المبحث السابع: ضوابط في الولاء والبراء
هناك ضوابط تعين على فهم الولاء والبراء ،وتبين متى يكون كفرا ، وتوضح الأمور الجائزة التي ليست داخلة في موالاة الكافرين فمن هذه الضوابط:
الضابط الأول: إقرار الكفار الأصليين أن يبقوا على كفرهم ...............
الضابط الثاني: إباحة معاقدة ومعاهدة الكفار .........................
الضابط الثالث: عدم نصرة المسلمين على الكفار لعهد أو لعجز ...........
الضابط الرابع: إباحة الحلف مع الكفار و الدخول تحت حمايتهم .........
الضابط الخامس: الحرص على حقن دماء الكفار رجاء هدايتهم .............
الضابط السادس: للمسلم أن يجير كافراً فيكون معصوم الدم ..........
الضابط السابع: تحريم إراقة دماء أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين .....
الضابط الثامن: وجوب العدل مع الكفار ..........................
الضابط التاسع: الإحسان إلى بعض الكفار لقرابتهم .................
الضابط العاشر: الإحسان إلى عموم الكفار في مواطن ..............
(للمزيد حول هذه الضوابط وغيرها انظر كتاب: حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين للشيخ عصام السناني بإشراف الشيخ صالح الفوزان).
- الضابط الأول: إقرار الكفار الأصليين أن يبقوا على كفرهم
مع أن الله بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- لمحو الشرك والأصنام و الكفر من الأرض ليكون الدين كله لله، كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما روى مسلم: "أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ".
ومع ذلك فالإسلام أقر ترك الكفار الأصليين من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين أن يبقوا على كفرهم فلم يجبر أحداً منهم على الدخول في الإسلام قال الله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [البقرة: 256]، وليس ذلك مما ينافي عقيدة الولاء والبراء، بل إنه كفل حمايتهم والقيام بحقوقهم وعدم ظلمهم إذا كانوا تحت حكم شريعتنا، كما روى مسلم عن عُرْوَةَ قَالَ: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَـاسٍ مِنْ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُـوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا : حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ هِشَامٌ : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا" ، قَالَ : وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا". وذكره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة: 1/ 34) تحت: "فصل: ولا يحل تكليفهم مالا يقدرون عليه ، ولا تعذيبهم على أدائها ، ولا حبسهم وضربهم"أ.هـ.
الضابط الثاني: إباحة معاقدة ومعاهدة الكفار
الإسلام أباح معاقدة ومعاهدة الكفار ولو على شروط فيها حيف على المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين كدفع ضرر عنهم خاصة عند الضعف والعجز ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، إذا وفّوا بعهدهم وذمتهم.
قال الله تعالى:
"فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [التوبة:4].
ومما يبين معنى الآية السابقة:
(1) ما روى البخاري في: {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ}:
ورواه ابن حبان وَبَوَّب عَلِيْه: {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ}، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ: {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ}:
عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ في قِصةِ الحُدَيْبِيَةِ فِي حَدِيثٍ طَويْلٍ وفِيْه: "فَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَكِـنْ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ : "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي: اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْـنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" ، فَقَالَ : سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِـلِ فَكَتَبَ. فَقَالَ : سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا.
وفي رواية للبخاري في: {بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ}:
"فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا".
أقــــــول:
فانظر كيف عجز كبار الصحابة حاشا أبي بكر -رضي الله عنه- عن تحمل مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ كما في رواية للشيخين : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَرَدَدْتُهُ". رواه البخاري.
وهو في مسلم في باب: {إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ وَقَوْلِ اللَّهِ: "الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ".
- قال ابن قدامة: (المغني: 13 /154):
"ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" [التوبة:1]، وقال سبحانه: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" [الأنفال: 61].
وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعفٌ فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر لمسلمين، إما: أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ.
قال ابن القيم في ذكر أحكام صلح الحديبية (زاد المعاد:3/306):
"ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.
(2) روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ:
مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُـوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".
قال ابن القيم (زاد المعاد: 3/ 125):
"وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين من غير رضاه أمضاه لهم كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه e ، فأمضى لهم ذلك وقال لهما : [انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم]"أ.هـ.
(3) روى أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم ، وبوّب عليه ابن حبان : {ذكر الإخبار عن نفي جواز حبس الإمام أهل العهد وأصحاب بردهم في دار الإسلام}:
عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ:
بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ". قَالَ: فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمْتُ".
قـال ابن القيم (زاد المعاد: 3/ 138):
"وكان هديه أيضاً ألا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه فلا يمنعه من اللحاق بقومه، بل يرده إليهم كما قال أبو رافع: بعثتني قريش إلى النبى -صلى الله عليه وسلم-، فلما أتيته وقع في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله! لا أرجع إليهم فقال: (إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرُد، ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع).
قال أبو داود:
وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرد إليهم من جاء منهم وإن كان مسلماً"أ.هـ.
ولذا فعلى المسلم أن لا يندفع لمجـرد العاطفه ليعترض على المعاهدات التي تكون بين ولاة الأمور والكفار دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أهل العلم، فإنه لا مجال للاستحسانات والتخرصات والأهواء في ما يتعلق بمصالح الأمة الكبرى، فهذا عمرُ -رضي الله عنه- يعترض على الصلح بالدنية، وعلي -رضي الله عنه- يمتنع عن محو البسملة والرسالة استعظاماً لذلك، وهؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- يمتنعون عن حلق رؤسهم من شدة غضبهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صابر على أمر الله تعالى، صابر على صدّ أعدائه عن البيت الحرام وحميتهم الجاهلية، وصابر على توقف أصحابه -رضي الله عنهم- في الاستجابة لأمره -صلى الله عليه وسلم-.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة النبوية: 8/ 409):
"ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ، ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها ، لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرعِ على الهوى.
فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع.. والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيمًا لا تحمله عامة النفوس، وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علماً وإيماناً وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار"أ.هـ.
ويقول ابن القيم ضمن فوائد أحكام صلح الحديبية (زاد المعاد: 3/ 303):
"فكـل مَنْ التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرضٍ له، أجيب إلى ذلك كائناً مَنْ كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة مَنْ ضاق، وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالاً بعده" أ.هـ.
الضابط الثالث: عدم نصرة المسلمين على الكفار لعهد أو لعجز
إن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار وأوجب نصرة المسلمين بعضهم لبعض وجعلها من ولايتهم يمنع من نصرة المسلمين على الكفار إذا كان ثم عهد بين المسلمين وبين هؤلاء الكفار، أو كان المسلمون عاجزين عن نصرة إخوانهم ولا يعد ذلك مما يناقض عقيدة الولاء والبراء:
(1) ترك النصرة لأجل العهد:
قال تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [الأنفال: 72].
قال الطبري في تفسير الآية (10 /38):
"إلا أن يستنصرونكم "عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ" يعني: عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه"أ.هـ.
وقال ابن كثير (تفسير القرآن العظيم: 2/ 315):
"فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم، وهذا مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-" أ.هـ.
وقد ترك حذيفة وأبوه -رضي الله عنهما- نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر بسبب العهد والميثاق الذي أخذه منهما كفّار قريش أن لا يقاتلا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقرهما -صلى الله عليه وسلم- كما تقـدم في رواية مسلم حين قال: "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".
(2) ترك النصرة لأجل الضعف:
وقد تـرك النبي -صلى الله عليه وسلم- نصرة كثير من المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم قدرته على نصرتهم ؛ وقال لهم لما استنصروه كما روى البخاري : "وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
(3) ترك النصرة لكون القتال غير ديني:
لقوله تعالى:
"وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ"، تقدم قول ابن كثير قريباً (تفسير القرآن العظيم: 2/ 315) "قوله: "وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ" الآية، يقول تعالى: وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم"أ.هـ. فقيده بالقتال الديني.
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (تيسير الكريم الرحمن:440):
"وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ" أي: لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم "فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ"، والقتال معهم. وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم"أ.هـ.
الضابط الرابع: إباحة الحلف مع الكفار والدخول تحت حمايتهم:
أن الإسلام الذي جاء بالبراءة من الكفار لا يمنع عقد الأحلاف مع الكفار أو الدخول تحت حمايتهم إذا كان ذلك في مصلحة الإسلام أو المسلمين أو لدحر عدو ضرره أكبر في حال ضعف المسلمين وعجزهم؛ قال تعالى: ]لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً" [آل عمران: 28] .
قال أبو بكر بن العربي (أحكام القرآن: 1 /268) عند قوله تعالى: "إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً":
".. إلا أن تخافوا منهم، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووالوهم وقولوا ما يصرف عنكم من شرِّهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقاد؛ بيَّن ذلك قولُهُ تعالى: "إِلاَّ مِنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ" على ما يأتي بيانه إن شاء الله"أ.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول: 1/ 226):
"فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"أ.هـ.
ويدل على ما ذكرنا:
(1) ما تواتر من أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة في الهجرة للحبشة:
وكان ملكها كافراً لكنه كان عادلاً ففروا من حكم كفار قريش إلى حكم كفار النصارى: فقد روى محمد بن إسحاق (السيرة: 194) بإسناده قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه). فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا ونزلنا بخيـر دار إلى خير جار؛ أمنا على ديننا، ولم نخش منه ظلمًا".
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات: 7/ 363):
"وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار" ـحتّى قالـ: "وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم"أ.هـ.
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي (الفتاوى السعدية: 94):
"بلاد الكفر نوعان: بلاد حرب واضطهاد, وبلاد عهد وهدنة وأمن, ويدل على هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لأصحابه أن يهاجروا من مكة حيث كانت بلاد كفر واضطهاد وأذية وفتنة للمؤمنين إلى بلاد الحبشة, وهي بلاد كفر, ولكنها بلاد أمن واطمئنان, وهي أخف بكثير من بلاد الفتنة, والشر القليل أهون من الشر الكثير, ولهذا تمكن الصحابة y من إظهار دينهم فيها"أ.هـ.
(2) دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوار وحماية بعض الكفار:
أ- حماية عمه أبي طـالب وكفار بني هاشم لـه:
روى البخاري أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَـانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ"، وروى أحمد وابن ماجه وصحّحه ابن حبان والحاكم عَنْ ابْنِ مسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ:"فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ" أ.هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/ 114):
"وكان أبو طالب ينصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويذب عنه مع شركه، وهذا كثير فإن المشركين وأهـل الكتاب: فيهم المؤتمن كما قال تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً" [آل عمران: 75]"أ.هـ.
قال الحافظ في شرح الباب (فتح الباري: 7/ 233):
"فلما هلك أبو طالب نالت قريشٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا، فحدثني هشام بن عروة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته يقول: ما نالتني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"أ.هـ.
ب- حماية المطعم بن عدي:
روي البخاري عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في أسارى بـدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول: 2 / 314) وذكر الحديث:
"يكافئ المطعم بإجارته له بمكة".
وقال الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات: 6/ 109):
"إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه، سواء كان المستعان به يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو غير ذلك، إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك.
وقد وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا، وهذا في مكة استعان بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف"أ.هـ.
(3) دخول أبي بكر -رضي الله عنه- في جوار وحماية رجل كافر:
فقد روى البخاري في باب {جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَقْدِهِ}: عن عائشة -رضي الله عنها- أن ابْنُ الدَّغِنَةَ قال لقريش: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ".
(4) ودخل في حلف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض المشركين:
كما ذكر ابن إسحاق (سيرة ابن هشام: 4/ 46) عن المسور ومروان وغيرهم من علمائنا قالوا: "فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرط لهم: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول -صلى الله عليه وسلم- وعهده".
قال الشيخ رشيد رضا (تفسير المنار: 3/ 420):
"يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي، أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء" [المائدة: 51]، يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وإن كان الحلاف أو الاتفاق لمصلحتهم، وفاتهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان محالفاً لخزاعة وهم على شركهم"أ.هـ.
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(فتاوى ومقالات: 6/ 186):
"أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد، أو يخشى عدوانه فهذا لا بأس به ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتاله لكفار قريش يوم الفتح"أ.هـ.
(5) روى أبو داود فِي {بَابٍ فِي صُلْحِ الْعَدُوِّ}، وابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ، وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ".
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (فتاوى ومقالات: 6/ 186):
"وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنكم تصالحون الروم صلحًا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوًا من ورائكم)، فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا.
والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة ، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح ، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم ، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم."أ.هـ.
(6) موادعة النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود المدينة لما هاجر على أن عليهم النصرة والنفقة إذا حارب ، وأنّ لهم النصر والأسوة غير مظلومين كما ذكر أصحاب السيرة ، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم.
يتبع إن شاء الله...