الباب الرابع: الإعتاق
الإعتـــــــاق
Emancipation
كلمة «إمانسبيشن emancipation» الإنجليزية يمكن أن تُترجَم إما بكلمة «عتق» أو «إعتاق» ونستعمل في هذه الموسوعة مصطلح «إعتاق» كما في عبارة « إعتاق الأقنان في روسيا القيصرية » على أساس أن عملية تحرير اليهود قد تمت، لا بمبادرة من أعضاء الجماعات اليهودية، وإنما نتيجةً لحركيات اجتماعية وسياسية عامة داخل المجتمعات الغربية، كما أن التحرر والتحديث كانا يُفرَضان في كثير من الأحيان فرضاً على أعضاء الجماعات اليهودية، وبخاصة في شرق أوربا. ولفظة «الإعتاق» من الفعل المتعدي «أعتق» الذي يفيد وقوع الفعل على العبد (مثلاً). وحركة الإعتاق هي ثمرة تطبيق قيم حركة الاستنارة الأوربية ومُثُلها على أعضاء الجماعات اليهودية كالتسامح، والمساواة بين البشر، والإيمان بأن الإنسان نتاج بيئته وليس مولوداً بكل صفاته، والإيمان بأن العقل هو المصدر الأساسي وربما الوحيد للمعرفة.
وحركة الإعتاق هي في جوهرها حركة تحديث للمجتمع ككل، بما في ذلك أقلياته. لكن إعتاق اليهود لم يكن شيئاً فريداً نادراً أو مقصوراً عليهم وإنما كان جزءاً من حركة عامة في أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي وتضـم أقليات وفئـات أخرى كثيرة: الزنوج، والنسـاء، والأقنان، والكاثوليك في البلاد البروتستانتية، والبروتستانت في البلاد الكاثوليكية. وقد حصل أعضاء هذه الأقليات على حقوقهم كاملة كمواطنين. ولكن الدولة القومية العلمانية الحديثة التي حوَّلت نفسها إلى المطلق الأوحـد، وفصلت نفسـها عن الدين، وعن القـيم المطلقة بشكل عام، منحتهم هذه الحقوق، ثم طلبت إليهم أن يقوموا بدورهم بفصل حياتهم داخل الدولة (كمواطنين) عن انتماءاتهم الدينية، أو عن أية انتماءات قد تتعارض مع الانتماء القومي. أما اليهود، فقد كان عليهم أن يتخلوا عن خصوصيتهم الإثنية الدينية وانعزاليتهم التقليدية وعن ولائهم الغامض إلى أرض الميعاد البعيدة مقابل أن يصبحوا مواطنين لهم كل الحقوق. وحركة الإعتاق ذات شقين: شق سياسي يتمثل في إعطاء اليهود حقوقهم السياسية والمدنية، وشق اجتماعي هو إعطاء اليهود حقـوقهم الاقتصـادية وإتاحة فرص العمل والحراك الاجتماعي أمامهم. وثمة شق ثقافي مرتبط بالشقين السابقين. وقد تمثَّل الإعتاق السياسي والمدني في هدم أسوار الجيتو وإسقاط كثير من مؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال، وحصـول اليهود على المساواة السياسية.
وفيما يلي نورد بعض التواريخ المهمة الخاصة بمنح اليهود حقوقهم، مع ملاحظة أن كل هذه القوانين والإعلانات الدستورية والتصرفات قد صدرت في أقل من مائة وخمسين عاماً، وهي فترة قصيرة للغاية حتى لو نُظر إليها من وجهة نظر الفرد اليهودي وليس فقط من وجهــة نظر التاريخ الإنسـاني أو تواريخ الجماعـات اليهـودية في العالم:
1787 يصدرالإمبراطور جوزيف الثاني (النمسا) براءة التسامح.
1788 يعلن دستور الولايات المتحدة أنه لن يطالب أي مواطن يبحث عن عمل... أن يدخل امتحاناً دينياً.
1789 ينـص إعـلان حقوق الإنسـان والمواطن في فرنسـا على أن: "الناس يولدون ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق".
1791 يمنح المجلس الوطني الفرنسي اليهود الجنسية الفرنسية والحقوق المدنية الكاملة وجيوش نابليون تحمل لواء الإعتاق أينما ذهبت.
1795 يحصل اليهود في هولندا على حقوق متساوية، ثم يتم انتخاب أول رئيس يهودي للبرلمان في عام 1798.
1797 إلغاء الجيتو في إيطاليا.
1812 يعلن فريدريك وليم الثاني، ملك بروسيا، أن اليهود مواطنون بروسيون.
1839 إعلان المساواة في الحقوق في كندا.
1848 يعلن المجلس الوطني الألماني في فرانكفورت أن « الولاء الديني للإنسان لن يُقرِّر أو يُحدِّد حقوقه الوطنية أو السياسية». وقد ظل هذا المبدأ هو النموذج الذي يُحتذَى في كل الدساتير التي أصدرتها الدويلات الألمانية إلى أن صدر دستور ألمانيا الموحَّد.
1867 إجراء تعديلات دستورية في الإمبراطورية النمساوية المجرية لإعطاء اليهود حقوقهم.
1870 سقوط روما في أيدي القوات الاتحادية التي قررت على الفور منح الحقوق السياسية لكل اليهود في إيطاليا.
1871 يلغي الدستور الإمبراطوري الألماني سائر القواعد والقوانين المبنية على أسس دينية.
1874 يمنح الدستور السويسري الحرية الدينية للكافة.
1887 تلغي معاهدة برلين كل القوانين التي تحدّ من حرية اليهود في رومانيا وبلغاريا.
1917 سقوط القيصرية في روسيا وإلغاء الامتيازات والقيود الدينية والقومية كافة.
1936 يعلن دستور الاتحاد السوفيتي أن « المناداة بالعزلة أو الكراهية العنصرية أو القومية جريمة يعاقب عليها القانون ».
وقد نتج عن حركة الإعتاق ظهور طبقة وسطى بين اليهود. ولكن، لم يَعُـد ليهـود الجيتو، بخبراتهم الخاصـة، مجـال في المجتمعات الجديدة، ولذلك ازداد معدل الهجرة. وقامت في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية محاولات مماثلة لدمج اليهود، وتحديثهم، والقضاء على هامشيتهم الثقافية والإنتاجية، وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج في المجتمع الجديد، وهو ما كان يُطلَق عليه «إنتاجية اليهود». وقد أصدرت الحكومات أيضاً التشريعات التي تُلزم أعضاء الجماعات اليهودية بتغيير أسلوب حياتهم حتى يندمجوا في المجتمع. ومما يجدر ذكره أن عملية الإعتاق كانت تتم أساساً في أوربا. أما في العالم الجديد، فلم تكن ثمة حاجة إلى ذلك إذ لم تكن هناك قيود تُذكَر على أعضاء الجماعة اليهودية. وكان الإعتاق يتم بالنسبة إلى اليهود الإشكناز المتميِّزين اقتصادياً وثقافياً عن المجتمعات التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها. أما السفارد، فكان عدد كبير منهم يتمتع بمعظم الحقوق السياسية.
وقد ترك الإعتاق أثراً عميقاً في اليهودية، فأُعيد بعث القاعدة التلمودية التي تقضي بأن « شريعة الدولة هي الشريعة ». وكانت هذه القاعدة تشير فيما قبل إلى القوانين المدنية فحسب، ولكن نطاقها أخذ يتسع بحيث أصبحت تنطبق على جميع القوانين التي من شأنها عَزْل اليهود، مثل قوانين الطعام. وقد تعثرت حركة إعتاق أعضاء الجماعات اليهودية، فحدثت انتكاسات وانتفاضات ضد اليهود، وبخاصة في ألمانيا ودول شرق أوربا. وكان وضع اليهود مرتبطاً بالحركة السياسية والاجتماعية في المجتمع ككل. فإذا كان المناخ السياسي السائد مناسباً لانتشار قيم الحرية وتطبيقها، سار الإعتاق إلى الأمام. أما إذا انتكست قضية حقوق الفرد، فإن حقوق اليهود كانت تنتكس معها. وبعد هزيمة نابليون، تراجعت عملية الإعتاق بالنسبة إلى شعوب أوربا، وبالنسبة إلى كل الأقليات بما فيها الجماعات اليهودية. أما أثناء ثورة 1848، فقد حقق اليهود تقدماً ملحوظاً ومهماً. ولذا، فمع سيادة التفكير الرجعي والعنصري والإمبريالي في أوربا، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا، تراجعت عملية الإعتاق بين شعوب أوربا وحلت محلها فكرة التفاوت بين الشعوب.
ومما ساهم في تعثُّر حركة الإعتاق أنها لم تكن ثمرة جهود أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، كما أنها لم تنبع من تجربتهم الحضارية وإنما جاءت نتيجةً للتطور الخارجي للمجتمع بمبادرة من العالم غير اليهودي. ولم يكن أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) مهيئين نفسياً أو حضارياً لتقبُّل الوضع الجديد، وهو ما جعل عملية دمجهم عسيرة. لكل هذا، أدَّت عملية الإعتاق إلى ظهور بعض المشاكل والأزمات ليهود أوربا. فعلى سبيل المثال، أدَّت حركة الإعتاق إلى ظهور أزمة هوية بين اليهود، إذ كان عليهم إعادة تعريف أنفسهم كجماعة دينية وحسب، وهو ما أثار وبحدة قضية الشعائر والمفاهيم اليهودية التي سُمِّيت «قومية» مثل الرغبة في العودة إلى صهيون أو الحديث عن الشعب اليهودي.
وتُعَدُّ الفرق اليهودية الحديثة المختلفة، مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة والأرثوذكسية، محاولةً للإجابة عن مشكلة الهوية هذه. كما أن عملية الإعتاق التي تمت بمبادرة العالم غير اليهودي كانت كثيراً ما تدفع بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشبه بأعضاء الأغلبية وبأسلوب حياتهم وتبنِّي سائر الأشكال الدينية والحضارية السائدة في المجتمع بشكل متطرف، الأمر الذي نجم عنه انصهار أعداد كبيرة من اليهود في المجتمع الأم وتفسُّخ أعداد أخرى منهم أخلاقياً بسبب فقدان الهوية. وقد حدث العكس أيضاً إذ رفض بعض أعضاء الجماعات اليهودية حركة الإعتاق وآثروا الانسحاب إلى الماضي.
وتحت تأثير الفكر العنصري والإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وفشل بعض قطاعات اليهود في تحقيق الحراك الاجتماعي الذي كانت تطمح إليه، ووبخاصة بسبب تعثُّر التحديث في روسيا وبولندا، ظهرت المُثُل الصهيونية بديلاً لفكرة الإعتاق والاندماج.
وتحمل كلمة «إعتاق»، وكذلك كلمة «انعتاق»، إيحاءات سلبية في الأدبيات الصهيونية. وتزعم هذه الأدبيات أحياناً أن حركة الإعتاق قد فشلت تماماً، وأن أعضاء الجماعات لا يزالون يعانون من التمييز القانوني والسياسي. وموقف الصهاينة هذا ناجم عن أن توقعاتهم من حركة الإعتاق فاقت ما كان ممكناً بالفعل. فالتقدم التاريخي والتحولات الاجتماعية لا تسير، كما نعلم، على وتيرة واحدة، وإنما تأخذ شكل خط متعرج.
وقد كان معدل إعتاق أعضاء الجماعات عالياً للغاية إذا ما قورن بمعدل إعتاق الأقليات الدينية والعرْقية الأخرى، فبدأت حركة الدفاع عن الحقوق المدنية للزنوج في الولايات المتحدة، منذ عهد طويل ولكنها لم تؤت أُكُلها بعد. ومع هذا، لم يجرؤ أحد على إعلان فشل هذه الحركة. أما الصهاينة من أمثال بيريتس سمولنسكين، فكانوا، بعد مرور أقل من خمسين عاماً على ظهور هذه الحركة الفكرية والاجتماعية والسياسية، ينعونها للعالم. ولعل هذا يعود إلى انتشار الأفكار الخاصة بالشعب المختار وما يصاحب ذلك من توقعات متطرفة أحياناً. كما يعود هذا ولاشك إلى قلة ذكاء القيادة الصهيونية، وإلى افتقارها إلى التكوين الثقافي والسياسي المناسب لتقييم ظاهرة مثل الإعتاق أو الانعتاق، وكذلك افتقارها إلى رؤية كاملة للكون وإلى رؤية تاريخية مركبة.
ومع أن الصهاينة نعوا حركة الإعتاق والانعتاق، فإنهم يقفون ضدها في واقع الأمر بشكل مبدئي، وذلك لأنهم يؤمنون بأن العلاقة بين اليهود والأغيار علاقة تضاد جذري، كما أنهم ينطلقون من تصوُّر أن اليهود عنصر قومي له خصوصيته وتفرُّده ولا يمكنه الاندماج في العناصر الأخرى. ولذا، تصبح القضية بالنسبة إليهم هي تهجير اليهود إلى وطنهم القومي الافتراضي وليس الدفاع عن حقوقهم المدنية والسياسية. وتتجلى مثل هذه المفاهيم في موقف الصهاينة من يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فالحركة الصهيونية لا تحاول أن تكسب لليهود السوفييت حقوقاً مدنية جديدة، ولا تحاول الدفاع عن حقوقهم التي اكتسبوها بمقتضى القانون السوفيتي، وإنما تبذل قصارى جهدها لتهجيرهم إلى إسرائيل باعتبارهم أعضاء من الشعب اليهودي لا يمكنهم العيش في المجتمع السوفيتي.
ولكن، ورغم الادعاءات الصهيونية، فإن الأغلبية الساحقة من يهود العالم الموجودين في العالم الغربي يتمتعون بثمرة نجاح حركة الإعتاق، ومن ثم يطلق عليهم «يهود مرحلة ما بعد الانعتاق». فيهود الولايات المتحدة مندمجون تماماً في مجتمعاتهم، وقد حصلوا على الحقوق المدنية والسـياسية كافة، ويسـاهمون في مجتمـعهم كمواطنين أمريكيين. ويهود الاتحاد السوفيتي لا يختلفون عن ذلك كثيراً. فرغم عدم سيادة المُثُل الديموقراطية والليبرالية في المجتمع السوفيتي حتى عهد قريب، فإن اليهود السوفييت حصلوا على حقوق سياسية مماثلة لحقوق المواطنين في مجتمعهم، وبالتالي فقد تحققت مُثُل المساواة بالنسبة إليهم.
وهم مندمجون حضارياً في بيئتهم ولا يتسمون بأيِّ تمايز وظيفي أو مهني (إلا بدرجات قليلة للغاية)، فليس لهم مؤسسات قانونية مقصورة عليهم. ومعاناة اليهود السوفييت لم تكن مقصورة عليهم بوصفهم يهوداً، وإنما هي ناجمة عن انتمائهم إلى المجتمع السوفيتي الاشتراكي، وكذلك فإن دوافع الهجرة عند اليهود السوفييت هي دوافع مرتبـطة تماماً بحركيات المجتمع السوفيتي وليـس بأية حركيات يهودية مـستقلة.
ولذا، فإن أغلبية المهاجرين من اليهود السوفييت كانت تتجه إلى الولايات المتحدة، وإن اتجهوا إلى الدولة الصهيونية فإن دوافعهم كانت في العادة اقتصادية محضة. ومن هذا المنظور، فإن مُثُل الاستنارة والانعتاق قد تحققت تماماً بالنسبة لأغلبية يهود العالم. وأدَّى نجاح حركة إعتـاق اليهـود إلى ظهـور مشاكل خاصـة بمرحـلة ما بعـد الانعتاق. وفي مواجهة حقيقة نجاح حركة الإعتاق، يصبح من العسير على الصهاينة الدفاع عن فكرة فشلها. ولذا، تلجأ الأدبيات الصهيونية إلى إثارة الشك بشأن مدى إيجابية حركة الإعتاق باعتبار أنها تؤدي إلى الاندماج والإبادة الصامتة. وقد طالب المفكر الصهيوني حاييم كابلان بالكف عن الإعتاق والرجوع عن مُثُله، والنظر إلى أعضاء الجماعات لا باعتبارهم أفراداً لكلٍّ حقوقه وواجباته وإنما باعتبارهم جماعة عضوية.
الانعتـــــــاق
Emancipation
«الانعتاق» من الفعل «انعتق» الذي جاء على زنة الفعل المطاوع، وهـو فعـل لازم بطبيعة تشـكيله حيث نقول «أعتق السيدُ العبدَ فانعتق العبدُ». وهو مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى تحرُّر بعض الأقليات في المجتمع الغربي إبان القرن التاسع عشر الميلادي أو ما قبله. أما مصطلح «الإعتاق»، فيشير إلى تحرُّر أعضاء الجماعات اليهودية. والعلاقة البنيوية بين كلمتي «الانعتاق» و«الإعتاق» هي نفسها العلاقة بين كلمتي «التحرر» و«التحرير»، أو ما يكون بين اللازم والمتعدي من الأفعال بصفة عامة.
ولم تكن هناك حركة تحرُّر في صفوف الجماعات اليهودية، كما أن التحرر لم يكن تعبيراً عن تحولات اجتماعية داخل هذه الجماعات وإنما كان تعبيراً عن حركة داخل المجتمع الغربي أثرت فيهم وغيَّرت من الأنساق التقليدية لحياتهم بشكل جذري وحررتهم. وهم في الحقيقة لم يسعوا إلى إعتاق أنفسهم، ولم يثوروا من أجله وإنما تم إعتاقهم على يد الآخرين. ولذا، فإن مصطلح «إعتاق» يُعبِّر عن الظاهرة منظوراً إليها من ناحية التحولات الاجتماعية التي أثرت في الجماعة اليهودية، أما مصطلح «انعتاق» فيُعبِّر عن الظاهرة نفسها منظوراً إليها من ناحية استجابتهم لما وقع عليهم من مؤثرات.
مرحلـة ما بعــد الانعـتاق
Post - Emancipation Era
يُطلَق على يهود العالم الغربي يهود مرحلة «ما بعد الانعتاق»، وهي عبارة تفترض أن عملية إعتاق اليهود قد اكتملت وأن أعضاء الجماعات اليهودية قد أُعتقوا وانعتقوا تماماً. ولكن الأدبيات الصهيونية تذهب إلى أن اكتمال هذه العملية لم تكن كل ثمراته إيجابية بل أدَّى إلى ظهور مشاكل جديدة مختلفة تماماً عن تلك التي كان يواجهها اليهود قبل تلك المرحلة. فأعضاء الجماعات اليهودية، قبل إعتاقهم، كانوا يواجهون مشكلة عزلتهم عن بقية أعضاء المجتمع، كما كانوا يواجهون مشكلة عدم حصولهم على حقوقهم. وكان المجتمع بدوره يشكو من خصوصيتهم وتكاتفهم المتطرف. ولكن، بعد الإعتاق والانعتاق، نجد أن الوضع قد انقلب تماماً.
إذ أصبح الخطر الأكبر الذي يتهدد اليهود، من وجهة نظر الصهاينة وبعض الدارسين، هو الاندماج وأحياناً الانصهار أو ضياع الهوية وأي شكل من أشكال الخصوصية. ويعود هذا إلى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي وانتشار مُثُل حركة الاستنارة، وهي حركة تؤكد أهمية العام على الخاص، وتطرح فكرة الإنسان الطبيعي الأممي كمثل أعلى، ومن ثم فإنها تعادي الخصوصية والهوية. وقد أدَّت عملية الإعتاق (المرتبطة بالعلمنة) إلى ضعف الدين اليهودي بمؤسساته المختلفة والذي كان يحتفظ لأعضاء الجماعات اليهودية بشيء من الهوية كما كان يمنعهم من الزواج المختلط. كما أن تزايد انتشار مُثُل الإعتاق قد أدَّى إلى تراجع الأفكـار العنـصرية المختلفـة وإلى تراجع ظاهرة معـاداة اليهود، وهي الأخرى من أهم دعائم ما يُسمَّى «الهوية اليهودية».
ومن القضايا الأساسية الأخرى ليهودية ما بعد الانعتاق الحوار اليهودي المسيحي الذي يفترض وجود تراث يهودي مسيحي مشترك، ومثل هذا الحوار لم يكن أمراً مطروحاً في الماضي. غير أن اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً، ليست مهيأة للدخول في هذا الحوار، نظراً لخاصيتها الجيولوجية التراكمية، ولعدم تحديدها عقائدها الأساسية. كما أن اليهود جماعات إثنية منقسمة إلى فرق لا تعترف الواحدة بالأخرى. ويخشى كثير من اليهود المتدينين (الأرثوذكس) أن يؤدي هذا الحوار إلى توسيع رقعة الاتفاق بين اليهودية والمسيحية إلى درجة يصبح التنصر معها أمراً سهلاً وربما منطقياً. وهذا ما حدث فعلاً في ألمانيا بعد ظهور اليهودية الإصلاحية التي أعادت صياغة اليهودية على أسس المسيحية البروتستانتية، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى تنصُّر أعداد كبيرة من يهود ألمانيا.
ومن الصعب على الصهاينة أو غيرهم الاحتجاج على النتائج السلبية لإعتاق اليهود، إذ أن المُثُل العليا للمجتمعات الغربية التي يعيش فيها معظم أعضاء الجماعات اليهودية هي مُثُل علمانية عقلانية من نتاج عصر الاستنارة، تشجع على الاندماج وتمازج الأفراد، وعلى امتزاج هويتهم وخصوصيتهم في هوية قومية عامة عظمى. ولذا، فإن هذه المجتمعات هي مجتمعات تقبل من اليهود احتجاجهم على معاداة اليهود ولكنها تجد أن من الصعب عليها أن تقبل الاحتجاج على نتائج عملية الإعتاق.
ولكن أهم المشاكل التي يواجهها اليهود واليهودية، في مرحلة ما بعد الانعتاق، هي ظهور الصهيونية باعتبارها حركة تدَّعي التحدث باسم كل اليهود، وكذلك تأسيس الدولة الصهيونية التي تطلق على نفسها اسم «الدولة اليهودية». ويهود مرحلة ما بعد الانعتاق يتمتعون، كما أسلفنا، بدرجة عالية من الاندماج في مجتمعاتهم، ويشعرون بالانتماء الكامل لها والولاء العميق نحوها. ولكن الصهيونية تضع هذا موضع التساؤل إن لم يكن موضع الشك أيضاً. كما أن سلوك الدولة الصهيونية، وبخاصة بعد اندلاع الانتفاضة المجيدة، أصبح يسبب لهم كثيراً من الحرج. (انظر: «موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية»).
جوزيف الثاني (1780-1790)
Joscph II
إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، ابن جوزيف الثاني وماريا تريزا. وهو من أشهر حكام أوربا ممن أُطلق عليهم «المستبدون المستنيرون». حاول قدر استطاعته أن يُصلح الإمبراطورية النمساوية المجرية وأن يحدِّثها، بعد أن تلقَّى تعليمه الحقيقي من كتابات فولتير والفلاسفة الموسوعيين الفرنسيين، بحيث أصبح من أكبر المدافعين عن مُثُل حركة الاستنارة. وكان إيمانه عميقاً بمقدرة الدولة المطلقة على أن تُصلح كل شيء إن هي عملت بهدي العقل.
كما كان من المتحمسين للتجارة الحرة وضرورة تقليل نفوذ الكنيسة. ولذا، فبعد أن تقلَّد الحكم، قام بإصلاح النظام التعليمي في الإمبراطورية وبفصل القضاء عن الجناح التنفيذي، وأصلح نظام الصحة العامة، وألغى نظام الرق، وأصدر براءة التسامح (1782) التي حددت حقوق الجماعات غير الكاثوليكية في الإمبراطورية.
وقد اصطدم بالكنيسة الكاثوليكية إذ أنه أسس كليات تابعة للدولة لتخريج القساوسة، وقلَّص سلطة الأساقفة، وحد من علاقة الكنيسة بالبابا. بل قام جوزيف الثاني بحل 700 دير لا تعمل في وظائف نافعة مثل التدريس أو التمريض، وشطب حوالي 36 ألفاً من قوائم الرهبان وأعطاهم تعويضات كي يعودوا إلى مواطنهم الأصلية. وقد أدَّت سرعة تنفيذ القرارات الخاصة بحل الأديرة إلى تدمير عدد كبير من الأعمال الفنية. وقد حاول البابا التدخل شخصياً للتخفيف من الأثر السلبي، لكن دون جدوى. ويبدو أن حماس جوزيف الثاني الزائد لتغيير كل شيء قد جلب عليه عداء الكثيرين من سكان المناطق المحافظة. وأثناء حكمه، تم تقسيم بولندا، وضمت النمسا أجزاء منها، وضمنها جاليشيا.
وقد وجَّه جوزيف الثاني اهتمامه للمسألة اليهودية، في محاولته تحديث إمبراطوريته. فحاول أن يجعل أعضاء الجماعات اليهودية أكثر نفعاً للدولة، تماماً كما فعل مع الكنيسة الكاثوليكية والأديرة، فأصدر قوانين تحظر على أعضاء الجماعات اليهودية بيع الخمور أو جمع الضرائب أو إدارة الفنادق، وفرض علىهم أن يتسموا بأسماء ألمانية تُختار من قائمة أُعدت خصيصاً لهذا الغرض، وذلك حتى يتسنى دمجهم في المجتمع. كما منع استخدام العبرية أو اليديشية في المعاملات التجارية أو الوثائق الرسمية، وألغى المحاكم الحاخامية والزي اليهودي الخاص. ولإبقاء عدد اليهود قليلاً كما هو، لم يُلغ جوزيف الثاني القوانين التي كانت ترمي إلى الحد من حجم العائلات اليهودية.
وقد أصدر في عام 1782 براءة التسامح التي أكدت الحقوق القائمة لأعضاء الأقليات غير الكاثوليكية وأضافت لها حقوقاً جديدة. وبالنسبة لأعضاء الجماعة اليهودية، أعطت البراءة اليهود الحق في حرية التنقل والسكنى في أي مكان واختيار أية مهنة أو وظيفة. وظلت قوانين وتشريعات جوزيف الثاني أساس التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية في الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى نشوب ثورة 1848.
وقد قوبلت إصلاحات جوزيف الثاني بالترحاب من بعض زعماء الاستنارة مثل فيسيلي. أما مندلسون، فقد عبَّر عن شكوكه نحوها، كما أن المتدينين وصفوها بأنها كارثة. ومهما كانت استجابة أعضاء الجماعة اليهودية، فإن هذه القوانين، بما في ذلك براءة التسامح، قد أتاحت الفرصة أمام كل الأقليات غير الكاثوليكية ليُحقِّقوا حراكاً اجتماعياً كبيراً وليندمجوا في المجتمع.
بـراءة التسـامح
Toleranz Patent
«براءة التسامح» فرمان أصدره جوزيف الثاني في عام 1782 وطُبِّق في بادئ الأمر على فيينا والنمسا ثم طُبِّق على سائر مقاطعات الإمبراطورية النمساوية المجرية. وهي واحدة من سلسلة البراءات التي مُنحت للأقليات غير الكاثوليكية، ومن بينها اليهود، تتضمن حقوقهم القائمة وتضيف لها حقوقاً جديدة وتحدد واجباتهم. (انظر: «جوزيف الثاني» ـ «النمسا» ـ «جاليشيا»).
التحديــــــث المتعــــــثر
Setbacks in Modernization
«التحديث المتعثر» مصطلح نستخدمه لنشير إلى تلك الفترة من تاريخ روسيا، السابقة على الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية، ومن تاريخ معظم بلاد شرق أوربا (بولندا ورومانيا والمجر، وغيرها) في الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية وانضمام هذه البلاد إلى المعسكر الاشتراكي،وهما فترتان لم تتمكن فيهما النظم الحاكمة من إنجاز عملية التحديث.ونحن نذهب إلى أن السبب الأساسي لتعثُّر التحديث في هذه الدول هو عدم وجود مشروع استعماري لديها أساساً، أو أن مشروعها الاستعماري لم يكن ناجحاً، أو كان باهظ التكاليف لأنه كان بعد في مراحله الأولى (ويُقال إن تكاليف ضم وإدارة المستعمرات التابعة للإمبراطورية القيصرية الروسية كانت تفوق كثيراً عائدها، ولذا كان هناك كثير من المفكرين الروس ذوي الاتجاه السوفيتي والعنصري والرجعي ممن يعادون التوسع الإمبريالي الروسي).
وقد أثر تعثُّر التحديث في هذه البلاد في عمليات إعتاق اليهود ومحاولة اندماج أعضاء الجماعات اليهودية إذ أن تعثُّر التحديث أدَّى إلى ظهور رؤى شمولية واستبدادية تستبعد الأقليات وتحاول منعهم من الاندماج ومن المشاركة في السلطة. كما أن تعثُّر التحديث، على المستوى البنيوي، أدَّى إلى بطء النمو الاقتصادي، وهذا ما كان يعني عدم وجود فرص للحراك الاجتماعي أمام أعضاء الأقلية والأغلبية.
ولكن النظم الاشتراكية نجحت حينذاك في استئناف التحديث وبالتالي في إعتـاق اليهـود ومنحـهم حقوقهم المدنية والسياسـية الكاملة. وعلى أية حال، فإن الصهاينة لا يتحدثون عن تعثُّر التحديث وإنما عن فشله، وبالتالي عن استحالة اندماج اليهود، مع أن التعثُّر أمر مؤقت يقف بين النجاح والفشل، بينما الفشل أمر نهائي مطلق يستطيع المرء أن يؤسس بناءً عليه أحكاماً نهائية ذات طابع اختزالي.
كما نستخدم المصطلح للإشارة إلى ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى حين جُرِّدت ألمانيا من مستعمراتها بعد إبرام اتفاقية فرساي عام 1919، فتعثرت عملية نموها وتحديثها، ولم يُستأنَف التحديث إلا على الطريقة الشمولية النازية.