الباب الثالث: اليهودية والمسيحية
تنصير اليهودية Christianization of Judaism
«تنصير اليهودية» مصطلح نحتناه لنصف عملية حدثت للنسق اليهودي وحولته تحويلاً جذرياً، وهي ظاهرة رصدها بشكل جزئي متفرق كثير من دارسي اليهودية من الغربيين ولكنهم لم يعطوها المركزية التفسيرية التي تستحقها. وابتداءً، لابد أن نقرر أن «التنصير» المشار إليه عملية بنيوية مركبة تمت داخل اليهودية بشكل تلقائي طوعي غير واع على مستوى البنية الكامنة وليس من الخارج. ولذا، فهي لا تأخذ شـكل اقتراض فـكرة هـنا أو شـعيرة هناك، وإنما تأخذ شكلاً أكثر جذرية. كما أن تنصير اليهودية لا يعني أن اليهودية أصبحت نصرانية، إذ أن اليهودية فقدت كثيراً من سماتها الخاصة واستوعبت بعض السمات البنيوية للمسيحية. ولكن الثمرة النهائية لهذه العملية هو تَشوُّه كلٍّ من اليهودية والسمات المسيحية التي استوعبتها.
وتعود ظاهرة تنصير اليهودية إلى عدة عناصر:
1 ـ تركيب اليهودية الجيولوجي يساعد كثيراً على تَقبُّله سمات وعناصر من الأنساق الدينية الأخرى.
2 ـ أصول المسيحية يهودية، فالسيدة مريم العذراء عاشت وماتت يهودية، والسيد المسيح نفسه والحواريون كانوا في بداية الأمر يهوداً يدورون في إطار الثقافة الآرامية السائدة. وقد بدأت المسيحية باعتبارها دعوة موجهة إلى اليهود أساساً، ثم إلى كل الناس بعد ذلك، والمسيحية لم تَجُبّ اليهودية وإنما أكملتها (على حد قول السيد المسيح(.
3 ـ تَبنَّت المسيحية التوراة (كتاب اليهود المقدَّس) كتاباً مقدَّساً، حتى بعد أن سَمَّته العهد القديم، وأصبح الشعب ضمن أتباع الكنيسة، وأصبحت الكنيسة نفسها تُسمَّى «إسرائيل الحقيقية» (باللاتينية: «إسرائيل فيروس Israel verus»)، وأصبحت العودة إلى صهيون والقدس (بالمعنى الروحي) إحدى الركائز الأساسية للتفكير الأخروي المسيحي. وهناك بعض المفاهيم المشتركة بين اليهودية والمسيحية مثل ابن الإله والاختيار.
4 ـ منذ القرن الرابع عشر، عاشت غالبية يهود العالم في العالم الغربي في تربة مسيحية. ولكن يهود المارانو هم أهم العناصر التي ساعدت على تنصير اليهودية حيث أشاعوا القبَّالاه، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية، التي استوعبت كثيراً من الأفكار المسيحية لدرجة أن أتباع المفكر القبَّالي أبو العافية تنصروا لاكتشافهم الشبه بين نسقه الفكري والمسيحية.
ويجب ألا ننسى أن كثيراً من المارانو كانوا مسيحيين صادقين في إيمانهم، وفُرضت عليهم اليهودية فَرْضاً بسبب غباء محاكم التفتيش وعنصريتها. ولذا، فإنهم كانوا يفكرون من خلال إطار مسيحي كاثوليكي. وحتى أولئك اليهود المتخفون الذين احتفظوا بيهوديتهم سراً، أصبح إطارهم المفاهيمي كاثوليكياً. فهم، على سبيل المثال، كانوا يؤمنون بالقديسة «سانت إستير»، بل إن بعض شعائرهم تأثرت بالشعائر المسيحية وتأثرت رؤيتهم للماشيَّح برؤية المسيحيين للمسيح.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر التأثر بالمسيحية بين يهود اليديشية، وقد كانت مراكز اليهودية الحاخامية في المدن الكبرى، أما أغلبية اليهود فكانوا في الشتتلات يعيشون مع الفلاحين السلاف، جنباً إلى جنب، بعيداً عن قبضة المؤسسة الحاخامية، فاصطبغ فكرهم الديني بصبغة فلكلورية سلافية أرثوذكسية .
ولفهم عملية تنصير اليهودية، لابد أن نتناول قضية معالجة كلٌ من المسيحية واليهودية لقضية الحلول الإلهي أو اللوجوس. فاللوجوس في المسيحية، هو ابن الله الذي ينزل ويتجسد لفترة زمنية محددة ويُصلَب ويقوم ويترك التاريخ، ومن ثم، فإن الحلول شخصي مؤقت ومنته. أما اللوجوس في اليهودية، فهو الشعب اليهودي، مركز التاريخ والطبيعة، ولذا فالحلول جماعي ودائم ومتواصل، وتَجسُّد المطلق في التاريخ مسألة دائمة. وهذا الفارق بين الحلين لمشكلة الحلولية (أو لنقطة تلاقي المطلق والنسبي) هو الذي يشكل مفتاحاً لفهم طبيعة تنصير اليهودية.
ويتبدَّى تداخل عناصر مسيحية والنسق الديني اليهودي في زعم الحاخامات أن المشناه تجسيد للوجوس، تماماً كالمسيح عند المسيحيين. ولعل تفسير راشي للاختيار بأنه سر من الأسرار هو أيضاً تأثر بالمفاهيم المسيحية الخاصة بحادثة الصلب باعتبارها سراً من الأسرار الإلهية التي يؤمن بها الإنسان دون أن يتساءل عنها. لكن مثل هذه الأفكار يمكن أن تُولَد داخل أي نسق ديني إيماني دون تأثر بأنساق دينية أخرى، فتعيين بعض الأفكار التي لا يمكن التساؤل عنها أو عن سببها مسألة أساسية في كل دين (بل في كل العقائد وضمن ذلك العقائد العلمانية). ولكن يصعب أن نقول الشيء نفسه عن قول الحاخامات إن المشناه هي لوجوس خُلق قبل الخَلق (مع أنها تضم اجتهادات بعض الحاخامات اليهود).
وإذا كان هناك إبهام ما في حالة اليهودية الحاخامية في بدايات العصور الوسطى، فإن الأمر يختلف تماماً بعد هيمنة القبَّالاه. ويمكننا الآن أن نبيِّن بعض نقط التلاقي بين القبَّالاه وبعض العقائد المسيحية. إن أهم مفاهيم القبَّالاه (التجليات النورانية العشرة) هو صدى لفكرة التثليث المسيحية. وقد قال أحد الحاخامات إنه إذا كان المسيحيون يؤمنون بثلاثة آلهة فالقباليون يؤمنون بعشرة، وإذا كانت المسيحية ترى أن الكنيسة جسد المسيح وأن المسيحي يشكل جزءاً من هذا الجسد فإن القبَّالاه جعلت التجلي العاشر للإله «جماعة يسرائيل» نفسها أو «كنيست يسرائيل».
وفي هذه التجليات، نجد أن التجلي الثالث هو الأب العلوي أو السماوي (والعلة الذكرية الأولى). أما التجلي الثاني، فهو الأم العلوية أو السـماوية والعلـة الأنثوية الأولى، وهما يتزاوجان وينجبان التجلي السادس، وهذا صدى لفكرة ابن الإله وابن الإنسان. والتجلي السادس هو الملك والعريس، وتربطه علاقة بالتجلي العاشر (شخيناه) التعبير الأنثوي عن الإله والملكة والعروس.
وفي القبَّالاه اللوريانية، نجد أن أبا وأما يكوِّنان النمط الأعلى للزواج المقدَّس. ثم نجد بعد ذلك «زعير أنبين»، أي «ذا الوجه القصير» و«نقيفاه زعير»، أي «أنثى زعير» (وهي مقابل التجلي العاشر).
وفي حادث تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) ونفي الشخيناه صدى لحادثة الصلب، كما أن إصلاح الخلل الكوني (تيقون) فيه أيضاً صدى لبعث المسيح بعد الصلب. وهناك من يذهب إلى أن الشخيناه هي أم الشعب اليهودي التي تشفع له عند الإله، وأنها الوسيط بين الإله والكون، فهي إذن تشبه العذراء مريم في اللاهوت الكاثوليكي. كما أن الشخيناه هي أيضاً جماعة يسرائيل وجزء من جسد الإله، وهذا يشبه المفهوم المسيحي (الكاثوليكي) للكنيسة.
وقد انتشرت القبَّالاه بأفكارهاالغنوصية شبه المسيحية، وجعلت التربة خصبة للحركات الشبتانية التي كانت في جوهرها حركات حلولية متطرفة كان قادتها يعلنون أن الإله حلَّ فيهم، أو أنهم هم أنفسهم الإله، كما فعل شبتاي تسفي أو جيكوب فرانك اللذان تألها، وجعلا نفسيهما جزءاً من ثالوث إلهي خاص ابتدعاه.
ويرى بعض الدارسين أن ثمة تأثراً في الفكر الشبتاني بالتراث المسيحي يتبدَّى في مركزية فكرة الماشيَّح الفرد، كما يتبدَّى في فكرة الخلاص الداخلي وفي الحرية الباطنية. ولكن التشابه الأصلي يتبدَّى أساساً في شخصية الماشيَّح. فالمسيح عيسى بن مريم، حسب العقيدة المسيحية، هو تجسد الإله في ابنه الذي يُصلَب، وهي فكرة مبنية على فكرة التناقض (بارادوكسا) وتَقبُّلها، فالإله يصبح بشراً وهذا البشري يُصلَب.
والواقع أن ثمة تناقضاً أساسياً في فكرة الماشيَّح عند الشبتانيين، وهو أن الماشيَّح هو ابن الإله البكر الذي ينزل إلى الظلمات والدنس فيرتد عن اليهودية ويعتنق المسيحية أو الإسلام أو يتظاهر بذلك، وارتداده شكل من أشكال الصلب، فكأن الماشيَّح المرتد المدنَّس هو المسيح المصلوب. ولكن ارتداده، مثل الصلب، مسألة غير حقيقية، فالمؤمنون يرون أن هذا هو عالم الظاهر والحس، كل ما فيه زائف، ويظل الباطن (القيام والطهر) هو الحقيقة. والفارق بين الشبتانيين المعتدلين والشبتانيين المتطرفين يتمثل في موقفهم من هذه الفكرة، فالمعتدلون منهم يرون أن عليهم الإيمان حتى يظهر الماشيَّح المرتّد، أما المتطرفون فيرون أن الإيمان لا يكفي وعليهم أن يتشبهوا به وأن يرتدوا هم أيضاً، وبذلك ينزلون إلى عالم الدنس مثل الماشيَّح المرتد المدنَّس. بل يرى بعض الدارسين أن الشبتانية تؤمن بثالوث هو: الإله الخفي (النور غير العاقل)، وإله جماعة يسرائيل (النور العاقل) والشخيناه (جماعة يسرائيل) أو أيّ تنويع آخر، كما يرون أن هذا التثليث صورة سوقية مشوهة للتثليث عند المسيحيين.
ويظهر الثالوث الشبتاني في ثالوث الفرانكية:
1 ـ الأب الطيب (ويقابل الإين سوف في العقيدة القبَّالية).
2 ـ الأخ الأعظم أو الأكبر (ويقابل التفئيريت أو الابن).
3 ـ «الأم علماه» أو «العذراء بتولاه» أو «هي»، وهي خليط من الشخيناه والعذراء مريم.
والثالوث الفرانكي يضم كثيراً من عناصر الثالوث المسيحي بعد تشويهها تماماً. ويتجلى أثر المسيحية في اليهودية في الحركة الحسيدية التي يعتقد البعض أنها جوهر اليهودية، أو اليهودية الخالصة، بينما هي في واقع الأمر متأثرة تماماً بالمسيحية الأرثوذكسية السلافية، وخصوصاً جماعات المنشقين مثل الدوخوبور (المتصارعين مع الروح) والخليستي (من يضربون أنفسهم بالسياط). وتُعَدُّ الجماعة الأخيرة أقرب الفرق إلى الحسيدية، فقد كان قادتها يعتقدون أن الروح القدس تحل في قائد الجماعة (تساديك)، ولذا فهو مسيح قادر على الإتيان بالمعجزات.
وكان التساديك يشبه القديس المسيحي في مقدرته على الإتيان بالمعجزات، كما كان نحمان البرتسلافي يستمع إلى اعترافات تابعيه، ويقوم بالإجراءات اللازمة ليحصلوا على المغفرة. وكان بعض التساديك يقبلون من أتباعهم فدية أو خلاص النفس (بالعبرية: فيديون نيفيش) مقابل الخلاص الذي يعطونه لأتباعهم. ولذا، فإن بعض الدارسين يُشبِّهون الفيديون نيفيش بصكوك الغفران. وكل تساديك أصبح مسيحاً، مركزاً للحلول الإلهي، له أرضه المقدَّسة التي لا ينافسه فيها أحد. وقد أخذ هذا الاتحاد شكلاً متطرفاً في حالة نحمان البراتسلافي الذي أعلن أنه الماشيَّح الوحيد (ويبدو أن أتباعه كانوا يعبدونه، ولذا لم يَخلُفه أحد).
بل إن مصطلحاً مثل «الحمل بلا دنس» وهو مصطلح يتضمن مفهوماً مسيحياً بعيداً كل البعد عن روح اليهودية الحاخامية، وجد طريقه إلى الحسيدية من خلال الخليستي. فكان الخليستي يعيشون بعيداً عن زوجاتهم باعتبار أن الإله شاء أن تحمل العذراء فحملت، وكذا الأمر معهم. وهذا ما فعله بعل شيم طوف، فعندما ماتت زوجته وعُرض عليه أن يتزوج من امرأة أخرى احتج ورفض وقال إنه لم يعاشر زوجته قط وأن ابنه هرشل قد وُلد من خلال الكلمة (اللوجوس). وتظهر الفكرة نفسها في عذراء لادومير، وهي تساديك أنثى امتنعت عن الزواج وكان لها أتباعها، لكنهم انفضوا عنها بعد زواجها.
وفي العصر الحديث تأثر مارتن بوبر بالفكر الصوفي المسيحي (البروتستانتي) ومسألة تجسُّد الإله بشكل شخصي للمؤمن. ويظهر تَنصُّر الخطاب الديني اليهودي تماماً في خطاب الفيلسوف الصهيوني البرجماتي هوراس كالن الذي يرى أن اليهود أمة روحية، وأن ذكرياتهم وآمالهم ومخاوفهم وعقائدهم ومواثيقهم تضفي على نضالهم القومي وأعمالهم ووسائلهم قداسة خاصة. ويحوّل هذا البُعد الصوفي المقدَّس «المادة الفظّة» التي تتكون منها حياة اليهود اليومية تحويلاً كاملاً، يوافق ما تفعله العقيدة المسيحية الخاصة بالوجود الحق حين تحوَّل العشاء الرباني في فم المؤمن الحقيقي إلى «جسد المسيح».
ويمكن القول بأن هذا هو تنصير اليهودية في مرحلة حلولية شحوب الإله. أما في مرحلة وحدة الوجود وموت الإله (حلولية بدون إله)، فإن التنصير يأخذ شكلاً مختلفاً. وقد ظهر مؤخراً ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» أو «ما بعد أوشفيتس» الذي يَصدُر عن القول بأن حادثة الإبادة النازية لليهود حدث مطلق يتجاوز الفهم الإنساني، ولذا فعلى المرء تَقبُّله دون تساؤل باعتباره سراً من الأسرار (بارادوكسا)، من الواضح أن هذا اللاهوت تعبير عن تزايد معدلات العلمنة والإلحاد داخل العقيدة اليهودية. ولكن يمكننا أن نلاحظ أيضاً أنه تعبير عن تنصير النسق الديني اليهودي. فحادثة الصلب في الرؤية المسيحية هي اللحظة التي ينزل فيها الإله إلى الأرض متجسداً في شكل ابنه فيُصلَب فداءً للبشر، وهي حادثة تتجاوز الفهم الإنساني، وعلى الإنسان تَقبُّلها بكل تناقضاتها دون تساؤل وهي التي تعطي مغزى للتاريخ.
وسنجد أن ما حَدَث داخل عقل المفكرين الدينيين اليهود أن الابن أصبح الشعب اليهودي المقدَّس الذي جاء إلى هذا العالم فاضطهده الأغيار إلى أن تمت حادثة الصلب على يد النازيين، فنظروا إلى هذه الحادثة التاريخية باعتبارها الواقعة الأساسية في تاريخ اليهود الحديث، بل في تاريخ اليهود بأسره. ويشكل هذا استمراراً للنمط التنصيري القديم نفسه، وقد أخذ نقطة الحلول (نزول الابن وصلبه وقيامه) وقام بتحويلها إلى شيء مستمر عبر التاريخ. وفي هذه الحالة، يكون ظهور الشعب اليهودي في التاريخ هو النزول، وتكون الكوارث التي لحقت به (ابتداءً بالخروج من مصر وانتهاءً بالإبادة) هي الصلب، أما القيام فهو عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وقيام الدولة الصهيونية.
وإن تحدثنا عن تنصير اليهودية فلابد أيضاً من الحديث عن يهودية الفلاشاه، فهي تحوي عناصر مسيحية كثيرة تجعل من الصعب على بعض الدارسين تسميتها «يهودية». فالفلاشاه لا يعرفون التلمود أو العبرية ويتعبدون بالجعيزية لغة الكنيسة الإثيوبية المقدَّسة وتضم كتبهم المقدَّسة مقتطفات من العهد الجديد، ولا يوجد عندهم حاخامات وإنما قساوسة ورهبان، وهكذا. ولذا، لا عجب أن مندوب الوكالة اليهودية نصحهم (عام 1973) بأن يتنصروا حلاًّ لمشكلتهم. ومع هذا قبلتهم إسرائيل يهوداً في الثمانينيات مع تزايد حاجتها للمادة البشرية، كما قبلت الفلاشاه مورا من بعدهم. يقابل مصطلح «تنصير اليهودية» مصطلح «تهويد المسيحية».
ابـن الإلـــه Son of God
«ابن الإله» يقابلها «بن إلوهيم» في العبرية، وهي عبارة تشير إلى ما يلي:
1 ـ كل البشر باعتبار أن الإله هو أب لكل الناس (تثنية 3/6، أشعياء 64/7).
2 ـ أعضاء جماعة يسرائيل الذين يُشار إليهم في سفر الخروج باعتبارهم «إسرائيل ابني البكر» (4/22)، وفي سفر التثنية باعتبارهم «أولاد للرب إلهكم» (14/1)، وفي سفر هوشع باعتبارهم «أبناء الرب الحي»(1/10)، وفي سفر أشعياء (63/16) « فإنك أنت أبونا... أنت يا رب أبونا ».
3 ـ ملك اليهود (الماشيَّح) الذي يُشار إليه بأنه ابن الإله: "قال لي أنت ابني... أنا اليوم ولدتك" (مزامير 2/7) وكذلك (أخبار أول 17/13). ولذا، كان أحد ألقاب شبتاي تسفي «ابن الإله البكر».
4 ـ الملائكة (تكوين 6/2 وأيوب 1/6، 2/1).
5 ـ الأتقياء والعادلين (في الترجمة السبعينية فقط).
6 ـ الماشيَّح، في الترجوم، وفي بعض كتب الأبوكريفا الخفية، وفي التفسيرات.
7 ـ يشير فيلون إلى اللوجوس باعتباره ابن الإله.
8 ـ كان يُشار إلى التوراة باعتبارها ابن الإله.
9 ـ كان يُشار إلى المشناه باعتبارها «اللوجوس»، أي «الكلمة» التي هي «ابن الإله» في التراث المسيحي.
ومع هذا، يجب التنبيه إلى أن هذه الفكرة رغم انتشارها هي مجرد طبقة جيولوجية واحدة تراكمت مع طبقات أخرى عديدة داخل النسق الديني اليهودي، بل إن كثيراً من اليهود، في العصور الوسطى، فقدوا حياتهم بسبب إنكارهم أن المسيح ابن الإله. وقد جاء في كثير من الردود الحاخامية على المسيحيين، رفض لفكرة ابن الرب. ولذا جاء في مدراش (تفسير) كتبه أحد الحاخامات يقول: «الرب يقول: أنا الأول (أشعياء 44/6) لأنني لا أب لي، وأنا الأخير، لا أخ لي ولا إله غيري، لأنني لا ابن لي ». فالتوحيد واحد من أهم الطبقات الجيولوجية التي تراكمت داخل اليهودية والتي تكتسب مركزية في بعض المداخـل وفي كتابات بعـض المفكرين اليهـود. ولكن العكـس صحيح أيضاً، فإذا كانت فكرة «ابن الإله» تعبيراً عن شكل من أشكال الحلول المؤقت الشخصي غير المتكرر في التاريخ (ذلك أن الإله يحل وبشكل مؤقت في الزمان وفي إنسان بعينه فيُصْلَب ويقوم مرة أخرى) فإن الفكر القبَّالي يصل إلى درجة أكثر تطرفاً في الحلول بحيث يصبح الشعب هو الإله ويصل هذا التيار ذروته حين تصبح الدولة الصهيونية ليست ابن الإله، وإنما هي الإله نفسه، العجل الذهبي الجديد.
وقد جاء في سورة التوبة:
« وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل » (التوبة: 30)، والمعنى هنا أن بعض اليهود هم الذين يؤمنون بأن عزير ابن الله، ونسب ذلك القول إلى اليهود جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد، فيُقال فلان يركب الخيول وهو لا يركب إلا واحداً منها، وفلان يجالس السلاطين وهو لا يجالس إلا واحداً. ويقول الشهرستاني صاحب الملل والنحل: إن الصدوقيين هم الذين قالوا ذلك من بين سائر اليهود. ولا ندري مدى صحة ذلك، ولكننا نعرف أن الصدوقيين أنكروا القيامة والبعث وخلود الروح. ويقول المقريزي: إن يهود فلسطين زعموا أن عزير ابن الله، وأنكر أكثر اليهود ذلك.
ومنذ ظهور اليهودية الحاخامية لم يَعُد هناك أثر للإيمان بعقيدة ابن الإله، وإن كان يُشار إلى التوراة باعتبارها «ابنة الإله»، كما أن المشناه كان يُشار إليها باعتبارها «اللوجوس»، أي «الكلمة» التي هي «ابن الرب» في التراث المسيحي.
المسيح (عيسى بن مريم) Jesus
يُشار إلى المسيح (عيسى بن مريم) بكلمة «يشو» العبرية، ويُشار إليه في التلمود بوصفه «ابن العاهرة»، كما يُشار إلى أنَّ أباه جنديٌّ رومانيٌّ حملت منه مريم العذراء سفاحاً (أما كلمة «ماشيَّح»، فإنها تشير إلى المسيح المخلِّص اليهودي الذي سوف يأتي في آخر الأيام). ويشير التلمود إلى أنَّ صلب المسيح تمَّ بناءً على حكم محكمة حاخامية (السنهدرين) بسبب دعوته اليهود إلى الوثنية، وعدم احترامه لسلطة الحاخامات. وكلُّ المصادر الكلاسيكية اليهودية تتحمَّل المسئولية الكاملة عن ذلك، ولا يُذكَر الرومان بتاتاً في تلك المصادر. وظهرت كتب مثل توليدوت يشو (ميلاد المسيح) وهي أكثر سوءاً من التلمود نفسه وتتهم المسيح بأنَّه ساحر.
واسم المسيح نفسه (يشو) اسم مقيت. ولكن يُفسَّر على أنَّه كلمة مركَّبة من الحروف الأولى لكلمات أخرى (على نظام النوطيرقون) لعبارة معناها «ليفن اسمه ولتفن ذكراه». وقد أصبحت الكلمة عبارة قدح في العبرية الحديثة، فيُقال «ناصر يشو»، وهي تساوي «ليفن اسم ناصر، ولتفن ذكراه» وهكذا. ولا تساوي اليهودية الحاخامية المسيحية بالإسلام، فهي تعتبر أن المسيحية شرك ووثنية، ولكنها لا ترى أن الإسلام كذلك.
توليــدوت يشُّـو Toledot Yeshu
«توليدوت يشُّو» عبارة عبرية تعني «حياة المسيح» وهي عنوان كتاب كان متداولاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب. ويُقدِّم هذا الكتاب التصور اليهودي لمولد وحياة المسيح. وقد تداخلت عدة عناصر لتكوِّن هذه الصورة من بينها بعض أقسام التلمود (سوطه أو المرأة المشبوهة ـ السنهدرين) وبعض الفتاوى في عصر الفقهاء (جاؤون)، وبعض العناصر الفلكلورية المنتشرة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ويُقدِّم الكتاب أحياناً صورة إيجابية إلى حدٍّ ما للعذراء مريم أم المسيح، فهي من عائلة طيبة وتعود جذورها لبيت داود، أما أبو المسيح فهو رجل شرير قام باغتصابها ثم هرب.
وتُبيِّن القصة أن المسيح شخص يتمتع بذكاء عال ولكنه لا يحترم شيوخ البلد وحكماءها. وهو يتمتع بمقدرات عجائبية لأنه سرق أحد الأسماء السرية للإله من الهيكل، ومع هذا ينجح أحد فقهاء اليهود في إبطال سره، وتوجد تفاصيل أخرى في الكتاب أكثر بشاعة وقبحاً.
ويهدف الكتاب إلى تفريغ قصة المسيح من أي معنى روحي، كما أنها تحاول تفسير المعجزات التي تدور حول المسيح بطريقة تكشفها وتنزع عنها أيَّ سحر أو جلال أو هالات دينية. وهذا الكتاب يُسبِّب كثيراً من الحرج للجماعات اليهودية حينما تكتشف السلطات أمره. ولذا كان بعض الحاخامات يحرصون على تأكيد أن يسوع المشار إليه في الكتاب ليس المسيح وإنما هو شخص يحمل هذا الاسم عاش قرنين قبل الميلاد. وقد أُعيد طبع كتاب توليدوت يشو على نطاق واسع في إسرائيل.
تهويــــــد المسيحيـــــة Judaization of Christianty
«تهويد المسيحية» اصطلاح يشير إلى عمليات تحول بنيوية بدأت تدخل المسيحية منذ الإصلاح الديني وتبدَّت في المسيحية البروتستانتية. وجوهر التهود انتقال الحلول الإلهي من الكنيسة إلى الشعب.
وقد نتج عن ذلك زيادة الاهتمام بالعهد القديم وانتشار الحركات الصوفية الحلولية بين المسيحيين والقبَّالاه المسيحية. (انظر أيضاً: «البروتستانتية والإصلاح الديني»).
التراث اليهـودي المســيحي Judeo-Christian Tradition
«التراث اليهودي المسيحي» مصطلح ازداد شيوعاً في العالم الغربي في الآونة الأخيرة، وهو يعني أن ثمة تراثاً مشتركاً بين اليهودية والمسيحية، وأنهما يكوِّنان كلاًّ واحداً. وهو ادعاء له ما يسانده داخل النسق الديني المسيحي وإن كان لا يعبِّر عن الصورة الكلية.
إذ أن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يتجاهل حقائق دينية أساسية:
1 ـ هناك الاختلافات الأساسية الواضحة مثل الإيمان بالتثليث في المسيحية والإيمان بوحدانية الإله في اليهودية. والشيء نفسه ينطبق على موقف كلتا العقيدتين من تجسيم الإله وتصويره وتشبيهه بالبشر، إذ أن العقيدة المسيحية تقبله (وهنا لابد أن نشير إلى طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي). ولذا، فبرغم تأكيد التوحيد وعدم التشبيه والتجسيم على مستوى من المستويات، فإن ثمة سقوطاً في الحلولية المتطرفة التي تؤدي باليهودية إلى الشرك والتجسيم والتشبيه إلى درجات متطرفة لا تعرفها المسيحية نفسها. كما أن موقف اليهودية والمسيحية من الخطيئة مختلف بشكل جوهري، فالمسيحية تؤمن بأن الإنسان ساقط بسبب الخطيئة الأولى. أما اليهودية، فلا تؤمن بالخطيئة الأولى. ولذا، فإن أداء الشعائر، واتباع الأوامر والنواهي، كافيان لخلاص الإنسان.
2 ـ وثمة خلافات بين العقيدتين حول فكرة المسيح، فبينما ترى اليهودية المسيح (أي الماشيَّح) باعتباره شخصية سياسية قومية سيقود شعبه إلى صهيون ويعيد بناء الهيكل ويؤسس المملكة اليهودية مرة أخرى، فإن المسيح في المسيحية إله إنسان مهمته خلاص كل البشرية لا الشعب اليهودي وحسب.
3 ـ تُعدُّ قضية صلب المسيح قضية أساسية ونقطة خلاف رئيسية. فمن المعروف أن كل أمة أو مجموعة عرْقية أو دينية تدَّعي أنها مدينة بوجودها لشكل من أشكال التضحية والفداء الرمزي، أو الفعلي الذي يكتسب مكانة رمزية ويصبح بمنزلة الركيزة النهائية للنسق ولحظة التأسيس. وحادثة الصلب في المسيحية هي هذه اللحظة، حين نزل ابن الإله إلى الأرض وارتضى لنفسه أن يُصلَب، وكان فعله هذا الفداء الأكبر. ولحظة الصلب هذه ليست لحظة زمنية، رغم حدوثها في الزمان، ولا ترتبط بفترة تاريخية معينة رغم وقوعها في التاريخ، فهي كونية، وفي احتفالات الجمعة الحزينة يحاول المسيحي المؤمن أن يستعيد ألم المسيح، هذه الواقعة الكونية التي لا يمكن أن تنافس واقعة أخرى. واليهود عنصر أساسي في حادثة الصلب، فحاخاماتهم هم الذين حاكموا المسيح وهم الذين أصروا على صلبه، فهم قتلة الرب، الذين يقتلونه دائماً، بإنكارهم إياه.
ورغم المحاولات العديدة، المسيحية واليهودية، لتغيير هذه البنية الرمزية للوجدان المسيحي، فإن مثل هذه المحاولات لا تُكلَّل بالنجاح نظراً لأن المجال الرمزي مجال إستراتيجي يتسم بقدر من الثبات. ولذا فكثيراً ما تنشب الصراعات فجأة وبلا مقدمات حين يقوم بعض المسيحيين بتمثيل بعض المسرحيات الدينية التي تبرز الرموز المسيحية وتسقط على اليهودي دور قاتل الرب. وقد نشب صراع حول أوشفيتس كان في جوهره صراعاً حول الرموز ومعناها. فحادثة الإبادة، أصبحت في الوجدان اليهودي لا تختلف عن حادثة الصلب في الوجدان المسيحي. ولذا حين أقامت بعض الراهبات الكرمليات ديراً في هذا المعتقل لإقامة الصلاة على الضحايا من أي عرْق أو دين أو جنسية اعترض ممثلو أعضاء الجماعات اليهودية، لأن هذا يعني فرض لحظة الصلب المسيحية، على لحظة الصلب اليهودية!
4 ـ ثمة رأي داخل المسيحية يقول بأن العهد الجديد لم ينسخ العهد القديم، ولكنه مع هذا حل محله وتجاوزه. ومع أن الكنيسة لم تستبعد العهد القديم (وقد كان مارسيون وبعض الغنوصيين يجاهرون بأن إله العهد القديم إله غيور، على حين أن إله العهد الجديد إله رحيم)، فإن الإيمان المسيحي يستند إلى أن الشريعة (أو القانون) قد تحققت من خلال المسيح وتم تجاوزها، وأن الرحمة الإلهية والإيمان بالمسيح وسيلة للخلاص حلت محل الشريعة والأوامر والنواهي، ومن ثم كان رفض الشعائر الخاصة بالطعام والختان التي تَمسَّك بها اليهود. وقد ذهب المسيحيون إلى أن اليهودية دين الظاهر والتفسير الحرفي دون إدراك المعنى الداخلي أو الباطن، وأن الكنيسة هي يسرائيل فيروس، أي يسرائيل الحقيقية، وأنها يسرائيل الروحية (حسب الروح)، أما اليهود فهم يسرائيل الزائفة الجسدية التي لا تدرك مغزى رسالتها. وبالتالي، فَقَد اليهود دورهم، وأصبحت اليهودية ديانة متدنية بالنسبة إلى المسيحيين، ووصف اليهود بأنه شعب يحمل كتباً ذكية ولكنه لا يفقه معنى ما يحمل.
5 ـ لكل هذا، أعادت الكنيسة تفسير العهد القديم بحيث اكتسب مدلولاً جديداً مختلفاً تماماً عن مدلوله عند اليهود الذين استمروا في شرحه وتفسيره على طريقتهم، وفهمه فهماً حرفياً وحلولياً وقومياً. ومن ثم اختلف النسق الديني اليهودي عن النسق الديني المسيحي. ومن أهم أشكال الاختلاف أن المسيحية أصبحت ديناً عالمياً، باب الهداية فيه مفتوح للجميع (وهذا أمر متوقع بعد أن خففت المسيحية من حدة وتطرف الحلولية اليهودية بحصرها الحلول الإلهي في المسيح واعتبار الكنيسة جسد المسيح)، على عكس اليهودية التي ظلت ديناً حلولياً مغلقاً مقصوراً على شعب أو عرْق بعينه يظل وحده موضع الحلول الإلهي. ثم تَعمَّق الاختلاف بحيث أصبحت للمسيحيين رؤية مختلفة تماماً عن رؤية اليهودية.
6 ـ وقد تبدَّى كل هذا في شكل صراع تاريخي حقيقي، فقد رفض اليهود المسيح (عيسى بن مريم) ولا يزالون يرفضونه. ويلوم الآباء المسيحيون الأوائل اليهود باعتبارهم مسئولين عما حاق بالمسيحيين الأولين من اضطهاد، وأنهم هم الذين كانوا يهيجون الرومان ضد المسيحيين ويلعنون المسيحيين في المعابد اليهودية، وأنهم هم المسئولون في نهاية الأمر عن صلب المسيح. وهم يرون أن هدم الهيكل وتشتيتهم هو العقاب الإلهي الذي حاق بهم على ما اقترفوه من ذنوب (وتشكِّل معاداة اليهود، باعتبارهم قتلة الرب، جزءاً أساسياً وجوهرياً من التراث الفني الديني المسيحي من موسيقى ورسم ومسرحيات).
وقد استمر الصراع إلى أن تغلبت المسيحية في نهاية الأمر على اليهودية، وانتشرت بين جماهير الإمبراطورية الرومانية. واستمر من تَبقَّى من اليهود في الإيمان باليهودية ويعبِّرون عن رأيهم، في كتب مثل التلمود والقبَّالاه، يتحدثون عن المسيح والمسيحيين بنبرة سلبية وعنصرية للغاية.
وقد تَحدَّد موقف الكنيسة من اليهود في مفهوم الشعب الشاهد، وهو أن اليهود هم الشعب الذي أنكر المسيح الذي أرسل إليهم، وهم لهذا قد تشتتوا عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. ولكن رفض اليهود للمسيح سر من الأسرار. فاليهود في ضعفهم وذلتهم وتشرُّدهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة، أي أن اليهود بعنادهم تحولوا إلى أداة لنشر المسيحية.
ومن ثم، يمكننا أن نقول إن العلاقة بين اليهودية والمسيحية علاقة عدائية متوترة إلى أقصى حد، ولكن مصطلح «التراث اليهودي المسيحي» يزداد مع هذا شيوعاً، وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية واليهودية الإصلاحية وأحياناً المحافظة، أما اليهود الأرثوذكس فيرفضونه. وقد يكون قبول المصطلح من هذه الفرق تعبيراً عن عودة الحلولية داخل هذه الأنساق الدينية.
ويمكن العودة إلى مداخل «القبَّالاه» حيث نبيِّن أنه بهيمنة القبَّالاه على اليهودية استولى عليها نسق حلولي كموني، عبَّر عن نفسه في بداية الأمر في هيئة انفجارات مشيحانية (شبتاي تسفي) وفلسفات علمانية حلولية (إسبينوزا) ثم فلسفات حلولية ربوبية (موسى مندلسون) وأخيراً على هيئة «اليهودية الإصلاحية» و«اليهودية المحافظة» و«اليهودية التجديدية» (انظر أيضاً: «الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية [أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر]»). وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «البروتستانتية (القرن السادس عشر والسابع عشر)» ومدخل «عصر النهضة (القرن السادس عشر والسابع عشر)» حيث نبيِّن تصاعد الحلولية داخل النسق الديني المسيحي. فبدلاً من المفهوم الكاثوليكي للحلول (حلول مؤقت في شخص واحد ومنته ترثه الكنيسة كمؤسسة) تظهر فكرة الحلول البروتستانتية حيث ينتقل الحلول من مؤسسة الكنيسة إلى الشعب أو الفرد أو الجميع وهو حلول دائم، وهو في تصوُّرنا شكل من أشكال تهويد المسيحية.
وفي الواقع فإن تزايد قبول المصطلح يعبِّر أيضاً عن تزايد علمنة الدين في الغرب (وثمة ترابط بين تزايد معدلات الحلولية ومعدلات العلمنة) بحيث يمكن الوصول إلى صيغ توفيقية تُفقد العقائد كثيراً من أبعادها وخصوصيتها، وهذا هو جوهر التسامح العلماني: أن يتخلى الجميع عن هويتهم ويلتقوا على مستوى علماني ويتوحدوا في هوية علمانية واحدة. وقد وصف أحد الباحثين التراث اليهودي المسيحي بأنه تعبير جديد عن الاتجاهات الربوبية في المجتمع الغربي التي تؤكد العناصر الأخلاقية المشتركة بين البشر وبعض افتراضاتهم الأخلاقية دون الإيمان بإله شخصي يرسل بالوحي (مع إسقاط أهمية الشعائر بسبب خصوصيتها). ولعـل عملية العلمنة هذه هي نفسها ما يُطلَق عليه «عملية التهويد» (وقد استخدم ماركس كلمة «تهويد» بهذا المعنى حين تَحدَّث عن انتشار الرأسمالية في المجتمع باعتباره عملية «تهويد»، فجعل كلمة «اليهـودية» مرادفة لكلمة «الرأسمالية«).
وفي الوقت الحاضر تختلف المواقف المسيحية من الصهيونية وإسرائيل وتتباين، وإن كانت كلها تميل الآن نحو قبول الدولة الصهيونية والاعتراف بها. وتوجد نزعة صهيونية /معادية لليهود تسري في عقائد بعض الكنائس البروتستانتية المتطرفة (انظر: «شهود يهوه» ـ «المورمون» ـ «فرسان الهيكل»). وحتى عـام 1964 كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤكد أن اليهـود هم المسـئولون عن دم عيسى. وكانت المؤسسة الصهيونية بدورها تتهم الفاتيكان بأنه وقف متفرجاً على مذابح اليهود وإبادتهم على أيدي هتلر. وبالتدريج اختلف موقف الفاتيكان حتى اعتـرفت بالدولة الصهـيونية في ديســمبر 1994، ومع هذا يؤكد المتحدثون باسم الفاتيكان بأن الاعتراف بالدولة الصهيونية لا علاقة له بالعقائد المسيحية.
يتبع إن شاء الله...