رواية خالد محيي الدين عن عودة محمد نجيب
يقول خالد محيي الدين:
لم يستغرق الأمر أكثر من ساعة واحدة، ستون دقيقة ليس أكثر تغير فيها الوضع إلى النقيض، بما يؤكد أن مخاوفي كانت في محلها تماماً.
إنها الستون دقيقة التي استغرقها ذهابي إلى منزل محمد نجيب، والعودة بقرار قبوله قرارات مجلس قيادة الثورة، والتي كان يرافقني، خلالها، أو بالدقة، يراقبني خلالها، ثلاثة ضباط من رجال عبدالناصر.
وعدت لأجد رئاسة الجيش مزدحمة بأعداد كبيرة من الضباط، البعض يحمل مدافع رشاشة، والبعض الآخر يشهر مسدساته، والجميع يبكون ويصرخون معلنين رفضهم للقرارات، ومطالبين باستمرار مجلس الثورة.
وعلى طول الممر المؤدي إلى غرفة القائد العام، في الدور العلوي، كان الضباط المحتشدون يوجهون شتائمهم ضدي، متهمين إياي بخيانة الثورة، وقررت ألا أرد، أو أجادل، بل لم أحاول أن أنظر إلى الوجوه لأتعرف عليها، فقد ركزت كل اهتمامي في أن أصل إلى غرفة القائد العام.
فتحت باب عبدالحكيم عامر، لأفاجأ بما هو أكثر دهشة، الغرفة يحتشد فيها أكثر من مائة وخمسين ضابطاً، الجميع في حالة غضب هستيري، وصراخ وبكاء، عدد كبير منهم كان من "الضباط الأحرار"، رفاق الطريق الطويل للعمل المشترك، والمخاطر المشتركة، والنضال المشترك ضد النظام الملكي، ومن أجل البرنامج الذي حددناه لأنفسنا ولحركتنا.
والذي كان يتمسك بالديموقراطية، وبالحياة النيابية. لكن الزمن تغير، وتغيرت معه المواقف، وتغير الرجال.
لم أزل أذكر بعض الوجوه الغاضبة في ثورة جامحة، تلك الوجوه التي كانت تتبادل معي المودة والحب إلى أسابيع أو أيام سابقة، انقلبت نظراتها إلى غضب غير قادر على التحكم في نفسه.
كان كمال رفعت يهدر، رافضاً استقالة مجلس الثورة، وحسن التهامي يصرخ مثله، أما مجدي حسنين فقد وصل به الأمر إلى الصراخ: "بلاش سلاح مدرعات، نلغي سلاح المدرعات"، وكان أكثر الموجودين صراخاً أبو الفضل الجيزاوي.
تماسكت بقدر استطاعتي، وفجأة انقض عليّ ضابط من البوليس الحربي اسمه ربيع عبدالغني، وأمسك بخناقي محاولاً الاعتداء عليّ، وتجمع غيره حولي، وأيضاً قررت ألا أرد، أو انفعل، فقد كنت أعرف مدى سخونة المشاعر، وكيف أني أي رد فعل من جانبي قد يفجر الموقف تماماً، ويحيل هذا الغضب الهستيري المحدود، في غرفة مغلقة إلى معركة دامية، بين أسلحة الجيش المختلفة.
ولهذا فقد قررت أن امسك بزمام أعصابي مهما كان الثمن.
وهنا انقض جمال سالم على المسكين بخناقي ضارباً إياهم بالشلاليت، صارخاً بشتائمه الشهيرة، مندداً بالباكين، موحياً إليهم من طرف خفي، إلى فعل شيء غير البكاء، فكان يصرخ فيهم: "بدل ما أنتم قاعدين هنا تعيطوا زي… روحوا وحداتكم".
ولكن الصارخين الباكين المحتجين ما زالوا ممسكين بخناقي، وهنا تدخل عبدالحكيم عامر وحماني، خلف ظهره قائلاً: "اللي حا يقرب من خالد حا أضربه بالرصاص"، فازداد صراخ المحتجين، منددين بخالد محيي الدين، وبالفرسان، وبموقفهم، فصرخ عبدالحكيم عامر: "إذا لم تستمعوا لأوامري، سأضرب نفسي بالرصاص.
وبينما الهرج يسود المكان، إذا بصوت طائرات سلاح الطيران يصم آذان الجميع.
كانت الساعة حوالي السادسة والنصف صباحاً "صباح السبت 27 فبراير 1954".
لمحت علي صبري يطل من النافذة ويجفف دموعه.
وسمعت جمال سالم يقول: "أيوه كدة".
بل وصرخ: "قولوا لسلاح الطيران يجهز الصواريخ ويضرب سلاح الفرسان".
أما عامر فقد أبدى أنه لم يكن يعرف بخروج الطائرات، لكنه صرخ في الجميع، مطالباً بالهدوء، ومعلناً: "أنا أعلن أمامكم إلغاء القرارات، وأعلن أنني المسؤول عن القوات المسلحة"، وطالب الجميع بالهدوء.
طوال هذه الفترة، كان جمال عبدالناصر صامتاً دون حراك.
وذهبت إليه قائلاً: "إيه يا جمال حتسيب البلد يحصل فيها مذبحة، فرد بهدوء: "والله أنا مش فاهم حاجة، والي جواره كان حسين الشافعي، يبكي في صمت، فقلت: "أنا أفضل أن أذهب إلى سلاح الفرسان، لأهدئ الجو، حتى لا ينفجر الغضب هناك كذلك، وتحدث مذبحة.
وكنت قد سمعت أن بعض قوات المدفعية حاصرت قشلاق سلاح الفرسان، وأنهم طلبوا عدداً من ضباط الفرسان للتفاهم معهم، فلما أتى وفد الفرسان اعتقلوه، فوجه سلاح الفرسان إنذاراً بأنه، إذا لم يُفرج عن زملائهم، فإن على من قبضوا عليهم، أن يتحملوا مسؤولية ما سيحدث.
كما اعتقل أيضاً عبدالفتاح علي أحمد، سكرتيري في سلاح الفرسان، وربما تصوروا أنه كان مسؤولاً عن بعض ما حدث، لكنه ما لبث أن أُطلق سراحه، ويبدو أن البعض قد اكتشف أن له علاقة ما بعبدالناصر.
إزاء هذا كله، قلت لجمال: "أنا أفضل أن أذهب للفرسان لتهدئة الجو". وصاح جمال: خالد عايز يروح الفرسان علشان يهدئهم، ووافق عامر، ونزلت من الدور العلوي محاولاً الخروج، وعلى طول الممر والسلم كانت شتائم الضباط المحتشدين تنهال ضدي، وضد سلاح الفرسان، وعلى الباب كان هناك الضابط أحمد أنور، يقف ليمنعني من الخروج.
ولم أشأ الاحتكاك به، لكن عامر أطل من البلكونة صائحاً: "يا أحمد سيب خالد يروح الفرسان"، فرد أحمد: "لأ مش حا سيبه".
وصاح عامر مرة أخرى: نفذ الأمر يا أحمد، أنا أعطيك أمر عسكري، فرد أحمد باستهتار: "لأ، مش حا أنفذ، أنتم قلتم إنكم استقلتم، وأنا لا أنفذ أوامر مستقيلين".
ومرة أخرى ارتسمت في خيالي صورة صدام مروع، بين رفاقي في الفرسان وبين الأسلحة الأخرى، لو أن احتكاكاً بسيطاً وقع بيني وبين أحمد أنور، وكظمت كل ما بداخلي من غيظ، وعدت من حيث أتيت.
وأثناء عودتي إلى غرفة عامر وجدت في مواجهتي الضابط وحيد جودة رمضان، وحييته لكنه لم يرد التحية.
وعدت إلى غرفة القائد العام ، وأخليت الغرفة من الضباط، وعقدنا اجتماعاً لمجلس قيادة الثورة.
كانت الساعة حوالي السابعة صباحاً، يوم السبت 27 فبراير، ولم تكن القرارات قد أعلنت في الصحف، وكل ما كان، لدى الناس، هو خبر قبول استقالة محمد نجيب الذي نُشر في صحف الجمعة.
بدأنا الاجتماع.
وقال جمال عبدالناصر: "واضح الآن أن القرارات صعب تنفيذها؛ لأن هناك انقساماً حولها في الجيش، ومن الصعب الآن تنفيذ أي قرارات، قد تؤدي إلى تصادم، بين قوات الجيش".
وهنا أقحم صلاح سالم نفسه على النقاش وقال: "المهم الآن أن نناقش موضوع خالد، فخالد هو المشكلة الحقيقية، فإحنا جميعاً نرى أن تستمر فترة الانتقال لثلاث سنوات، وربما أكثر، بينما هو يصمم على عودة الحياة النيابية فوراً، ولأن هذا رأيه فقد أخذ سلاح المدرعات الموقف نفسه، وهكذا وجدنا أنفسنا في حالة انقسام، ووجدنا الجيش في حالة انقسام، وكل هذا بسبب خالد، ولهذا أنا أطالب بأن يبعد عن مجلس قيادة الثورة، وأن يعتقل".
وعلى الفور، أيده أنور السادات محبذاً فكرة طردي من المجلس، واعتقالي.
لم أتمالك نفسي وضحكت، فمنذ ساعات فقط، كان صلاح سالم نفسه يناشدني بالأخوة والصداقة أن أقبل القرارات، وأن أصبح رئيساً للوزراء، إنقاذاً للموقف. والآن، وبعد ساعات فقط، يريد اعتقالي.
وقال عامر: "الحقيقة يا جماعة، خالد من زمان كان يريد الاستقالة من المجلس، فلنقبل استقالته، ونعطيه أي منصب في الخارج".
ورد أحدهم: "يعني عايز تكافئه"؟ فتراجع عامر، على الفور، قائلاً: "بلاش يسافر للخارج، يقيم في مرسى مطروح، بعيداً عن أي تأثير في الجيش، لكن حكاية الاعتقال دي بلاش".
وتدخل البغدادي قائلاً: "يا جماعة أنا عايز أقول إن خالد كان صريحاً معنا، منذ البداية، ولم يخف عنا، لا قبل الثورة، ولا بعدها، مواقفه واتجاهاته، وكثيراً ما أبدى رغبته في أن يستقيل، من المجلس عندما وجد نفسه في اتجاه، ووجدنا جميعاً في اتجاه آخر، ولكننا نحن الذين رفضنا استقالته، وأصررنا على أن يبقى معنا، رغم اختلافه معنا، ولم يكن من الطبيعي أن يقول للناس كلاماً، هو غير مقتنع به، ولهذا فأنا أرى ألا وجه لمحاسبته، أو اعتقاله، وإنما، إذا أراد، تقبل استقالته بهدوء، من دون أية إجراءات ضده".
وقال حسن إبراهيم: "أنا ضد أي إجراء يتخذ ضد خالد، لكن مع ذلك، أنا أحمله مسؤولية ما حدث، وإلا فلماذا لم ينقسم عنا سوى سلاح الفرسان، وإحنا جميعاً كنا نقول في الاجتماعات كلام، ونخرج لنقول للناس كلام آخر، وكنا نبذل جهدنا في إقناع ضباط أسلحتنا، برأي المجلس.
كان عبد الناصر صامتاً، طوال هذا النقاش، وفجأة قال: "يا جماعة، لازم نفكر بطريقة أخرى، المشكلة الآن ليست مشكلة خالد، لكن المشكلة هي ماذا سنفعل في محمد نجيب؟ هل سيعود أم لا؟ هل سنستمر في حصار سلاح المدرعات أم لا؟.
والسؤال الآن هو: هل ستسمحون بإعادة نجيب؟ فإن عاد نجيب يعود خالد، فليس من المنطقي أن نعيد نجيب، ونطرد خالد، فهذا غير منطقي، فخالد كان صريحاً معنا ولم يناور علينا".
وقال زكريا محيي الدين: "ليس لأن خالد ابن عمي، وإنما للحقيقة، خالد راجل متمسك بالحياة النيابية وبالديموقراطية، والديموقراطية، تجري في دمه، ولا يمكنه التخلي عنها، لكنه ليس ضد الثورة، هو يريد للثورة أن تستمر، لكنه يريدها أن تستمر، وفق رؤيته هو، واتخاذ إجراء عنيف، ضد خالد، مسألة غير مفيدة، وإبعاد خالد ونجيب معاً، سوف يسبب مشكلة، أما إعادة نجيب، وإبعاد خالد فإنها مسألة غير مقبولة، وسوف تضعنا في وضع حرج".
وهكذا توقف النقاش حول مصير خالد محيي الدين، ليبدأ في البحث في مصير محمد نجيب.
تكلم حسن إبراهيم، وقال إنه كان في الإسكندرية، وأن حاميتها ضد إبعاد نجيب، وقال: "إذا كانت هناك رغبة جامحة، في البلد، بضرورة إعادة الديموقراطية، فلا يجوز أن نتصدى نحن لهذه الرغبة.
وبينما نحن مجتمعون، دخل أحدهم ليبلغ عامر، أن كمال رفعت، وحسن التهامي، توجها إلى منزل محمد نجيب، واختطفاه، وتحفظا عليه في قشلاق المدفعية، وثار عامر لدى سماعه هذا الخبر.
واستمر النقاش.
واتضحت أمام الجميع الحقيقة: الشعب مع نجيب، ومع عودة الحياة النيابية، والجيش منقسم، وكان لابد لمجلس الثورة أن يتراجع عن قرار قبول استقالة نجيب.
لكن البعض قال: إذا عاد فإنه سيعود، وهو يتصور، أننا قد هُزمنا أمامه، ومن ثم سيفرض شروطه.
جرى النقاش بلا مخرج، وأنا صامت، فلقد تعرفت على حقيقة نوايا زملائي إزائي، وعلمت أن مصيري معلق بالقرار، الذي سيتخذونه إزاء نجيب. ساعتها أحسست، وأول مرة، بغربة شديدة وسطهم، وقلت يستحسن أن أقوم حتى تتخذوا قراركم؛ فقالوا أقعد معنا".
ثم روى خالد قصة رفع الاجتماع، وتفويض جمال، وإذاعة بيان عودة نجيب يقول: ذهبت إلى مقر قيادة الجيش.
وهناك سمعت القصة من صلاح سالم، الذي قال إنه، بعد فض الاجتماع، عند الظهر، ركب سيارته، لكنه خشي أن يتوجه إلى بيته، في العباسية، فالناس هناك، وأصحاب المحلات، يعرفونه وخشي أن يحتك به أحد، أو يهاجمه، فتوجه إلى بيت جلال فيظي، أمام محطة باب اللوق، ليرتاح هناك.
وفي الطريق، وجد الشوارع مملوءة بالمتظاهرين، المتجهين إلى ميدان عابدين، وهم يهتفون بحياة نجيب وبأنه "لا رئيس إلا نجيب"، وكانت المظاهرات عارمة، وتوحي برفض جماهيري واسع لقرار قبول الاستقالة.
اهتز صلاح سالم كعادته، وكعادته كذلك تغيرت مشاعره، وتغير موقفه بسرعة، فدخل إلى أجزخانة مظلوم بالقرب من ميدان عابدين، وتحدث تليفونياً مع عبدالناصر قائلاً: يا جمال لازم تأخذ قراراً بسرعة، بعودة نجيب، فالناس تهتف بحياته، وقال جمال: تعال فوراً.
وعندما عاد صلاح سالم إلى مكتب عامر، في رئاسة القوات المسلحة بكوبري القبة، ألح على عبدالناصر بضرورة أخذ قرار بعودة نجيب، وظل عبدالناصر صامتاً.
وقال صلاح: يا جمال أنا سأبلغ الخبر للإذاعة، ولم يرد جمال، فكررها عليه أكثر من مرة، فلما واصل جمال الصمت، قالها صلاح بصوت مرتفع ليسمعه كل من في الغرفة، ومنهم عبدالناصر طبعاً: "أعلنوا في النشرة أن نجيب رفضت استقالته، وأنه قد عاد رئيساً للجمهورية".
كان الصمت يخيم على المكان الذي شهد مناخاً صاخباً، منذ ساعات قلائل.
دخلت إلى غرفة القائد العام، كان جمال عبد الناصر لم يزل صامتاً، وصلاح سالم يؤكد أنه سيستقيل، وبغدادي لا يخفي إحساسه البالغ بالضيق، وكان الضباط الآخرون، في حالة إحباط شديد.
وتتالت التداعيات، رفع الحصار عن سلاح الفرسان، وأُفرج عن ضباطه، الذين كان قد تم التحفظ عليهم، وقد علمت فيما بعد النية قد اتجهت لمحاكمتهم عسكرياً أمام محكمة عسكرية جرى تشكيلها على وجه السرعة، وأبدى البعض ارتياحاً لانفراج الأزمة، لكنني لم أشعر بالارتياح.
لقد تكشفت النوايا، وأحسست أن هناك حالة من التربص بي، وإذا كان البعض يؤيدني فإن البعض ضدي، وبشدة.
وبدأت مخاوف عميقة تساورني، ليس على مصيري الشخصي، وإنما على مصير زملائي، في الفرسان، ومصير الثورة ككل. ولكي أكون صريحاً، فقد أحسست باحتمالات الغدر بي.
ولهذا بدأت أبيت، لعدة ليال، خارج منزلي، وأعود لبيتي، ليلة أو ليلتين، ثم أبيت لعدة ليال خارجه، وبعدها بفترة، صارحني عبدالناصر بأنه يفعل الشيء نفسه! لكنني، وعلى الرغم من ذلك، لم أفكر في اتخاذ أي موقف، ضد الزملاء، في مجلس الثورة، لقد كنت أدرك أن التصادم سوف يجر إلى مذبحة، يقتل فيها الأخوة بعضهم البعض.
وكان مجرد التفكير، في هذا الأمر، يثير فزعي، ولهذا رفضت أي عمل، من شأنه أن يثير المزيد من الشقاق، بين المدرعات وقطاعات الجيش الأخرى.
ورفضت، تحت أي ظرف، أن أتسبب في إرساء تقاليد دامية لثورتنا، التي صنعناها معاً، وتعاهدنا على أن نحافظ عليها، بلا دماء، ولا ضغائن.
وبعد هذه الأحداث، بيوم أو يومين، جاءني ضابط الفرسان أحمد حمودة، وكان من الضباط الأحرار، وقال: أنا أحمل إليك رسالة، أنا مش مقتنع بها، لكن أنا مكلف أن أحملها إليك، وأرجوك أن تستمع إليها.
وكانت الرسالة من ضابطين، من المدفعية، هما مصطفي الخشاب، وعبدالحميد لطفي، يعلنان استعدادهما لتحريك المدفعية، لعمل حركة. وقلت لحمودة مستنكراً، "يعني عايزين يعملوا انقلاباً"؟ فقال ببساطة: "انقلاب مقابل انقلاب".
ورفضت بشدة، وأرسلت تحذيراً، مع أحمد حمودة بأنني ضد أي محاولة للانقلاب، من جانب المدفعية، أو من جانب أية جهة أخرى.
كانت رؤيتي صافية في هذه الأيام بصورة غريبة، كنت أعرف السبل، بيني وبين الزملاء، قد تفرقت؛ فبعد ما قالوه، في مواجهتي، عن ضرورة عزلي، واعتقالي، أدركت أن أيامي معهم معدودة.
لقد كنت أدرك أن مسؤوليتي جسيمة، إزاء ضباط الفرسان، الذين دافعوا عني، وعن موقفي، وطالبوا معي بالديموقراطية، وبعودة الحياة النيابية، وأنني مسؤول عن منعهم من القيام بأية مغامرة.
وكنت أدرك أكثر مسؤوليتي إزاء الثورة، التي أفنيت أجمل سنوات العمر، إعداداً وتحضيراً لها، وإنه يجب وعلى الرغم من كل شيء، الحفاظ على الثورة، وحمايتها من شطط أي من الأطراف المختلفة، مع بعضها البعض.
وفوق هذا، وقبل هذا، كنت أحس بمسؤوليتي، إزاء الوطن والشعب، لقد قضيت كل سنواتي السابقة، وأنا أحلم له بالحرية والديموقراطية والعدل؛ فكيف أتسبب في فتح باب جهنم بيدي، وأبدأ بانقلاب، من المدرعات، قد يتلوه إن نجح، انقلاب آخر، ولو بعد حين.
وفي اليوم التالي لعودة محمد نجيب، تفجرت مظاهرات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف، لتعلن ابتهاجها بعودته، وبرز الإخوان المسلمون بقوة، معلنين مساندتهم له، وألقى عبدالقادر عودة خطاباً حماسياً، في المتظاهرين، معلناً تأييد الإخوان لنجيب. وبعد فترة، ذهب محمد نجيب إلى مجلس الوزراء، ليصدر بياناً فيه أنه تناسى الخلافات، من أجل مصر، وقال: إن أعضاء مجلس الثورة زملائي، وإخواني على الرغم من أي خلاف.
وكان ذلك بناء على ضغط من عبدالناصر، الذي أبلغه بضرورة إيقاف هذه المظاهرات، حتى يمكن استمرار التعاون.
وعلى الرغم من كل ما حاولت من تهدئة للأوضاع، ومحاولة إقناع ضباط المدرعات، بالهدوء، فإن عبدالناصر قد فاجأني بنصيحة غريبة: "أنصحك بأن تأخذ إجازة، ثلاثة، أو أربعة أيام"، وفهمت أن الزملاء من أعضاء مجلس قيادة الثورة يرغبون، في أن ينفردوا بالتصرف، وألا يشركوني فيما ينتوون اتخاذه من قرارات.
وأخذت إجازة، وفوجئت بإعلان قرارات 5 مارس الشهيرة.
لكنني، أود أن أشير إلى واقعة محيرة، بل لعلها ظلت تحيرني لأمد طويل؛ ففي هذه الأيام، المليئة بأحداث مضطربة، وغامضة، قابلني صحفي فرنسي مرموق، ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي، هو "روجيه استفان".
وكان بالقاهرة ممثلاً لجريدة "فرانس أوبزرفاتور" ليجري حديثاً معي، وأثناء الحديث، همس في أذني قائلاً: "سأبلغك بنبأ مهم، الدوائر الحاكمة، في الغرب، قررت مساندة جمال ضد نجيب، إنهم الآن يفضلون جمال؛ لأنه سيكون حاكماً قوياً، ومتفهماً للأوضاع، في آن واحد، أمَّا نجيب فهو حاكم ضعيف، وأمثاله سرعان ما يخضعون لضغط الجماهير.
ومكنتني هذه الهمسات من أن أعرف الاتجاه الحقيقي للريح.
وبعد إعلان عودة محمد نجيب لرئاسة الجمهورية، أرسل كتاباً إلى مجلس قيادة الثورة، نشرته الصحف، في صباح 28 فبراير 1954، وهذا نصه: "أرى، من واجبي، أن أبين لإخواني، وأبنائي المصريين، والعرب جميعاً، أنني استقلت من منصبي، بمحض إرادتي، مقتنعاً بأن مجلس الثورة، هو الهيئة، التي تركزت فيها غايتنا العليا، ورسمت أهداف الثورة السامية، التي ترمي إلى رفعة الوطن واستقلاله.
وما أقدمت على هذه الاستقالة، إلا لكي أفسخ لإخواني، أعضاء المجلس، الفرصة للعمل على تحقيق هذه المبادئ، والعمل على طرد العدو الغاصب الذي مازال يحتل جزءاً من أرضنا الطاهرة.
"وإني لأهيب، بالمصريين المخلصين، والعاملين، أن يتحدوا صفاً واحداً، خلف إخوانهم، وإخواني، أعضاء مجلس الثورة، ويعملوا معهم، جاهدين، لتحقيق هذه الأهداف السامية؛ لكي تحقق البلاد استقلالها، في أقصر وقت.
وإني لأهيب بكل وطني، من الشعب، ومن الجيش، الذي هو من الشعب وللشعب، ألا يتأثروا، وألا يقعوا فريسة لأطماع شخصية، أو أغراض تنحرف عن خدمة الوطن، فأعداؤنا كثيرون، ولا سلاح لنا، في مقاومتهم، أمضى من اتحادنا.
"وأدعو الله، مخلصاً، أن يوحد كلمتكم، مع مجلس قيادة الثورة، وأن يوفق، المجلس، وإياكم إلى تحقيق رفعة الوطن، ويبلغه أمانيه لمصر، والسودان، والشرق العربي كله.
"وإني أؤكد، لمواطنيَّ، أن قرار مجلس الثورة، عندما قبل استقالتي، لم يكن يبغي مصلحة فرد، أو أفراد، وأن رائده دائماً، في كل خطواته، وقراراته، لا يتوخى منها إلا مصلحة البلاد العليا.
"وأرجو لإخواني، قادة الثورة، التوفيق والسداد، وأناشدكم أن تسيروا معهم، صفاً واحداً، حتى يحقق الله لكم، بذلك، الاستقلال.
وحتى تصلوا إلى مثلكم العليا، التي يجب ألا تتأثر بأشخاص، أو بأفراد، فالوطن غايتكم، والمثل العليا رائدكم، وإني لأهيب بكل وطني مخلص، ألا يزج بإسمي في أية مناسبة، وألا يتخذ أحد، من استقالتي، مادة تباع وتشترى، في سبيل المصالح الشخصية، أو أطماع أعدائنا. ولا تنسوا التضحية، في سبيل الوطن، بكل شيء، حتى الأرواح، خصوصاً في هذا الوقت، الذي يجثم فيه العدو، فوق أرضنا، منتهزاً فرصة للقضاء علينا".
إمضاء- لواء أ. ح/ محمد نجيب.
لم تكن عودة محمد نجيب هزيمة لطرف من الأطراف، وانتصاراً للطرف الآخر، ولكنها كانت توفيقاً، فرضته الظروف الحساسة المتوازنة، وبداية رحلة جديدة، من المواجهة الصريحة والمستترة؛ تراكمت التناقضات القديمة وكادت تتحول إلى صدام مسلح بين قوات الجيش، لولا الحرص الشديد على تجنب إراقة الدماء.
وبدأ محمد نجيب يومه الأول بعد العودة، بالذهاب إلى قصر عابدين، حيث تدفقت المظاهرات على الرغم من بيان المجلس، الذي تكررت إذاعته، عدة مرات.
وحدث اصطدام، بينها وبين البوليس، أدى إلى إصابة 13متظاهراً، حمل المتظاهرون قمصانهم الملوثة بالدماء، يلوحون بها إلى محمد نجيب، الذي خرج يخطب، فيهم من شرفة قصر عابدين.
وعندما لمس نجيب هياج الجماهير، وارتفاع هتافات الاحتجاج، ضد الاعتداء عليهم، استدعى إليه، في الشرفة، عبدالقادر عودة، أحد زعماء الإخوان المسلمين، ليهدئ من ثائرة المتظاهرين، وخطب فيهم قائلاً أنه لم يقبل العدول عن الاستقالة، إلا من أجل الحرية والديموقراطية، والانتخابات البرلمانية.
وأبلغ محمد نجيب النائب العام للتحقيق في حادث الاعتداء على المتظاهرين.
استقالة خالد محيي الدين:
قرر مجلس الثورة كذلك، أنه مادام محمد نجيب قد عاد لرئاسة الجمهورية، فيتحتم أن يقدم خالد استقالته، فقدمها، وتقرر في الوقت نفسه، سفره خارج البلاد.
وقُضي على التمرد، في سلاح الفرسان.
وتوقفت المظاهرات، وهدأت الحال.
ولكن النفوس كانت مشحونة لتفجير الصراع في أي وقت مع الاحتمال المؤكد بأن القوى السياسية القديمة، ستنتهز الفرصة، التي لا تتكرر، بالخلاف الحاد، بين محمد نجيب، الزعيم الشعبي، وبين مجلس الثورة، الذي اضطر تحت شعبية محمد نجيب، إلى التراجع في أخطر قراراته، وهو عزل محمد نجيب.
وأحس عبد الناصر بهذا التربص، ومن ثم حصل على تفويض زملائه، بالتصرف المنفرد، وكان مقتنعاً تماماً، أنه ليس هناك قوة، تستطيع ضرب هذه القوى المتربصة، سوى القوات المسلحة، والتي أثبتت دورها الحاسم، في فض اعتصام، وتمرد، سلاح الفرسان.
عندما أصدر مجلس الثورة قراره، مساء 27 فبراير 1954، بعودة محمد نجيب، بنى قراره على أساس ثلاث اعتبارات، كالآتي:
أولاً: أن يكون نظام الحكم في مصر على أساس جمهورية برلمانية.
ثانياً: إجراء انتخابات لإعادة الحياة النيابية، في مدة أقصاها فترة الانتقال، التي تنتهي في 26يناير 1956، "لمدة ثلاث سنوات".
ثالثاً: تشكيل جمعية تأسيسية، تمثل قوى الشعب المختلفة، وتقوم بمهمة البرلمان المؤقت، لتراجع نصوص الدستور، بعد وضعه.
رواية خالد محيي الدين عن اجتماع الميس الأخضر:
"عاصفة مارس 1954"
يقول خالد محيي الدين: "كانت وقائع اجتماع "الميس الأخضر"، وهو ميس الآلاي الثاني مدرع، بسلاح الفرسان "المدرعات"، بالغة الأهمية، بل كانت، إلى حد ما، ذات تأثير حاسم في مجرى الأحداث، وربما في مجرى الثورة ككل.
تواترت إلى مسامع عدد، من ضباط سلاح الفرسان، أنباء عن خلافات، بين مجلس قيادة الثورة ونجيب، ثم وصل إليهم نبأ قبول استقالة نجيب، ومد فترة الانتقال.
وقد أثارت هذه الأخبار هواجس، ومخاوف، العديد من ضباط الفرسان، وخاصة بعد أن تأكد لهم، عن طريق حسين الشافعي، صحة الخبر.
كان ضباط الفرسان ضد مد فترة الانتقال، الذي يعني، بالضرورة، عدم عودة الحياة النيابية، وافتقاد الديموقراطية.
وكانوا يتفقون معي، ومنذ زمن، على هذه المبادئ الأساسية، وحاولوا الاتصال بي، عندما علموا بالأمر، فلم يستطيعوا، فاتصلوا بحسين الشافعي، في مقر القيادة، فدعاهم إلى إرسال وفد من ضباط الفرسان للتفاهم.
أوفد الفرسان ثمانية ضباط: أحمد المصري، أحمد سامي ترك، أحمد إبراهيم حمودة، محمود حجازي، فاروق عزت الأنصاري، عبدالفتاح علي أحمد، فتحي الناقة وعبدالله فهمي.
ذهب الضباط الثمانية ليجدوا مقر القيادة، وغرفة القائد العام، مكتظة بالغاضبين، من ضباط الأسلحة الأخرى: المدفعية، المشاة الخ، وشاهدوا كم هي متشددة مواقفهم، ضد محمد نجيب.
وسمعوا أصواتاً تندد بنجيب، وتصيح علناً: "اطردوه، اعتقلوه، اقتلوه".
وأحسوا أن سيادة مثل هذا التيار تعني بالضرورة إجهاض أية محاولة لعودة الحياة النيابية، أو عودة الديموقراطية.
ودخل الضباط الثمانية إلى قاعة الاجتماعات حيث كان هناك حشد من ضباط الأسلحة الأخرى، ولحق بهم جمال سالم، صلاح سالم، عبداللطيف بغدادي، حسين الشافعي.
وبدأ جمال سالم في الحديث قائلاً: "يا حضرات، إحنا خلاص زهقنا من الراجل، اللي اسمه محمد نجيب، فنحن، منذ ثمانية شهور، على خلاف مستمر معه، ولن نستطيع الاستمرار هكذا.
إن ذلك كله يتم على حساب أعصابنا وعائلاتنا، ولن نستطيع احتمال المزيد".
وقال صلاح سالم: "إن الموقف، يا حضرات الضباط، يمكن أن يتلخص في اختيار أحد ثلاثة حلول، لا رابع لها، فمحمد نجيب وضعنا، ووضع البلد، في مأزق باستقالته، وهو يطلب أن تكون له سلطة مطلقة، وله حق الفيتو على ما نتخذه من قرارات، أي أنه يريد أن يكون ديكتاتوراً، وحاكماً مطلقاً.
ولهذا فليس، أمامكم، إلا أن تختاروا أحد ثلاثة حلول:
الحل الأول: أن نفرض وفاقاً، بين مجلس الثورة ونجيب، لمدة أخرى، وهذا بالنسبة لنا غير ممكن، ولهذا نستبعد هذا الحل.
والحل الثاني: أن ينسحب مجلس قيادة الثورة، ويترك الحكم لنجيب، ليحكم البلاد حكماً ديكتاتورياً مطلقاً، ونعود نحن إلى وحداتنا، في الجيش، من جديد.
أما الحل الثالث: فهو أن نقبل استقالة نجيب، ويواصل مجلس الثورة، تحمل الرسالة، وأداء الأمانة التي في عنقه".
وتابع ضباط الفرسان الثمانية هذا العرض، الذي لا يتيح سوى مخرج واحد، هو إبعاد نجيب.
وتابعوا عاصفة الرفض، من الضباط المحتشدين، إزاء الافتراضين: الأول والثاني، وموجة الاستحسان للاقتراح الثالث.
وشعروا بأن هناك تبايناً شديداً، بين موقفهم وموقف الآخرين، وطلب محمود حجازي "فرسان" الكلمة، وقال: "لقد سمعنا رأي مجلس الثورة في نجيب، ولكن لم نسمع من نجيب رأيه في مجلس الثورة، وأنا أعتقد أن نجيب شخصية محبوبة من الجماهير، وينظر الناس إليه على أنه رجل طيب، والمفروض أن نسمع كذلك من نجيب". وانفجر جمال سالم غاضباً: "البلد بتتحرق، وانتم عايزين تعملوا تحقيق".
قال أحمد المصري "فرسان": "نحن نعلم أن، لنجيب، مؤيدين، في صفوف الجيش، وربما كان البلد كله يؤيده، ولا شك أننا، جميعاً، نعرف ما تعانيه سورية، من انقلابات، وانقلابات مضادة، وهذا ما نأمل أن نجنب مصر الوقوع فيه.
ولا مخرج لنا إلا الديموقراطية، فالديموقراطية، هي التي ستحمينا، من مثل هذه المواقف الصعبة، وتحمينا من الانقلابات العسكرية، ونحن، في سلاح الفرسان، نجد أن قبول الحل الثاني، أو الثالث أمر غير مفيد، ومرير على النفس.
ونعتقد أنه من الممكن التوصل إلى توافق، بين محمد نجيب ومجلس الثورة، لفترة نستطيع أن نبني فيها أسس حكم ديموقراطي ونيابي، قائم على إطلاق الحريات، وتعدد الأحزاب، وحرية الصحافة، ومن جانبنا، فإننا نحن، ضباط الفرسان، على أتم استعداد أن نبذل جهدنا لإقناع نجيب بالعودة، على أساس التخلي، عن أية مطالب، أو شروط غير مناسبة."
يتبع إن شاء الله...