اسم الله: "الكريم"
لفضيلة الدكتور: محمد راتب النابلسي
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الاسم الثالث والعشرين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو اسم الكريم.
وهذا الاسم أيها القاريء الكريم له دلالات كبيرة، وجدير بالإنسان أن يتخلّق بهذا الاسم لأنه من الأسماء التي يمكن لكل امريءٍ أن يتخلّق بها فيرقى بها إلى الله سبحانه، وأسماء الله كما تعلمون، منها أسماء خاصة بالله عز وجل كالخالق، القديم، وهناك أسماء أُمرنا أن نتخلق بها، واسم الكريم واحد منها.
اسم الكريم؛ ثابت بنص القرآن الكريم، وسوف يتضح بعد قليل ما معنى اسم "القرآن الكريم"، وهو ثابت في قوله تعالى: "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" (الانفطار: 5-8).
وهذه الآية تخاطب القلب والعقل معاً، وقد ورد هذا الاسم بصيغة اسم التفضيل في آية أخرى بقوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)" (العلق: 1-5).
فالكريم في قوله تعالى "يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ".
والأكرم في قوله تعالى: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"
قبل أن نصل إلى ما تعنيه كلمة كريم في حق الله جل وعلا نريد أن نبدأ الحديث بما تعنيه كلمة كريم في التعامل اليومي، فكلمة كريم نستخدمها كثيراً، فقال العلماء: "كل صفة محمودة تسمى كرماً على خلاف ما يظنه معظم الناس"، من أن فلاناً كريم يعني أنه يعطي، وعطاؤه كثير.
فكلمة كريم شاملة واسعة: فالحلم كرم، السخاء كرم، اللطف كرم، الصبر كرم، المروءة كرم.. فالكرم يعني أيّة صفة حميدة يتصف بها الإنسان، بل إن الصفات الحميدة كلها تلخص بكلمة واحدة هي الكرم، بينما الصفات الخسيسة كلها تلخص بكلمة واحدة هي اللؤم.
وعلى النقيض الذل وهو: أن يقف الكريم بباب اللئيم، فالخسيس لئيم والمتكبر لئيم، والجحود لئيم، والذي يحب ذاته على حساب الآخرين لئيم، والبخيل لئيم، كل الصفات الخسيسة تجمعها كلمة لئيم، وكل الصفات المحمودة تجمعها كلمة كريم، فالناس رجلان؛ كريم ولئيم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
أعلمه الرماية كل يـــوم
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
فلما قال قافية هجانـــي
والواقع يثبت أن: الناس رجلان برٌّ كريم، وفاجر لئيم، هكذا قال عليه الصلاة والسلام.
فليس معنى كريم الذي يُعطي العطاء الكثير فقط، بل إن الحليم كريم، اللطيف كريم، الرحيم كريم، الصافي كريم، الودود كريم، المُنصف كريم، ومنه حجر كريم: اللؤلؤ، الألماس، الياقوت، المرجان.
محمد بشر وليس كالبشــــــر
بل هو ياقوتة والناس كالحجر
فالياقوت حجر لكنه كريم، والماس حجر لكنه كريم.
ومن معاني الكريم من كان كريم النسب، من هو الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم؟ إنه سيدنا يوسف، قال عليه الصلاة والسلام: "يوسف أكرم الناس".
أو نقول: فلان كريم الطرفين، يعني أمه كريمة وأبوه كريم، فقد حاز الشرف من طرفيه، من طرف أمه وأبيه.
من معاني الكريم من كان ذا صورة حسنة، والدليل قول الله عز وجل حينما وصف سيدنا يوسف، قال الله عز وجل: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)" (يوسف: 31).
فالكرم يُستعمل بمعنى النسب الشريف، ولا يُتحدث عن شرف النسب إلا بعد معرفة الله وتطبيق منهجه، فإذا تحدثنا عن النسب فقط؛ فقد يعني نسب الدنيا المتعارف عليه عند الناس، فأبو لهب بن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم.
والقاريء الكريم يعرف من أبو لهب:
"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)" (سورة المسد: 1-2).
أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً.
لا نتحدث عن النسب إلا بعد الإيمان، إذا أضيف النسب إلى الإيمان فهو نور على نور.
أما قول الشاعر:
جمال الوجه مع قبح النفوس
كقنــديل على قبر المجوسي
فإنما يعزز المعنى من أن المرء الجميل الخلقة، لابد له من خلق ودين يجمله كذلك، فتتم الصورة حسنةً صافية.
أما المقام الكريم؛ فهو الجنة، فلا تعب هناك ولا نصب ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا تباغض، ولا شيء يزعج، ومن كان ذا مقام كريم في الجنة فقد فاز حفاً.
ومن معاني الكريم؛ الشيء العزيز، الذي تشتد الحاجة اليه يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويقلُ وجوده ولا يستغنى عنه إطلاقاً، والدليل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)" (الحجرات: 13).
والكريم الشيء الذي تكثر منافعه، قال تعالى:
"قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)" (النمل: 29).
كتاب كريم؛ كله منافع، كله فوائد، كله حقائق، كله توجيهات صائبة، كله خيرات، كله بركات، اذاً معنى القرآن الكريم صار واضحاً: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القرآن الكريم ليس فيه باطل ولا غلط، ليس فيه خلل ولا تناقض، وليس فيه مخالفة للواقع، ولا ضعف في أسلوبه، ولا غثاثة، ليس فيه معالجة سريعة، ولا معالجة متناقضة، قرآن كريم، خلا من كل شائبة، يعني المعنى الذي يجمع كل هذه المعاني، الكرم، يعني الكمال، قرآن كريم أي: خلا من كل عيب.
كذلك، نقول ناقة كريمة، أي غزيرة اللبن، درها كثير، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل سيدنا معاذاً الى اليمن، قال له: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ* (أخرجه البخاري أول الزكاة، ومسلم في الإيمان، وأبو داود باب في زكاة السائمة، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد في المسند).
كرائم أموالهم ؛ يعني إن كان عنده بقرة يحرص عليها حرصاً شديداً فدعها له وخذ بقرة أخرى يختارها لك هو، لا كما يفعل بعض الناس، يأخذ ما يعجبه وهذا يتعارض مع السُنة الشريفة، فالسنة كما قال له: "إياك وكرائم أموالهم".
وسُمي العنب كرماً لأنها فاكهة كثيرة الخير، ظل ظليل، وثمار يانعة وقطوف دانية، وغذاء جيد وفاكهة محببة.
أحياناً ينصب الناس خياماً على مداخل البيوت هذه الخيام من حين لآخر تتمزق، تعصف بها الرياح، تتلفها الأمطار، ولكن أناساً يزرعون الكرم على مداخل البيوت، فهذا الكرم ظل ظليل وفاكهة دانية ويانعة ومفيدة وإلى ما شاكل ذلك.
وإذا قلنا مكارم الأخلاق، يعني أفضلها وأحسنها وأرفعها وأسماها.
فهناك إذاً مكارم الأخلاق، والكرم وهو العنب، وهناك ناقة كريمة كثيرة الدَّرِّ، وهناك الكتاب الكريم، كثير الفوائد، وهناك الأحجار الكريمة الصافية من كل شائبة، وهناك العزيز، الشيء النادر، وهناك مقام كريم، وهناك الجمال الصوري: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)" (سورة يوسف: 31).
فإذا قلت: قرآن كريم يعني كتاب الله، فالله سبحانه وتعالى كماله مطلق وكلامه في كماله مطلق، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه.
وقال بعض الشعراء:
وحمل الزاد أقبح كل شيء
اذا كان القدوم على الكريم
الآن اذا وصفنا الله سبحانه وتعالى، كما وصف هو نفسه، بأنه كريم: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)" [سورة الانفطار: 6].
كلمة ما غرك، ما الغرور؟:
الغرور أن ترى علبة مثلاً في الأرض فتظنها شيئاً ثميناً، تنكب عليها وتلتقطها، فإذا هي علبة فارغة، ظننت فيها قطعة ألماس أو ظننت فيها قطعة ذهب، أو ساعة ثمينة فانكببت عليها، فإذا هي علبة فارغة، هذه الحادثة اسمها الغرور، أنت اغتررت بها، هذا المعنى هل يمكن أن ينسحب على هذه الآية، لا..
" يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ":
المعنى الذي يليق بهذه الآية هو أنك إذا ظننت أن هذا القاضي مثلاً يقبض الرشوة ، فإذا أعطيته مالاً حكم لك وأنت ظالم، فأنت اغتررت بنزاهة هذا القاضي، فإذا قلنا: "يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"، يعني ظننت به غير الحق، وظننته غير عادل، وظننته غير رحيم، وظننته غير قدير، إذاً نفيت عنه القدرة والرحمة والعدل والإنصاف، بل هو لا ينسى عباده المؤمنين، وكما أنه لن يضع الذين أفنوا حياتهم في طاعته في النار، وكذلك لن يُكافئ الذين ناصبوه العِداء بالجنة، إذا ظننت بالله غير الحق ظن الجاهلية، فقد اغتررت بربك الكريم، لأنَّ الله كريم فكيف تغتر به؟
التعريف الدقيق لاسم الكريم، هو: الواجب الوجود المنزّه عن كل عدم وعن كل نقص، العزيز الذي لا إله غيره.
هذا الكلام يُلخّص بصفات ثلاث:
وجوده ووحدانيته وكماله، فالله كريم يعني موجود وواحد وكامل.
ومن ثم لابد من شرح هذه التعاريف الدقيقة لهذا الاسم العظيم:
الكريم؛ هو الذي يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، تفضل علينا وأوجدنا دون أن يكون لنا حق في أن نوجد، ليس لنا حق عنده بل تفضل علينا وأوجدنا، فنعمة الإيجاد ابتدأها الله دون استحقاق منا، أنت كإنسان عندك موظف، وأخلص اخلاصاً شديداً، وقدّم جهداً طيباً ربما تكافئه، فهذه المكافأة، جاءت منك ليس ابتداءً ولكن عّقِبَ احسانه وإخلاصه، مقابل شيء فعله، أما الكريم الحقيقي، الكريم المطلق هو الذي يبتدئ بالنعمة دون استحقاق، أوجدنا من دون اختيار، ومن دون طلب.
ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، فإذا قلت يا كريم العفو.. ما هو العفو الكريم؟.. قد يعفو عنك شخص، من حين لآخر يقول لك لا تنس أنك فعلت كذا، ثم بعد حين يذكرك: أنت فعلت كذا؟ فتقول: نعم.. جزاك الله خيراً عفوت عني، من حين لآخر يذكرك بمساءتك، لكنك إذا قلت يا رب، يا كريم العفو، عفو الله عز وجل ليس معناه أن يلغي العقاب فحسب وليس معناه أن ينسي الناس ذنبك أيضاً، ولكن عفو الله معناه، أن ينسيك ذنبك، معنى دقيق جداً، يعني أنت صاحب الذنب، ومن كمال عفوه عنك أنه ينسيك ذنبك.
"إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه وملائكته، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، وأنساه هو نفسه ما فعل".
المؤمن -من كرم الله عز وجل- له جاهلية، و قد ينسى أن له جاهلية، فيعيش في جو لطيف، والله عز وجل يكرمه، هذا معنى كريم العفو.
ومن معاني الكريم أنه يستر الذنوب ويخفي العيوب، إنسان قد يلقى من إنسان آلاف الأعمال الطيبة، فإذا عثر ذات مرةٍ على نقص لديه، تشبث به وأظهره وأذاعه بين الناس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر".
لكنَّ الكريم يغفر الذنوب ويستر العيوب، حتى قال بعض العارفين، والله لو عرفوا قبيح طويتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.
فربنا عز وجل يظهر من عبده الكرم الجميل ويستر القبيح ، فإذا قلت يا ستار، ستار العيوب، يجب أن يقشعّر جلدك، لأن الله سبحانه وتعالى إذا ستر.. ستر حقاً، أما الإنسان فلابد من أن يذكر هذا العيب بأن يهمسه بأذن إنسان آخر يقول: انتبه هذا الرجل فيه من العيوب كذا وكذا.. فهو بذلك ما ستره بل شهر به، لكن جميل الستر هو الله سبحانه وتعالى.
ومن المعني الجميلة أن الكريم متغافل، يتغافل، الكريم لا يغفل ولكنه يتغافل، قال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)" (سورة إبراهيم: 42).
سمعت عن رجل كان مفتياً في هذه البلدة الطيبة، قبل أربعين أو خمسين سنة، وكان قاضياً، وجاءته امرأة فأثناء صعودها درج السلم صدر منها صوت كريه فخجلت خجلاً لا حدود له، فلما اقتربت منه، قال ما اسمك يا أختي، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع ارفعي صوتك، فأنا سمعي ضعيف، فقالت هذه المرأة لأختها لم يسمعنا.
الكريم يتغافل، واللئيم يدقق بالعيوب يتبّع العيوب.
النبي الكريم كان مع أصحابه في دعوة وليمة وتناولوا طعام الجزور ثم توضؤوا وصلوا الظهر جميعاً، يبدو أن أحد أصحاب رسول الله انتقض وضوؤه من دون قصد، وعرف بعضهم ذلك، فلما أذّنَ العصر قال عليه الصلاة والسلام: "كل مَنْ أكل لحم جزور فليتوضأ، قالوا: كلنا أكلنا يا رسول الله، قال: اذاً كلكم فتوضؤا".
لأنه كريم، تغافل عنه فاللئيم يتبّع العوَر، يحمّر الوجوه، يحرج، يفضح فضَّاح، طعَّان، ليس المؤمن بطعّان ولا لعان ولا فاحشٍ ولا بذيء.
الكريم يتغافل واللئيم يتبع ويتحرى، والكريم؛ إذا استغفره عباده غَفَرَ لهم ولا يذكّرهم بأنواع معاصيهم وقبائحهم وفضائحهم.
مرةً وقفت بمنطقة مشرفة على دمشق، بيوت كثيرة، متقاربة، متراصة، وبعضها يضرب في علاء تعداد الشام خمسة ملايين نسمة، تلوت قوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)" (سورة الإسراء: 67).
هذه البيوت لا يعلم ما فيها من طاعات أو من معاصٍ إلا الله ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم: "عبدي لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك".
والكريم إذا أتاه عباده بالطاعات اليسيرة قابلهم بالثواب الجزيل.
إنسان يطعم لقمة، هذه اللقمة تصبح يوم القيامة كجبل أحد، لا أعتقد في الدنيا أن أحدٍ يقدم ليرة ويأخذ بدلاً منها خمسة آلاف مليون ليرة، بالآخرة تأخذ أكثر، أعطيت شيئاً يسيراً، قمت ببعض الطاعات أنفقت بعض مالك، ضبطت شهواتك، التزمت طريق الحق، فأعطاك الجنة وما فيها قال تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)" (آل عمران: 133).
الله الكريم جعل هذا العبد الحقير، هذا العبد الضعيف، هذا العبد الذليل يرتفع، أجل، رفعه فقال: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)" (البقرة: 40).
فهل لنا عهد؟ كأننا ند إلى ند، ولكن هذا من كرم الله عز وجل إذا خاطبنا، وحينما خاطبنا علّلَ أوامره، وتعليل الأوامر إكرامٌ لنا قال تعالى: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)" (العنكبوت: 45).
الإنسان القوي يعطي أمراً لإنسان ضعيف دون تعليل افعل كذا فقط، ولكن الله عز وجل حينما أمرنا ذكر لنا التعليل كرماً منه وتطميناً لنا، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" (البقرة: 183).
"وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)" (سورة التوبة: 102).
فلذلك جعلنا أهلاً لمعاهدته فقال: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُونِي".
الله كريم، والكريم جعلنا أهلاً لمحبته، قال الله تعالى: "يحبهم ويحبونه" (المائدة من الآية: 54).
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)" (مريم: 96).
الله الكريم أعطانا الدنيا كلها، والدليل قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)" (البقرة: 29).
أما الهواء، فهل الهواء في قائمة النعم عندكم؟ أجل، نعمة بلا ثمن فأنت تستنشق الهواء في أي مكان، وكذلك الماء، هذا الذي تدفعه ثمن الطعام، هذا شيء رمزي، من منكم يُصدّق أنه يدفع ثمن التفاح، هذا ثمن خدمة التفاح، فالتفاح ليس له ثمن، فهذا الفلاح الذي اعتنى بهذا البستان وسقاه وسمّده وقطف الفواكه وجاء بها إلى السوق، فأجرته ثمن كيلو التفاح، أما التفاح فلا يُقدّر بثمن إذ هو من الله عز وجل.
والآخرة أيضاً ملَّكها لعباده المؤمنين وسخّرَ الله سبحانه وتعالى ما في السماوات والأرض جميعاً منه، تسخير تكريم وتسخير تعريف.
الكريم هو الذي يعطي من غير مِنّة، من الصعب أن ترى انساناً يعطيك بلا مِنّة، بل يقول لك: "لحمك من خيري، أنا فضلت عليك، أنا أنقذتك من العدم، أنت كنت لا شيء".
لكن العطاء من الله سبحانه وتعالى من غير مِنّة.
ولا يحوجك إلى وسيلة، أحياناً لا تعطي الشخص حتى تستنفذ طاقاته: قدم طلب أولاً، هات هويتك، اذهب واحضر بعد أسبوع، تعال بعد يومين، سنجري تحقيق، يكره العطاء لشدة التحقيقات وكثرة التأجيلات والتأخيرات والتعقيدات والوثائق، أما الكريم لا يحوجك إلى وسيلة.
والكريم لا يُقنط العصاة من توبة.