الجزء الثالث: الفرق الدينية اليهودية
الباب الأول: الفرق الدينية اليهودية (حتى القـرن الأول الميلادى)
الفـرق الدينية اليهوديـة Jewish Religious Sects
توجد في اليهودية فرق كثيرة تختلف الواحدة منها عن الأخرى اختلافات جوهرية وعميقة تمتد إلى العقائد والأصول، فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى. ومن ثم، فإن كلمة «فرقة» لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر. فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً.
أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها. وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار. ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه. وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين.
ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية. فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون. ومما يجدر ذكره أن الصدوقيين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، ومع هذا كانوا يجلسون في السنهدرين، جنباً إلى جنب مع الفريسيين، ويشكلون قيادة اليهود الكهنوتية. وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية. ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها.
وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي. فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً. ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية. وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية. ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود. أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء.
وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي. وقد ظهرت إرهـاصات الأزمـة في شـكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك.
وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بـ «الدونمه»، ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية. وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسـقطت بعضـها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشـكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية. ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي.
ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس. وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم «اليهود الإثنيون»، أي أنهم لا ينتمون إلى أية فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية! وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية.
الخـــلافات الدينيــة اليهوديــة Jewish Religious Controversies
الخلاف الديني هو خلاف غير جوهري لا يمتد إلى العقائد الدينية الأساسية، ويختلف عن الصراع بين الفرق الدينية، وهو ما تناولناه في مدخل آخر. وقد ظهرت عبر تاريخ اليهودية خلافات عديدة، بعضها عميق وبعضها سطحي. وأول هذه الخلافات، ما ورد في سفر العدد، عن قورح بن يصهار وأتباعه، حين اجتمعوا على موسى وهارون، أنهم قالوا لهما: « كفاكما، إن كل الجماعة بأسرها مقدَّسة وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب » (عدد 16/2 ـ 3). وقد انتهى الأمر بأن ابتلعت الأرض قورح وصحبه. ويبدو أن القصة تعبير عن رغبة الملوك في تعزيز نفوذ طبقة الكهنة التي كانت تشاركهم في إدارة دفة الحكم.
ولعل الخلاف الثاني في تاريخ اليهودية هو هجوم الأنبياء على الكهنة، وعلى الجوانب السلبية في مؤسسة الملكية. ومن هنا، كان الأنبياء، أمثال عـاموس وإرمـيا، يُسجَنون ويُعذَّبون بل كانوا يعدمون.
ثم ظهر الخلاف مرة أخرى، في القرن الثاني قبل الميلاد، في شكل صراع بين الفريسيين والصدوقيين، ولكن من الواضح أنه لم يكن خلافاً دينياً وحسب وإنما كان اختلافاً في العقائد يجعل من كل فريق فرقة دينية مستقلة، على عكس الخلاف بين الفريسيين والغيورين، ذلك الاختلاف الذي كان أمراً يتعلق بالتفاصيل والأولويات والأصول. وقد أثارت كتابات موسى بن ميمون الكثير من الخلافات المريرة حتى أنه اتُهم بالهرطقة.
ومن أهم الخلافات، ما يُسمَّى «المناظرة الشبتانية الكبرى» بين يعقوب إمدن وجوناثان إيبشويتس بشأن الأحجبة التي كان يكتبها الأخير. وفي العصر الحديث، ظهر خلاف بين الحسيديين وأعدائهم من المتنجديم (الحاخاميين) انتهى بظهور حركة التنوير.
ولا تزال الخلافات مستمرة في العصر الحديث، فهناك الخلاف بين اليهود الأرثوذكس أتباع أجودات إسرائيل الذين يؤيديون الصهيونية والأرثوذكس الذين يرفضونها تماماً. ويوجد داخل إسرائيل صراع بين اليهود الأرثوذكس الذين يشجعون الاستيطان على أسس دينية وأولئك الذين يعارضونه على أسس دينية أيضاً.
أزمـــة اليهوديــة Crisis of Judaism
عاشت اليهودية في كنف عدة حضارات تأثرت بها وشكَّل بعضها تحدياً لها ولقيمها. فقد تحركت اليهودية (أو العبادة اليسرائيلية إن توخينا الدقة) داخل التشكيلات الحضارية المختلفة في الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها وتبنَّت رموزها وقيمها. ومن الواضح مثلاً أن العبرانيين استوعبوا فكرة التوحيد من المصريين القدماء. ثم حَدَث التغلغل العبراني في كنعان وحدثت المواجهة الأولى مع الحضارة الكنعانية وحدثت المواجهة الثانية مع الحضارة البابلية. وقد أدَّت هذه المواجهات إلى أن النسق الديني السائد بين العبرانيين قد استوعب الكثير من العناصر الدينية والثقافية من هاتين الحضارتين (ثم من الحضـارة الفارسـية) وهو ما أدَّى إلى تزايد تركيبها الجيـولوجي التراكمي. ولكن المواجهات الثالثة والرابعة والخامسة، مع الحضارة الهيلينية والإسلامية ثم المسيحية على التوالي، كانت أكثر حدة، وأدَّت إلى ما يشبه الأزمة في حالة المواجهة مع الحضارة الهيلينية إذ دخل كثير من الأفكار اليونانية على النسق الديني اليهودي. وتأغرقت النخبة، وأدَّى هذا إلى التمرد الحشموني في نهاية الأمر وإلى انتشار المسيحية وتنصُّر أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات. أما المواجهة مع الإسلام والمسيحية فقد أدَّت إلى تطوير التلمود الذي كان بمنزلة السياج الذي فرضـه الحاخامـات على أعضـاء الجماعات ليحموا هويتهم الدينية والإثنية. وكان الاحتجاج القرائي تعبيراً عن واحدة من أهم أزمات اليهودية الحاخامية.
ولكن مصطلح «أزمة اليهودية» حينما يُستخدَم في هذه الموسوعة، وفي غيرها من الدراسات، فإنه يشير في العادة إلى الأزمة التي دخلتها اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن السابع عشر نتيجة الجمود الذي أصاب المؤسسة الحاخامية، حتى تحولت العقيدة اليهودية إلى مجموعة من الشعائر والعقائد الخارجية. ونتيجةً لذلك، ازدهر التراث القبَّالي، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية، لحل مشكلة المعنى، ولتزويد اليهودي بنسق ديني يستجيب لحاجاته العاطفية والإنسانية. وقد أدَّى هذا الوضع إلى ضرب عزلة على الجماهير اليهودية عما حولها من تحولات، كما زاد من الهوة التي تفصل بينهم وبين المؤسسة الحاخامية. وكانت حركة شبتاي تسفي أول تعبير عن هذه الأزمة من داخل المؤسسة، وفلسفة إسبينوزا من خارجها، وكلاهما طرح حلاًّ حلولياً للأزمة، فرأى الأول الطبيعة في الإله، ورأى الآخر الإله في الطبيعة. وبعد هاتين الهجمتين لم تفق اليهودية الحاخامية وانزوت على نفسها وزاد تغلغل الفكر القبَّالي، وانتشرت الحركات الشبتانية (مثل الفرانكية)، وانتشرت الحركة الحسيدية بحيث ضمت معظم جماهير يهود اليديشية في شرق أوربا (أي الكتلة البشرية اليهودية الكبرى). وظل الصراع بين الحسيديين والمتنجديم (ممثلاً بالمؤسسة الحاخامية) قائماً إلى أن أفاق الطرفان ليواجها اندلاع أهم تعبير عن الثورة العلمانية الكبرى والفكر العقلاني، أي الثورة الفرنسية وحركة الإعتاق، وحدثت المواجهة السادسة مع الحضارة العلمانية في الغرب. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، اتضحت معالم الأزمة تماماً، إذ انتشر فكر حركة الاستنارة وأخذ اليهود يحاولون إعادة صياغة اليهودية على نمط العالم الغربي المسيحي العلماني، فظهرت حركة التنوير التي وَجَّهت نقداً قاسياً للفقه اليهودي ولما يُسمَّى «الشخصية اليهودية». وظهرت حركة اليهودية الإصلاحية والمحافظة والحركات الثورية المختلفة، وتصاعدت معدلات التنصر والاندماج والعلمنة والإلحاد بين اليهود بحيث أصبح اليهود الأرثوذكس (الحاخاميون)، أي اليهود الذين يمكن اعتبارهم يهوداً بمقاييس دينية يهـودية، لا يشكلون سـوى نحو 5 ـ10% من يهود العالم. ومما أدى إلى تفاقم الأزمة أن اليهود الذين تركوا العقيدة اليهودية أصروا على الاستمرار في تسمية أنفسهم «يهوداً».
وقد حاولت الصهيونية حل أزمة اليهودية بالعودة إلى النموذج الحلولي (ولكنها حلولية بدون إله) إذ جعلت الدولة الصهيونية موضع القداسة (بدلاً من الإله) بالنسبة إلى العلمانيين، أو باعتبارها أهم تجلٍّ لهذه القداسة الإلهية بالنسبة إلى المتدينين الذين تمت صهينتهم. ويرى اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية أن الصهيونية، بهذا المعنى، ليست حلاًّ لأزمة اليهودية وإنما هي تعبير عنها. بل إنها تشكل الآن مصدر الأزمة وأكبر خطر يواجه اليهودية. فالصهيونية قد تبنت المصطلح الديني، وتطرح نفسها بوصفها نظاماً كلياً شاملاً شبه ديني، يحل محل العقيدة اليهودية باعتبارها رؤية للكون ومصدراً للمعنى ومنظماً للسلوك.
الســامريون Samaritanss
«السامريون» صيغة جمع عربية، وهي كلمة معربة من كلمة «شوميرونيم» العبرية، أي سكان السامرة. ويُشار إليهم في التلمود بلفظة «كوتيم» وتعني «الغرباء». لكن هذه التسميات هي تسميات اليهود الحاخاميين لهم. وكان يوسيفوس يسميهم الشكيميين نسبةً إلى «شكيم» (نابلس الحالية). أما هم فيطلقون على أنفسم «بنو يسرائيل»، أو «بنو يوسف»، باعتبار أنهم من نسل يوسف. كما يطلقون على أنفسهم اسم «شومريم»، أي «حفظة الشريعة»، باعتبار أنهم انحدروا من صلب يهود السامرة الذين لم يرحلوا عن فلسطين عند تدمير المملكة الشمالية عام 722 ق.م، فاحتفظوا بنقاء الشريعة.
ومهما كانت التسمية، ومهما كان تفسيرها، فمن المعروف تاريخياً أنه، بعد تهجير قطاعات كبيرة من سكان المملكة الشمالية، قام الأشوريون بتوطين قبائل من بلاد عيلام وسوريا وبلاد العرب لتحل محل المهجرين من اليهود، وتسكينهم في السامرة وحولها. وامتزج المستوطنون الجدد مع من تبقَّى من اليهود، واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه. وقد نتج عن ذلك اختلاف عن بقية اليهود. ولكن الانشقاق النهائي حدث عام 432 ق.م، بين اليهود والسامريين، بعد عودة عزرا ونحميا من بابل، حيث دافعا عن فكرة النقاء العرقي.
وثمة قصتان لتاريخ الانشقاق، أولاهما ترد في العهد القديم (نحميا 13/23 ـ28) "في تلك الأيام، كان واحد من بني يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحوروني فطردته من عندي". وقد وردت عن يوسيفوس رواية أخرى مفادها أن منَسَّى شقيق الكاهن الأعظم تزوج من ابنة حاكم السامرة سنبلط الثالث (الفارسي)، فخيَّره الكهنة بين أن يطلق زوجته أو أن يتخلى عن مكانته وسلطاته الكهنوتية. فلجأ منَسَّى لحميه الذي بنى لزوج ابنته هيكلاً على عادة العبرانيين القدامى على جبل جريزيم لينافس هيكل القدس، وأصبح الشاب المطرود كاهن السامريين. وبعد أن أسس الهيكل، انضم إليه عشرات الكهنة الآخرين المتزوجين من أجنبيات وعناصر يهودية أخرى غير راضية عن المؤسسة الدينية في القدس.
ومن الواضح أن ثمة عناصر مشتركة بين القصتين تتمثل في بعض الأسماء والعلاقات الأساسية وفي عملية الطرد. ومع أن هناك قرناً من الزمان يفصل بين القصتين الأولى والثانية، فإن من الواضح أنهما تشيران إلى الواقعة نفسها. ويحل المؤرخون هذه القضية بأن يأخذوا بقصة يوسيفوس ويرجعوا بتاريخها إلى زمن نحميا.
وقد نشبت صراعات بين السامريين وبقية اليهود، لكنهم تعرضوا لكثير من التوترات التي تَعرَّض لها اليهود في علاقتهم بالإمبراطوريات التي حكمت المنطقة. فبعد أن فتح الإسكندر المنطقة عام 323 ق.م، هاجر بعض السامريين إلى مصر وكونوا جماعات فيها. وهذه هي بداية الشتات السامري أو الدياسبورا السامرية التي امتدت وشملت سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان.
وحينما قرر أنطيوخوس الرابع (175 ـ 164 ق.م) دَمْج يهود فلسطين في إمبراطوريته لتأمين حدوده مع مصر، كان السامريون ضمن الجماعات التي استهدف دمجها وإذابتها رغم أنهم أعلنوا أنهم لا ينتمون إلى الأصل اليهـودي. وحينمـا اسـتولى الحشـمونيون على الحكم (164 ق.م)، واجه السامريون أصعب أزمة في تاريخهم إذ سيطر الحشمونيون على شكيم وجريزيم، واستولوا على مدينة السامرة وحطموها. وقد حطم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. ومع هذا، فقد استمر السامريون في تقديم قرابينهم على جبل جريزيم. كما أن هَدْم الهيكل لم ينتج عنه انتهاء طبقة الكهنة على عكس اليهود أو اليسرائيليين الذين انتهت عبادتهم القربانية المركزية وطبقـة الكهنـة التي تقـوم بها بهـدم هيكـل القـدس. ويبـدو أن السامريين لم يساعدوا اليهود أثناء التمرد اليهودي الأول، ومـع هذا نشـب تمـرُّد مستـقل في صفـوفهم ضد فســبسيان عام 67 ق.م، وتم قمعـه. كمــا ثـار السـامريون ضـد الرومان عام 79 ـ 81 م، فهُدمت شكيم وبُني مكانها نيابوليس (نابلس) أي «المدينة الجديدة».
وتمتع السامريون بمرحلة ازدهار فكري في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة زعيمهم القومي بابا رابا. ومن أهم مفكريهم الدينيين مرقه الذي عـاش في القرن نفسـه، وكاتب الأناشـيد التي تُسـمَّى «إمرالم دارا».
وقد عانى السامريون من الاضطهاد على يد الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام 529 الميلادي، قام جوستينيان بشن هجمة شرسة عليهم لم تقم لهم قائمة بعدها. ويُقال إن الرومان سمحوا للسامريين ببناء هيكلهم الذي دمره الحشمونيون حينما رفضوا الانضمام إلى ثورة بركوخبا. ولكن هذا الهيكل دُمِّر بدوره عام 484م. وقد ساعد السامريون المسلمين إبان الفتح الإسلامي، كما وقفوا مع المسلمين ضد الغزو الصليبي. وقد أفتى فقهاء المسلمين حينذاك بأن من يُقتَل من أهل الذمة في هذه الحرب فهو شهيد.
وثمة نقط اتفاق بين السامريين واليهود الحاخاميين قبل ظهور القبَّالاه وحركات الإصلاح الديني اليهودي، فكلا الفريقين يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر والملائكة. ولكن السامريين احتفظوا بقدر أكبر من الوحدانية التي تراجعت في اليهودية إلى أن اختفت تماماً تقريباً. وقد تبنوا الجزء الأول من الشهادة الإسلامية وهو « لا إله إلا الله »، وكانوا يشيرون إلى الخالق بلفظة «إل»، أو «أللا» القريبة من كلمة «الله»، ولكنهم كانوا أيضاً يسمونه «يهوه». كما كانوا يؤمنون بأن موسى نبي الله الأوحد وخاتم رسله وبأنه تجسيد للنور الإلهي والصورة الإلهية.
والكتاب المقدَّس عند السامريين هو أسفار موسى الخمسة، ويُضاف إليها أحياناً سفر يشوع بن نون.وهو،في عقيدتهم،منزل من عند الله.وهم لا يعترفون بأنبياء اليهود ولا بكتب العهد القديم. بل إن أسفار موسى الخمسة المتداولة بينهم تختلف عن الأسفار المدونة في نحو ستة آلاف موضع (ويتفق نص التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية في ألف وتسعمائة موضع من هذه المواضع،الأمر الذي يدل على أن مترجمي الترجمة السبعينية استخدموا نسخة عبرية تتفق مع النسخة السامرية).وهم ينكرون الشريعة الشفوية،شأنهم في ذلك شأن الصدوقيين والقرّائين (ومن هنا التشابه بين الفرق الثلاث في بعض الوجوه).كما أنهم يأخذون بظاهر نصوص التوراة.
ولغة العبادة عند السامريين هي العبرية السامرية، ولكن لغة الحديث ولغة الأدبيات الدينية كانت العربية. وكان كتابهم المقدَّس يُكتَب بحروف عبرية قديمة. ويزعم السامريون أن اللغة والحروف جاءتهم صحيحة من عهد النبي موسى.
ويحتفل السامريون بالأعياد اليهودية، مثل يوم الغفران وعيد الفصح، ولكنهم كانت لهم أعياد مقصورة عليهم وتقويم خاص بهم. والسامريون يؤمنون بعودة الماشيَّح برغم أنه لا توجد في أسفار موسى الخمسة أية إشارة إليه. وهم لا يعترفون بداود أو سليمان ولا يعترفون بقدسية جبل صهيون، فلهم جبلهم المقدَّس جريزيم (الجبل المختار) الذي سيعود إليه الماشيَّح. ويُلاحَظ أن الأفكار الأخروية لم تلعب دوراً مهماً في التفكير الديني لدى السامريين، كما حدث مع اليهودية بعد العودة من بابل. وينفي بعض اليهود عن السامريين صفة الانتساب إلى اليهودية، كما أنهم يعاملونهم معاملة الأغيار في أمور الزواج والموت.
وقد استمر العداء بين السامريين واليهود الحاخاميين، إذ يذهب السامريون إلى أن اليهودية الحاخامية هرطقة وانحراف، وأن قيادة اليهود الدينية أضافت إلى التـوراة وأفسـدت النص ليتفق مع وجهة نظرها.
ويُعَدُّ السامريون جماعة شبه منقرضة. وهم، في واقع الأمر، أصغر جماعة دينية في العالم، فعددهم لا يتجاوز خمسمائة، يعيش بعضهم في نابلس ويعيش البعض الآخر في حولون (إحدى ضواحي تل أبيب). وفي بعض طبعات التلمود، تحل كلمة «السامريين» محل كلمة «الأغيار» حتى تبدو عبارات السباب العنصري وكأنها موجهة إلى السامريين وحدهم وليس إلى كل الأغيار.
جـريزيم Gerizim
«جريزيم» جبل صخري يطل على الوادي الذي تقع فيه شكيم (نابلس فيما بعد). ويواجه جبل عيبال على ارتفاع 2849 قدماً فوق سطح البحر، و700 قدم فوق مدينة نابلس. وقد بُني فوق جريزيم أقدم هيكل للعبرانيين، ثم جاء داود فأبطله وعطله بعد أن نقل عاصمته إلى القدس.
وقد جاء في العهد القديم أنه حينما فتح العبرانيون الجزء الأوسط من فلسطين، نفذ يشوع "التوجيه الذي أعطاه إياه موسى" حسب الرواية التوراتية، وأوقف نصف القبائل العبرانية على جبل جريزيم لينطقوا بالبركات، وأوقف النصف الآخر إلى جهة جبل عيبال لينطقوا باللعنات (تثنية 11/29، 27/11 ـ 13، ويشوع 8/33 ـ 35).
ويرى السامريون أن الموضع الذي وقف فيه إبراهيم بابنه، ليذبحه، كان على هذا الجبل. وجريزيم جبل مقدَّس عند السامريين؛ بنوا فوقه هيكلهم ليحجوا إليه، واستمروا في تقديم القرابين عليه حتى بعد أن هدم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. وقد أعادوا بناءه إلى أن هدمه الرومان في النهاية عام 67 ق.م.
الفريسيون Pharisees
كلمة «فريسيون» مأخوذة من الكلمة العبرية «بيروشيم»، أي «المنعزلون». وكانوا يلقبون أيضاً بلقب «حبيريم»، أي «الرفاق أو الزملاء»، وهم أيضاً «الكتبة»، أو على الأقل قسم منهم، من أتباع شماي الذين يشير إليهم المسيح عليه السلام. والفريسيون فرقة دينية وحزب سياسي ظهر نتيجة الهبوط التدريجي لمكانة الكهنوت اليهودي بتأثير الحضـارة الهيلينيـة التي تُعلي من شـأن الحكيم على حسـاب الكاهن. ويُرجع التراث اليهودي جذورهم إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، بل يُقال إنهم خلفاء الحسيديين (المتقين)، وهي فرقة اشتركت في التمرد الحشموني. ولكن الفريسيين ظهروا باسمهم الذي يُعرَفون به في عهد يوحنا هيركانوس الأول (135 - 104 ق.م)، وانقسموا فيما بعد إلى قسمين: بيت شماي وبيت هليل. وقد كان الفريسيون يشكلون أكبر حزب سياسي ديني في ذلك الوقت إذ بلغ عددهم حسب يوسيفوس نحو ستة آلاف، لكن هذا العدد قد يكون مبالغاً فيه نظراً لتحزبه لهم، بل لعله كان من أتباعهم. ويُقال إنهم كانوا يشكلون أغلبية داخل السنهدرين، أو كانوا على الأقل أقلية كبيرة.
ومن المعروف أنه حينما عاد اليهود من بابل، هيمن الكهنة عليهم وعلى مؤسساتهم الدينية والدنيوية، تلك المؤسسات التي عبَّر عن مصالحها فريق الصدوقيين. ولكن اليهودية كان قد دخلتها في بابل أفكار جديدة، كما أن وضع اليهود نفسه كان آخذاً في التغير، إذ أن حلم السيادة القومية لم يَعُد له أي أساس في الواقع، بعد التجارب القومية المتكررة الفاشلة، وبعد ظهور الإمبراطوريات الكبرى، الواحدة تلو الأخرى. وقد زاد عدد اليهود المنتشرين خارج فلسطين، وخصوصاً في بابل (ويقول فلافيوس إن عدد يهود فلسطين آنذاك كان نصف مليون وحسب، وإن كانت التقديرات التخمينية ترى أن عددهم يقع بين المليونين والمليون ونصف المليون، وهم أقلية بالنسبة ليهود العالم آنذاك). ولكل ذلك، نشـأت الحاجة إلى صيغة جديدة تعبِّر عن الوضـع الجديد. ومن هنا، ظهر الفريسيون الذين لم يكونوا من عامة الشعب (عم هاآرتس)، بل كان بعضهم من الأثرياء، وإن كانوا على العموم يتسمون بأنهم يعيشون من عملهم، فكان منهم الحرفيون والتجار، على عكس الصدوقيين الذين كانوا يشكلون طبقة كهنوتية أرستقراطية مرتبطة بالهيكل وتعيش من ريعه. ولذا، فرغم تميز الفريسيين طبقياً، ورغم تعصبهم للشريعة، وربما بسببه، فإنهم كانوا يلقون تأييد الجماهير.
ويُعَدُّ الفكر الفريسي أهم تطوُّر في اليهودية بعد تبنِّي عبادة يهوه. وقد كان جوهر برنامجهم يتلخص في إيمانهم بأنه يمكن عبادة الخالق في أي مكان، وليس بالضرورة في الهيكل في القدس، أي أنهم حاولوا تحرير اليهودية، كنسق أخلاقي ديني، من حلوليتها الوثنية المتمثلة في عبودية المكان والارتباط بالهيكل وعبادته القربانية. ووسعوا نطاقها بحيث أصبحت تغطي كل جوانب الحياة إذ أن واجب اليهودي لا يتحدد في العودة إلى أرض الميعاد وإنما في العيش حسب التوراة، وعلى اليهودي أن ينتظر إلى أن يقرر الخالق العودة. وبهذا، يكون الفريسيون هم الذين توصلوا إلى صيغة اليهودية الحاخامية أو اليهودية المعيارية التي انتصرت على الاتجاهات والمدارس الدينية الأخرى.
وقد دافع الفريسيون عن الهوية اليهودية دون عنف أو تعصُّب. والهوية اليهودية التي دافعوا عنها لم تكن الهوية العبرانية القديمة المرتبطة بالمجتمع القبلي العبراني، ولا حتى المجتمع الزراعي الملكي أو الكهنوتي (فقد كانت تلك الهوية في طريقها إلى الاختفاء النهائي)، وإنما كانوا يدافعون عن هوية متفتحة استفادت من الفكر البابلي الديني، ثم الفكر الهيليني، وكانت تدرك عبث محاولة الاستقلال القومي. ولذا، أُعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت هوية دينية داخلية روحية ذات بُعد إثني ليس قومياً بالضرورة. وقد واكب هذا التعريف الجديد استعداداً للتصالح مع الدولة الحاكمة، أو القوة العظمى في المنطقة آنذاك (روما)، وعدم اكـتراث بنوعيتـها ورؤيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية، بل إنهم كانوا يفضلون حكومة غير يهودية لا تعطل شعائر اليهودية على حكومة يهودية تعطلها، مثل الحكومة الهيرودية أو حتى الحشمونية.
وانطلاقاً من هذا التعريف الجديد للهوية، أقام الفريسيون نظاماً تعليمياً مجانياً للصغار بين الجماعات اليهودية كافة، حتى يدركوا تراثهم الروحي ويفلتوا من سيطرة الكهنوت المرتبط بالهيكل. ويمكن النظر إلى محاولة إنشاء سياج حول التوراة بهذا المنظور نفسه، أي باعتبارها التعبير عن الهوية الروحية الجديدة. وكذلك كان دفاعهم عن مؤسسة المعبد اليهودي (السيناجوج) الذي يمكن إقامته في أي مكان على عكس هيكل القدس. كما أنهم طالبوا بتطبيق العقل وتفسير التوراة على أن يبتعد التفسير عن الحرفية، وأن يتم التركيز على روح النصوص في مواجهة تفسير الصدوقيين الحرفي. والواقع أن تفسير الشريعة هو شكل من أشكال السلطة السياسية في نهاية الأمر، ولذا فإن التفسير المرن يوسع ولا شك رقعة الأرستقراطية الدينية ويفتح المجال أمام شريحة جديدة تطرح فكراً جديداً. وللسبب نفسه، كان الفريسيون من أنصار الشريعة الشفوية بخلاف الصدوقيين (أنصار الشريعة المكتوبة) الذين كانوا يرون أن الشريعة الشفوية غير ملزمة. ومع هذا، كان الفريسيون لا يدَّعون النبوة، فقد كانوا ينادون بأن مرحلة النبوة وصلت إلى نهايتها وأنهم أقرب إلى حكماء الحضارة الهيلينية.
آمن الفريسيون بوحدانية الخالق، وبالماشيَّح، وبخلود الروح في الحياة الآخرة، وبالبعث والثواب والعقاب والملائكة وحرية الإرادة التي لا تتعارض مع معرفة الخالق المسبقة بأفعال الإنسان، وهي أفكار دينية أنكرها الصدوقيون الذين حافظوا على صياغة حلولية وثنية لليهودية. ولعل من العسير، إلى حد ما، تصوُّر عقيدة دينية دون إيمان بالبعث أو باليوم الآخر. ولذا، فقد يكون من المشروع لنا أن نسأل: كيف تَقبَّل الفريسيون الصدوقيين يهوداً؟ ونعود فنقول: إنها الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية. والشريعة اليهودية ـ على أية حال ـ تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن بالعقيدة اليهودية أو يولد لأم يهودية.
وتتلخص رسالة يسرائيل، حسب وجهة نظر الفريسيين، في مساعدة الشعوب الأخرى على معرفة الخالق وعلى الإيمان به، ولذا فإنهم لم يكونوا كالفرق القومية المغلقة، وإنما قاموا بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد يهود الإمبراطورية الرومانية في القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي. وقد بيَّنت هذه الحركة التبشيرية مدى ابتعاد الفريسيين عن الحلولية الوثنية التي تولِّد نسقاً دينياً قومياً مغلقاً، يتوارثه من هو داخل دائرة القداسة ويستبعد من سواه، لأن الإيمان لا يَصلُح أساساً للانتماء. وثمة نظرية جديدة تقول إن المسيح عليه السلام كان (في الأصل) فريسياً من أتباع مدرسة هليل ذات الاتجاه العالمي التبشيري، والتي كانت ترى أن مهمة اليهود نشر وصايا نوح بين الأغيار، وأنه حينما كان يشير إلى «الكتبة والفريسيين» إشارات سلبية وقدحية فإنما كان يشير إلى أتباع شماي وحسب.
وقد دخل الفريسيون في صراع دائم مع الصدوقيين على النفوذ والمكانة والامتيازات. فكانوا يتصرفون مثل الكهنة كأن يأكلوا كجماعة، ويقيموا شعائر الختان، بل حاولوا فرض نفوذهم على الهيكل نفسه على حساب الصدوقيين، وذلك عن طريق ممارسة بعض الطقوس المقصورة على الهيكل خارجه. وقد قوي نفوذ الفريسيين مع ثراء الدولة الحشمونية والرخاء الذي ساد عصرها بعض الوقت. وبلغوا درجة من القوة حتى إنهم نجحوا في حَمْل الكاهن الأعظم على القَسَم بأنه سيقيم طقوس عيد يوم الغفران حسب تعاليمهم.
وقد أيَّد الفريسيون التمرد الحشموني (168 ق.م) وساندوه، في بادئ الأمر، على مضض. ولكن التناقض بينهم وبين الأسرة الحشمونية ظهر إبان حكم يوحنا هيركانوس الأول، فتحدوا سلطته الكهنوتية وذبح هو آلافاً منهم. وتَحقَّق للصدوقيين بذلك شيء من النصر. ولكن زوجة هيركانوس (سالومي ألكسندرا) التي خلفته في الحكم، تصالحت معهم وأسلمتهم زمام الأمور في الداخل، فاضطهدوا الصدوقيين حتى أن الجو صار مهيئاً لحرب أهلية. والواقع أن الصراع الذي دار بين يوحنا هيركانوس الثاني وأخيه أرسطوبولوس الثاني كان صراعاً بين الصدوقيين والفريسيين. ويبدو أن الفريسيين اصطبغوا بصبغة هيلينية في أواخر الأسرة الحشمونية وعارضوا التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م). لكن خوفهم من الغيورين كان عميقاً، فأخذوا يسايرونهم، غير أنهم كانوا يستسلمون للقوات الرومانية كلما سنحت لهم الفرصة كما فعل يوسيفوس. وقد كانوا يرون أن الدولة الرومانية أساس للبقاء اليهودي. ويقول أحد الفريسيين: "صلوا من أجل سلام الحكومة الرومانية، فلولا الخوف الذي تبعثه في القلوب لابتلع الواحد منا الآخر " (فصول الآباء 3/2). وقد قام أحد الفريسيين (يوحنان بن زكاي) بتأسيس حلقـة يفنه التلمودية التي طورت اليهودية الحاخامية.
ويُصنَّف «الغيورون» و«عصبة الحناجر» و«الأسينيون» باعتبارهم أجنحة متطرفة من الحزب الفريسي (باعتبارهم ينتمون إلى ما يمكن تسميته «الحزب الشعبي») في مواجهة حزب الصدوقيين الكهنوتي الأرستقراطي.
يتبع إن شاء الله...