أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: نوح (عليه السلام) الأربعاء 12 يونيو 2013, 8:42 am | |
| نوح (عليه السلام)
كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر رجالا صالحين أحبهم الناس، فلما ماتوا حزنوا عليهم حزنًا شديداً، واستغل الشيطان هذه الفرصة فوسوس للناس أن يصنعوا لهم تماثيل تخليداً لذكراهم، ففعلوا، ومرت السنوات، ومات الذين صنعوا تلك التماثيل، وجاء أحفادهم، فأغواهم الشيطان وجعلهم يظنون أن تلك التماثيل هي آلهتهم فعبدوها من دون الله، وانتشر الكفر بينهم، فبعث الله إليهم رجلا منهم، هو نوح -عليه السلام- فاختاره الله واصطفاه من بين خلقه، ليكون نبيًّا ورسولا، وأوحى إليه أن يدعو قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فقال لهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف.
فاستجاب لدعوته عدد من الفقراء والضعفاء، أما الأغنياء والأقوياء فقد رفضوا دعوته، كما أن زوجته وأحد أبنائه كفرا بالله ولم يؤمنا به، وظلَّ الكفار يعاندونه، وقالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (27) هود.
ولم ييأس نوح -عليه السلام- من عدم استجابتهم له، بل ظل يدعوهم بالليل والنهار، وينصحهم في السرِّ والعلن، ويشرح لهم برفق وهدوء حقيقة دعوته التي جاء بها، إلا أنهم أصرُّوا على كفرهم، واستمروا في استكبارهم وطغيانهم، وظلوا يجادلونه مدة طويلة، وأخذوا يؤذونه ويسخرون منه، ويحاربون دعوته.
وذات يوم ذهب بعض الأغنياء إلى نوح -عليه السلام- وطلبوا منه أن يطرد الفقراء الذين آمنوا به؛ حتى يرضى عنه الأغنياء ويجلسوا معه ويؤمنوا بدعوته فقال لهم نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) [هود/29-32].
فغضب قومه واتهموه بالضلال، وقالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (60) الأعراف.
فقال لهم:{ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف: 61- 63].
واستمر نوح -عليه السلام- يدعو قومه يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، دون أن يزيد عدد المؤمنين، وكان إذا ذهب إلى بعضهم يدعوهم إلى عبادة الله، ويحدثهم عن الإيمان به، وضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا كلامه، وإذا ذهب إلى آخرين يحدثهم عن نعم الله عليهم وعن حسابهم يوم القيامة، وضعوا ثيابهم على وجوههم حتى لا يروه، واستمر هذا الأمر طويلا حتى قال الكفار له: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (32) هود.
فقال لهم نوح: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) [هود: 32-35]}.
وحزن نوح -عليه السلام- لعدم استجابة قومه وطلبهم للعذاب، لكنه لم ييأس، وظل لديه أمل في أن يؤمنوا بالله -تعالى- ومرت الأيام والسنون دون نتيجة أو ثمرة لدعوته، واتَّجه نوح -عليه السلام- إلى ربه يدعوه، ويشكو له ظلم قومه لأنفسهم، فأوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (36) هود.
وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين (950 سنة) دون أن يجد منهم استجابة، فقال: { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) [الشعراء: 117، 118]}.
ودعا عليهم بالهلاك، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) [نوح: 26- 28]}.
فأمره الله أن يصنع سفينة، وعلَّمه كيف يتقن صنعها، وبدأ نوح -عليه السلام- والمؤمنون معه في صنع السفينة، وكلما مر الكفار عليهم سخروا منهم واستهزءوا بهم؛ إذ كيف يصنعون سفينة وهم يعيشون في صحراء جرداء لا بحر فيها ولا نهر، وزاد استهزاؤهم حينما عرفوا أن هذه السفينة هي التي سوف ينجو بها نوح ومن معه من المؤمنين حينما ينزل عذاب الله بالكفار. وأتمَّ نوح -عليه السلام- صنع السفينة، وعرف أن الطوفان سوف يبدأ، فطلب من كل المؤمنين أن يركبوا السفينة، وحمل فيها من كل حيوان وطير وسائر المخلوقات زوجين اثنين، واستقر نوح -عليه السلام- على ظهر السفينة هو ومن معه، وبدأ الطوفان، فأمطرت السماء مطرًا غزيرًا، وتفجرت عيون الماء من الأرض وخرج الماء منها بقوة.
فقال نوح: {ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (41) هود.
وبدأت السفينة تطفو على سطح الماء، ورأى نوح -عليه السلام- ابنه، وكان كافرًا لم يؤمن بالله، فناداه: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
فامتنع الابن ورفض أن يلبي نداء أبيه، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} [هود: 43].
فقد ظن أن الماء لن يصل إلى رءوس الجبال وقممها العالية، فحذره نوح -عليه السلام- وقال له: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (43) هود.
ورأى المشركون الماء يملأ بيوتهم، ويتدفق بسرعة رهيبة، فأدركوا أنهم هالكون فتسابقوا في الصعود إلى قمم الجبال، ولكن هيهات.. هيهات، فقد غطى الماء قمم الجبال، وأهلك الله كلَّ الكافرين والمشركين، ونجَّى نوحًا -عليه السلام- والمؤمنين؛ فشكروا الله على نجاتهم، وصدر أمر الله -تعالى- بأن يتوقف المطر، وأن تبتلع الأرض الماء: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) هود.
وابتلعت الأرض الماء، وتوقفت السماء عن المطر، ورست السفينة على جبلٍ يسَمَّى الجودي.
ثم أمر الله نوحًا -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين بالهبوط من السفينة، قال تعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (48) هود.
وناشد نوح -عليه السلام- ربه في ولده، وسأله عن غرقه استفسارًا واستخبارًا عن الأمر، وقد وعده أن ينجيه وأهله، فقال سبحانه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) [هود: 46، 47]}.
وكان ابن نوح من الكافرين فلم يستحق رحمة الله، فامتثل نوح لأمر الله، وهبط من السفينة ومعه المؤمنون، وأطلق سراح الحيوانات والطيور، لتبدأ دورة جديدة من الحياة على الأرض، وظل نوح عليه السلام يدعو المؤمنين، ويعلمهم أحكام الدين، ويكثر من طاعة الله من الذكر والصلاة الصيام إلى أن توفي ولقي ربه وهو راض عنه.
الدروس والعبر من قصة نوح عليه السلام: أول هؤلاء الرسل نوح عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله ليرد الناس إلى طريق التوحيد إلى صراط الله المستقيم بعد أن ظهر الشرك لأول مرة في تاريخ البشر.
فقد جاء في الصحيح عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام".
وقد مكثوا على الإسلام والتوحيد تلك المدة ليس للشرك بينهم مكان ولكن الشيطان لم يهدأ له بال ولم يقر له قرار والناس على توحيد الله فزين لهم ولبَّس واخترع الوسائل وزينها ليوصلهم في نهاية الأمر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى.
فجاء إلى قوم نوح بعد أن مات منهم قوم صالحون وأوحى إليهم وزين لهم أن ينصبوا أنصابا وأن يمثلوا صورا وتماثيل لأولئك الصالحين كما جاء في الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما-: صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِى كَانَتْ فِى قَوْمِ نُوحٍ فِى الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا وُدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِى غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عِنْدَ سَبَا، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ، لآلِ ذِى الْكَلاَعِ.
أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِى كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
هذه الوسوسة وهذا التزيين جاء إليهم الشيطان في أول الأمر بدافع الاقتداء بأولئك الصالحين ليصوروا صورهم لعلهم يتذكرونهم فيعبدون الله كعبادتهم وبقي على ذلك حتى انقرض هذا الجيل فلما جاء الجيل الذي بعده جاء إليهم وقال: إن مَنْ كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأنصاب ومازال بهم حتى عبدوها.
وهذا المسلك يسلكه الشيطان مع كثير من الناس في ذلك الزمن وفي هذا الزمن وفي كل زمن.
يأتي إليهم أول الأمر بوسائل يندفعون إليها ويحبونها فيقمص الباطل قميص الحق ويلبس البدعة ثوب السنة ويحليها بالتزين والاستحسان ويقدمها إليهم بدافع حسن النية وسلامة المقصد ويدفعهم إليها بذلك حتى يقعوا في الشرك والعياذ بالله.
هذا هو مسلك الشيطان وما أكثر ضحاياه في كل زمان ومكان، وما أكثر الذين يطيعون الشيطان بدافع الاستحسان إنه يأتي إلى الإنسان من السبيل الذي يندفع إليه ويزين له ويزخرف حتى يوقعه في المعصية ثم يتبرأ منه فبعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام ليرد الناس إلى الصراط المستقيم.
- إن قوم نوح هؤلاء هم ذرية آدم، وآدم -كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل- وفي سورة البقرة كذلك -قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها- وهي المهمة التي خلقه الله لها وزوده بالكفايات والاستعدادات اللازمه لها - بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها, وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها.
وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق -هو وزوجه وبنوه- أن(يتبع) ما يأتيه من هدى الله, ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه، وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل; وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض; حيث لم تكن معها عقيدة أخرى!
فإذا نحن رأينا قوم نوح -وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله- قد صاروا إلى هذه الجاهلية -التي وصفتها القصة في هذه السورة- فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا.
وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم; وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية.
تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس, كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله, واتباعه وحده, وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة.
ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدراً من الاختيار -هو مناط الابتلاء- وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه, كما يملك أن ينحرف -ولو قيد شعرة- عن هدى الله إلى تعاليم غيره; فيجتاله الشيطان حتى يقذف به -بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم -النبي المسلم- بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله.
وهذه الحقيقة.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده.. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الأديان المقارنة" وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طوراً متأخراً من أطوار العقيدة.
سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة.
ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح, وتأليه الشموس والكواكب.. إلى آخر ما تخبط فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة; يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر; وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان!
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين; فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان -وفق ذلك المنهج الموجه!- من حيث لا يشعرون!
وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم.
حين يقرر أن آدم -عليه السلام- هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام.
وأن نوحا -عليه السلام- واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه.. القائم على التوحيد المطلق.
وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية; وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام.. القائم على التوحيد المطلق.. وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد -إنما كان الترقي والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة- وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة.
إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية -حتى بعد انحراف الأجيال عنها- ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها; حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني.
أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً!
وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت, لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية; إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه.
فهي حق منذ اللحظة الأولى, وهي كاملة منذ اللحظة الأولى..
هذا ما يقرره القرآن الكريم; ويقوم عليه التصور الإسلامي.
فلا مجال -إذن- لباحث مسلم -وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام!- أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم, إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة.
تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا!
وقفات مع قصة نوح عليه السلام:
الوقفة الأولى: في مبدأ دعوته فقد بدأ دعوته بالدعوة إلى توحيد الله حين جاء والناس قد ضلوا عن سواء الصراط ووقعوا في الشرك بالله فكان أول ما قال لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [المؤمنون: 23].
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف: 59].
ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود: 25-26].
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب عظيم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون [نوح].
أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هذه الدعوة التي كانت بدايتها دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى دعاهم إلى التوحيد وجاهد في سبيله وهكذا دعوة الأنبياء والرسل كما جاء ذكره وهكذا يجب أن تكون كل دعوة إلى الله تعالى يجب أن تبدأ بدعوة الناس إلى عبادة الله وإلى أفراده في العبادة حتى يستسلم ذلك الإنسان لربه فإذا استسلم قلبه واستسلمت جوارحه أصبح مستعدا لطاعة الله والرجوع إلى منهج الله وما أكثر تقصير الدعاة في هذا الجانب وما أقل اهتمام كثير منهم بهذا الأمر العظيم الذي اهتم به رسل الله وجعلوه مفتاح دعوتهم.
الوقفة الثانية: في منهجه وأسلوبه في دعوته عليه الصلاة والسلام وذلك في أمور أولها التأكيد لقومه بأن هدفه من دعوته حرصه عليهم وحب الخير لهم وإنقاذهم من الهلاك والخوف عليهم من عذاب الله ومقته إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف: 59].
إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود: 26].
وقطع الطمع عما في أيديهم وبيان أن أجره إنما يطلبه من الله وما أسألكم عليه من أجر إن أجري على رب العالمين [الشعراء: 109].
فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله [يونس: 72].
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [هود: 9].
وهكذا ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تبارك وتعالى ينبغي أن يقطع طمعه عما في أيدي الناس وأن يرتفع بدعوته من الأرض إلى السماء ليرتفع هو معها لترتفع هذه الدعوة وليرتفع رأسه مع هذه الدعوة كما كان رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن أهم ما ينبغي أن يحرص عليه كل من يدعو إلى الله أن يزهد في الدنيا وأن يزهد عما في أيدي الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا علمته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازْهَدْ فِى الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ يُحِبُّوكَ».
وكم من دعوة حطمتها الأطماع الدنيئة وضيعتها الأهداف الوضيعة وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام رفيقا بقومه متلطفا معهم عله يصل إلى قبول منهم لدعوته وكان يظهر الشفقة والرحمة بهم ويبين لهم في الوقت نفسه حقيقة دعوته وحقيقة نفسه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذن لمن الظالمين [هود: 31].
وهذا كذلك مما ينبغي للدعاة أن يلتزموا به ويحرصوا عليه أن لا يعلقوا الناس بأطماع زائلة ولا بأهداف منقطعة بل يعلقوهم بربهم سبحانه وتعالى ويجعلوا طمعهم واتصالهم به سبحانه وتعالى لأنها دعوة الله وينبغى أن تتعلق الآمال فيها بالله وأن لا تتعلق بدنيا ولا بأحد من أهلها فإن الدنيا وأهلها زائلون وكذلك من أسلوبه ومنهجه في دعوته أنه كان يذكر قومه بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله في السماوات والأرض ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [نوح: 13 - 16].
إلى آخر تلك الآيات يذكرهم بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله سبحانه في هذا الكون علهم ينتفعوا بذلك ويرجعوا إلى هذا الصراط المستقيم.
والوقفة الثالثة: أيها الأخوة في مواقف دعوته عليه الصلاة والسلام صبره العظيم في سبيل هذه الدعوة مع طول هذه المدة طول مدة دعوته فهي كما قال الله تعالى: "ألف سنة إلا خمسين عاماً" كانت هذه الدعوة ألف عامٍ إلا خمسين عاما قضاها نوح عليه السلام صابرا محتسبا في سبيل هذه الدعوة ينوع الأساليب مع قومه ويكرر الدعوة ويواصل الجهاد علهم يقبلون دعوته.
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا [نوح: 5 -9].
هذا الجهاد الطويل سرا وجهرا ليلا ونهارا مع كل ما كان يلاقي من الأذى ومن المهن وفي طول هذه المدة العظيمة كان صبره منقطع النظير يصبر على قومه ويدعوهم طمعا في هدايتهم وكان من أولي العزم الذين أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم في الصبر فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف: 35].
وما أحوج دعاة الإسلام إلى هذا الزاد العظيم إلى الصبر على دعوتهم فلا يتملكهم اليأس حينما يرون إعراضا من الناس أو يرون أذية أو يرون امتحانا فإن تلك سنة الله في خلقه حتى مع رسله الذين هم صفوة الخلق وأحب الناس إلى الله وأفضل خلق الله عليهم صلاة الله وسلامه. |
|