عيسى(عليه السلام)
ذهبت امرأة عمران بمريم إلى المسجد الأقصى وفاءً بنذرها، لتنشأ فيه نشأة طيبة وتتعلم أصول دينها، وتتربى على مكارم الأخلاق، وتكفَّل زكريا برعاية مريم وكان زكريا زوجًا لخالتها، فقام بتربيتها وكفالتها ورعايتها حتى كبرت على الأخلاق الحميدة.
عاشت مريم في محرابها تعبد الله وتسبحه وتقدِّسه، وذات يوم دخل عليها مجموعة من الملائكة على هيئة البشر، وأبلغوها ثناء الله -عز وجل- عليها، وحثوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران/42-44] } ،ثم بشَّروها بولد منها سيكون نبيًّا كريمًا مؤيدًا بالمعجزات، فقالوا: { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) } [آل عمران:45-46] فتعجبت مريم، إذ كيف يكون لها ولد وليست متزوجة، ولم يمسسها أي رجل!! فأخبرتها ملائكة الله أن هذه هي إرادة الله سبحانه القادر على كل شيء، ولم تملك مريم -عليها السلام- في هذا الأمر إلا أن تستسلم لله عز وجل، وتتحصن به في هذا المقام، لعل الله سبحانه أن يجعل لها مخرجًا.
ذات يوم وبينما هي وحدها، أرسل الله إليها الروح الأمين جبريل -عليه السلام- على هيئة بشرية وفي صورة حسنة، فلما رأته خافت وفزعت منه، فلم يكن يدخل عليها المحراب أحد غير زكريا، فتعوذت بالله من هذا الشخص الذي دخل عليها.
فطمئنها جبريل أنه رسول الله إليها، ليهب لها غلامًا طيبًا مباركًا، ونفخ فيها نفخة، فحملت على الفور، ثم اختفى جبريل -عليه السلام-.
ومرت الأيام، وأحست مريم بآلام الحمل، فذهبت إلى مكان بعيد خوفًا من كلام الناس في حقها، وجلست تحت ظل نخلة تفكر في أمرها وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة، فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث، ووضعت مريم عيسى -عليه السلام- واحتاجت إلى طعام وشراب حتى تستعيد قوتها ونشاطها، فقد أصابها الضعف بعد الولادة، وفجأة .. سمعت صوتًا يناديها ويأمرها أن تهز جذع النخلة التى تجلس تحتها، وسوف يتساقط عليها الرطب، فتأكل منها حتى تشبع.{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) } [مريم/22-25]
وظل هذا الصوت يتكلم، وكأنه يعلم ما يدور في صدر مريم من مخاوف حينما تدخل على أهلها وعلى الناس، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً رضيعًا هي أمه، مع أنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال، فقال لها ذلك الصوت: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) [مريم/26] }، وأخذت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتعرف على مصدر الصوت الذي يناديها، لكنها لم تجد أحدًا سوى ابنها الذي ولدته منذ لحظات، فتعجبت من ذلك تعجبًا شديدًا، وأدركت على الفور أنها أمام معجزة من معجزات الله العظيمة، ففرحت بابنها فرحًا كبيرًا، وعلمت أن الله سوف يجعل لها بعد هذا الضيق فرجا و مخرجا.
وتوكلت مريم على ربها، وحملت ابنها الصغير عيسى -عليه السلام- عائدة إلى قومها، وبينما هي تسير، رآها قومها من اليهود فتعجبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين، وقالوا: { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا(27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} سورة مريم .
قال تعالى :{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [سورة مريم ]
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29 َالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } [سورة مريم ، الآية :29- 33]
ولم تسلم مريم من إشاعات اليهود واتهاماتهم، ولما خافت على نفسها وولدها من غدر اليهود أخذت ابنها، وسارت به إلى مكان بعيد عن قومها، حتى لا يؤذوه ولما كبرت عادت به مرة أخرى إلى بيت لحم في فلسطين موطن ولادة عيسى، ولما عاد عيسى -عليه السلام- إلى قومه رأى أنهم قد انحرفوا عن المنهج الذي جاء به موسى من قبل، ومن انحرافهم أنهم كانوا يتحرجون من عمل الخير يوم السبت باعتباره يوم عطلة لا يجوز العمل فيه، فيمر عليهم اليوم دون أن يقدموا عملاً صالحًا يتقربون به إلى الله.
وأقبلوا على حب المال، فسيطر على نفوسهم وتفكيرهم، وأجبر الكهنةُ الفقراء على النذر للمعبد، ليأخذوه لهم مع علمهم أن الفقراء والمحتاجين في أشد الحاجة إليه، وكان بعضهم ينكر يوم القيامة، ويقولون: لا حساب ولا عقاب في الآخرة، وفئة أخرى طغت عليها الحياة وحب الدنيا، فأخذوا في ابتزاز أموال الناس بأي شكل وبأية حال، فكانت حاجة المجتمع إلى الإصلاح والهداية شديدة، فأرسل الله إليهم المسيح عيسى -عليه السلام- لهدايتهم إلى المنهج الصحيح، فذهب إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما هم فيه من جهل وضلال.
وأيد الله تعالى عيسى بالمعجزات العظيمة التي تتناسب مع أهل زمانه، لتكون دليلاً على أنه رسول من ربه، فأعطاه الله القدرة على إحياء الموتى، وشفاء المرضى الذين عجز الأطباء والحكماء عن شفائهم، وأعلمه الله بعض الغيب، فكان يعرف ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، فأخذ عيسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الطريق المستقيم، ويبين لهم المعجزات التي أيده الله بها، فقال: { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) [آل عمران/49-51] }.
ومع هذه العجائب والمعجزات الخارقة التى جاء بها عيسى إلى بني إسرائيل لم يؤمن به إلا القليل، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم بالإضافة إلى أنهم رموه بالسحر، ولم ييأس عيسى -عليه السلام- بل استمر يدعوهم إلى عبادة الله عسى أن يؤمنوا بالله وحده، وطلب عيسى -عليه السلام- من قومه النصرة لدين الله فهدى الله مجموعة من الفقراء والمساكين إلى الإيمان، فكان هؤلاء هم الحواريون الذين اصطفاهم الله؛ ليحملوا دعوة الحق، ويناصروا عيسى، وكان عددهم لا يزيد عن اثني عشر رجلاً.
وذات يوم أمر عيسى -عليه السلام- جميع من معه بصيام ثلاثين يومًا فصاموا، ولما أتموها طلبوا منه أن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فنصحهم عيسى أن يتقوا الله في هذا الأمر، فردَّ الحواريون: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (113) سورة المائدة ، ولما رأى عيسى إصرار الحواريين ومن معهم من بني إسرائيل على طلب مائدة من الرحمن، قام إلى مصلاه، يدعو الله قائلاً:{ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) } [سورة المائدة]
وبعد لحظات، أنزل الله المائدة من السماء، والناس ينظرون إليها وهي تقترب شيئًا فشيئًا، وكلما دنت كان عيسى يسأل ربه عز وجل أن يجعلها بركة وسلامًا لا نقمة وعذابًا، ولم تزل تقترب حتى استقرت أمام عيسى، فسجد عيسى ومن معه لله شاكرين على استجابة طلبهم، ثم كشف عيسى الغطاء عن تلك المائدة، فإذا عليها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ وأكل الحواريون من هذه المائدة، وأكل معهم آلاف الناس الذين جاءوا لعيسى من أجل أن يشفيهم بإذن الله من أمراضهم، وصار يوم نزول هذه المائدة عيدًا للحواريين وأتباع عيسى لفترة طويلة.
وانتشر خبر عيسى في البلاد، وآمن به كثير من الفقراء والمساكين، فحقد عليه الكهنة والأغنياء من اليهود وكرهوه، وأرادوا التخلص منه، فدبروا له حيلة ماكرة، حيث ذهبوا إلى الحاكم الرومانى وأخبروه بأن عيسى رجل ثائر يحرض الناس عليهم، ويدبر مؤامرة ضد الدولة الرومانية، وظلوا يحرضون الحاكم على عيسى حتى أصدر حكمًا بإعدامه وصلبه، وبحثوا عن عيسى طويلاً فلم يجدوه، حيث أوحى الله إليه بما دبره اليهود والكفرة، فاختبأ عيسى والحواريون في الجبال يعبدون الله بعيدًا عنهم.
وفي خلال تلك الأحداث قال الله لعيسى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران، واجتمع الحاكم بكبار رجال الدولة يرافقهم الكفرة من اليهود ليتشاورا في أمر عيسى وأين ذهب وما الذي يجب صنعه تجاهه؟ وظلوا يبحثون عن نبي الله عيسى في كل مكان ليقتلوه، لكن الله سبحانه حفظه ورعاه ورفعه إلى السماء، وألقى شبهه على رجل منهم، فأخذوه ظنًّا منهم أنه عيسى فصلبوه وقتلوه.
وودَّع عيسى الحواريين، وبشرهم برسول يأتي من بعده يُكْمِلُ ما بدأه، وبه تتم نعمة الله على الخلائق فقال لهم: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف/6] }
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِليْهِمْ ، وَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللهِ وَأَنْبِيَائِهِ جَمِيعاً ، وَإِنَّهُ جَاءَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي بَعْدهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ ، وَدَاعِياً إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَّسُولِ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ المُبَشَّرُ بِهِ بِالأَدْلةِ الوَاضِحَةِ ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ كَذَّبُوهُ ، وَقَالُوا عَمَّا جَاءَهُمْ : إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ .
( وَقَدْ جَاءَ فِي الفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ السَّفْرِ الخَامِسِ مِنَ التَّورَاةِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي : ( يَا مُوسَى إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاًَ مِنَ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَا آمُرُهُ بِهِ ، وَالذِي لاَ يَقْبَلُ ذَلِكَ النَّبِيَّ الذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي ، أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ سِبْطِهِ ) .
وَجَاءَ فِي الإِصْحَاحِ 21 مِنْ سِفَرِ أَشْعِيا بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي :
" وَحْيٌ مِنْ جِهَةَ بِلاَدِ العَرَبِ : فِي الوَعْرِ مِنْ بِلاَدِ العَرَبِ تَبَيتينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ . هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ العَطْشَانِ يَا سَكَّانَ أَرْضِ تِيمَاءَ وَافُوا الهَارِبَ بِخُبْزِهِ . فإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا ، مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ المَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ القَوْسِ المَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الحَرْبِ . فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارٍ وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارٍ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ " .
" وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى يَثْرِبَ ، بَعْدَ أَنْ تَزَايَدَ إِيذَاءُ قُرَيشٍ لَهُ وَلِلمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى قُرَيشٍ أَحْفَادِ عَدْنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ( وَعَدْنَانُ هُوَ قِيدَارُ ) وَتَحْطِيمِ جَبُرُوتِ قُرَيشٍ وَسُلْطَانِهَا بِقْتَلِ كُبَرَائِهَا ، وَأَسْرِ أَعْدَادٍ مِنْهُمْ ، وَقَدْ جَرَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بَعْدَ عَامٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ إِلَى يَثْرِبَ " .
وَجَاءَتِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ فِي الإِنْجِيلِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي :
( قَالَ يَسُوعُ : إِنَّ الفَارْقَليط رُوحَ الحَقِّ الذِي يُرْسِلُهُ أَبِي يَعْلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ ) ( إِنْجِيلُ يُوحَنَّا - الفَصْلُ 15 - وَالفَارْقَلِيط لَفْظٌ يَعْنِي الحَمْدَ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالحَامِدِ وَالحَمَّادِ ) .
وظن اليهود أن عيسى هو الذي قتل، ففرحوا بذلك، لكن القرآن الكريم يؤكد لنا أنه لم يقتل، وأنه نجا من أيديهم، حيث إن الله -سبحانه- رفعه إليه، قال تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) [النساء/157-159] }
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ قَالُوا سَاخِرِينَ مُسْتَهْزِئِينَ : إِنَّهُمْ قَتَلُوا المَسِيحَ عَلَيهِ السَّلاَمُ ، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ ، وَلَمْ يَصْلُبُوهُ ، وَإِنَّمَا صَلَبُوا شَخْصاً آخَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَبَهَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَالْتَبَسَ ، وَلَمْ يَتَيَّقَنُوا مِنْ أَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ بِعَيْنِهِ ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ . وَالأَنَاجِيلُ تَقُولُ إنَّ الذِي أَسْلَمَهُ إلى الجُنْدِ هُوَ يَهُوذا الأَسْخَرْيوطِيُّ ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ عَلاَمَةً هِيَ أنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ المَسِيحَ ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ .
وَانْجِيلُ بِرْنَابَا يَقُولُ إنَّ الجُنُوَد أَخَذُوا يَهُوذَا الأسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنّاً مِنْهُمْ أنَّهُ المَسِيحُ ، لأنَّ اللهَ أَلْقَى عَلَيهِ شَبَهَهُ . وَالذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَفِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ، وَإِنَّمَا هُمْ يَتْبَعُونَ الظَّنَّ وَالقَرَائِنَ التِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الآرَاءِ عَلَى بَعْضٍ .
وَالذِي تَمَّ فِعْلاً هُوَ أنَّ اللهَ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ اليَهُودِ ، وَرَفَعَهُ إلَيْهِ (وهوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إلى السَّمَاءِ )، وَاللهُ سَبْحَانَهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، لاَ يُرَامُ جنابُهُ ، وَلا يُضَامُ مَنْ لاَذَ بِبَابِهِ الكَرِيمِ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الأُمُورِ .
وقد أنزل الله -عز وجل- الإنجيل على عيسى، وأمرنا بالإيمان به، قال تعالى: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) [البقرة/136، 137] } وَقُولُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ لِهؤُلاءِ وَهؤُلاءِ : إِنّنا نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى جَميعِ الأَنبياءِ وَالمُرْسَلِينَ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ لِرَبِّنا . ( كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَها لِلمُسْلِمينَ بِالعَرَبِيَّةِ ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : " لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ " .
فَإِن آمَنَ الكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أي بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ ، وَبِجَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَلَم يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لِلْحَقِّ ، وَإِنْ تَوَلّوْا عَنِ الحَقِّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيهِمْ ، وَاتَّبَعُوا البَاطِلَ ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ مُخَالِفُونَ ، وَسَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَيهِمْ يَا مُحَمَّدٌ ، وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ ، وَهُوَ الذِي يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُونَ .
ولكن أهل الكتاب حرفوا الإنجيل وبدلوا كثيرًا في آياته وأحكامه، وكان عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، ولم يأت من بعده سوى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخبرنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل إلى الأرض مرة أخرى في نهاية الزمان، ويدعو الناس إلى شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويكسر الصليب الذي اتخذه النصارى شعارًا لهم.
قال تعالى :{ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) [النساء/159، 160] }
لاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ إلى الأَرْضِ ، بَعْدَ أنْ رَفَعَهُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ ، إلاَّ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَقْضِيَ اللهُ عَلَيهِ بِالمَوْتِ ، وَيَكُونُ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَاهِداً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ ، وَأَقَرَّ بِعُبُودِيَّتِهِ للهِ .
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة.
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ».
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ - يَعْنِى عِيسَى - وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » ..
و عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ « مَا شَأْنُكُمْ ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ.
فَقَالَ « غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ « أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ قَالَ « لاَ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ: « كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِى كُنُوزَكِ.
فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ.
وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ.
وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ.
فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ». .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلاً مَرْبُوعاً إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطِرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَتَقَعُ الأَمَنَةُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لاَ تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » .
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (159) سورة النساء.
وقد ضلَّ النصارى من بعد عيسى حيث اعتقدوا أن عيسى هو ابن الله، كما اعتقد اليهود أن عزيرًا ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ولقد نفى الله ما قاله هؤلاء الكفرة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (59) سورة آل عمران .
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض، ثم قال له: "كن بشرًا" فكان.
فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
وسوف يحاسبهم الله -عز وجل- على قولهم ذلك، ويعاقبهم عليه عقابًا شديدًا، قال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة/30، 31] } .
لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله.
وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله.
وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم، وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم.
قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟
اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام، فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله، واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه، وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو.
تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال.
ويوم القيامة سوف يسأل الله -عز وجل- نبيه عيسى عن ضلال قومه وما فعلوه بعده من تأليههم له وقولهم إنه ابن الله، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة: 116-120] }.
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَا يَقُولُهُ رَبُّكَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، ثُمَّ يُذكِّر عِيسَى بِأَفْضَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بِحُضُورِ مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ: هَلْ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ - أَيْ مُتَجَاوِزَيْنِ بِذَلِكَ تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالعُبُودِيَّةِ؟ فَيُنْكِرُ عِيسَى أنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ للهِ تَعَالَى: سُبْحَانَكَ! وَتَنَزَّهَ اسْمُكَ ، لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي حَقٌّ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَنْتَ، لأَنَّكَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، وَتَعْلَمُ مَا تُخْفِي العِبَادُ وَمَا تُعْلِنُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ، لأنَّكَ رَبِّي وَخَالِقِي، وَأَنَا عَبْدُكَ لاَ أَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِكَ .
إِنَّنِي لَمْ أَقُلْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الإِيْمَانِ ، وَأَسَاسِ الدِّينِ إلاَّ الذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلاَغِهِ ، وَهُوَ أنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ شَهِيداً عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ حَيّاً بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الشَّاهِدَ الرقِيبَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ .
يَرُدُّ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، الأمْرَ وَالمَشِيئَةَ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ ، لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَيَقُولُ : إنَّ أَمْرَ العِبَادِ مَوْكُولٌ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَإِنْ عَذَّبَهُمْ فَبِذُنُوبِهِمْ ، فَهُوَ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّهُ تَعَالَى الغَفَّارُ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحُكْمِهِ .
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ ، قَالَ تَعَالَى : هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ، وَهُوَ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ بِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ ، وَالقَادِرُ عَلَيْهِ ، وَالجَمِيعُ مُلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ ، وَالمَسِيحُ وَأمُّهُ اللَّذَانِ عَبَدَهُمَا الكَافِرُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ ، دَاخِلاَنِ تَحْتَ قَبْضَتِهِ ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتَّكِلَ عَلَى شَفَاعَتِهَا فِيهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى .
--------------
الدروس والعبر
1-كم حملت أم عيسى عليه السلام؟
لم يرد نص قطعي من كتاب ولا من سنة في تحديد فترة حمل مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وما ورد في ذلك إنما هو مجرد حكايات لا تستند إلى دليل صالح للاحتجاج، مثل ما قيل عن عكرمة من أنها حملت به ثمانية أشهر، وما قيل من أن مدة حملها ستة أشهر أو تسعة، كل هذا لا دليل عليه، ولعل أقرب الأقوال هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، فهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، انظر القرطبي عند كلامه على قصة مريم في سورة مريم. والله أعلم.