المراوغــة نفسـها التي تسـم الخطــاب الصهيــوني . بل يمكن القــول بأن المراوغــة في الروايــة (وخصوصاً بالنسبة للسكان الأصليين) أكثر صقلاً وعمقاً، فبينما يكتـب هرتـزل عن اشتراك السكان الأصليين في المجتمع الجديد وعدم استبعادهم، كان يدوَّن في مذكراته الطرق التي سيتم بها طردهم. ولكن الرواية كانت للنشر الواسع، بينما كانت المذكرات مُستودَع الأفكار الحقيقية والأمنيات التي تعبِّر عن الرؤية.
وقد تأثرت معظم الكتابات الطوباوية الصهيونية بمؤلَّف الكاتب الأمريكي إدوارد بيلامي (1850 ـ 1898) المسمَّى النظر للخلف 1887 ـ 2000 الذي يضع يوتوبيا اشتراكية. ومن الكُتَّاب الصهاينة الذين تأثروا بهذا الكتاب ماكس أوستربرج فيراكوف ـ وهو كاتب من أصل يهودي، كتب قصة اسمها الدولة اليهودية عام 6000 (2441) ونشرها عام 1893. والقصة تتحدث عن إقامة دولة يهودية في فلسطين وعلاقتها بالدول الخارجية التي اضطهدت اليهود، وعلاقة اليهود في تلك الدولة بيهود الشتات. وقد تأثر الحاخام الإنجليزي الأمريكي هنري منديس برواية بيلامي وألَّف على منوالها قصته النظر للأمام (1899) ـ حيث تصوَّر الدولة اليهودية وعاصمتها القدس كمركز لسلام العالم وكمدرسة لتعليم البشرية كيفية التصرف السليم. وهي تتصور أيضاً حركة طرد/هجرة يهودية جماعية من أوربا إلى فلسطين. ومن القصص الطوباوية الطريفة في هذا الصدد قصة معاداة الأغيار في صهيون لليهودي الجزائري جاك باهار عام 1898. وقد كان الكاتب ممثلاً للجماعة اليهودية الجزائرية في المؤتمر الصهيوني الأول (1897). يتخيل الكاتب وجود دولة تتم فيها محاكمة شخص غير يهودي بتهمة تماثل تهمة دريفوس في فرنسا، ويؤكد الطابع المتسامح للدولة اليهودية على عكس الدولة الكاثوليكية في فرنسا.
وثمة قصتان مهمتان أيضاً، الأولى للكاتب البولندي اليهودي إسحق فرنهوف (1868 ـ 1919) حيث تصوَّر (في رواية تُسمَّى فكر) دولة يهودية في فلسطين تحمل اسم دولة إسرائيل كفكرة خيالية تعارض واقع اليهـود البائس الذي عـايشه الكاتب في بولنـدا وأوكرانيا. أما القصة الثانية فهي قصة لم تكتمل نُشرت مسلسلة في مجلة اللحظة اليديشية، واسم القصة هو في دولة إسرائيل عام 2000، وكتبها المؤلف والصحفي اليهودي البولندي هيليل زيتلين (1871 ـ 1942) بدأ نشرها عام 1919 تحت تأثير النشوة التي حدثت وسط الجماعات اليهودية والمتعاطفين مع الصهاينة نتيجة وعد بلفور. وهذا العمل يتحدث عن دولة يهودية ويصف دستورها ومؤسساتها. والكاتب من أسرة حسيدية وقد أهتم في صباه بآراء إسبينوزا ونيتشه ثم تحوَّل من العلمنة الكاملة إلى الصوفية الحلولية في اليهودية، ومن ثم فهو يبدي تعاطفاً واضحاً مع الجانب الغنوصي في اليهودية.
وقد ظهرت بعض المؤلفات التي تدور حول المشاريع الاستيطانية والخيالية بالعبرية أثناء فترة الانتداب البريطاني تحدثت عن دور العمل الصهيوني والكفاح ضد الانتداب وما إلى ذلك من أفكار الصهاينة الاستيطانيين. ومن بين هذه المؤلفات قصة النحات بوريس شلتر (1924) التي تتحدث عن مشاكل المستوطنين وتتوقع حلها مع إقامة الدولة التي ستلغي كل القوانين الظالمة. ونلاحظ تنوُّع اللغات التي كُتبت بها هـذه المؤلفـات: الألمانية واليديشـية والفرنســية والعبرية. لكن معظم هذه القصــص كُتبت كـرد فعل لأحـداث محليـة، مثل مذابح كشينيف في روسيا التي كانت المحرك الأول لقصة أيسلر، وقضية دريفوس التي كانت المحرك الأول والنموذج المثالي لقصة باهار.
الصهيونية العملية (التسللية) Practical Zionism
«الصهيونية العملية» اصطلاح يُطلَق على أحد التيارات الصهيونية التي وُجدت قبل ظهور هرتزل وبلفور، وهو تيار يَصدُر عن الصيغة الصهيونية الأساسية (شعب عضوي ـ منبوذ ـ نافع ـ يمكن توظيفه خارج أوربا لصالحها). ولكن ديباجاتها كانت تنطوي على بعض الخلل، إذ تصوَّر التسلليون أن حل المسألة اليهودية لا يمكن أن يتم إلا عن طريق جهود اليهود الذاتية والانعتاق الذاتي والعمل على تحقيق أمر واقع في فلسطين وذلك عن طريق التسلل إلى فلسطين بالطرق السرية أو بالوساطات الخفية غير المباشرة (على حد قول هرتزل) أو عن طريق الاستيطان القائم على الصدقات، أي بمساعدة أثرياء الغرب المندمجين دون اللجوء لمساعدة أية قوى عظمى أو المناورات الدبلوماسية (مع الدول الغربية الاستعمارية) ولا عن طريق الضمانات الدولية. وقد كان وايزمان من أهم قادة هذه الاتجاه العملي، ومن أهم مفكريه ليون بنسكر وموشيه ليلينبلوم. وكانت الثمرة العملية لهذا الاتجاه جماعة أحباء صهيون الذين كانوا يحاولون استيطان فلسطين عن طريق التسلل وترسيخ أقدامهم فيها عن طريق العمل البطيء والمثابرة.
واصطلاح «الصهيونية العملية» مثل معظم المصطلحات الصهيونية مضلل وغير دقيق، ولذا فنحن نطرح بدلاً منه اصطلاح «الصهيونية العملية التسللية» أو «الصهيونية التسللية». فالمتسللون كانوا يتحركون داخل إطار يهودي (شرق أوربي) محض وينظرون للأمور من خلال منظار يهودي محض ويتصورون واهمين إمكانية استيطان فلسطين عن طريق التسلل. ومعظم التسلليين كانت تجربتهم تقليدية محدودة وكانوا يدورون في إطار الجماعة الوظيفية التي تمارس قيادتها السيطرة الكاملة عليها، وتقوم بدور الوسيط (شتدلان) بين الجماعة اليهودية والقوة الحاكمة. والقيادة اليهودية كانت دائماً مجموعة من الحاخامات والأثرياء. ولكن بات من الواضح للجميع أن الحاخامات كانوا قد فقدوا كل صلة بالواقع الغربي الحديث، وأن ثقافـتهم التلمـودية وجهلـهم بلغة البلد قد زادهم عزلة. ولذا، لم تَعُد الحـكومات تخاطـبهم في أمور اليهـود كما كان يحدُث في الماضي. أما أثرياء شرق أوربا فكان عددهم صغيراً، وكانوا ضعـفاء جداً وفي حالة هلع شديد للحفاظ على مواقعهم الطبقية الجديدة، ولذا كانوا يؤثرون الحفاظ على مسافة كبيرة بينهم وبين الجماهير اليهودية في بلادهم.
وحيث إن يهود اليديشية لم يدركوا أهمية الإمبريالية لأنهم كانوا من شرق أوربا، خاضعين للرقابة في الإمبراطورية القيصرية، وهي إمبراطورية لم يكن لها مشروع استعماري استيطاني في فلسطين أو حولها (إذ أخذ مشروعها الاستعماري شكل التوسع من خلال ضم المناطق المتاخمة لحدودها)، لذا نجدهم يتحركون نحو الغرب (مركز القوة). وكان في هذا تحديث للحركة، ولكنهم كانوا لا يتوجهون إلى حكوماته وإنما إلى أثرياء اليهود في الغرب (بدلاً من أثرياء اليهود في الشرق) كي يقوموا بتمويل نشاطهم الاستيطاني والتسللي. ولعل توجُّههم للأثرياء بدلاً من الحكومات هو نفسه نتاج تجربتهم مع الدولة الروسية التي لم تكن تتمتع بعد بالمركزية والهيمنة التي كانت تتمتع بها نظيراتها في أوربا الغربية.
وقد تم النشاط الاستيطاني التسللي بشكل هزيل وعملي، خارج نطاق أي فكر أيديولوجي، وظل محتفظاً بطابعه البرجماتي الإغاثي المباشر، ولم يتجاوز إقامة مزارع صغيرة لا قيمة لها. وقد استفاد التسلليون من نفوذ قناصل الدول الغربية (الذين كانوا يتنافسـون على حمــاية اليهود، أي تحويلهم إلى عنصر وظيفي عميل). وهذا يشير إلى أن التسلليين كانوا يتحركون عملياً وموضوعياً داخل إطار صهيوني بالمعنى الاستعماري الاستيطاني للكلمة، حتى ولو لم يدركوا هم ذلك. ولكنهم وضعوا أولوياتهم بطريقة أدخلتهم طريقاً مسدوداً (تسلُّل استيطاني ـ دعم الأثرياء ـ إنشاء دولة) إذ جعلوا الاستيطان مقدمة وهو في واقع الأمر نتيجة للآلية الكبرى الإمبريالية. ولذا، فقد سقطوا في نهاية الأمر في يد روتشيلد وأصبحوا موظفين لديه، يقومون بابتزازه ويقوم هو بتمويلهم وزجرهم والتحكم فيهم.
وكان التسلليون، بسبب طبيعة نشأتهم في شرق أوربا، يهتمون بمسائل الهوية اليهودية (اليديشية) وبعملية إصلاح اليهود واليهودية. ثم جاء هرتزل وحدد الأولويات بطريقة مختلفة تماماً، فبدلاً من جهود التسلليين الصغيرة طرح رؤيته الخاصة بما سماه «الاستيطان القومي» الذي يضمنه القانون العام، أي الدول الغربية الاستعمارية الكبرى. والواقع أن هرتزل، من خلال صهيونيته الدبلوماسية الاستعمارية، حدَّد أولويات الحركة بطريقة مغايرة تماماً للطريقة التي حددتها بها الصهيونية التسللية: موافقة استعمارية ثم استيطان، وهي صيغة تتفق مع الظروف التاريخية السائدة في أوربا وفي العالم ومع موازين القوى الفعلية التي جعلت من الحتمي على المشروع الصهيوني (وعلى أي مشروع استيطاني آخر) الاستعانة بالقوى الإمبريالية حتى يخرج إلى حيز الوجود. وقد كان هرتزل محقاً تماماً في موقفه، فافتقاد المتسللين لأساس القوة جعلهم بالضرورة مفتقدين للاستقلال والسيادة، الأمر الذي جعل استيطانهم عديم الفائدة، خاضعاً لرحمة أو غضب أي باشا ويبقى دائماً عُرضة لفرض القيود عليه (على حد قول نوردو). كما أن هرتزل لم يكن يهتم كثيراً بالمسائل الإثنية لأنها لم تكن تعنيه كثيراً، فهي لا تعني الدول الكبرى التي يتوجه إليها طالباً الدعم والشرعية.
ويمكن القول بأن هرتزل قام بتحديث مسألة أوربا اليهودية بأن نَزَع القداسة عن اليهود وجعلهم مادة وظيفية استيطانية، ثم قام بتدويل المسـألة اليهـودية بأن توجَّه إلى أوربا بأســرها، صاحبة المشكلة، وأخبرها أنها هي أيضاً صاحبة الحل والمستفيد الأول إن قبلت رؤية اليهود على طريقته. وبدلاً من النظر إلى يهود أوربا بوصفهم شحاذين أو فقراء يحتاجون إلى الصدقات أو شخصيات غريبة ذات تراث إثني فريد، فإن على أوربا (وأثرياء اليهود في الغرب) أن ينظروا لهم باعتبارهم شعباً له نفعه (وتحويل كل شيء إلى مادة نافعة يمكن الاستفادة منها هو جوهر التحديث)، كما أن له وظيفته التي يمكن أن يضطلع بها، ولذا فهو لا يحتاج إلى الصدقات وإنما إلى الدعم مقابل الخدمات التي سيؤديها. والدعم سيأتي من الدول الاستعمارية التي تحتاج إلى «إسفين» في الشرق والتي ستضمن "وجودنا بالمقابل". ولعل حداثة الصيغة الهرتزلية تظهر في العبارة الأخيرة التي تدل على أنه يستخدم منطقاً تعاقدياً نفعياً. وبدلاً من جماعات أحباء صهيون الصغيرة المتفرقة في الشرق والغرب، طوَّر هو صيغة مراوغة ورؤية متكاملة لعقد صهيوني صامت يُوقَّع بين الحضارة الغربية ويهود الغرب وإطار تنظيمي ينتظم الجميع.
وقد ظهرت الخلافات بين التسللين وهرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ولكن هرتزل اكتسح الجميع بسبب دقة أولوياته وحداثة طَرْحه، وخطابه المراوغ، فانضموا هم إلى المنظمة ولم ينضم هو إلى جماعاتهم الكثيرة رغم أنه كان مجرد صحفي كتب كراسة عن المسألة اليهودية وكانوا هم عدة تنظيمات يضمون في صفوفهم كثيراً من المفكرين وبضعة آلاف من الأعضاء. ثم صَدَر برنامج بازل، وقد قبل التسلليون الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وقبلوا قيادتها للمنظمة. ومنذ تلك اللحظة، سقطت عنهم الصفة التسللية بإدراكهم حتمية الاسـتعانة بالإمبريالية الغربية لوضع المشـروع الصـهيوني موضع التنفيـذ.
ورغم هذا، استمر الخلاف بين ما يمكن تسميته «الصهيونية العملية (الاستيطانية)» مقابل الصهيونية الدبلوماسية (التوطينية)، فقد شهدت الفترة الواقعة بين عامي 1897و1905 تبلور معارضة الصهاينة الاستيطانيين الذين طالبوا بالتركيز على البند الأول من برنامج بازل الخاص بتشجيع عملية الاستيطان في فلسطين، بينما انصرف اهتمام تيار هرتزل الدبلوماسي إلى تحقيق البند الرابع من البرنامج وهو الخاص بالحصول على ضمان أو اعتراف من الدول الاستعمارية الرئيسية لحماية مشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسـطين.
ولم تكن الخــلافات بين العــمليين (الاستيطانيين) من جهة، والدبلوماسيين (التوطينيين) من جهة أخرى، سوى خلافات ناجمة عن سوء الفهم من جانب العمليين الذين لم يكونوا قد أدركوا بعد أهمية الدولة الاستعمارية الراعية للمشروع الصهيوني، رغم قبولهم إياها، ومن جانب الدبلوماسيين التوطينيين الذين لم يدركوا أهمية سياسة خَلْق الأمر الواقع في فلسطين وضرورة تبنِّي ديباجات إثنية لتجنيد المادة البشرية المُستهدَفة. ومع هذا، بدأت عملية التقارب، إذ بدأ الاستيطانيون يدركون بالتدريج تفاهة فكرة الاعتماد على الذات، ولذا أصبح النشاط الاستيطاني في مرتبة ثانوية بالنسبة لمنظمة هرتزل الصهيونية، كما بدأوا يدركون أولوية الجهود الدبلوماسية الاستعمارية على الجهود الاستيطانية. وربما لهذا السبب لا نسمع كثيراً عن جهود استيطانية مكثفة في هذه المرحلة. ونظراً لسطحية الاختلاف، لم يكن من العسير التوفيق بين الاتجاهين. فمن البداية أعربت المنظمة الصهيونية عن استعدادها للاعتراف بالاستيطان الذي يتم بناء على ترخيص مسبق من الحكومة التركــية، وأعلنت عن اسـتعدادها لتقديم المساعدة لمثل هذا الاستيطان، بل أقامت المنظمة لجنة خاصة لشئون الاستيطان.
وقد تم، في نهاية الأمر، التوصل إلى صيغة توفيقية في المؤتمر السابع (1905)، فرُفض الاستيطان التسللي (الذي يعتمد على الصدقات وعلى الحصول على قطعة أرض) نهائياً. ومع هذا، قررت المنظمة الصهيونية أن تشجع العمل الزراعي والصناعي الاستيطاني هناك، وتم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة تضم ثلاثة من العمليين الاستيطانيين وثلاثة من الدبلوماسيين التوطينيين. وفي المؤتمر الثامن (1907)، أكد وايزمان أهمية المزج والتوفيق بين الاتجاهين وطَرَح ما سماه «الصهيونية التوفيقية»، أي الصهيونية التي تجمع بين النهجين العملي الاستيطاني والسياسي الاستعماري الخارجي.
وفي المؤتمر الصهيوني العاشر (1911) انتخب المؤتمر ووربورج ومعه 4 أعضاء آخرين في اللجنة التنفيذية، وكانوا من العمليين الاسـتيطانيين، وظلت المؤسـسات الماليــة في يد العمليين الاستيطانيين.
وفي المؤتمر الصهيوني الحادي عشر (1913) أحكم الاستيطانيون السيطرة على كل المؤسسات الصهيونية. وقد كان هرتزل ـ شأنه شأن صهاينة الغرب عامة ـ يعتقد أن صهاينة شرق أوربا غير قادرين على قيادة الحركة الصهيونية "بل كان يعتقد أننا سنكون أداة تستفيد منها الحركة الصهيونية الغربية" على حد قول وايزمان. ولكن مسار التاريخ قَلَب تقسيم العمل المقترح تماماً، فأمسك الشرقيون من يهود اليديشية بزمام الأمور في المنظمة الصهيونية وتولوا قيادتها، وهو أمر منطقي ومتوقَّع. فالاستيطانيون (العمليون) كانوا من شرق أوربا، والمشروع الصهيوني كان ـ حسب تصوُّرهم ـ أمراً حيوياً، بل مصيرياً بالنسبة لهم، فهم ممثلو الفائض اليهودي والقادرون على التحدث باسم هذه الكتلة البشرية المرشحة للنقل إلى فلسطين وبلُغتها، على عكس يهود الغرب الصهاينة الذي كان يهمهم التخلص من الفائض وإبعاده عن بلادهم وحسب، وكانوا غير قادرين على تَفهُّم لغته وآماله.
وقد ساعـدت صياغـة هرتزل المراوغـة على امتصـاص كل الخلافات، فتعلَّم الصهاينة أن يعيشوا مع التناقض والصراعات ما دام ثمة اتفاق على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وعلى الأولويات الإجرائية. ولعل كلمات الزعيم الصهيوني الروسي مناحيم أوسيشكين هي أدق تلخيص لصهيونية ما بعد هرتزل بمقدرتها الامتصاصية الفائقة، فقد اقترح العودة لا إلى صهيونية أحباء صهيون (التسللية الاستيطانية) ولا إلى الصهيونية الدبلوماسية (صهيونية هرتزل)، وإنما إلى مزيج من هذه التيارات الثلاثة، وبلغة أخرى إلى الصهيونية السياسية كما نص عليها برنامج بازل، أي أنه اقترح العودة إلى صهيونية هرتزل!
ولكن الذي حَسَم الخلاف تماماً بين الفريقين لم تكن المؤتمرات الصهيونية وإنما التطورات الدولية. فبعد اتخاذ قرار تقسيم تركيا، ومع اهتمام إنجلترا المتزايد بالبُعْد الجيوسياسي لفلسطين، لم يكن أمام الصهاينة (العمليين أو السياسيين أو خلافهم) سوى انتظار الدولة الراعية التي سترعى مصالحهم والتي ستوفر لهم الأرض والضمانات الدولية اللازمة. والصهيونية التي لم يكن لديها أية جماهير لم تكن تملك سوى الانتظار والتلقي، وبذا يكون الاستعمار الغربي في واقع الأمر مصدر الوحدة بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة. ويظهر التمازج الكامل بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة عام 1917، إذ نجد أن وايزمان (زعيم الصهيونية العملية الاستيطانية) هو أيضاً الذي سعى إلى استصدار وعد بلفور، قمة جهود الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية، وكان آحاد هعام (زعيم التيار الصهيوني الإثني العلماني) يقدم له المشورة.
ويمكن تلخيص إنجازات صهيونية يهود شرق أوربا في النقاط التالية:
1 ـ رفض التسلليون (الدينيون منهم واللا دينيون) الموقف الديني التقـليدي الذي يطـلب من اليهـود الانتـظار إلى أن يبعـــث الإله الماشيَّح، وطلبوا من اليهود عدم انتظار مشيئة الإله والإمساك بزمام الموقف واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق العودة. وبعد أن توصَّل التسلليون إلى أن الحل ليس في السماء، اكتشفوا أنه في غرب أوربا متمثلاً في أثرياء الغرب وقناصل دولهم في فلسطين، أي أنهم بدأوا يتحسسون الطريق نحو التحالف الذي سيحوِّل الحلم الصهيوني إلى حركة ومنظمة واستيطان.
2 ـ قبل التسلليون مقولة أن وضع اليهود داخل الحضارة الغربية وضع شاذ وهامشي، وأن الفائض اليهودي لا يمكنه أن يندمج في المجتمع. وقد خلصوا من ذلك إلى أن اليهود لا مكان لهم داخل المجتمعات الغربية، وحولوا معاداة اليهود إلى إحدى الدعائم النظرية للفكر الصهيوني، وركزوا على نَقْد الشخصية اليهودية. وقد توصَّل التسلليون إلى واحد من أهم ملامح الحل الصهيوني، وهو حل مسألة الفائض اليهودي عن طريق نَقْله إلى خارج أوربا، وقاموا بأول محاولة فعلية لوضع الحل موضع التنفيذ.
3 ـ اكتشف التسلليون أن الزراعة وسيلة أساسية للاستيطان في أرض أجنبية معادية، كما أدركوا طبيعة المشروع الصهيوني الإحلالية.
4 ـ اكتشف التسلليون إمكانية توظيف الخطاب الصهيوني المراوغ لحل التناقضات العقائدية، فأدركوا إمكانية التعاون مع أثرياء الغرب المندمجين وإمكانية ابتزازهم ما داموا لا يفرضون عليهم الصيغة القومية ولا يشهِّرون بهم لرفضها. كما أدركوا إمكانية تعايش العلمانيين والمتدينين داخل صيغة مبهمة تسمح لكل فريق بأن يفرض المعنى الذي يراه.
5 ـ ظهرت طلائع المفكرين الذين صاغوا الخطاب الصهيوني الإثني (الديني والعلماني) وهو الاتجاه الذي هوَّد الصيغة الشاملة، فعمَّق فكرة الشعب اليهودي وأضفى عليها أبعاداً تاريخية ودينية ونقاها من بقايا الفكر الاندماجي العلماني. وهذا الاتجاه هو الذي أسبغ على الصهيونية شرعية يهودية تُخفي الأبعاد العملية والنفعية التي توصَّل إليها الصهاينة غير اليهـود والصهاينة اليهـود غير اليهـود الذين لا يكترثون بمشاكل الهوية. وقد كانت هذه الشرعية ضرورية للجماهير اليهودية المتدينة في شرق أوربا، وللجماهير التي فَقَدت إيمانها التقليدي وظلت تبحث عن هوية خاصة.
لكل هذا، يمكن القول بأن صهيونية شرق أوربا أسهمت في تطوير فكر صهيوني ذي ديباجة يهودية يحاول حل مشكلة اليهود واليهودية، ويطرح نفسه بوصفه المعبِّر عن آمال وآلام جماهير شرق أوربا، وهي المجموعة البشرية المطلوب تجنيدها لتنفيذ المشروع الصهيوني. وبذا، تكون صهيونية يهود أوربا قد بدأت بالسير نحو حل مشكلة الصهيونية في الحضارة الغربية، فلأول مرة، يظهر مفكرون من داخل صفوف هذه المجموعة البشرية ينظرون إليها من الداخل، ويستخدمون مصطلحها ورموزها، وينظمون بضعة آلاف منها، بل يقومون بتجارب استيطانية قد تكون متفرقة وهزيلة ولكنها تمثل مع هذا نقطة البداية نحو نَقْل اليهود من أوربا وتشكل إطاراً يجعل الحوار مع الغرب غير اليهودي ممكناً.
يتبع إن شاء الله...