المبحث الثامن آثار توحيد الربوبية وثمراته
للإيمان بالربوبية آثار عظيمة، وثمرات كثيرة، فإذا أيقن المؤمن أن له ربّاً خالقاً هو الله تبارك وتعالى وأن هذا الرب هو رب كلِّ شيءٍ ومليكُه وهو مصرف الأمور، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ، أَنِسَت رُوحُه بالله، واطمأنت نفسه بذكره، ولم تزلزله الأعاصير والفتن، وتوجه إلى ربه بالدعاء، والالتجاء، والاستعاذة، وكان دائماً خائفاً من تقصيره، وذنبه؛ لأنه يعلم قدرة ربه عليه، ووقوعه تحت قهره وسلطانه، فتحصل له بذلك التقوى، والتقوى رأس الأمر، بل هي غاية الوجود الإنساني.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربَّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ).
ومن ثمراته أن الإنسان إذا علم أن الله هو الرزاق، وآمن بذلك، وأيقن أن الله بيده خزائن السموات والأرض، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع قطع الطمع من المخلوقين، واستغنى عما بأيديهم، وانبعث إلى إفراد الله بالدعاء والإرادة والقصد.
ثم إذا علم أن الله هو المحيي المميت، النافع الضار، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن أمره كلَّه بيد الله انبعث إلى الإقدام والشجاعة غير هياب، وتحرر من رق المخلوقين، ولم يعد في قلبه خوف من سوى الله عز وجل . وهكذا نجد أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. والكلام في مقتضيات الربوبية وما تثمره من ثمرات يفوق الحصر والعد، وما مضى إنما هو إشارات عابرة يقاس عليها غيرُها.
الباب الثاني
الفصل الأول: الايمان بالقضاء والقدر
تمهيد
الإيمان بالقضاء والقدر هو السعادة، وهو ركن الإفادة من هذه الدنيا والاستفادة، منه تنشرح الصدور، ويعلوها الفرح والحبور، وتنزاح عنها الأحزان والكدور، فما أحلاها من حياة عندما يسلِّم العبد زمام أموره لخالقه سبحانه وتعالى ، فيرضى بما قسم له، ويسلِّم لما قدّر عليه، فتراه يحكي عبداً مستسلماً لمولاه، الذي خلقه وأنشأه وسواه، وبنعمه وفضله رباه وغذاه ، فيسعد في الدنيا ويؤجر في الأخرى.
ولا يتم ذلك إلا لمن فهم القضاء والقدر، وعرف أسراره، وعلم حكمه على فهم سلف الأمة، فهم على علم أقدموا، وعن فهم كفوا وأحجموا، فلابد من الوقوف حيث وقفوا، وقصر الأفهام على ما فهموا.
و (أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة، وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين، ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (الاعراف /52) .)
أهمية عقيدة القضاء والقدر
يعتبر موضوع القضاء والقدر من المواضيع المهمة لتعلقه بحياة الإنسان ، فما من إنسان يعيش في هذه الحياة، ويسير في مناكبها على أي ديانة كان، وفي أي اتجاه اتجه في حياته العملية أو العقدية أو غيرها؛ إلا وقضية القضاء والقدر عنده من القضايا التي تشغل باله في كل وقت.
وقد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة، التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دلت على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
ومن ذلك قوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج/70)، وقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد/22) ، وقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/49).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عليه السلام عن الإيمان ، قال عليه الصلاة والسلام: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله ) . قال: صدقت ، الحديث. وهذا لفظ مسلم .
وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بقوله: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، فقال له جبرائيل: صدقت . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. )
منزلة القضاء والقدر في عقيدة المؤمن
لا شك أن القضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة ، التي بينها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل حين سأله عن الإيمان ؛(أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر وتؤمن بالقدر كله).
ولذلك يعتبر الإيمان به جزء من عقيدة المؤمن، ولا يصح إيمانه إلا بالإيمان بالقضاء والقدر.
وقال العلماء الافاضل : إن مبحث القضاء والقدر داخل في باب توحيد الربوبية؛ لأن القضاء والقدر فعل الله تعالى، وإذا كان فعلاً لله فهو صفة من صفاته ، ولذلك هو متعلق بتوحيد الربوبية ، فالعلم والكتابة والإرادة والمشيئة والخلق من فعل الرب سبحانه وتعالى ، وما كان فعلاً لله فهو صفة من صفاته ، وباب الأسماء والصفات يدخل في باب توحيد الربوبية ، لذا من لم يأت بالإيمان بالقضاء والقدر فإنه لا يصح توحيده أبداً، ولا يعتبر موحداً؛ لأنه أخل بجزء من أجزاء التوحيد، وهو الإيمان بربوبية الله تعالى المتضمن الأيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وافعاله.
(وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد حتى في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه، وإلى يومنا هذا والناس يتنازعون فيه، ولكن الحق فيه ولله الحمد واضح بين، لا يحتاج إلى نزاع ومراء، فالإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدر كل شيء كما قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(الفرقان/2) ، وهذا التقدير الذي قدره الله عز وجل تابع لحكمته، وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات حميدة، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.)ٳھ
(ومن هنا كان اعتصام المؤمن بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يعصمه من أمور كثيرة , على رأسها أمران :
أحدهما : عصمته في باب توحيد الربوبية الذي هو أساس وعمدة توحيد الألوهية.
والثاني : عصمته في مسيرته في الحياة , بألا يقع عنده تعارض بين القضاء والقدر والأمر والشرع .)
قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (والذى يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).
وكذلك أيضاً قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مرض موته وهو يوصي ولده يابني : إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك ) . فالإيمان لايتحقق إلا بالإيمان بالقضاء والقدر والتصديق به وان الله سبحانه وتعالى لـه الربوبية التامة , وأن ربوبيته مقتضية لأن يكون هو المدبر , الخالق , الرازق , ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك ).
وقال الحسن البصري لتلاميذه: ( والله لَوَضْعُ يدي هذه اليمنى في اليسرى بقضاء وقدر من الله، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر فقد كفر ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : ( القدر قدرة الله ).
فالواجب على الإنسان في هذا الباب أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن يؤمن بشرع الله وأمره ونهيه، وعليه تصديق الخبر، وتنفيذ الأمر.
ولايلزمه أن يعلم تفاصيل الحديث عن الإيمان بالقضاء والقدر، بل يكفي الإيمان المجمل.
المبحث الأول :تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما
القضاء:
تعريف القضاء لغة:
القضاء في اللغة مصدر الفعل قضى يقضي قضاءاً.
قال ابن فارس في مادة (قضى): القاف، والضاد، والحرف المعتل - أصل صحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه، وإنفاذه لجهته.
قال الله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)( فصلت/12).
أي أحكم خلقهن، ثم قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو نَسَجُ السوابغ تُبَّعُ
والقضاء: هو الحكم، والصنع، والحتم، والبيان.
وأصله القطع، والفصل، وقضاء الشيء، وإحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق .
إطلاقات القضاء في القرآن الكريم:
يطلق لفظ القضاء في القرآن إطلاقات عديدة منها :
أ - الوصية والأمر: قال الله تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (الإسراء/23)، أي أمر وأوصى.
ب - الإخبار: قال تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) (الإسراء/4).
ج - الفراغ: قال تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)(البقرة/200).
وقال سبحانه: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ) (النساء/103).
د - الفعل: قال تعالى : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) ( طه/72).
هـ - الوجوب والحتم: قال تعالى : (وَقُضِيَ الأَمْرُ) (هود/44).
وقال تعالى : (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف/41).
و - الكتابة: قال تعالى : (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) (مريم/21).
ز - الإتمام: قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) (القصص/29).
وقال تعالى : (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) (القصص/28).
ح - الفصل: قال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ) (الزمر/69).
ط - الخلق: قال تعالى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) (فصلت/12).
ي - القتل: قال تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) (القصص/15).
القدر:
تعريف القدر لغة :
مصدر الفعل قَدِرَ يقْدَرُ قدَرَاً، وقد تسكن دالُه .
قال ابن فارس في مادة (قدر): قدر: القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنه، ونهايته؛ فالقدْر مبلغ كل شيء، يقال: قَدْرُه كذا أي مبلغه، وكذلك القدَرُ، وقدَرْت الشيء أقدِره وأقدُره من التقدير .
والقدَر محركة: القضاء، والحكم، وهو ما يقدِّره الله عز وجل من القضاء، ويحكم به من الأمور.
والتقدير: التروية، والتفكير في التسوية أمر، والقَدَرُ كالقَدْر وجميعها جمعها: أقدار .
إطلاقات القدر في القرآن الكريم:
يطلق القدر في القرآن عدة إطلاقات منها:
أ - التضييق: قال تعالى : (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) ( الفجر/16).
ب - التعظيم: قال تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ( الأنعام/91).
ج - الاستطاعة، والتغلب، والتمكن: قال تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) (المائدة/34).
د - التدبير: قال تعالى : (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ)( المرسلات/23)، أي دبَّرنا الأمور، أو أردنا وقوعها بحسب تدبيرنا.
هـ - تحديد المقدار، أو الزمان، أو المكان: قال تعالى : (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) ( سبأ/18)، وقال: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) (فصلت/10).
و - الإرادة: قال تعالى : (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر/12)، أي دبِّر، وأريد وقوعه.
ز - القضاء والإحكام: قال تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ) (الواقعة/60). أي قضينا، وحكمنا.
ح - التمهل والتَّروي في الإنجاز: قال تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (المدثر/18)، أي تمهَّل، وتروَّى؛ ليتبين ما يقوله في القرآن.
وقال تعالى: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) (سبأ/11). أي تمهلْ، وتروَّ في السرد؛ كي تحكمه.
ط - الصنع بمقادير معينة: قال تعالى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً) (الإنسان/16) .
العلاقة بين القضاء والقدر، وتعريفهما في الاصطلاح:
العلاقة بين القضاء والقدر:
من خلال ما سبق من تعريف القضاء والقدر في اللغة وبيان إطلاقاتهما في القرآن يتبين مدى العلاقةِ بينهما.
فمعاني القضاء تؤول إلى إحكام الشيء، وإتقانه، ونحو ذلك من معاني القضاء.
ومعاني القدر تدور حول ذلك، وتعود إلى التقدير ، والحكم، والخلق، والحتم، ونحو ذلك.
القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي:
قال علي بن محمد بن علي الجرجاني المعروف بالشريف (740هـ - 816هـ)، القدر: خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء.والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال .
وقال في تعريف القضاء: القضاء لغة: الحكم.
وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد .
وقال الدكتور عبدالرحمن المحمود ، القضاء والقدر : هو تقدير الله تعالى للأشياء في القِدَم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها. ﺇﻫ
وخلاصة القول : أن التعريف يجب أن يشملمراتب القضاء والقدر ( وهي المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم التقدير الى أن يكون مخلوقا واقعا بقدرة القدير ومشيئته ) التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر.
وهي أربع مراتب :
المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة مشيئته لها.
الرابعة خلقه لها.
الفرق بين القضاء والقدر :
قال الجرجاني : والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها .
وقال الحافظ العسقلاني في الفتح / كتاب الدعوات : (القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل ).
وقال ايضاً في الفتح / كتاب القدر : (وقالوا أي العلماء القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل ، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله ، وقال أبو المظفر بن السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العي ولا ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها انتهى ).
وقال العيني في العمدة : (فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الْقَضَاء وَالْقدر؟ قلت: الْقَضَاء عبارَة عَن الْأَمر الْكُلِّي الإجمالي الَّذِي حكم الله بِهِ فِي الْأَزَل، وَالْقدر عبارَة عَن جزئيات ذَلِك الْكُلِّي ومفصلات ذَلِك الْمُجْمل الَّتِي حكم الله بوقوعها وَاحِدًا بعد وَاحِد فِي الْإِنْزَال، قَالُوا: وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: ( وَإِن من شَيْء إلاَّ عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إلاَّ بِقدر مَعْلُوم ) (الْحجر/21) .).
وخلاصة القول فالفروقات بين القضاء والقدر هي :
1- القضاء ثلاث مراتب والقدر أربع ، فالقضاء علم وكتابة ومشيئة ، أما القدر فعلم وكتابة ومشيئة وخلق.
2- القضاء غيب ويكون مشهودا بالقدرة عند وقوع القدر.
3- القضاء يسبق القدر ، ويشترك معه في علم التقدير ، فكلاهما يتفقان في العلم والكتابة والمشيئة ، ويزيد القدر مرتبة الخلق والتنفيذ ، ولذلك نقول قضاء وقدر ، ولا نقول قدر وقضاء ، فالقضاء سابق والقدر لاحق.
4- القضاء أعم من حيث التعلق والقدر أخص ، فالقضاء يتعلق بما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، أما القدر من جانب القدرة والخلق والتكوين فيتعلق بما كان ، وما هو كائن ، أو بم تم ويتم خلقه وتنفيذه ، أما من جهة المراتب فالقدر أعم لأنه أربع مراتب ، والقضاء أخص لأنه ثلاث مراتب.
والله أعلم .
نصوص الكتاب والسنة في مسألة القضاء والقدر
1- من القرآن الكريم :
قوله عز وجل : (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام /96).
(لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) (الأنفال /42).
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر /21).
(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر /60).
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (الإسراء /4).
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا) (الاسراء /99).
(ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (طه /40).
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون /18).
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان /2).
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى /27).
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف /11).
(وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب /38).
(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر /12).
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر /49).
(نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (الواقعة /60).
(إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات /22- 23).
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس /19).
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى /3).
2- من السنة النبوية :
قوله صلى الله عليه واله وسلم : (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره حلوه ومره).
(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره).
(لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه).
(لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر).
(المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف , وكل على خير , احرص على ما ينفعك , ولا تعجز , فإن غلبك شيء ؛ فقل : قدر الله وما شاء , وإياك واللو ؛ فإن اللو تفتح عمل الشيطان).
(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف , وفي كل الخير , فاحرص على ما تنتفع به , واستعن بالله , ولا تعجز , فإن أصابك شيء ؛ فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا , ولكن قل : قدر الله , وما شاء فعل ؛ فإن اللو تفتح عمل الشيطان).
(خلق الله آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي) قال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال:
(على مواقع القدر).
(لا عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة).
(ما قدر الله نسمة تخرج إلا هي كائنة).
(يا كعب بل هي من قدر الله).
(قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى).
(إن ما قد قدر في الرحم سيكون).
(أخاف على أمتي من بعدي ثلاثا : حيف الأئمة و إيمانا بالنجوم و تكذيبا بالقدر).
(ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا و لا عدلا : عاق و منان و مكذب بالقدر).
(سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر).
عن طاوس اليماني قال: أدركت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: ( كل شيء بقدر) قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).
أقوال السلف الصالح في القضاء والقدر
عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي قال:أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعله أن يذهب من قلبي فقال: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار
قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل قوله ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل قوله ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم .... مثل ذلك.
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ فِي القدر. قال: يكذبون بالكتاب، لئن أَخَذْتُ بِشَعْرِ أَحَدِهِمْ لأَنْصُوَنَّهُ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَخَلَقَ الْخَلْقَ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يوم القيامة. فإنما يُجْرِي النَّاسَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فرغ منه.
عن أبي الأسود الديلي، قال: قال لي عمران بن الحصين، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم، قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ( لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس /7و8)).
القدر نظام التوحيد
كثيرا ما يرد هذا الاثر في كتب العقيدة – باب القضاء والقدر ، وتحقيقا للفائدة اليك تخريجه وأقوال أهل العلم فيه :
جاء في سلسلة الاحاديث الضعيفة للشيخ الالباني :
2244 –( الإيمان [بالقدر] نظام التوحيد ). ضعيف
رواه الديلمي (1/2/359) عن مزاحم بن العوام عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بنالمسيب عن أبي هريرة مرفوعا.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، مزاحم بن العوام؛ لم أجد من ترجمه، وقد مضى لهحديث آخر في الإيمان بالقدر (806) .
4072 - (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر؛ فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها) . ضعيف
رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس مرفوعاً، وفيه هانئ بن المتوكل، وهو ضعيف. كذا في "المجمع" (7/ 197) ، وسيأتي إسناده برقم (7150) .
قلت: وقد رواه هبة اللهاللالكائي في اعتقاد أهل السنة(6/ 262/ 2) عن الأوزاعي: قال لنا بعض أصحابنا: عن الزهري، عن ابن عباس قال: فذكره موقوفاً عليه. وهو الأشبه بالصواب، والله أعلم. ورواه (1/ 142/ 1) عن سفيان الثوري، عن عمر بن محمد - رجل من ولد عمر بن الخطاب -، عن رجل، عن ابن عباس موقوفاً. 7150 - (الأمور كلها - خيرها وشرها - من الله) . منكر.
أخرجه الطبراني في " المعجم الأوسط " (4/45/ 3573) من طريق هانئ بن المتوكل الإسكندراني قال: نا أبو ربيعة سليمان بن ربيعة عن أبي حازم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... فذكره. وزاد؛ وقال: " إن القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وآمن بالقدر؛ فقد استمسك بالعروةالوثقى، ومن لم يؤمن بالقدر؛ كان ناقضاً للتوحيد ". وقال: " لا يدخل الجنة مكذب بقدر ".
قلت: وهذا إسناد منكر؛ هانئ بن المتوكل: ضعيف أو أشد؛ قال ابن حبان: " كان تدخل عليه المناكير وكثرت؛ فلا يجوز الاحتجاج به في حال ".
ثم ساق له بعض مناكيره، وسبق تخريج اثنتين منها؛ فانظر الرقم (1077) و (1522) .
وأبو ربيعة سليمان بن ربيعة: لم أجد له ترجمة. وجملة: " نظام التوحيد" رويت من طريق أخرى عن ابن عباس موقوفاً، وقد تقدم برقم (2244) و(4072).ٳﻫ.
وقال الشيخ الالباني في تخريج الطحاوية :
ضعيف موقوفا ومرفوعا، أما الموقوف فرواه اللالكائي في شرح السنة (1/ 142/ 1، 6/ 262/ 2) وفيه من لم يسم، وأما المرفوع، فرواه بنحوه الطبراني في الأوسط وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف، وهو مخرج في الضعيفة (4072).ٳﻫ
وقال الشيخ سليمان العلوان : قول ابن عباس رضي الله عنهما: ( الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذَّب بقدره نقض تكذيبه توحيد ) . رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ، والآجريواللالكائي وابن بطه في الإبانة ، وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن عمر بن محمد رجل من ولد عمر بن الخطاب عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا إسناد فيه إبهام ولا يصح .
وفي مجمع الزوائد / 11835 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأمور كلها خيرها وشرها من الله ) ، وقال: ( القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف.ٳھ
المبحث الثاني: الطوائف المنحرفة في القضاء والقدر
أنّ الناس في القَدَرْ لهم فِرَقْ كثيرة وهذه الفرق ترجع إلى فرقتين:
الأولى القدرية :
الذين أنكروا القدر، إما أنكروا كل المراتب، أو أنكروا بعض مراتب القَدَرْ .
الثانية الجبرية:
الذين يزعمون أنَّ الإنسان لا اختيار له وأنه مجبور.
أولاً / القدرية: وهم فِرَقْ :
1- الفرقة الأولى:
هم الغلاة الذين كانوا يُنكرون عِلْمَ الله عز وجل السابق فيقولون: إنَّ الله عز وجل لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه والأمر أُنُفْ ؛ يعني مستأنف جديد غير معلوم وغير مُقَدَّر له قبل ذلك.
وهؤلاء هم الذين كفَّرَهُم السلف وكفَّرَهُم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغير أولئك، وذلك لأنهم أنكروا مرتبة العلم، والله عز وجل ذكر عِلْمَهْ، فمعنى ذلك أنهم ردُّوا حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب فهو من الكافرين.
وهؤلاء هم الذين قال فيهم السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِمُوا وإن جحدوه كفروا) . وهذه الفرقة ذهبت ولا يُعْرَفْ أنها عقَّبَتْ وارثاً في الأعْصُرْ المتأخرة.
2 - الفرقة الثانية :
وهم القدرية المتوسطة: المعتزلة والشيعة الرافضة والزيدية ومن نحا نحو أولئك.
وهؤلاء لا يُنْكِرُونَ جميع المراتب؛ ولكن يُنْكِرُونَ بعض الأشياء في بعض المراتب.
فيقولون: إنَّ المشيئة ثابتة لكن ليست عامة.
ويقولون: إنَّ الخلق ثابت ولكن ليس عامَّاً.
وسُمُّوا بالقدرية لأنهم ينفون بعض مراتب القدر.
وهذه الفرقة باقية إلىالآن في أمصار كثيرة من بلاد المسلمين .
ثانياً / الجبرية: وهم أيضا فِرَقْ :
1- الفرقة الأولى:
هم الغلاة، وهم الذين يقولون إنَّ الإنسان مجبور على كل شيء، وحركاته كحركة الريشة في مهب الهواء، وكحركة الخشبة في البحر ، فإنَّ الأمواج تتقاذفها وليس لها اختيار، وكذلك الريشة يُقَلِّبُهَا الهواء وليس لها اختيار.
ويقولون : إن العبد ليس له اختيار وإنما هو مفعول به في كل أحواله، سواء من ذلك الطاعات والمعاصي، فَصَلَّى مجبوراً، وصام مجبوراً، وسرق مجبوراً، وغشّ مجبوراً. ويقولون: إنَّ أفعال الله عز وجل غير مُعَلَّلَة، فقد يُعَذّب المطيع الصالح، وقد يُعْطِي ويُنَعِّم الكافر الطاغوت.
2- الفرقة الثانية:
وهم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم ممن غَلَوا في إثبات مشيئة الله عز وجل وخلقه، وقالوا إنَّ الإنسان ليس مجبوراً على كل حال؛ ولكن هو مجبور باطناً لا ظاهراً؛ يعني في الباطن مجبور ما يتحرك بإرادته ولكن في الظاهر تصرفاته بإرادته، فَيُحَاسَبُ على تصرفاته الظاهرة، وأما الذي دَفَعَهُ في الحقيقة فهو أمر باطن مُجْبَر عليه من الله عز وجل .
وقال الشيخ عبد الرحيم السلمي : ( يدخل في منكر القدر : القدرية الذين أنكروا القدر بالجملة، والذين أنكروا القدر وقالوا: إن الله يعلم ما يفعل العبد، ولكنه لم يكتب شيئاً ولم يشأ من العباد شيئاً، ولم يخلق أفعالهم، بل العباد يخلقون أفعال أنفسهم، وهؤلاء يسمون القدرية، وهم المعتزلة.
والنوع الثاني: الجبرية، وهم الذين أثبتوا القدر، ولكن أنكروا معناه الحقيقي الشرعي.
فالقدرية والجبرية مع أن كل واحد منهما على النقيض من الآخر إلا أن كلاً منهما يعتبر منكراً للقدر؛ لأن معنى إنكار القدر هنا هو إنكار القدر المشروع الذي بيّنه الله عز وجل وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقدرية أنكروا، والجبرية أثبتوا، إلا أن الإثبات ليس إثباتاً شرعياً، فهو يتضمن إنكار القدر بالمعنى الشرعي.
والجبرية قالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي والذنوب، وإنهم معذورون لذلك.
وأما القدرية فقالوا: إن الله عز وجل لم يكتب مقادير العباد، ولم يخلق أفعالهم، بل العبد يخلق فعل نفسه، فنسبوا الخلق إلى العبد، ولهذا سماهم السلف مشبهة الأفعال مأوِّلة الصفات، فهم معطِّلة ومشبِّهة في ذات الوقت، معطِّلة بالنسبة لبقية الصفات، ومشبِّهة بالنسبة لأفعال الله سبحانه وتعالى، حيث شبّهوا العباد بالله في كونهم يخلقون ويقومون بهذه الأعمال بدون أن تكون هناك قدرة وإرادة من الله عز وجل عليهم ).
يتبع إن شاء الله...