القاعدة الثانية:
كل عبادة تستند إلى الرأي المجرد والهوى فهي بدعة كقول بعض العلماء أو العُبَّاد أو عادات بعض البلاد أو بعض الحكايات والمنامات [1].
ومن الأمثلة على ذلك:
أ. اعتماد الصوفية في إثبات كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة، وخرق العادة؛ فيحكمون بالحل والحرمة، ويبنون على ذلك الإقدام والإحجام، كما حُكي عن بعضهم أنه كان إذا تناول طعامًا فيه شبهة ينبض له عرق في أصبعه فيمتنع منه [2].
ب. الأذكار البدعية، كذكر الله تعالى بالاسم المفرد الله أو بالضمير هو هو اعتمادًا على أن بعض المتأخرين كان يأمر به [3].
ج. دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم وفي مغيبهم، وسؤالهم، والاستغاثة بهم [4].
توضيح القاعدة:
تتضح هذه القاعدة بيان أصل مهم في علامات أهل البدع، وهو أنه ما من مبتدع إلا ويستدل على بدعته بدليل من الشرع، صحيحًا كان أو ضعيفًا.
ذلك أن كل مبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع؛ إذ هو مدَّعٍ أنه داخل –بما استنبط– تحت مقتضى الأدلة [5].
قال الشاطبي:
كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصيات مسائلهم، وإلا كذّب اطراحها دعواهم [6].
والأصل المستقر أن الكتاب والسنة هما جهة العلم عن الله وطريق الإخبار عنه سبحانه، وهما طريق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه [7].
فكل عبادة لا تستند إلى كتاب أو سنة فهي بدعة ضلالة، وإن استدل صاحبها واستمسك بأدلة يظنها أدلة، وهي -عند الراسخين- كبيت العنكبوت.
قال الشاطبي:
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع: أنه لم يَكِلْ شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدَّه [8].
وقال الطرطوشي:
شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه؛ كما أن كتمه لا يدل على منعه.
وقال أيضًا في معرض رده على من احتج على مشروعية بعض الأمور بانتشارها وذيوعها-: وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء مغضبًا فقالت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعًا.
وما روينا هنالك من الآثار!
فإنه لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة، كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات؟
وأما من تعلق بفعل أهل القيروان فهذا غبي يستدعي الأدب دون المراجعة.
فنقول لهؤلاء الأغبياء: إن مالك بن أنس رأى إجماع أهل المدينة حجة، فردَّه عليه سائر فقهاء الأمصار، وهذا هو بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرصة الوحي، ودار النبوة، ومعدن العلم، فكيف بالقيروان؟ [9].
بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين:
عقد الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع فصلاً بهذا العنوان، وصدَّره بالحديث الصحيح، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» [10].
ثم قال رحمه الله تعالى:
فتدبَّر هذا الحديث، فإنه يدل على أنه لا يُؤتى الناس قط من قِبَل علماؤهم، وإنما يُؤتون من قِبَل أنه إذا مات علماؤهم أفتى مَنْ ليس بعالم، فيُؤتى الناس من قِبَله.
وقد صَرَّف عمر هذا المعنى تصريفًا، فقال: ما خان أمين قط، ولكنه اُؤتمن غير أمين فخان.
ونحن نقول:
ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم فضلَّ وأضلَّ [11].
تنبيهات:
التنبيه الأول:
التقليد هو إتباع قول الغير من غير معرفة دليله [12].
والتقليد المذموم أنواع، منها [13]:
تقليد الآباء، قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ".
تقليد مَن لا يَعلم المقلد أنه أهل لأن يُؤخذ بقوله، قال تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ".
التقليد بعد وضوح الحق ومعرفة الدليل، قال تعالى: "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ".
تقليد المجتهد القادر على الاجتهاد مع اتساع الوقت وعدم الحاجة.
تقليد قول مَن عارض قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كائنًا من كان هذا المعارض، قال تعالى: "وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء".
أما تقليد العامي للمجتهد وإتباعه له فإنه لا يدخل تحت التقليد المذموم، بل هو داخل تحت عموم قوله تعالى: "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ".
ذلك أن تقليد العامي لبعض المجتهدين جار من جهة أن هذا المجتهد مبلغ عن الله دينه وشرعه، وعلى العامي أن يعتقد ذلك.
وعليه أيضًا أن يعتقد أن الطاعة المطلقة العامة إنما تجب لله وحده ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أو يعتقده لكونه قول إمامه، بل لأجل أن ذلك مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإن العامي يمتنع عليه تقليد المجتهد متى عرف الحق وتبين له أن قول غير مقلده أرجح من قول مقلده [14].
التنبيه الثاني:
الإلهام [15] هو ما يقع في القلب من آراء وترجيحات.
وقد صرَّح الأئمة أن الأحكام الشرعية لا تثبت بالإلهام.
وهو بالنسبة إلى صاحب القلب المعمور بالتقوى ترجيح شرعي، وكلما كان العبد أكثر اجتهادًا في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه أقوى.
ذلك أن ما ورد به النص فليس للمؤمن فيه إلا الطاعة والتسليم التام، وأما ما ليس فيه نص وكان الأمر فيه مشتبهًا والرأي فيه محتملاً فهنا يرجع فيه المؤمن إلى ما حكَّ في صدره ووقع في قلبه.
فثبت بهذا أن الإلهام حق، وأنه وحي باطن، وإنما حُرمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه [16].
قال السمعاني: ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه، يزداد به نظره ويقوى به رأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله.
ولا نزعم أنه حجة شرعية، وإنما هو نور يختص الله به من يشاء من عباده، فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة [17].
التنبيه الثالث:
الرؤيا هي: ما يراه الشخص في منامه [18]، وحكمها كالإلهام؛ فتعرض على الوحي الصريح: فإن وافقته وإلا لم يعمل بها [19].
قال ابن حجر: النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد؟ أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر فالثاني هو المتعمد [20].
------------------------------
[1]) انظر الاعتصام 1/212 – 219)، والإبداع للشيخ علي محفوظ 41)، وأحكام الجنائز 242).
[2]) انظر الاعتصام 1/212)، 2/182، 182).
[3]) انظر مجموع الفتاوى 10/396).
[4]) انظر المصدر السابق 1/159 – 160).
[5]) الاعتصام 1/286).
[6]) الاعتصام 1/220).
[7]) انظر جماع العلم 11)، وجامع بيان العلم وفضله 2/33)، ومجموع الفتاوى 19/9).
[8]) الاعتصام 2/135).
[9]) الحوادث والبدع 73 – 74)، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/584، 585) والتمسك بالسنن: 109.
[10]) أخرجه البخاري 1/194) برقم 100، ومسلم 16/223 – 225).
[11]) الحوادث والبدع 77)، وانظر الباعث 66)، والاعتصام 2/173).
[12]) انظر مذكرة الشنقيطي 314).
[13]) انظر الفقيه والمتفقه 2/69)، وجامع بيان العلم وفضله 2/110 - 115)، ومجموع الفتاوى 19/260)، و20/15 – 17)، وإعلام الموقعين 2/187، 188).
[14]) انظر مجموع الفتاوى 20/8، 9، 17، 223، 224).
[15]) انظر مجموع الفتاوى 20/42 – 47)، وجامع العلوم والحكم 2/102 – 104)، وفتح الباري 12/388).
[16]) فتح الباري 12/388).
[17]) فتح الباري 12/389).
[18]) المصدر السابق 12/352).
[19]) مدارج السالكين 1/62).
[20]) انظر فتح الباري 12/389).