قانون الإصلاح الزراعي (9 سبتمبر 1952)
لم تكن فكرة الإصلاح الزراعي أمراً جديداً، في الحياة المصرية، بل أن أصواتاً ارتفعت تطالب بتحديد الملكية، على صفحات الصحف، وداخل قاعة البرلمان، في فترة حكم فاروق.
نشر كتيباً فيه مشروع مريت غالي عن الإصلاح الزراعي، يتضمن تحديد الملكية، بمائتي فدان، بعد أن تستولي الحكومة على ما يزيد عن هذا الحد، من الملكيات القائمة.
كما أصدر صادق سعد، أحد كتاب مجلة "الفجر الجديد" الماركسية، كتيباً عام 1945، باسم (مشكلة الفلاح)، عرض فيه حال الفلاحين في مصر، من وجهة النظر الماركسية.
وحدد ثلاثة مطالب للإصلاح الزراعي، هي:
تحديد الملكية الزراعية، وتوزيع ما يزيد عن خمسين فدان، على الفلاحين الفقراء.
تشجيع زيادة الإنتاج، عند هؤلاء الفلاحين، عن طريق تشجيع الجمعيات التعاونية الإنتاجية.
حماية الطبقة الفلاحية، بإصدار التشريع الفلاحي.
وتقدم محمد خطاب عضو مجلس الشيوخ، وعضو الهيئة السعدية، بمشروع لتحديد الملكية، بحد أقصى خمسين فداناً، على أن يتم ذلك، من دون تأميم أو مصادرة.
وإنما بتفتيت الوراثة، وعدم السماح بزيادة الملكية.
وأُحيل المشروع إلى لجان لدراسته، داخل مجلس الشيوخ، ونوقش في جلسة 26 يونيه 1945، ولكنه بقي معلقاً حتى خرج محمد خطاب من مجلس الشيوخ، ورفض النقراشي تعيينه مرة أخرى في المجلس، ولما رشح نفسه عام 1947 في دائرة عابدين، أسقطته الحكومة.
ورغم أن محمد خطاب لم يدعُ، في المشروع، إلى المصادرة أو التأميم.
وإنما دعا إلى الحد من تضخم الملكية الزراعية، ووقف نموها الإقطاعي، في حدود احترام الدستور، الذي كانت تنص المادة التاسعة منه، على: "إن الملكية حرمة، فلا يُنزع من أحد ملكيــة إلا بسبب المنفعة، في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية المنصوص عنها فيها.
وبشرط تعويضه تعويضاً عادلاً"؛ فإن المعارضة له كانت عنيفة وحاسمة، من جانب الإقطاعيين والحكومة، فقد وجدوا في الحديث عن تحديد الملكية، صدمة شديدة لهم.
ولم يكن مشروع محمد خطاب هو نهاية الحديث عن الإصلاح الزراعي قبل 23 يوليه 1952، كذلك قدم النائب إبراهيم شكري، عضو حزب مصر الفتاة أو الاشتراكي فيما بعد مشروعاً إلى مجلس النواب، مطالباً بتحديد الملكية بخمسين فداناً، وذلك تجاوباً مع برنامج الحزب، الذي صدر عام 1949.
ولكن المشروع لم ير النور كذلك.
كان موقف الإقطاعيين من هذه المشروعات، في غاية الضراوة والشراسة، وفي مقدمتهم الملك فاروق، الذي ورث عن والده فؤاد 15 ألف فدان، زادها إلى 48 ألف فدان.
وسيطر على نحو 45ألف فدان من أراضي الأوقاف.
يعود تاريخ الإقطاع في مصر، إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر عندما أعاد محمد على توزيع الأراضي الأميرية، على أقاربه، وكبار الأعيان، والموظفين، وضباط الوحدات الكردية، والجركسية والتركية.
وزع، خلال مدة قصيرة، مئات الألوف من الأفدنة، مع من كان يقطنها من الفلاحين.
ومن ثم صار ملاك هذه الأرض يدفعون ضريبة العُشر منذ عام 1854.
وهكذا أنشأ محمد علي طبقة جديدة من النبلاء الإقطاعيين، الذين أصبحوا سند الأسرة الحاكمة الجديدة.
كان الخديوي إسماعيل مثلاً، يملك، يوم توليه الحكم، 15 ألف فدان.
وأصبح، بعد 17 سنه، يملك 590 ألف فدان استولت عليها الحكومة بعد عزله.
وكان الملك فؤاد يملك عند توليه الحكم عام1917، ثمانمائة فدان، بلغت يوم وفاته، عام 1936، حوالي 28 ألف فدان.
وهكذا اتسعت ملكية هذه الطبقة.
وزادت سيطرتها على الأرض، حتى أن (27) مالكاً، من أسرة محمد علي، كانوا يمتلكون حوالي (143ألف) فدان، خلاف أراضي الأوقاف.
أما الملك، والأسرة والأوقاف، والأصهار، فكانوا يملكون عام 1939، حوالي نصف مليون فدان، وكان 13 ألف مالك يملكون حوالي مليونين ونصف مليون فدان، من إجمالي الأرض الزراعية البالغة ستة ملايين فدان.
ويوضح الإحصاء التالي صورة لما كان عليه توزيع الأرض في مصر قبل عام 1952:
كانت مساحة الأرض المنزرعة 5.962.662 فداناً، وكان مجموع ملاكها 2.760.661 مالكاً.
أما بالنسبة إلى الملكيات الصغيرة فكانت كالتالي:
1.459.167 مالكاً يملك كل منهم لغاية نصف فدان مجموع ملكياتهم 413.551 فداناً.
522.162 مالكاً يملك كل منهم أكثر من نصف فدان ومجموع ملكياتهم 356.695 فداناً.
327.612 مالكاً يملك كل منهم أكثر من فدان إلى فدانين ومجموع ملكياتهم 449.186 فداناً.
153.293 مالكاً يملك كل منهم أكثر من اثنين لغاية ثلاث أفدنة ومجموع ملكياتهم 354.855 فداناً.
81.366 مالكاً يملك كل منهم أكثر من ثلاثة لغاية أربع أفدنة ومجموع ملكياتهم 247.017 فداناً.
56.589 مالكاً يملك كل منهم أكثر من أربعة لغاية خمس أفدنة ومجموع ملكياتهم 247.017 فداناً.
ومعنى ذلك أن 280 مالكاً كانوا يملكون 583.400 فداناً ومجموع ملكياتهم 7% من الأراضي المنزرعة.
وأن 2.308.951 مالكاً يملك كل منهم أكثر من فدانين ومجموع ملكياتهم 1.230.062 أي أن 84% من الملاك يملكون 21% من الأرض.
وأن 2.600.199 مالكاً لا يملك كل منهم أكثر من خمس أفدنة.
ومجموع ملكياتهم 2.101.276 فداناً أي أن 94% من الملاك يملكون 35% من الأرض.
وإذا نظرنا إلى الملكيات الكبرى فإننا نجد أن:
61 مالكاً كان يملك كل منهم أكثر من 2000 فداناً ومجموع ملكياتهم 277.208 فداناً.
28 مالكاً كان يملك كل منهم أكثر من 1500 فداناً إلى 2000 فداناً ومجموع ملكياتهم 97.454 فداناً.
92 مالكاً كان يملك كل منهم أكثر من 800 فداناً إلى 1000 فداناً ومجموع ملكياتهم 86.483 فداناً.
ومعنى ذلك أن 280 مالكاً كانوا يملكون 583.400 فداناً.
أي أن 1 /10.000 من الملاك يملكون حوالي 10% من الأرض.
وإذا نظرنا إلى الملكيات التي تزيد على 200 فدان فإننا نجد أن:
2215 مالكاً يملكون 1.208.493 فداناً.
أي أن 8/10.000 من الملاك يملكون 19% من الأرض.
وكانت هذه الطبقة قد ثبتت، في نفوس الفلاحين، أن ملكيتهم تعتبر حقاً ربانياً، لا يجوز الاعتداء عليه، وقد تبنى هذه العقيدة، وروَّج لها الإخوان المسلمون، الذين لم يطالبوا مطلقاً بتحديد الملكية، وإنما طالبوا، على لسان مرشدهم حسن الهضيبي، المشرف على أطيان الملك، عندما سأله مندوب صحيفة (شيكاغو ديلى نيوز)، في أبريل 1952، عن الإصلاح المطلوب بالنسبة للفلاحين، فقال: "يجب ألا يسمح لملاك الأراضي بأن يؤجروا أراضيهم للفلاحين، نظير مبالغ ثابتة، بحيث إذا طرأ ما يؤثر في المحصول، وقع الفلاحون في الدَّين.
يجب أن يقوم إيجار الأرض، على أساس نصيب غلتها، وبهذا يحصل المستأجرون، على الأقل، على جزء من مجهودهم".
كانت فكرة (الإصلاح الزراعي) ترد في أحاديث المسؤولين الأمريكيين، الذين تدفقوا على مصر، بعد حريق القاهرة، كانوا يطلبون إصلاحات اجتماعية، تمنع اشتعال ثورة.
وانبرى الدكتور أحمد حسين، أحد المقتنعين بهذه السياسة، والشديد القرب من الأمريكيين يدعو إلى الإصلاحات الاجتماعية، ويشكل جمعية الفلاح، ويطلب من علي ماهر، أن يدعو الملك إلى التنازل عن نصف أرضه للشعب.
كما طالب أحمد حسين، الدولة بالتدخل لوضع حد أدنى لأجور العمال.
كتب إحسان عبد القدوس، في روزاليوسف، خلال شهر مايو 1952، يشيد بالدكتور أحمد حسين، ويدعوه إلى تحويل جمعية الفلاح إلى حزب، ولكن الدكتور أحمد حسين فضَّل ألا يحول جمعيته إلى حزب، حتى لا تصطدم بالأحزاب الأخرى، وحتى يتاح للموظفين والمثقفين، والإداريين، فرصة الانضمام إليها.
ووضح من اتصال الأمريكيين، برجال السياسة المصرية، أن الإصلاح الزراعي كان أحد العروض، التي يقترحونها، وقد اتصلوا بمصطفى مرعي قبل 23 يوليه، ورفض الموافقة على فكرتهم، في تحديد الملكية، عن أي طريق، يتعارض مع الدستور.
واقترح تطويراً لمشروع محمد خطاب.
عندما قامت ثورة 23 يوليه، كانت تحمل القضاء على الإقطاع، هدفاً من أهدافها. ولكنها لم تكن قد أعدت لذلك مشروعاً، ولم تكن فكرة المشروع، الذي قدمه للضباط الدكتور راشد البراوي، محل موافقة جماعية، من جميع ضباط مجلس القيادة؛ اعترض عليه محمد نجيب في البداية، لأنه يعمد إلى تأميم الأرض ومصادرتها، وهو ما يتنافى، في رأيه، مع روح الدستور، الذي أعلنت الحركة قيامها في ظله. كما انه كان ميالاً إلى فرض ضريبة تصاعدية، لا تجبر الدولة على خلق أجهزة إدارية معقدة لتنفيذ المشروع.
ولكن اتساع المناقشة أوضح له أن قانون الإصلاح الزراعي لا يستهدف ضرب الإقطاع، بزيادة أعبائه المادية فقط، وإنما يستهدف تحرير الفلاح، الذي يعيش فوق الأرض تابعاً لصاحبها، الأمر الذي يخلق قوة سياسية للإقطاعيين، بنفوذهم على الفلاحين. وهنا وافق محمد نجيب على مشروع الإصلاح الزراعي، بلا تردد [2].
وعرض جمال سالم صيغة المشروع، التي أعدها مع الدكتور راشد البراوي، وأحمد فؤاد، على الدكتور عبدالرازق السنهوري، وسليمان حافظ، الذي قال في مذكراته: إن السنهوري قد رحب بالفكرة "فقد كانت له نزعة واضحة إلى الاشتراكية، وضع، في ظلها، مشروع تنقيح القانون المدني، فجاء اشتراكي الطابع". وشكل السنهوري لجنة عكفت بضعة أيام، ليلاً ونهاراً، حتى أنجزت مشروع القانون. وعرضه مجلس القيادة على علي ماهر، الذي أبدى موافقته عليه من ناحية المبدأ. ولكنه لم يعرضه على مجلس الوزراء، لما قوبل به القانون من نقد ومعارضة الإقطاعيين، من مختلف الاتجاهات.
تحديد نصاب الملكية الزراعية
نص قانون الإصلاح الزراعي على أنه لا يجوز لأي شخص أن يمتلك، من الأراضي الزراعية، أكثر من مائتي فدان، وله، فوق ذلك، أن يتصرف إلى أولاده، في مساحة أخرى لا تزيد عن مائة فدان.
وللشركات والجمعيات أن تمتلك أكثر من مائتي فدان، من الأراضي التي تستصلحها لبيعها.
ويجوز كذلك للأفراد أن يمتلكوا أكثر من مائتي فدان، من الأراضي البور والأراضي الصحراوية لاستصلاحها، ويجوز للشركة الصناعية أن تمتلك مقداراً من الأراضي الزراعية، يكون ضرورياً للاستغلال الصناعي، ولو زاد على مائتي فدان.
وتستولي الحكومة على الزائد عن هذا النصاب، وحُددت فترة الاستيلاء بخمس سنوات، من تاريخ العمل بهذا القانون.
ويبدأ الاستيلاء على أكبر الملكيات الزراعية.
ولا يعتد بتصرفات المالك عموماً، منذ يوليه 1952، وتصرفاته لفروعه، منذ يناير 1944.
وقُدر ثمن الفدان، من الأراضي المستولى عليها، بعشرة أضعاف القيمة الايجارية، وقُدرت القيمة الايجارية بسبعة أمثال الضريبة المفروضة على الفدان.
وأجاز القانون للمالك، في خلال خمس سنوات، أن يتصرف بنقل ملكية ما لم تستول عليه الحكومة من أطيانه، الزائدة، على مائتي فدان، إلى صغار الزراع، الذين تكون حرفتهم الزراعة، ولا يزيد ما يملكه كل منهم على عشرة أفدنة.
وللمالك، الذي تستولي الحكومة على الزائد من ملكه، الحق في تعويض، تؤديه له الحكومة، يعادل عشرة أمثال القيمة الايجارية لهذه الأرض، مضافاً إليها قيمة المنشآت الثابتة، وغير الثابتة والأشجار.
وتقدر القيمة الايجارية بسبعة أمثال الضريبة الأصلية، ويؤدى التعويض سندات على الحكومة بفائدة سعرها 3%.
وتستهلك في خلال ثلاثين عاماً، وللملاك أن يؤدوا، من هذه السندات، ضريبة التركات، والضرائب الإضافية على الأطيان، وثمن الأراضي البور، التي قد يشترونها من الحكومة لاستصلاحها.
وتوزع الأراضي المستولى عليها، على صغار الفلاحين، بحيث يكون لكل منهم ملكية صغيرة، لا تقل عن فدانين، ولا تزيد على خمسة أفدنة.
ويشترط، فيمن توزع عليه الأراضي، أن يكون مصرياً، حرفته الزراعة، وأن يقل ما يملكه عن خمسة أفدنة، وتقدر ثمن الأرض الموزعة بمبلغ التعويض، الذي تؤديه الحكومة، في سبيل الاستيلاء عليها، مضافاً إليه فائدة سنوية 3%، ومبلغ إجمالي قدره 15%، ويؤدى الثمن أقساطاً سنوية متساوية، في مدى ثلاثين عاماً.
الإقطاعيون والعنف
بعد ثلاثة أيام من صدور قانون الإصلاح الزراعي، قامت حركة تمرد، بزعامة عدلي لملوم، الذي كان يملك ما يقرب من ألفي فدان من أجود أراضي صعيد مصر.
كان يُحكي عن والده الأساطير والقصص الخيالية.
كان حاكماً مستقلاً له الكلمة العليا على كل من يقطن في أراضيه، وكان الفلاحون عبيداً له.
كانت إقطاعيته دولة داخل دولة، فهو يقضي بين الناس، ولديه سجن خاص، يعاقب فيه من يخرج عن طاعته.
وورث لملوم الشاب ملك أبيه، في "منشأة لملوم"، التي تبعد عن مغاغة، بمسافة عدة كيلومترات.
وباندفاع الشاب، في يوم 13 سبتمبر عام 1952، قاد عدلي لملوم خمسة عشر رجلاً، من أتباعه، على صهوات خيولهم ودخلوا المدينة كالغزاة، فخاطب لملوم الناس في المقاهي، وهدد من يحاول أن يأخذ شبراً واحداً من أراضيه".
عاود عدلي لملوم، الكرة، في اليوم التالي، ولم يكتف بالخطابة، بل اتجه نحو مركز الشرطة، وأخذ يطلق، هو ورجاله، نيران مدافعهم الرشاشة والبنادق، في الهواء للإرهاب.
وصدرت الأوامر إلى مركز البوليس بالتصدي لهذه الفوضى، فتم تبادل إطلاق النار، بين رجال الشرطة ورجال عدلي لملوم، وخر فرد، أو أكثر صرعى، فاستنجد عدلي لملوم بقوة أخرى، من رجاله، وأصبح الأمر معقداً.
وكان لابد للثورة أن تتخذ موقفاً حاسماً من هذه الفوضى.
وإلا وئد مشروع الإصلاح الزراعي في مهده، فلما عُرف بأن عدلي لملوم استمرأ هذا العدوان، وحاول قتل ضابط الشرطة، لم تجد الثورة بداً من القضاء على هذه الفتنة، فتم اعتقال عدلي لملوم ورجاله، ثم قدم عدلي لملوم أمام محكمة عسكرية عاجلة في المنيا، فقضت بسجنه خمس وعشرين عاماً بالأشغال الشاقة.
رأس المجلس العسكري حسين الشافعي.
وكان الأعضاء: عبد المحسن أبو النور وحسن فكري الحسيني والصاغ أحمد عبد الله طعيمة واليوزباشي فتح الله رفعت والمدعي العام الصاغ عبده مراد.
كان هذا التصدي الحاسم من جانب الثورة لتمرد كبار الملاك السافر، بمثابة درس لهم، أيقنوا منه أن سبيل استخدام العنف لا جدوى منه، فالسلطة تستطيع أن تكبح جماح أي قوة تخرج عن القانون، وتقضي على أي تمرد غير منتظم.
وكان قانون الإصلاح الزراعي أول مشروع إصلاحي للثورة، فلو أخفق فعلى الثورة أن تسلم، وتترك للقوى القديمة، زمام تسيير الأمور.
ومن ثم بدأ كبار الملاك يفكرون في سبيل آخر، يعرقلون به تنفيذ هذا المشروع، ووجدوا سبل التحايل على القانون، خير وسيلة لتحقيق مآربهم؛ إذ حاولوا طرد الفلاحين المستأجرين للأرض، منذ مدد طويلة، عن طريق إرسال إنذارات إليهم، والحصول على توقيعاتهم، وبذا يصبح من حقهم استصدار أحكام قضائية، بطردهم من الأرض".
وكان قانون الإصلاح الزراعي قد أباح للملاك أن ينذروا الفلاحين، كما أحس الملاك أن القيمة الإيجارية، التي حددها القانون، مجحفة بهم، ومن ثم وجدوا أن من الأجدى لهم أن يتولوا زراعتها.
كان أصحاب الأرض، قبل صدور القانون، يؤجرون الأرض، وفقاً لقانون العرض والطلب.
ووصلت قيمة إيجار الفدان، في بعض المناطق المزدحمة بالفلاحين، إلى خمسين أو ستين جنيهاً.
وكان الكثير من الفلاحين يدفعون هذه القيمة الإيجارية مقدماً؛ فلما جاء القانون، وحدد القيمة الإيجارية، بسبعة أمثال الضريبة، هبطت هذه القيمة إلى النصف أو الثلث.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ظن الفلاحون أن الأرض أصبحت ملكهم، فتقاعس كثير منهم عن تسديد الإيجار
وهكذا ساد التوتر العلاقة، بين الفلاحين وكبار الملاك.
في خضم هذه الظروف نشطت التنظيمات الشيوعية، مثل "حدتو"، و"الحزب الشيوعي المصري"؛ فأصدر الأول صحيفة "صوت الفلاحين"، بهدف توعية الفلاحين بحقوقهم، التي كفلها قانون الإصلاح، وتوضيح أسلوب مقاومة تعسف ملاك الأرض. وحاول الفلاحون أن يستولوا على الأرض، التي يضعون أيديهم عليها، وكثيراً ما كان يردد الفلاحون القول بأن الثورة منحتهم الأرض يزرعونها، فهم الأصحاب الحقيقيون لهذه الأرض، ومن ثم فالملاك، الذين يستغلون عملهم، لا يستحقون عن هذه الأرض إيجاراً، أو محصولاً.
وقد أزعج قيادة الثورة هذه الحالة من التوتر، فأسرعت بإنذار من أطلقت عليهم، "ذوى الميول المتطرفة"، واتهمتهم بأنهم يشيعون الفوضى بين الفلاحين، ويحرضونهم على عدم دفع مستحقات الإيجار للملاك، وعدم تنفيذ الالتزامات التي ينص عليها القانون، والتي تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر.
وكان نشاط العناصر اليسارية قد بث، بين الفلاحين، أنهم أصحاب الأرض الحقيقيون، وبدأت، تظهر، في الأفق، مظاهر لم يكن أحد من أهالي المنطقة يستطيع أن يقوم بها قبيل الثورة.
ومهما كان الأمر، فكان لابد أن يقع الصدام بين كبار الملاك والفلاحين، وكانت بلدة كمشيش، في محافظة المنوفية، أول قرية ظهر فيها الصراع، بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
فهناك كانت تعيش عائلة الفقي، التي استطاعت، على مر الأجيال، أن تستولي على ما يزيد على نصف مساحة الأرض في هذا الزمام، والتي تبلغ ما يقرب من ألفين وخمسمائة فدان.
وبالطبع كان أصحاب الأرض يسيطرون على القوى السياسية، وعلى أصوات الفلاحين المستأجرين للأرض.
ففي أحد المآتم في بلدة كمشيش، قام طالب يخطب أهل كمشيش، بعد انتهاء العزاء بقوله: "يا أهل كمشيش، لقد آن لنا أن نسترد أرضنا، التي اغتصبها منا العمدة وأسرته.
إن أسرة العمدة أخذت أرضكم في حوض الائتمان.
إن حكومة السعديين كانت تحمي هذه الأسرة، وتتستر على طغيانها واستبدادها".
وساد التوتر المنطقة وانتهز الفلاحون فرصة مرور بعض ضباط الثورة، على المنطقة في طريقهم إلى قرية زاوية البقلي، قرية القائمقام أحمد شوقي، ليصطفوا على طول طريق الموكب، ليهتفوا لرجال الثورة، وليهتفوا بسقوط الإقطاع.
كان صلاح الفقي هو عمدة كمشيش، ووالده أحمد الفقي عضو برلمان سابق.
ومن ثم انتظر رجالها عودة الفلاحين، الذين اصطفوا على الطريق، ليحيوا رجال الثورة، وساقوهم إلى دوار العمدة، وأذاقوهم عذاب الضرب المبرح.
ولم يسكت الفلاحون، بل اتجهوا إلى أقرب نقطة شرطة من قريتهم، وهي نقطة البتانون، ولأول مرة يتجاسرون، فيشكون العمدة ووالده.
ومن ثم قرر العمدة الانتقام.
أطلق رجال عائلة الفقي النار على الفلاحين، فسقط منهم أربعة عشر قتيلاً.
وقامت الدنيا في القاهرة.
وبدأت النيابة التحقيق، وأرسلت الصحافة مندوبين لإجراء تحقيقات صحفية، عما يدور.
كان حادث كمشيش بمثابة الفتيل، الذي أشعل الصراع، في مناطق أخرى بالريف؛، فنشبت معارك عنيفة في الشرقية، والغربية، والدقهلية، سقط فيها بعض الفلاحين.
وقبض، في إحدى المعارك، في قرية ميت أبو الحسن، على سبعين فلاحاً، ولكن النيابة أطلقت سراحهم.
وانتصر الفلاحون بتنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، وأدرك كبار الملاك عدم جدوى العنف، فأخذوا في التحايل، فمثلاً حينما بدأ تنفيذ المشروع، وقدرت اللجنة العليا للإصلاح الزراعي الأرض، التي سيتم الاستيلاء عليها، عمد كبار الملاك إلى تعطيل آلات الري، وإلى التوقف عن إمداد الفلاحين بما كانوا يحتاجونه، من سماد وبذور، ونفقات الحرث، والري، في وقت كان الموسم الزراعي لا يحتاج إلى أدنى تسويف.
كما عمد كبار الملاك إلى رفع قضايا، أمام مجلس الدولة، وأمام المحاكم العادية، مطالبين بإلغاء قرار الاستيلاء على أراضيهم.
ضرب الإقطاعيين
كانت الحركات الشيوعية، والأحزاب الوطنية، التي لم تصل إلى مقاعد الحكم، قبل 23 يوليه، (الاشتراكي والوطني الجديد) أشد التنظيمات السياسية حماساً للمشروع.
وأمَّا الوفد، فقد صاحب إعلان موقفه، موجة من الضباب، والدعاية المضادة. ومعروف أن الوفد كان قد قرر مبدأ الضريبة التصاعدية، وضاعف في وزارته، عام 1950 جميع الضرائب، بما فيها الضرائب العقارية لتزيد 100%. ووصل في ضرائب الشركات إلى 90%، في الفئات العالية.
وكان الإعلان عن قانون الإصلاح الزراعي مفاجأة لأعضائه، الذين ينتسب عدد منهم إلى الطبقة الإقطاعية. فبدأوا يتلمسون الحوار مع رئيس الوزراء علي ماهر، ومع ضباط القيادة للتعرف على أبعاد القانون.
كان فؤاد سراج الدين قد طلب تحديد موعد، مع محمد نجيب، عقب عودته من أوروبا.
ولكن أحد أقاربه، اليوزباشي عيسى سراج الدين، (السفير فيما بعد) دعاه إلى منزله في الزيتون لمقابلة جمال عبدالناصر، وجمال سالم، وصلاح
وحضر أحمد أبو الفتح جانباً من الاجتماع، الذي امتد من الخامسة مساءً، حتى الواحدة بعد منتصف الليل.
دار الحوار، في هذه الجلسة، حول تحديد الملكية. وحاول فؤاد سراج الدين إقناعهم بفكرة الضريبة التصاعدية.
ولكن الاجتماع انفض، من دون الوصول إلى رأي موحد، وعلى أن يلتقوا مرة ثانية، بعد أسبوع.
وفي اليوم المحدد للاجتماع الثاني، وبينما كان فؤاد سراج الدين في طريقه، من الإسكندرية إلى القاهرة، قرأ خبراً نشره مصطفى أمين، في ملحق (آخر لحظة)، التابع لمجلة (آخر ساعة)؛ وفيه يقول إن فؤاد سراج الدين صرَّح بأنه وضع ضباط القيادة في جيبه، وتوقَّع فؤاد، بعد قراءته للخبر، إلغاء الاجتماع وقد كان؛ فقد اتصل به أحمد أبو الفتح ليبلغه ذلك.
ولم يشأ الوفد أن يترك موقفه، من قانون الإصلاح الزراعي، غامضاً؛ فأدلى فؤاد سراج الدين بتصريح لجريدة المصري، يوم 6 سبتمبر 1952، قبل تولي نجيب الوزارة، وقبل اعتقاله بأيام، قال فيه بالتحديد: "إن الوفد وافق على مبدأ تحديد الملكية الزراعية، من حيث المبدأ، وله ملاحظات وتعديلات على المشروع، الذي نشر وقد سبق أن أبلغنا تلك الملاحظات إلى الجهات المسؤولة، في أسرع وقت.
إننا نوافق على المبدأ، الذي هو صميم المشروع، أما ملاحظاتنا فهي مقصورة على التفاصيل فقط، دون الجوهر".
وتأكد موقف الوفد، بعد ذلك، عندما أصدر برنامجه الجديد، يوم 21 سبتمبر 1952، وفؤاد سراج الدين في المعتقل، يقول فيه: "الموافقة على مشروع تحديد الملكية باعتباره يهدف للعدالة الاجتماعية، ويقرِّب بين الطبقات".
هكذا كان موقف الوفد: موافقة على المبدأ، ومناقشة للتفصيلات، ثم قبولاً للمشروع، بعد صدوره.
هكذا انتهى الصدام الأول لحركة الضباط الأحرار، مع الطبقة الإقطاعية في مصر.
وصدر قانون الإصلاح الزراعي، الذي حدد الملكية. وكسبت حركة الضباط الأحرار رصيداً كبيراً، بهذه الخطوة الاجتماعية الخطيرة، التي حددت موقفهم من قضية التطور الاجتماعي في مصر، وأكسبتهم تأييداً جماهيرياً واسعاً، تفرغت معه الحركة للدخول في صدامات جديدة. فقد كانت هذه هي فاتحة (سنوات الصدام).