6-الآثار الاجتماعية للاستغفار:
ولو استحضرنا شروطَ التوبة التي اتفق أهلُ العلم على عَدمِ قبولِ التوبة إلا بتوفُّرِها؛ لألْفَينا الآثارَ الاجتماعية ظاهرةً فيها.
فقد قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: التوبةُ واجبةٌ من كلِّ ذنب: فإن كانت المعصية بين العبدِ وبين الله تعالى لا تتعلقُ بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني: أن يندم على فعلها، والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا.
فإن فُقِد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدميٍّ فشروطُها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها: فإن كانت مالا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان حدَّ قذفٍ ونحوه مكَّنه منه أو طلب عفوَه، وإن كان غيبة استحله منها".
فالإقلاعُ عن المعصية في الحاضر، والندمُ على فِعلِها في الماضي، والعَزمُ على عَدمِ العودةِ إليها في المستقبَل تُمثِّلُ ثِمارا إيمانيةً ونفسيةً للتوبة النصوح والاستغفار الصادق، وأما ردُّ الحقوقِ والمظالِمِ فتمثلُ الآثارَ الاجتماعية للتوبة.
فليس بتائبٍ حقيقةً من لم يتُبْ عن حُقوقِ المسلمين؛ ولا تصحُّ للظالم توبةٌ وللمُتعدِّي على حقوقِ المسلمين!
ورَحِمَ الله القرطبي حيث قال: "قال علماؤنا: الاستغفارُ المطلوبُ هو الذي يحلُّ عُقَدَ الإصرارِ ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته؛ فاستغفارُه ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرتُه لاحقةٌ بالكبائر.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارُنا يحتاج إلى استغفار! قلتُ: هذا يقولُه في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مُكِباًّ على الظلم حريصاً عليه لا يُقلِعُ والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر الله من ذنبه! وذلك استهزاء منه واستخفاف، وفي التنزيل (ولا تتخذوا آيات الله هزوا)".
قال القرطبي رحمه الله في بيانِ الذنوبِ التي يُتاب منها تمييزاً لِحقِّ لله تعالى عن حقِّ غيرِه "وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها؛ فإن لم يوجدوا تصدق عنهم".
فالتائبُ المستغفرُ المنيبُ إلى ربِّه الخائفُ من ذنبِه أبعدُ الناس عن الوقوعِ في أموالِ الناس وأعراضِهم وحقوقِهم والإساءة إليهم؛ لِمُراقَبتِه نفسَه وتوقِّيه من معاصي الله والوقوع في سخطه؛ وتلك ثمرةٌ اجتماعيةٌ للاستغفار وعلامةٌ صادقةُ على التوبة النصوح المباركة.
ويكفي من بركة الاستغفار وآثاره الاجتماعية الطيِّبة أنْ نستحضرَ أنَّ الاستغفارَ سببٌ للتواضعِ لله ولِعبادِه؛ فلا يتكبرُ المذنبُ المستغفرُ ولا يحتقرُ غيرَه بل يوقِّره، ولا يتطاول عليه بل يخفض له جناحَه! فيا سعادةَ المستغفِرين المتواضِعين! ويا شقاءَ المتكبرين الغافلين الذين يفعل الواحد منهم حسنة "فلا يزالُ يَمُنُّ بها على ربِّهِ ويتكبَّرُ بها، ويرى نفسَهُ ويُعجَبُ بها ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ؛ فيُورِثُهُ من العُجْبِ والكِبْرِ والفخر والاستطالة؛ ما يكون سببَ هلاكِهِ؛ فإذا أراد اللهُ تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمرٍ يكسرُهُ بهِ ويُذِلُّ به عُنُقَهُ ويُصغِّرُ به نفسَه عنده"!
ولك أنْ تتبيَّنَ روعةَ اجتماعِ الشمائلِ الإيمانية والنفسية والاجتماعية: صبراً وصِدقاً وقنوتاً وإنفاقاً.
ولا يخفى أنَّ ربطَ القرآن بين الاستغفار والإنفاق يمثل إشارةً إلى الثمرات الاجتماعية للاستغفار، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) (آل عمران: 15-17).
ومن الثمراتِ الاجتماعيةِ للاستغفارِ كظمُ الغيظِ والعفوُ عن الناسِ وإقالةُ عَثَراتِهم، كما قال الله عزَّ وجل: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران 133-135).
قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله:
"قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: 134))، أي: إذا ثار بهم الغيظُ كظموه: بمعنى كتموه؛ فلم يُعْمِلوه، وعفَوْا مع ذلك عمَّنْ أساء إليهم.
وقد ورد في بعضِ الآثار (يقول الله تعالى: يا ابنَ آدم اذكُرْني إذا غضبتَ؛ أذْكُرْكَ إذا غَضِبتُ؛ فلا أُهْلِكُكَ فيمن أهْلَكَ) رواه ابن أبي حاتم".
7- الدعاء سببٌ لرد البلاء واستجلاب الرحمة:
قال الإمام الغزالي:
"فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهام والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان .
وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) سورة النساء الآية 102.
كما أنه ليس من شرطه أن لا يسقي الأرض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب والذي قدَّر الشر قدَّر لرفعه سبباً فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته.
ثم في الدعاء من الفائدة أنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: ( الدعاء مخ العبادة ).
والغالب على الخلق أن لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض.
فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ].
8- الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يوماً كدرت أياماً، وإن أضحكت ساعة أبكت أياماً، لا تدوم على حال وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140].
فقر وغنى، عافية وبلاء، صحة ومرض، عز وذل، فهذا مصاب بالعلل والأسقام، وذاك مصاب بعقوق الأبناء، وهذا مصاب بسوء خلق زوجته وسوء عشرتها، وتلك مصابة بزوج سيء الأخلاق، فظ الخلق، سيء العشرة، وثالث مصاب بكساد تجارته وسوء صحبه الجيران، وهكذا إلى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عند حد، ولا يحصيها عد.
ولا يزيل هذه الآلام، ويكشف هذه الكروب إلا الله علام الغيوب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، والمسلم حاله في البأساء الصبر والإنابة إلى الله، يتوسل بالأسباب الموصلة إلى كشف المكروه، لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمات، يحاول التخلص منها في حزم الأقوياء وعزيمة الأصفياء، قدوته في ذلك سيد المرسلين، وإمام الصابرين، فقد حل به وبأصحابه الكرام من الشدائد والمحن والابتلاء ما تقشعر منه الأبدان، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، بل قابلوا تلك الخطوب بالصبر والثبات: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" [آل عمران: 173 -174].
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » [البخاري].
ولقد وعد مولانا -سبحانه وتعالى- عباده بالسعة بعد الضيق، وبالعافية بعد البلاء، وبالرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: 5-6].
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو دخل العسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه؛ لأن الله تعالى يقول: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" [الشرح: 6].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: « يَا غُلاَمُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ » فَقُلْتُ: بَلَى فَقَالَ:« احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِى الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِى الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعاً أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِى الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً » [أحمد].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها … فرجت وكنت أظنها لا تفرج
يقول ابن رجب رحمه الله:
كم قص الله سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكروب بإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وقصة يونس وقصص محمد -عليه وعلى جميع الأنبياء المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم- مع أعدائه، وإنجائه منهم كقصة الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وغير ذلك.
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا ……من راقب الله في الأمر نجا
من صــــــدق الله لم ينله أذى ……ومن رجاه يكون حيث رجا
أخي المسلم لا تجزع مما أصابك، ولا تحزن، فإن ذلك لا يرد فائتاً، ولا يدفع واقعاً، فاترك الحزن والهم، وكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه، وخذ من الأسباب ما يفرج كربك، ويذهب همك من تقوى الله عز وجل والإنابة إليه والتوكل عليه والتعرف إليه في الرخاء، قال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً" [الطلاق: 2-3].
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ) قَالَ :« مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَخْفِضَ آخَرِينَ »..
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: قَالَ: سَمِعْت الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: اُذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ , فَإِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ذَاكِرًا لِلَّهِ ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ اللَّهُ: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144] }، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللهِ ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ، قَالَ: { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) } سورة يونس.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ». [أبو داود].
وأكثر أخي من الأدعية التي وردت عن الحبيب فإن فيها ذهاب الهموم والغموم، ومن ذلك قوله: « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ » [متفق عليه].
وأخرج أحمد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « نَعَمْ دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ هُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ ».
واعلم يقيناً أن الذي يكشف البلوى هو الله، فاعتصم به، واعتمد عليه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].
روى سعيد بن عنبسة قال: بينما رجل جالس، وهو يعبث بالحصى، ويحذف بها، إذ رجعت حصاة منها، فصارت في أذنه، فجهد بكل حيلة، فلم يقدر على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه تؤلمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئاً يقرأ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [النمل: 62]، فقال: يا رب، أنت المجيب، وأنا المضطر، فاكشف ضر ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه.
فراقب الله وأكثر من الضراعة والالتجاء، وقل: « يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ » كن قوي الإيمان بالله، قوي الثقة به، حسن الرجاء حسن الظن بمولاك، يكشف عنك ما نزل بك من الضر، ويبدل شدتك رخاء، ويجعل لك من همك فرجاً ومخرجاً، ومن عسرك يسراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق: 3].
9- المسلم يتهم نفسه دائماً بالتقصير والتفريط، ويعلم أنه ما أصابه إنما كان من قبل نفسه وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
والمؤمن قد ينتفع بمصيبته، فيجعل من هذه المحن منحاً يترقى بها في طاعة الله، يقول ابن رجب رحمه الله: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم يظهر له أثر الإجابة رجع إلى نفسه بالملائمة، وقال لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، وأنه ليس أهلاً لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. يا حي يا قيوم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله بعفو منك وعافية.
10- من لطائف أسرار إقتران الفرج بالكرب أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل.
ومن علامات المحن والمصائب الإسترجاع بأن تقول إنا الله وإنا إليه راجعون، وأن تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن نظر المصاب إلى نعم الله، وأن الله أعطاه أعظم وأكثر مما أصابه به، وأن تعلم أن الجزع لا يزيل المصيبة ولا يبردها، وأن الذي يبردها الصبر والاحتساب، فتحصل السكينة القلبية والرضى، وقد كان رسول الله يقول عند الكرب: « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ » .، وقال: « دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ».
ومن علاج المصائب التوبة النصوح، فإنه ما أنزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
ومنها: الإحسان إلى الناس وقضاء حوائجهم ورحمة صغيرهم وكبيرهم، فإن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومنها: الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله مما يسبب تعلق القلب بالله وكثرة دعائه ومناجاته والضراعة بين يديه.
ومن ذلك: أن تقول في دعائك:
ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث، وأن يتذكر العبد أن الله عز وجل يبتلي العبد وهو يحبه، وقد يطيل الله عليه البلاء ليسمع الله تضرعه وإلحاحه وزيادة طلبه من ربه، ليستخرج الله منه حقيقة العبودية، وهي الذل والإنكسار وإظهار المسكنة والضعف بين يدي الله والإدبار عن المخلوقين بيحث لايسألهم ولا يرجوهم، وليتذكر العبد الفقير المحتاج الغريب المصاب أنه ربما كانت النعمة والصحة والأنس سبب لنسيان الله وسبب للفسوق والعصيان والأشر والبطر والمحن وتأديب من الله والأدب لا يدوم، فطوبى لمن صبر على التأدب، وليتذكر المصاب بأن فرج الله قريب وإنها سحابة عما قريب، تزول، وما بعد الشدة والضيقة إلا الفرج القريب.