سليمانُ (عليه السلام)
نبي من أنبياء الله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وتولَّى الملك بعد وفاة والده داود -عليهما السلام- وكان حاكمًا عادلاً بين الناس، يقضي بينهم بما أنزل الله، وسخر الله له أشياء كثيرة: كالإنس والجن والطير والرياح... وغير ذلك، يعملون له ما يشاء بإذن ربه، ولا يخرجون عن طاعته، وإن خرج منهم أحدٌ وعصاه ولم ينفذ أمره عذبه عذابًا شديدًا، وألان له النحاس، وسخر الله له الشياطين، يأتون له بكل شيء يطلبه، ويعملون له المحاريب والتماثيل والأحواض التي ينبع منها الماء.
قال تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12-14] } .
وعلم الله -سبحانه- سليمان لغة الطيور والحيوانات، وكان له جيش عظيم قوى يتكون من البشر والجن والطير، قال تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) } [النحل:17].
وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ ، أثْنَاءَ السَّيْرِ .
وكان سليمان دائم الذكر والشكر لله على هذه النعم، كثير الصلوات والتسابيح والاستغفار، وقد منح الله عز وجل سليمان -عليه السلام- الذكاء منذ صباه، فذات يوم ذهب كعادته مع أبيه داود -عليه السلام- إلى دار القضاء فدخل اثنان من الرجال، أحدهما كان صاحب أرض فيها زرع، والآخر كان راعيًا للغنم، وذلك للفصل في قضيتهما، فقال صاحب الأرض: إن هذا الرجل له غنم ترعى فدخلت أرضى ليلاً، وأفسدت ما فيها من زرع، فاحكم بيننا بالعدل، ولم يحكم داود في هذه القضية حتى سمع حجة الآخر، عندها تأكد من صدق ما قاله صاحب الأرض، فحكم له بأن يأخذ الغنم مقابل الخسائر التي لحقت بحديقته، لكن سليمان -عليه السلام- رغم صغر سنه، كان له حكم آخر، فاستأذن من أبيه أن يعرضه، فأذن له، فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها، ويأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بلبنها وصوفها، فإذا ما انتهى صاحب الغنم من إصلاح الأرض أخذ غنمه، وأخذ صاحب الحديقة حديقته.
وكان هذا الحكم هو الحكم الصحيح والرأي الأفضل، فوافقوا على ذلك الحكم وقبلوه بارتياح، وأعجب داود -عليه السلام- بفهم ابنه سليمان لهذه القضية مع كونه صغيرًا، ووافق على حكم ابنه، وقد حكى الله -عز وجل- ذلك في القرآن قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) [الأنبياء/78-81] } .
موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل/17-20].
إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.
يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟
من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم.
وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ نعم كان النبي سليمان عليه السلام كذلك .
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:20-27].
حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة،{ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }[النمل:21].
أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.
وفي قول سليمان عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب.لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينتبه لهذه القضية.
درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله،{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ }[النمل:24].
لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.
وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.
فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية:{ اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ }[النمل:28-33].
ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: {قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ }[النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32].
عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى:{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:34-37]}.
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.
عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى:{ قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]}.
فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا ، وَثَبَاتَها ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ .
فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ ، ونُكِّرَ ، وزِيْدَ فيهِ ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا ، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها ، وثباتِ قَلْبَهَا .
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً .
أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَكَانوا كَافرين قال سبحانه:{قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:41-43]}.
كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً ( صَرْحاً ) عَظيماً من زُجَاجٍ ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي . ثمَّ قالَ لها سليمانُ : ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها ، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها ، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ ، وليسَ ماء ، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها ، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ ، وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ ، وخالقِ كلِّ شيءٍ .
{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}سورة النمل.
وقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتًا كبيرًا يُعْبد الله فيه، فكلف الجن بعمل هذا البيت، فاستجابوا له، لأنهم مسخرون له بأمر الله، فكانوا لا يعصون له أمرًا، وكان من عادة سليمان أن يقف أمام الجن وهم يعملون، حتى لا يتكاسلوا .
وَلَمّا قَضَى اللهُ تَعَالى عَليهِ المَوتَ ، اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ ، وَلَبِثَ فَتْرَةً وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ ، وَالجِنُّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدِيهِ ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ يَنْظُرُ إِليهِمْ فَلا يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ إِليهِمُ فَلاَ يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ سَخَّرَ اللهُ حَشَرَةً صَغِيرةً أَخَذَتْ تَنْخُرُ عَصَاهُ حَتَّى ضَعُفَتْ فانْكَسَرَتْ وَسَقَطَ سُلَيْمَانُ عَلَى الأَرضِ ، فَعَلِمَتِ الجِنُّ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَلِلْجِنِّ أَنَّ الجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ سَاعَةَ حُدُوثِهِ ، وَلَم يَنْتَظِرُوا حَتَّى تَأْكُلَ دَابَّةٌ الأَرْضِ 'َصَاهُ التِي كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيها فَيَسْقُطَ عَلى الأَرضِ ، وَلَمْ يَسْتَمرُّوا فِي الأَعمَالِ الشَّاقَةِ التِي كَلَّفَهُم بِهِا سُلَيْمَانُ ( العَذَابِ المُهِينِ ) .
قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]}.
وادعى بعض اليهود أن سليمان كان ساحرًا، ويسخر كل الكائنات بسحره، فنفي الله عنه ذلك في قوله تعالى: قال تعالى :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} سورة البقرة.
وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا ، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ . مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ : إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ . وَلَكِنَّ النَّّاسَ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ ، فَاسْتَخْدَمُوا ، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ . لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ . وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص.
--------------
الدروس والعبر
بين داود وسليمان عليهما السلام
أولاً: قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء/78-81].
ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.
وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: {وكلا آتينا حكما وعلما}، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ . فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ » . قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ».
ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) .
وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.
يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.
ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا ، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ . هُوَ ابْنُهَا .
فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ».
قَالَ الْعُلَمَاء : يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه . وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة ، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه ، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه ، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه ، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا ؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا ، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى ، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب ، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه ، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد ؟ فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة: أَحَدهَا : أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا . وَالثَّالِث : لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه . وَالرَّابِع : أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق ، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ .
ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ..[رواه البخاري].
الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَلاَ يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » .
فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء .