المبحث الثاني:
عقيدة أهل السنه والجماعة في الولاء والبراء
من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم يدين بكلمة التوحيد أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها؛ فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم قال تعالى: { إنما المؤمنون أخوة }.
ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أولياء}.
وهذا من ملة إبراهيم عليه السلام والذين معه الذين أمرنا بالاقتداء بهم، حيث يقول سبحانه وتعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ" [الممتحنة: 4].
وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [المائدة: 51].
والولاء والبراء شرط في الإيمان:
كما قال تعالى: "تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُون" [المائدة: 80،81].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى: 7/ 17) عن هذه الآية:
"فدل ذلك على: أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب"أ.هـ.
ولما عقد الله الأخوة بين المؤمنين كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين أن كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان.
والولاء والبراء تابعان للحب والبغض.. وأصل الايمان أن تحب في الله وتبغض في الله.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (مَنْ أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادي في الله فإنما تنال الولاية بذلك ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا) 1.هـ. (حلية الأولياء عن ابن عباس (1/312)).
وإذا كان حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يذكر أن عامة مؤاخاة الناس في زمانه وهو في القرون المفضلة قد أصبحت على أمر الدنيا وأن ذلك لا يجدي على أهله شيئاً، فكيف حال الناس في الولاء والبراء في زمننا هذا؟ والله المستعان.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله:
(على المؤمن ان يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانيه.. قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهما, فليتدبر المؤمن:- ان المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك وإعتدى عليك, والكافر تجب معاداته وأن اعطاك وأحسن إليك, فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه, والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه, وإذا اجتمع في الرجل الواحد.. خير وشر, وفجور وطاعة ومعصية, وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير.
واستحق من المعاداة والعقاب بحسب مافيه من الشر, فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانه كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنه والجماعة, وخالفهم الخوارج المعتزله ومَنْ وافقهم) 1.هـ. (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28/ 208 – 209).
وعلى ما تقدم فالناس في نظر أهل السنة والجماعة بحسب الولاء والبراء ثلاثة أصناف:
1- من يحب جملة. وهو مَنْ آمن بالله ورسوله, وقام بوظائف الإسلام علمًا وعملاً وإنقاد لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فأحق الناس بالمحبة والموالاة هم رسل الله، ثم الصديقون والشهداء والصالحون بحسب منزلتهم في إيمانهم وصلاح أعمالهم، وأولى من يدخل في ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
2- مَنْ يحب من وجه ويبغض من وجه وهو المسلم الذي خلط عملاً صالحًا و آخر سيئًا, فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير, ويبغض ويعادي على قدر ما معه من الشر, ومَنْ لم يسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
كان رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب الخمر كثيرًا فأُتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده, فلعنه رجل وقال: ما أكثر مايُؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله". (أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (ج 12/ 75 ح 6780))، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن اللهُ الخمرَ وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" (أخرجه أبو داود وصححه حديث رقم 3243).
3- مَنْ يبغض جملة وهو مَنْ كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أو ترك أحد أركان الإسلام الخمسة أو أشرك بالله في عبادته أحدًا، فأهل السنة والجماعة يتبرأون مِمَّنْ حادَّ الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.
قال الله تعالى: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون مَنْ حادَّ اللهَ ورسولهُ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
وقال تعالى: {يآأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومَن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}.
وأهل السنة والجماعة يتولون المؤمنين ولو حصلت خصومات بينهم قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} وقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} فهم إخوة مع الاقتتال والبغى.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضًا، سُئِلَ عليٌ رضي اللهُ عنه عن أهل الجمل قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا؟. قيل: أمنافقون هم؟. قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل فمَنْ هم؟ قال: هم إخواننا بغوا علينا. (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى رقم: 25205).
يقول شيخنا محمد العثيمين رحمه الله في مجموع الفتاوى فتوى382:
(وإذا كان مؤمن عنده إيمان وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء الكريه الطعم وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغبٌ فيه لأن فيه شفاءٌ من المرض.
وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر ممَّا يكره الكافر، وهذا من العجب وهو قلب للحقائق، فالكافر عدوٌ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين ويجب علينا أن نكرههُ من كل قلوبنا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}.
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومَن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقال تعالى فيمن قتل مؤمناً عمداً: "فمن عُفِيَ له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان". فجعل اللهُ القاتلَ عمداً أخاً للمقتول مع أن القتل ـقتل المؤمن عمداًـ من أعظم الكبائر، قال تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". إلى قوله: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان ولا من الأخوة الإيمانية.
فإن كان في الهجر مصلحة أو زوال مفسدة بحيث يكون رادعاً لغير العاصي عن المعصية أو موجباً لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذٍ جائزاً بل مطلوباً طلباً لازماً أو مرغباً فيه حسب عظم المعصية التي هُجِرَ من أجلها.
ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- وهم الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك فقد أمر النبيُ، صلى الله عليه وسلم، بهجرهم ونهى عن تكليمهم فاجتنبهم الناس، حتى إن كعباً -رضي الله عنه- دخل على ابن عمه أبي قتادة -رضي الله عنه- وهو أحب الناس إليه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام.
فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله -عز وجل- والتوبة النصوح والابتلاء العظيم ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.
أما اليوم فإن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم ونفوراً وتنفيراً عن أهل العلم والإيمان فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول:
إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاءٌ أو كان فيه إشفاءٌ وهو الهلاك فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوباً.
وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا.
فالأقرب النهي عنه لعموم قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة".ا.هـ. (مجموع فتاوى ابن عثيمين الفتوى رقم 382).