القاعدة الثانية والعشرون:
إذا عَمل بالمعصية العوامُّ وشاعت فيهم وظهرت، ولم ينكرها العلماءُ الذين يُقتدى بهم وهو قادرون على الإنكار، بحيث يعتقد العامةُ أن هذه المعصية مما لا بأس به فهذا ملحق بالبدعة.
وذلك بخلاف ما إذا أُنكر عليهم فإن العامي يعتقد -والحالة كذلك- أن هذا الفعل عيب، أو أنه غير مشروع، والعالم قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس [1].
قال الشاطبي:
فإذن عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكرِ ووجود القدرة عليه فلم يفعل؛ دلَّ عند العوام على أنه فعلٌ جائز، لا حرج فيه، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يُقنع بمثله من العوام، فصارت، المخالفة بدعة [2].
ومن الأمثلة على ذلك:
المنكرات الظاهرة المتفشية، كالتعامل بالربا، واقتناء ما يحرم من وسائل الإعلام.
ومن ذلك أيضًا ما ذكره الشاطبي حين قال:
ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر: ليست بحرام، ولا عيب فيها، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه.
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرًا؛ لأنه إنكار لما عُلم من دين الأمة ضرورة.
وسبب ذلك:
ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك [3].
والقدر الجامع لهذه القواعد الأربع:
أن لكل حكم شرعي خاصية، والواجب ألا يسوَّى بين هذه الأحكام الشرعية، لا في القول ولا في الفعل ولا في الاعتقاد.
فينبغي ألا يسوَّى بين الواجبات الموسَّعة وبين الواجبات المكررة المعتادة.
وألا يسوَّى في الفعل بين المندوبات والواجبات، ولا بين المندوبات وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان.
وألا يسوَّى أيضًا بين المباحات وبين المندوبات أو المكروهات.
وألا يسوَّى أيضًا بين المكروهات وبين المحرمات أو بين المكروهات وبين المباحات.
وألا يسوَّى أيضًا بين المحرمات وبين غيرها مما ليس محرمًا.
قال الشاطبي:
لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورًا إليه مرموقًا، أو مظنة لذلك؛ بل الذي ينبغي له أن يدعها بعض الأوقات حتى يُعلم أنها غير واجبة.
لأن خاصية الواجب المكرَّر الالتزام والدوام عليه في أوقاته، بحيث لا يتخلف عنه.
كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فَهِم الناظرُ منه نفس الخاصية التي للواجب؛ فحمله على الوجوب، ثم استمرَّ على ذلك فضلَّ.
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتّى على كيفيات يُفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يُفهم منها على الكيفية الأخرى.
أو ضُمَّت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يُفهم دونه.
أو كان المباح يتأتَّى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريًا له ويترك ما سواه.
أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر، بحيث يُفهم عنه في الترك أنه مشروع.
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس قرأها في كرة أخرى فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود فلم يسجدها، وقال: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء [4].
ثم ذكر رحمه الله الضابط لذلك فقال:
وهذا كله إنما هو فيما فُعل بحضرة الناس، وحيث يمكن الإقتداء بالفاعل، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به فلا بأس [5].
ومما يلحق بذرائع البدعة:
كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين:
أهو بدعة فيُنهى عنه أم غير بدعة فيُعمل به؟ فالأحوط تركه سدًا لذريعة الوقوع في البدعة [6].
-----------------------------------------------------------
[1]) انظر الاعتصام 2/102).
[2]) المصدر السابق.
[3]) المصدر السابق 2/108).
[4]) الموافقات 3/332، 333).
[5]) الموافقات 3/333).
[6]) انظر الباعث 66)، والاعتصام 2/6، 7).