القاعدة الثانية عشر:
ما لم يرد في الكتاب والسنة ولم يؤثر عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من الاعتقادات فهو بدعة [1].
ومما يدخل تحت هذه القاعدة ما يأتي :
1- علم الكلام [2] .
فقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن أهل الكلام مبتدعة فقال :
أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم [3] .
وإليك فيما يأتي شذرات من أقوال السلف تقرر ذلك :
قال مالك :
لو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون ، كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل [4] .
وقال أحمد :
وكل من أحدث كلامًا لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة ؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير [5] .
وقال البربهاري :
وما كانت قط زندقة ولا بدعة ولا هوى ولا ضلالة إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس .
وهي أبواب البدع والشكوك والزندقة [6] .
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي :
إن فلانًا صنَّف كتابًا يرد فيه على المبتدعة .
قال : بأي شيء ؟ بالكتاب والسنة ؟ قال : لا . لكن بعلم المعقول والنظر . فقال : أخطأ السنة ، وردَّ بدعة ببدعة [7] .
وعلم الكلام يشمل المسائل والدلائل ، والابتداع حاصل فيهما .
قال ابن أبي العز :
وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع ، ويعرضون عن الأمر المشروع [8] .
أ . فمن المسائل المبتدعة :
القول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر [9] .
ب . ومن الدلائل المبتدعة :
الاستدلال بطريقة الأعراض وحدوثها على إثبات الصانع [10] .
2- الطرق الصوفية .
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]ذلك أن الصوفية في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة، ولا عمل بأمثالها السلف الصالح، فيعملون بمقتضاها، ويثابرون عليها، ويُحَكِّمونها طريقًا لهم مهيعًا، وسنة لا تخلف، بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال [11] .[/b]
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشاطبي حيث يقول :
ومن ذلك :
أشياء ألزموها المريد حالة السماع ، من طرح الخرق ، وإن من حق المريد ألا يرجع في شيء خرج منه البتة ، إلا أن يشير عليه الشيخ بالرجوع فيه ، فليأخذه على نية العارية بقلبه ، ثم يخرج عنه بعد ذلك من غير أن يوحش قلب الشيخ ، إلى أشياء اخترعوها في ذلك لم يعهد مثلها في الزمان الأول [12] .
قال ابن رجب :
ومما أحدث من العلوم : الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق أو الكشف ، وفيه خطر عظيم .
وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره [13] .
3- التعرض للألفاظ المجملة بالإثبات أو النفي بإطلاق .
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]كلفظ الجهة و الجسم و العرض .[/b]
وقال ابن تيمية :
فلم ينطق أحد منهم [ أي السلف ] في حق الله بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا ، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك ؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقًا ولا تبطل باطلاً... بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة [14] .
أما طريقة السلف في التعامل مع الألفاظ المجملة فقد بيَّنها ابن أبي العز بقوله :
والألفاظ التي ورد بها النص يُعتصم بها في الإثبات والنفي: فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني ، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني .
وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى يُنظر في مقصود قائلها :
فإن كان معنى صحيحًا قُبل ، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد.
والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطَب بها ونحو ذلك [15] .
وبهذا يعلم أن من السنة اللازمة :
السكوتَ عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله أو يتفق عليه المسلمون على إطلاقه ، وترْكَ التعرض لها بنفي أو إثبات ، فكما لا يُثبت إلا بنص شرعي فكذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي [16] .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بأمور العقيدة التي لم يرد ذكر لها في نصوص الكتاب والسنة ، واتفق الصحابة والتابعون على ترك الكلام عليها .
وهي صنو القاعدتين :
الثالثة والرابعة الخاصتين بالعبادات التي لم ينقل فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أو التابعين .
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]ولهذه القاعدة أهمية بالغة في إبطال البدع والرد على أهلها ، حيث اعتمد أئمة السلف - كثيرًا - على هذه القاعدة في مناظراتهم للمبتدعة والرد عليهم .[/b]
فمن ذلك :
أن الإمام الشافعي قال لبشر المريسي :
أخبرني عما تدعو إليه ؟ أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ فقال بشر: لا إنه لا يسعنا خلافه فقال الشافعي : أقررت بنفسك على الخطأ . . . [17] .
وقال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد يسأله :
[b style="color: rgb(51, 51, 51);"]خبِّرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه : أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ... قال : ليس يخلو أن تقول : علموه أو جهلوه ؛ فإن قلتَ علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم ، وإن قلتَ : جهلوه وعلمتَه أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئًا وتعلمه أنت وأصحابك [18] .[/b]
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القاعدة من كلام أهل العلم :
1- قال سعيد بن جبير :
ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين [19] .
2- قال مالك بن أنس :
إياكم والبدع ، فقيل : يا أبا عبد الله وما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان [20] .
3- قال الشافعي :
كل من تكلم بكلام في الدين أو في شيء من هذه الأهواء ليس له فيه إمام متقدم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثًا [21] .
4- قال بعض السلف :
ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء ، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه بدعة [22] .
5 - قال البربهاري :
واعلم أن الناس لو وقفوا عند محدثات الأمور ، ولم يجاوزوها بشيء ، ولم يولدوا كلامًا مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه لم تكن بدعة [23] .
--------------------------------
[1]) انظر أحكام الجنائز 242) .
[2]) المراد بالكلام الذي ذمَّه أئمة السلف ونهوا عن الخوض فيه :
الكلام في الدين على غير طريقة المرسلين .
ومن هنا أمكن تعريف علم الكلام بأنه :
إثبات أمور العقائد بالأدلة العقلية والطرق الجدلية مع الإعراض عما في القرآن والسنة من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين .
انظر مجموع الفتاوى 11/335 ، 336) ، 12/460 ، 461) ، 19/163) .
[3]) جامع بيان العلم وفضله 2/942) .
[4]) صون المنطق والكلام 57) ، والأمر بالإتباع 70) .
[5]) الإبانة الكبرى 2/539) .
[6]) شرح السنة 55) .
[7]) صون المنطق والكلام 131) .
[8]) شرح العقيدة الطحاوية 593) .
[9]) انظر المصدر السابق 74 ، 75) .
[10]) انظر درء التعارض 308 – 310) .
[11]) الاعتصام 1/212) .
[12]) الاعتصام 1/216) .
[13]) فضل علم السلف على علم الخلف 61)، وانظر مجموع الفتاوى 11/15).
[14]) مجموع الفتاوى 3/81) .
[15]) شرح العقيدة الطحاوية 239) ، وانظر منه 109 ، 110) .
[16]) عقيدة الحافظ عبد الغني 113) .
[17]) انظر صون المنطق والكلام 30) .
[18]) انظر الشريعة 63) .
[19]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/771) برقم 1425 ، وانظر مجموع الفتاوى 4/5) وقد تقدم .
[20]) أخرجه قوام السنة في الحجة في بيان المحجة 1/103 ، 104) ، وانظر شرح السنة للبغوي 1/217) ، والعين والأثر 61) ، والأمر بالإتباع 70) ، وصون المنطق والكلام 57) .
[21]) صون المنطق والكلام 150) .
[22]) صون المنطق والكلام 131) .
[23]) شرح السنة 46) .