الفصل الثالث
الضباط الأحرار
يقول عبداللطيف البغدادي: "وكنا نحن ضباط الجيش عندما نناقش أحوال بلادنا، وما وصل إليه حالنا باحثين ومنقبين عن مخرج لنا مما نحن فيه لكسر تلك الحلقة الفولاذية، التي كانت مضروبة حول شعبنا، لا نجد أمامنا من سبيل ولا طريق لكسر تلك الحلقة إلا بتفجير ثورة قادرة على تغير هذا الهيكل كله من أساسه، تغييراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً: وقادراً قبل كل شيء على التصدي للاستعمار الذي كان لا يزال رابضاً على أرض وطننا والعمل على تصفيته وإنهائه. لأن استمرار وجوده يضيع أملنا المنشود في التغيير لأنه سيقف عقبة في طريقه وسيتصدى له".
ولم يكن هناك في ذلك الوقت من منظمات وقوى سياسية قائمة لديها نظرة ضباط الجيش الوطنيين إلى الأوضاع القائمة في البلاد، غير جماعة الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة ومنظمات أخرى، كالجناح اليساري من حزب الوفد والمنظمات الشيوعية المختلفة المتصارعة مع بعضها في ذلك الحين.
ولم تكن تلك المنظمات تملك القوة ولا القدرة على القيام بهذه المهمة دون أن يساندها الجيش، وأما باقي الأحزاب الأخرى السياسية في مصر فكانت على قمة السلطة فيها الباشوات أصحاب الإقطاعيات الزراعية والأملاك الواسعة، وكانوا هم سعداء بما هم فيه من يسر في الحياة ولا يفكرون فيما وصل إليه حال مصر.
كان الجيش في عام 1949 جريحاً ومطعوناً من أثر الهزيمة في حرب فلسطين. إضافة إلى ضعف تيار العمل السياسي في تنظيماته؛ فقد عجز تنظيم الحرس الحديدي عن إيجاد دوافع جديدة للاغتيال، وخاصة أن حادث 4 فبراير كان قد ضعف أثره، بعد نجاح وزارة الوفد في الانتخابات نجاحاً كبيراً معبراً عن تأييد شعبي جارف، وهكذا توقفت حركة الحرس الحديدي.
أّما الإخوان المسلمون فكانوا قد تعرضوا لحملة إرهاب حكومي شديدة، بعد اغتيال النقراشي باشا، أبعدت الضباط عن الاتصال بهم، وإن كان تنظيمهم قد استمر محتفظاً بكيانه تحت قيادة قائد الجناح عبدالمنعم عبدالرؤوف.
وعاد البكباشي محمد أنور السادات إلى صفوف الجيش من جديد، ضابطاً في سلاح الإشارة، واستطاع قسم الجيش في "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني ـ حدتو" أن ينجو سليماً من إرهاب الحكومة لشدة الاهتمام بالأمن، باعتباره السلاح الوحيد الذي يحمي قسم الجيش، في وقت كان فيه معظم أعضاء القيادة قد ضمتهم أسوار المعتقلات، وكان المسؤول السياسي لهذا القسم هو الصاغ أحمد حمروش، ومسؤوله الثقافي أحمد فؤاد، وكيل النائب العام، في ذلك الوقت، ورئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد.
ولكن ضعف تيار العمل السياسي بالجيش في تنظيماته المشار إليها، لم يدفع حركة الضباط إلى الجمود، ولم يبعثر جهودهم، بل كان هناك في كل سلاح من أسلحة الجيش ضباط، لحقتهم يد السياسة، ولم يكن ممكنا لهم أن يتخلصوا منها، وخاصة بعد هزيمة الجيش في حرب فلسطين عام 1948.
وفي هذه الفترة كان جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، قد تركا الإخوان المسلمين، مع عدد ملحوظ من الضباط.
وكانت طبيعة الأمور تفرض على الضباط، أن يجتمعوا ويتبادلوا الرأي، في وحداتهم وأسلحتهم. وكان هؤلاء الضباط يمثلون نواة، خرجت من حرب فلسطين، وهي غير مرتبطة بتنظيم موحد، ولم يكن لهم حديث إلاّ هزيمة الجيش في فلسطين، وأثرها في نفوسهم.
لعب البكباشي جمال عبدالناصر، دوراً رئيساً بارزاً في تجميع الضباط، من مختلف الاتجاهات السياسية، بطريقة محدودة، قبل حرب فلسطين عام 1948، ثم توسع في ذلك خلال عام 1949، وبذلك نبت التفكير في تكوين تنظيم من الضباط المهتمين بأمور الوطن والسياسة.
التحقيق مع عبدالناصر
في يونيه 1949 ضبط البوليس السياسي، لدى الجهاز السري للإخوان المسلمين، كتاباً من كتب الجيش، الممنوع تداولها للأفراد المدنيين، التي يقتصر توزيعها على ضباط الجيش، وهو كتاب عن كيفية استخدام القنابل اليدوية.
وفي أعلى الصفحة الأولى للكتاب، وجد اسم "اليوزباشي جمال عبدالناصر"، وأثارت هذه الواقعة مخاوف الحكومة، من أن يكون للإخوان امتداد، داخل القوات المسلحة، وبالفعل، ولفرط اهتمام الحكومة بهذا الموضوع، تولى التحقيق فيه إبراهيم عبدالهادي، رئيس الوزراء بنفسه، وهكذا استدعى جمال عبدالناصر، ومعه الفريق عثمان المهدي، رئيس أركان حرب الجيش، لمقابلة رئيس الوزراء، وسأله عبدالهادي: هل هذا الكتاب لك؟ فقال جمال عبدالناصر: نعم، وسأله: هل لك علاقة بالإخوان؟ فقال: كنت أعرف ضابطاً منهم اسمه أنور الصيحي، قال عبدالهادي: ولمن سلمت هذا الكتاب؟ فقال عبدالناصر: استعاره مني أنور الصيحي، وسأله عبدالهادي: وأين هو؟ فقال جمال: استشهد في حرب فلسطين، وهنا ثار عبدالهادي، ودق المكتب بيده غاضباً، وصاح: إنت يا أفندي بتضحك عليا، إنتو عايزين تخربوا البلد، إنتو فاهمين إيه، البلد دي لا تتحمل إن واحد حر يجي ببنطلون مزيت تحصل له أي حاجة، وإلاّ كان الأجانب يبهدلونا، انتم لا تعرفون مدى الخطورة في أن ضابط جيش يشتغل مع الإخوان".
ووسط هذه الثورة تذكر جمال أن في جيب بنطلونه ورقة خطيرة، اعتقد أنها كانت الأصل الخطي لبيان سياسي.
وفي أثناء هذه الثورة كذلك، دق التليفون وانشغل عبدالهادي بالمكالمة، واستأذن جمال في الذهاب إلى دورة المياه ليتخلص من الورطة، التي في جيبه، ويعود ليجد عبدالهادي، وقد هدأ قليلاً، وإن كان قد واصل تهديده وقال في النهاية: "إن سيادة الفريق عثمان المهدي، قال عنك كلام كويس، ولولا هذا أنا كنت وديتك في داهية، ومن الآن فصاعداً أنت ضابط جيش وبس، ولا علاقة لك بأحد".
واعتبر عبدالناصر أن هذه المقابلة بمثابة إنذار، وقرر إن يبدأ عملاً جاداً.
الخلية الأولى للضباط الأحرار:
(لجنة القيادة أو اللجنة التأسيسية)
عُقد الاجتماع الأول للخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار، في بيت عبدالناصر، بكوبري القبة، في شهر يوليه عام 1949، وحضره جمال عبدالناصر، وعبدالمنعم عبدالرؤوف، وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، وخالد محيي الدين، وبدأ جمال عبدالناصر بالحديث وقال: "أنا معايا عبدالحكيم وأنتم طبعاً عارفينه لكنه لم يستطع الحضور اليوم، وتحدث طويلاً عن مغزى مقابلته مع إبراهيم عبدالهادى، وكيف أنه أصبح من المحتم علينا، أن نفعل شيئاً وأن ننظم أنفسنا، وقال: كل واحد منا يشتغل، ويحاول يكون مجموعة في سلاحه، وهكذا يمكن أن نصبح قوة منظمة، وقادرة على فعل شيء.
يقول خالد محيي الدين: "اتفقنا على أن نلتقي في اجتماعات متقاربة، واتفقنا على أن يعمل كل منا، في سلاحه، لتجميع عدد من الضباط. وكنا نحن الخمسة موزعين على أسلحة مختلفة: جمال: مشاة، عبدالمنعم عبدالرؤوف: مشاة، كمال الدين حسين: مدفعية، حسن إبراهيم: طيران، خالد محيي الدين: فرسان. وتحدثنا عن أهمية الحيطة، وتداولنا في بعض الإجراءات الأمنية البسيطة، والحقيقة أن جهاز أمن الجيش كان بسيطاً هو كذلك، ومن ثم فقد قمنا بنشاطنا، بكم من الحيطة يتلاءم مع بساطة أجهزة الأمن في الجيش.
وكانت اجتماعاتنا في الخلية الأولى، التي أصبحت تسمى "لجنة القيادة"، تتم أسبوعياً أو كل أسبوعين، وكان كل منا يتحدث، من دون إفصاح عن الأسماء، عن الاتصالات، التي قام بها، ومن تم تجنيده من الضباط، وأحياناً كنت أحكي لجمال عبدالناصر، بشكل منفرد، عن اتصالاتي، وعن الضباط الذين قمنا بتجنيدهم في السلاح. وبعد عدة اجتماعات كان لدينا تنظيم، وأنا معي في الفرسان مجموعة لا بأس بها، وكمال الدين حسين في المدفعية، وجمال عبدالناصر في المشاة، وحسن إبراهيم في الطيران.
الوحيد الذي لم يضم أحداً إلى التنظيم هو عبدالمنعم عبدالرؤوف، فقد كان معنا، لكنه مع الإخوان المسلمين بأكثر مما هو معنا، وكان مجهوده الأساسي مكرساً لهم، وليس لنا، وربما ظل معنا بأمل أن يعيدنا إلى حظيرة الإخوان، أو أن يبقى كرأس حربة داخلنا، لصالح الإخوان.
وبعد هذا الاجتماع مباشرة التقى خالد محيي الدين بثروت عكاشة وكان من الفرسان، كان منتدبا لإدارة التدريب الحربي، ووافق على الانضمام لتنظيم الضباط الأحرار، على الفور، وبعد ذلك اتصل خالد بعثمان فوزي، وكان في الخيالة، وهي تابعة لسلاح الفرسان، وكان شيوعياً، ووافق على الانضمام لتنظيم الضباط الأحرار، مع بعض التحفظات.
وكان اتصال خالد بعثمان فوزي بداية للتوسع الحقيقي، فقد قام على الفور بتجنيد ثلاثة ضباط من سلاح الفرسان: فاروق توفيق، عفت عبد الحليم، وعثمان الكتبي وقد تصرف عثمان فوزي بذكاء وأمانة في آن واحد، فلم يحاول أن يدخل إلى التنظيم أياً من الضباط الشيوعيين، بل أتى بضباط وطنيين عاديين.
وهكذا أصبح عدد الفرسان في تنظيم الضباط الأحرار ستة ضباط.
ثم اتصل خالد محيي الدين بجمال منصور من الفرسان، كان يعمل مع خالد، في إدارة التدريب الجامعي، ووافق على الانضمام، مع مجموعته وعندما عرض خالد محيي الدين موافقة جمال منصور على الانضمام، بمجموعته، على جمال عبدالناصر، رفض وقال: من يريد أن ينضم إلينا كفرد وإلا ستأتي إلينا المجموعات الأخرى، كالحرس الحديدي، ويطلبون الوحدة معنا، وتبدأ خلافات داخلية، ومشكلات وننتهي إلى الفشل. وتمكن خالد من إقناع جمال منصور بأن ينضم، مع من يشاء، لتنظيم الضباط الأحرار، ولكن على أساس فردي.
وانضم جمال منصور إلى مجموعة خالد محيي الدين، (خلية خالد) وانضم معه نصير وكفافي، من مجموعته القديمة.
وتمكن خالد محيي الدين من ضم آمال المرصفي، وسامي ترك.
وعن طريق الأخير، تعرف خالد على اثنين من أهم الضباط، الذين لعبوا دوراً كبيراً في بناء تنظيم الضباط الأحرار، في سلاح الفرسان، وهما توفيق عبده إسماعيل، وأحمد إبراهيم حموده. وفي ليلة 23 يوليه تمكنت الثورة، عن طريقهم، من السيطرة على الآلاي الأول مدرع، في سلاح الفرسان.
وفي فترة وجيزة، تمكن خالد محيي الدين، ورفاقه، من إقامة تنظيم جيد في سلاح الفرسان، على الرغم من عدم وجود لجنة قيادية في السلاح، وإنما كان خالد محيي الدين يتصل بالضباط بشكل فردي.
ويقول خالد محيي الدين: "وبدأ تنظيم الضباط الأحرار يفتح أبوابه للشيوعيين، من أعضاء حدتو، وانضم إلينا عدد لا بأس به، منهم: محمود المناسترلي، والدكتور القويسني، وصلاح السحرتي، وجمال علام، وأمال المرصفي، وأحمد قدري (رئيس هيئة الآثار فيما بعد) وغيرهم، أما عثمان فوزي فقد كان أحد مؤسسي "مجموعة الضباط الأحرار" في سلاح الفرسان، واندمج هؤلاء الضباط في مجموعات التنظيم، وأسهموا إسهاما كبيرا في عملنا، وخاصة في توزيع المنشورات بالبريد، كذلك أسهمت "حدتو"، فيما بعد، في طباعة منشورات "الضباط الأحرار" كما أسهم ضباطها، إسهاماً نشيطاً وفاعلاً، معنا ليلة 23 يوليه عام 1952. واستمرت علاقتي مع أحمد فؤاد، وكان جمال عبدالناصر يلتقي معنا لنتناقش طويلاً في التطورات السياسية وموقفنا منها.
وازداد إعجاب جمال عبدالناصر بأحمد فؤاد، لكنه لم يفكر أبداً في الانضمام "لحدتو"، ليس بسبب أية حساسية سياسية، وإنما لأنه لم يكن يريد لمنظمته أن تخضع لأي تأثير من خارجها.
وقد أطلق على الخلية الأولى للضباط الأحرار اسم "اللجنة التأسيسية"، وتشكلت، كما سبق الإشارة، من خمسة ضباط، ذوي ميول سياسية مختلفة، مع أنهم بدأوا جميعاً في ساحة الإخوان المسلمين.
ولم يكن قد أُطلق على هذه اللجنة اسم "الضباط الأحرار" بعد، كما أنه لم يكتمل الشكل التنظيمي إلا مع مطلع عام 1951، عندما زاد عدد أعضاء اللجنة التأسيسية.
اتساع التنظيم
في أوائل عام 1951، اتسع التنظيم، بصورة غير متوقعة، الأمر الذي دفع جمال عبدالناصر إلى المطالبة بتوسيع "لجنة القيادة أو اللجنة التأسيسية"، فقد زادت الأعباء، واتسع النشاط، وأصبح التنظيم بحاجة إلى متابعة نشاط مجموعات متعددة، في مناطق كثيرة، وأسلحة مختلفة، واقترح جمال عبدالناصر أن ينضم للجنة القيادة عبدالحكيم عامر، صديقه القديم، وأبلغ الخلية الأولى، منذ اجتماعها الأول، أنه معها، وأنه لا يخفي عنه شيئاً.
وكان عبدالحكيم عامر، في هذه الفترة، أركان حرب فرقة مشاة، وكان هذا الموقع مغرياً لأهميته في أي تحرك كذلك، فقد كانت اللجنة تعرفه، وتعرف فيه إخلاصه، وذكاءه ودهاءه في آن واحد.
ووافقت اللجنة على ضم عبدالحكيم عامر.
وبعد ذلك، بأسبوعين، أو أكثر قليلاً، نُقل كمال الدين حسين إلى العريش، واقترح جمال عبد الناصر ضم صلاح سالم إلى "لجنة القيادة"، ليواصل العمل، بين ضباط المدفعية، ولو أنه كان، في ذلك الحين، يعمل بالكلية الحربية، وقبلت اللجنة ضمه.
وفي الوقت نفسه، طلب حسن إبراهيم ضم عبداللطيف البغدادي إلى القيادة، خاصة وأنه أقدم منه، وله نفوذ سياسي واسع، داخل سلاح الطيران، وهو من أوائل الضباط، الذين لعبوا دوراً أساسياً، ووطنياً، في صفوف الطيران، ووافقت اللجنة.
وبهذا أصبحت "لجنة القيادة" مكونة من: جمال عبدالناصر حسين، عبدالحكيم عامر، حسن إبراهيم، عبدالمنعم عبدالرؤوف، صلاح سالم، عبداللطيف البغدادي، كمال الدين حسين، خالد محيي الدين.
ويذكر خالد محيي الدين: "لكن العلاقات بدأت تتعثر مع عبدالمنعم عبدالرؤوف؛ فقد أخذ يلح علينا بضرورة الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين، وكانت حجته، في ذلك، أن حركتنا بحاجة إلى قوة دفع من جماعة سياسية قوية، تساندها، وتحمي ضباطها، في حالة وقوع أية عمليات قبض، أو فصل من الخدمة، أو ما إلى ذلك، ورفضنا طلبه بالإجماع؛ فبدأت علاقته بنا في التعثر، وانقطع تقريباً عن حضور اجتماعات "لجنة القيادة"، وساعد على ذلك أنه نقل إلى غزة.
ثم طلب جمال عبدالناصر ضم أنور السادات للحركة، لما له من خبرة سابقة، في الأنشطة السياسية، ربما نحتاج إليها، وفعلاً تم ضمه إلى الحركة، وإلى "لجنة القيادة".
والغريب في الأمر أن جمال أسر لي، بعد فترة وجيزة، أنه يشك في السادات، وأنه كسول، ولا يقدم للحركة شيئاً، فسألته: لماذا ضممته إذن؟ فأجاب: لأنه مصدر مهم للمعلومات، فهو على علاقة بيوسف رشاد، وبمستر سمسون، السكرتير بالسفارة البريطانية، وكان سمسون هذا ممثل المخابرات البريطانية، في مصر، في زمن الحرب العالمية الثانية، وكان أنور السادات يعرفه منذ حادث القبض عليه هو وحسن عزت عام 1942، وسألت عبدالناصر: ألا تخشى من السادات؟ فقال ربنا يستر، بس لازم نبقى صاحيين.
ومع اتساع نشاط الضباط الأحرار كان من الضروري أن يعيد تنظيم الضباط الأحرار أنفسهم، وشكلوا لجان لمناطق القاهرة، رفح، الإسكندرية، وكل لجنة تمثل فيها الأسلحة المختلفة، وفي الوقت نفسه، كانت هناك لجنة قيادية، في كل سلاح.
أي كان هناك محوران للقيادة: لجنة للمنطقة، ولجنة للسلاح.
ويروي خالد محيي الدين قصة انضمام حسين الشافعي إلى الضباط الأحرار، فيقول: "أثناء زيارة لإدارة الجيش قابلت حسين الشافعي، وكان يعمل بها، وكنت قد تعرفت عليه، أثناء عملنا مع الإخوان المسلمين، وفتح حسين معي موضوع منشورات "الضباط الأحرار"، وأبدى إعجابه الشديد بها، وبشجاعة الذين يصدرونها، ولم أقل له شيئاً خاصة أنه كان من الضباط، الذين يهتمون كثيراً بالانضباط العسكري، وكان أعلى رتبة منى (كنت يوزباشياً، بينما كان بكباشياً)، وطلبت من جمال أن يفاتحه هو، أو ثروت عكاشة، خاصة وإن ثروت، كان صديقاً لحسين الشافعي، وكان جاراً له في السكن، وقبل حسين الشافعي الانضمام إلينا، وأبلغه جمال عبدالناصر أنني مسؤول مجموعة سلاح الفرسان، ولكنني حرصت طوال علاقتي به على منحه إحساساً بأنه ذو مكانة خاصة.
وهكذا تـكونت قيادة سلاح الفرسان من: حسين الشافعي، ثروت عكاشة، عثمان فوزي، وخالد محيي الدين.
ثم اختير حسين الشافعي ليمثل سلاح الفرسان، في لجنة منطقة القاهرة، التي كانت تضم جمال عبدالناصر، زكريا محيي الدين (وكان عبدالناصر قد ضمه إلى الحركة، قبل حوالي ثلاثة أشهر)، والطحاوي، ومجدي حسنين، وأمين شاكر، وعلي مطاوع، وحسين الشافعي، وخالد محيي الدين.
وفي بعض الأحيان، كان حسن إبراهيم يحضر اجتماعات هذه اللجنة.
ثم انضم رشاد مهنا إلى لجنة القاهرة، بعد إلغاء معاهدة عام 1936، وكان رشاد قد اتصل بعبدالناصر، الذي أحس أنه يمتلك تطلعات قيادية، فلم يخبره بوجود "لجنة القيادة"، واكتفى بضمه إلى لجنة القاهرة، ولعل رشاد تصور لفترة أن هذه اللجنة هي قيادة الحركة.
وكان رشاد مهنا شخصية لها احترام واسع في الجيش، وله علاقات واسعة، ومن ثم فقد كان هو، وعبدالناصر، كل منهما ينظر إلى الآخر، في حذر بالغ، وكان لرشاد مهنا نفوذ في سلاح المدفعية، ولهذا كان عبدالناصر حريصاً على ضمه إلينا، والتعاون معه، دون أن يطلعه على مجمل نشاطنا.
المجموعة الأولى
وصل عدد المجموعة الأولى التي كوَّنها جمال عبدالناصر إلى ثمانية أفراد.
وفي نهاية أكتوبر 1949، كان أول اجتماع لهذه المجموعة وكان واضحاً أثناء مناقشة الظروف التي تمر بها مصر أن الجميع متفقون على ضرورة تغيير النظام القائم عن طريق القيام بانقلاب عسكري.
وتم الاتفاق على البدء فورا في تكوين خلايا سرية بين ضباط الوحدات العسكرية المختلفة بالجيش والطيران بغرض تنفيذ هذا الانقلاب، بعد ست سنوات من بداية هذا النشاط.
وقد اتفق الرأي، فيما بين أفراد هذه المجموعة، على أن تجتمع، في فترات متقاربة، حتى تتكون وحدة فكر بينها، وكذا تكوين لائحة داخلية تحكم عملها، وتنظم مناقشاتها، وأن يُنتخب أحد أفرادها، كرئيس لها، ليرأس اجتماعاتها، ويتابع تنفيذ قراراتها، التي تتخذها، ويدعوها للاجتماع.
وتم انتخاب عبدالناصر، في اقتراع سري، لرئاسة اللجنة.
وأصبحت هذه اللجنة تمثل القيادة العليا للتنظيم.
وطُبق عليها مبدأ القيادة الجماعية، أي أن يكون اتخاذ القرار بالتصويت، وأن يصبح نافذاً، إذا حصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات، وعلى الأقلية أن تلتزم برأي الأغلبية.
وظل جمال عبدالناصر يرأس هذه اللجنة، حتى قيام الثورة في يوليه 1952 كان جمال صاحب الفكرة، وصاحب الدعوة، وكان دوماً، منذ دخلنا معاً الإخوان المسلمين، هو الرافض لفكرة احتوائنا، داخل الجماعة، والمدرك لأهمية وجود تنظيم مستقل لنا".
ويذكر البغدادي في مذكراته: "وفي اجتماعاتنا الأولى لهذه اللجنة، كان قد أتفق على ضرورة بث فكرتنا، وأهدافنا، بين ضباط الجيش والمدنيين.
ولم نجد وسيلة لتحقيق هذا الغرض غير أن نصدر منشورات سرية، من حين لآخر، حاملة اسم الضباط الأحرار.
وأن نرسلها بالبريد إلى منازل الأشخاص، الذين نرى أهمية بث فكرتنا، وأهدافنا بينهم.
وكان طبع هذه المنشورات يتم، في سرية كاملة، وكل مرة، في مكان آخر، غير المكان السابق. وكانت لدينا آلة كاتبة خاصة بنا، وكانت هي الأخرى دائمة التنقل، من مكان إلى آخر ولا تظل في مكان واحد إلا عدداً قليلاً من الأيام.
وفي هذه المنشورات كنا نهاجم الاستعمار، والإقطاع، والفساد، وتفكك العالم العربي، وأسباب هزيمة العرب أمام اليهود".
كان صلاح سالم غير راض عن الوضع المميز لعبدالناصر، في الحركة، وكان يتساءل: لماذا جمال، وليس غيره؟ وانتهز فرصة قيام عبدالناصر بمحاولة اغتيال حسين سري عامر، من دون عرض الأمر على "لجنة القيادة"، ليفجر الموضوع بصورة عنيفة، وتفجر الاجتماع، في مواجهة غاضبة، كان أطرافها: جمال وصلاح، وبغدادي.
وخرج صلاح من الاجتماع ليقابل ثروت عكاشة، وشكا له من أن جمال عبدالناصر يفرض رئاسته على "لجنة القيادة" وأنه يظن نفسه كل شئ، ويحاول أن يعطي لنفسه قدراً أكبر منا جميعاً. وأنه، لهذا، لن يحضر الجلسات، وثار صلاح سالم واحدة من ثوراته المعروفة، وشتم جمال أمام ثروت، بل وأبلغ ثروت بأسماء "لجنة القيادة"، وقال إن أكثرهم يتبعون عبدالناصر فيما يقول، وأبلغه، في نهاية الأمر، أنه سيستقيل من اللجنة، إذا لم يحصل على وضع مساوٍ لوضع جمال، بحيث يكون له أن يعرف كل أسماء "الضباط الأحرار"، مثل جمال عبدالناصر.
ويضيف خالد محيي الدين "وحكى لي ثروت كل ما قاله صلاح سالم، فأخذته إلى جمال عبدالناصر، وحكينا له ما حدث، وطلبنا منه إيجاد تسوية مقبولة حفاظاً على التنظيم، واصطحبت جمال عبدالناصر معي إلى بيت صلاح سالم، وكان حظر التجول مفروضاً، منذ حريق القاهرة، وكنا نتحرك بالزي الرسمي ليمكننا المرور، أثناء حظر التجول.
وحتى الفجر استمرت المناقشات التي انتهت بصلح ظاهري، بين عبدالناصر وصلاح سالم. وبرغم الصلح، ظل جمال عبدالناصر ساخطاً، في أعماقه، على صلاح سالم.
ومنذ ذلك الحين بدأ عبدالناصر يتحدث عن نفسه كثيراً، وعن دوره في تأسيس الحركة، ولما كنت في هذه الفترة، أقرب أعضاء "لجنة القيادة" إلى عبدالناصر، فقد عرض علي خطة لحل "لجنة القيادة" للتخلص من العناصر غير المرغوب فيها، ولما أبديت دهشتي، وسألته: كيف؟ قال: "لا ندعوها للاجتماع، ونبدأ أنا وأنت في مواصلة اجتماعاتنا بالضباط، دون أن نشعر أعضاء "لجنة القيادة" الآخرين بذلك، وبذلك نحل اللجنة حلاً واقعياً، ودون أن يشعر أحد".
وأبديت ترددي إزاء هذه الفكرة، لكن عبدالناصر ألح عليها.
غير أننا فوجئنا، بعد قليل، بعودة بغدادي، وجمال سالم، من العريش، وهما مصممان على تصفية الجو، تصفية نهائية، بانتخاب رئيس "للجنة القيادة"، وإعداد لائحة داخلية تنظم عمل اللجنة. وعقدت "لجنة القيادة" اجتماعاً، بمنزل كمال الدين حسين، بمنشية البكري، لنجري انتخابات الرئيس.
جميعاً منحناً صوتنا لجمال عبدالناصر، إلا أنور السادات، كان غائباً، وفوض عبدالحكيم عامر في الإدلاء بصوته، وطلب منه التصويت لحسن إبراهيم قائلاً: إذا كنا نشكو من سيطرة جمال عبدالناصر فلننتخب شخصاً لا يستطيع السيطرة علينا ويمكننا أن نتحكم فيه.
والغريب أن حسن إبراهيم نفسه كان قد منح صوته لجمال عبدالناصر.
وبدت الأمور وكأنها تسير سيراً حسناً، وكأن الخلافات قد صُفيت، لكن الحقيقة أن عبدالناصر ظل غير مرتاح لجمال سالم، وصلاح سالم، وبغدادي، والسادات.
اسم الضباط الأحرار
يذكر البكباشي عبدالمنعم عبدالرؤوف: "أنه بعد استدعاء البكباشي جمال عبدالناصر لمكتب رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادي، وتوجيه الاتهام له بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتدريبهم، اقترح علينا الصاغ محمود لبيب استبدال اسم تنظيم الإخوان الضباط باسم (الضباط الأحرار)؛ لإبعاد اسم جماعة الإخوان المسلمين، المكروهة من الملك، والأحزاب العميلة، والإنجليز.
ويذكر محمد نجيب، أن تنظيم الضباط الأحرار بدأ، بعد حرب فلسطين، وأنه أول من أطلق عبارة "الضباط الأحرار" على التنظيم، الذي أسسه جمال عبدالناصر.
ويذكر السفير جمال الدين منصور:
"أنه استأجر شقة، في حي الزيتون، باسم شقيقه سعد، لكي تكون مركزاً للاجتماعات.
وفي يوم، كنا مجتمعين في شقة الزيتون، وكان الحاضرون هم الزملاء سعد عبد الحفيظ، عبد الحميد كفافي، جمال الدين منصور، ومصطفى عبدالمجيد نصير، ومحمد حلمي إبراهيم، وانضم إلينا خالد محيي الدين، ودار الحديث حول أول منشور بعد النكسة الأولى (حادث عطا الله باشا)، وما يجب علينا عمله للظهور بمظهر جديد في الأسلوب، وضرورة تغيير اسم الحركة من "ضباط الجيش" إلى اسم آخر.
وأخذ كل منا يضع اسماً جديداً، فمن قال "ضباط الثورة"، ومن قال "ضباط الجيش الأحرار".
ثم نطقنا معاً، أنا وكفافي، "الضباط الأحرار" وكان تعليق أحد الحاضرين "الأحرار الدستوريين"، تشبها باسم أحد الأحزاب في ذاك الوقت، وضحكنا جميعاً، ثم انفض الاجتماع، بعد أن فوض المجتمعون الأمر لي لكي أذيل المنشور بالاسم الذي أراه مناسباً، حيث أن المنشور كان قد تم إعداده، ولم يبق سوى الاتفاق على الاسم الجديد للحركة.
ووضعت في نهاية المنشور الاسم الجديد "الضباط الأحرار".
هذا الاسم، الذي عبر عن وجه الثورة الجديدة. وتحت هذا الاسم، سارت الثورة في مدارها، إلى أن تحقق نجاحها في فجر 23 يوليه 1952، وحينما نجحت الثورة، دنا جمال عبدالناصر من خالد محيي الدين، وقال له: إنه أمر يدعو للإعجاب حقا هذا الاسم الذي أطلقه علينا جمال منصور وذيل به أول منشور في حركتنا، ليصبح الاسم لأقوى جماعة يتحدث عنها العالم كله الآن.
محمد نجيب وتنظيم الضباط الأحرار
كانت صلة جمال عبدالناصر قد بدأت بالأميرلاي محمد نجيب، أثناء حرب فلسطين، من خلال عبدالحكيم عامر، الذي قال لجمال عبد الناصر أنه قد وجد كنزاً في محمد نجيب، لجرأته، وشجاعته، ووعيه بأن أزمة الهزيمة، في حرب فلسطين، توجد في القاهرة، وليست في العريش.
ويذكر محمد نجيب أنه:
"في يوم من الأيام، جاء عبدالحكيم عامر، ومعه جمال عبدالناصر، وعرفت يوماً أنه زعيم تنظيمهم، وأنه جاء ليرى، ويزن تقدير عامر لي ولشخصيتي.
وكان هذا شيئاً غريباً، أن تقوم الرتب الصغيرة بفحص وطنية الضباط العظام، ومع ذلك، لم أعترض؛ لأنني كنت مقتنعاً بأن خلاص مصر يقع على عاتق الضباط الأحرار الصغار، فقد كان ينقص ضباطنا العظام الجرأة، كنا نريد حيوية، وإصرار وحرارة الصغار، وعقول وحكمة وخبرة الكبار، وكان عامر وعبدالناصر يوافقاني على هذا الرأي".
ولم يكن محمد نجيب يحضر اجتماعات التنظيم، أثناء تكوينه، لأنه كان محل رقابة سلطات الأمن المسؤولة، باعتباره نجماً محبوباً من ضباط الجيش، ولأنه كان في رتبة كبيرة (أميرلاي)، بينما كان أكبر الضباط، في ذلك الوقت، يحمل رتبة (بكباشي) والاتصال يبدو مريباً، ومثيراً كذلك.
ومن ثم تم الاتفاق بينه وبينهم، على أن تكون الصلة به فردية، وليست تنظيمية.
ويذكر محمد نجيب:
"وبعد لقاءات عديدة، اتفقنا على الخطوط العريضة، ودعاني عبدالناصر إلى تنظيم الضباط الأحرار، وهو تنظيم سري كان هو مؤسسه ورئيسه، ووافقت على ذلك.
ومن بين الضباط التسعة، الذين كانوا في مجلس القيادة بعد الثورة، كنت أقابل خمسة منهم، قبل الثورة: جمال عبدالناصر، عبد الحكيم عامر، حسن إبراهيم، صلاح سالم، وزكريا محيي الدين".
المنشور الأول
ظل جمال عبدالناصر متردداً، تجاه مسألة إصدار منشورات، لكنه، وإزاء إلحاح خالد محيي الدين عليه، وافق بشرط أن تكون عملية إصدار المنشور مسؤولية مجموعة الفرسان.
بدأت مجموعة جمال منصور [1] تثير نقاشات حامية في شأن ضرورة عمل شئ عاجل وسريع. يقول خالد محيي الدين وتحت إلحاح مجموعة جمال منصور، قررنا إصدار أول منشور لنا واستطاع جمال منصور أن يدبر لنا علاقة مع موظف بالسكة الحديد، اسمه شوقي عزيز، أبدى استعداده لكتابة المنشورات، على الإستنسل، وقررنا شراء آلة رونيو، وكان ثمنها (80) جنيهاً، قررنا أن نجمعه فيما بيننا، واقترح جمال منصور أن يشتريها صديقه شوقي عزيز باسمه ووافقنا" (انظر ملحق أول منشور باسم الضباط الأحرار).
وفي فبراير عام 1950 قرر تنظيم الضباط الأحرار إصدار منشوره الأول، وتولى خالد محيي الدين مسؤولية إصداره أمام مجموعة القيادة.
كتب جمال منصور المسودة الأولى للمنشور، وكان عنوانه "نداء وتحذير" وكانت قضية الأسلحة الفاسدة تشغل كل الأذهان بعد أن تفجرت أخبارها على صفحات الصحف، وكان المنشور يحذر ضباط الجيش من أن يساقوا إلى حرب أخرى، من دون استعداد، ومن دون سلاح، أو بأسلحة فاسدة، وحذر المنشور الملك من التدخل لمنع استمرار التحقيق العادل، في قضية الأسلحة الفاسدة، وإلا فإن عرشه سوف يصبح مهدداً.
عدَّل خالد محيي الدين بعض العبارات، ثم عرضه على جمال عبدالناصر، الذي وافق عليها بتعديلات بسيطة.
وكان جمال منصور قد اقترح أن نوقع المنشور باسم "الضباط الأحرار"، ووافق خالد محيي الدين، وكذلك جمال عبدالناصر.
وقام بطبع المنشور "شوقي عزيز" على ماكينة الرونيو، ثم نقلت الماكينة أكثر من مرة.
وأخيراً استقر أمر طباعة المنشورات، وتوزيعها بأجهزة الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وذلك في مرحلة تالية، بعد حريق القاهرة.
وكانت معظم المنشورات تُكتب بأقلام خالد محيي الدين، والقاضي أحمد فؤاد، وأحمد حمروش، والبعض كتبه جمال عبدالناصر.
ويقول خالد محيي الدين:
"كانت الماكينة تعمل بكفاءة، وكانت ماكينة التنظيم هي، كذلك، تعمل بكفاءة، كفافي وجمال منصور اشتريا طوابع البريد والأظرف، وثروت عكاشة أحضر عناوين منازل رئاسات الجيش، ونحن أحضرنا عناوين ضباط الفرسان، والآخرون أحضروا عناوين ضباط أسلحتهم، وكتبنا العناوين، على الآلة الكاتبة، وأضفنا إليها عناوين بعض السياسيين، وعدد من الصحفيين، ثم قصصنا شرائط الورق الصغيرة التي تحمل العناوين، كل عنوان على حدة، وألصقناه على ظرف، وقمت أنا، وجمال منصور، بوضع المنشور في الأظرف، ثم بتوزيعها على العديد من صناديق البريد، في القاهرة".
وكان لمنشور الضباط الأحرار فعل السحر وسط الضباط، وبدأ الكثيرون يتدفقون حماساً، ويسألون عن "الضباط الأحرار".
وكانت المناقشات حول المنشور بداية لحملة تجنيد، وسط الجيش، والأهم من هذا، أنها حددت لضباط تنظيم الضباط الأحرار مواقف العديد من الضباط.
ويقول: "كل ما طبعناه كان خمسمائة، أو ستمائة، ورقة فيما أذكر، لكنها سطرت بداية جديدة لعملنا ونشاطنا، بل وأدت إلى إحالة الفريق حيدر، والفريق عثمان المهدي، إلى المعاش.
وعندما طبعنا المنشور الأول كان عددنا قد وصل إلى حوالي (40) أو (50) ضابطاً، منهم حوالي (13) أو (14) تحت مسؤوليتي، في سلاح الفرسان، لكن المنشور الأول دفع بنا، خطوات كبيرة إلى الأمام، وحققنا نفوذاً واسعاً، وعضوية أوسع.
ومع هذا النجاح الباهر، قررنا أن نصدر المنشور الثاني، وكتبه جمال منصور كذلك، وأخذته إلى جمال عبدالناصر، ووافق عليه، وكتبه شوقي عزيز، وطبعناه، لكن الأمن كان يتربص بنا. وصدرت التعليمات لأجهزة البريد باحتجاز أية رسائل تحمل عناوين مكتوبة بالآلة الكاتبة، وموجهة إلى ضباط الجيش، وبالفعل تم احتجاز معظم الرسائل، ولم يصل منها إلا عدد محدود". وقد علمنا على الفور بذلك، تلقى ثروت عكاشة هذه المعلومة من صهره، أحمد أبوالفتح، رئيس تحرير "المصري"، وأبلغها لي، كنا نغلي غضباً وأحسسنا بروح عاتية من التحدي، كان قد تبقى لدينا حوالي (50) نسخه من المنشور، وزعناها على الضباط، الذين قاموا بدورهم بتوزيعها في الميسات، وفي دورات المياه في الوحدات، وفي المكاتب الإدارية، فأحدثت دوياً هي الأخرى.
وهنا كان تنظيم الضباط الأحرار قد بدأ يأخذ شكلاً منفصلاً عن القوة السياسية خارج الجيش، أي أنه لم يعد تنظيماً تابعاً للإخوان، أو الشيوعيين، أو الوفديين، أو السراي بل مجموعة واحدة تشكل جبهة وطنية متحدة.
رحلة آلة الرونيو
قرر تنظيم الضباط إعادة حساباته، ونقل "آلة الرونيو" من بيت شوقي عزيز، إلى بيت الضابط عبدالرحمن عنان، الذي رشحه حسن إبراهيم لوضع الآلة في بيته، وكان أعزب ومنضبطاً وحياته منظمة تنظيماً دقيقاً، وتقديراته الأمنية عالية، ومن هنا كان الاختيار جيداً وملائماً.
وبعد فترة، اقترح جمال عبدالناصر أن تنقل الآلة إلى بيت حمدي عبيد، وكان كذلك، أعزب ولكن لم يكن معروفاً كسياسي، أو حتى مهتماً بالسياسة، بل كان ضابطاً مرحاً خفيف الدم، ومن هنا رأى جمال أن بيته لا يثير أية شبهات.
وبعد أن تصاعدت حدة الموقف، وتزايد الخطر، انتقل الرونيو، مرة أخرى إلى منظمة الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، ليعمل عندها، وتطبع عليه منشورات الضباط الأحرار حتى قيام الثورة، وكان القاضي أحمد فؤاد هو الذي يكتب هذه المنشورات.
كانت علاقة أحمد فؤاد قد توثقت بخالد محيي الدين، وجمال عبدالناصر إلى حد كبير، وقد أعجب به الأخير، إعجاباً شديداً، وبهر إلى حد كبير، بمعلوماته الواسعة، وتحليلاته السياسية المتقنة، وباختصار، كان عبدالناصر أمام مثقف واسع الإطلاع، حلو الحديث يقدم إليه تحليلات سياسية جيدة.
وهكذا توثقت العلاقة "بحدتو"، وكثيراً ما كان جمال عبدالناصر يلتقي منفرداً بأحمد فؤاد، ويجرى معه مناقشات طويلة في شأن الموقف السياسي المحلي والدولي، لكنه أبداً لم يفكر في الانضمام إلى "حدتو".
وعن طريق هذه العلاقة احتضنت منظمة "حدتو"، باهتمام بالغ، كل الاحتياجات الفنية للضباط الأحرار، سواء الكتابة على الآلة الكاتبة، أو الطباعة، أو توزيع المنشورات.
وبعد مصادرة الأمن للمنشور الثاني والثالث، تطلب الأمر كتابة العناوين على الأظرف بخط اليد، وهذه مغامرة كبيرة، وتحدث خالد محيي الدين مع أحمد فؤاد في هذه المشكلة، وبعد عدة أيام أبلغ أحمد فؤاد خالد محيي الدين أن الضباط اليساريين أعضاء "حدتو"، الذين انضموا إلى "الضباط الأحرار"، يعرضون تطوعهم للقيام بهذه المهمة الخطرة، وهي كتابة العناوين على الأظرف بخط أيديهم، وكان من المتطوعين محمود المناسترلي، وصلاح السحرتي، وأحمد قدري، وجمال علام، كما تولى هؤلاء كذلك توزيع الأظرف على صناديق البريد. وهكذا أمكن للمنشورات أن تنتظم، وأن تتواصل، وأن تصل إلى جموع الضباط.
ويذكر خالد محيي الدين:
"ولأنني كنت أتعامل مع عبدالناصر بأمانة شديدة، فقد أبلغته أن عدداً، من الضباط اليساريين، يريدون الانضمام إلى مجموعة الفرسان، فوافق على الفور، فقلت له بصراحة إنهم شيوعيون، فقال: ما يهمش ما دام بيدخلوا كأفراد، ما فيش مشكلة".
وبدأت المنشورات تنتظم من جديد، ووضعنا خطة جديدة، كان هؤلاء الضباط الأربعة، السابق ذكرهم، يكتبون العناوين على الأظرف، ويوزعون أربعين، أو خمسين منشوراً فقط، على صناديق البريد يومياً، وكانوا يحاولون تغيير أسلوب كتابة العناوين، ومكان لصق طابع البريد، وأحياناً يكتبون العناوين، باليد اليسرى بهدف تضليل رجال الأمن، الذين كانوا يتابعون بحرص الرسائل ذات الخطوط المتشابهة، كذلك حرصنا على طي المنشور، بحيث تكون الكتابة إلى الداخل، حتى لا يمكن التعرف على أن المظروف يحتوى على أوراق مكتوبة بالآلة الكاتبة.
وهكذا استطاعت هذه المجموعة أن تدفع عملنا، في توزيع المنشورات، خطوة مهمة إلى الأمام.
وبعد حريق القاهرة في 26 يناير عام 1952، انتقل جهاز الرونيو، إلى "حدتو" وهكذا اكتملت الدائرة: "حدتو" تسهم معنا في صياغة المنشور، عن طريق أحمد فؤاد، ثم يُكتب عندها على الآلة الكاتبة، ثم تطبعه، وتقوم مجموعة من ضباطها بإرسال الجزء الأكبر منه، بالبريد، بينما تسلم لنا كمية لتقوم المجموعات بتوزيعها، باليد، على عدد من الضباط الموثوق فيهم، أو توزيعها على ميسات الضباط، وفي المكاتب، وعلى رئاسات الجيش.
وهكذا، وطوال هذه الفترة، كان التعاون، والانسجام، واضحاً بين عبدالناصر وأحمد فؤاد، وكانت المنشورات يتوالى إصدارها، وكان عجز الأمن عن إيقافها، أو القبض على مصدريها، يمثل عنصر حماس واسعاً داخل القوات المسلحة.
وقد بدأ أحمد فؤاد في محاولة نقل بعض الأساليب اليسارية، في العمل الحزبي، إلى حركة "الضباط الأحرار"، فاقترح على عبدالناصر إعداد سلسلة من محاضرات التثقيف لمجموعات الضباط الأعضاء في الحركة، ولم يعترض عبدالناصر، لكنه طلب التأجيل حتى يشتد عود الحركة.
ومن الضروري أن نشير إلى أن علاقة "حدتو" بالضباط الأحرار قد تركت أثراً ملحوظاً على شعاراتنا والأهداف المعلنة في منشوراتنا.
ولأن الاتجاه الوطني، السائد في صفوفنا، كان، في جوهره، معادياً للاستعمار، ومتمسكاً بالاستقلال الحقيقي، ولأن "حدتو" كانت، في تعاملها معنا، تركز على هذا الجانب كذلك، فلم تبرز مشاكل ما، خلال هذا العمل المشترك.
وكان استمرار صدور المنشورات، وتوقيع "الضباط الأحرار"، إعلاناً عن بداية مرحلة جديدة، بعد فترة امتدت خلال السنوات من عام 1946 حتى عام 1949، عندما كانت تصدر للجيش منشورات من تنظيم الضباط الإخوان، وتنظيم الشيوعيين، بتوقيع (رجال الجيش)، ومنشورات مجهولة كانت تُنسب للحرس الحديدي.
ومنذ صدرت منشورات الضباط الأحرار، توقفت القوى السياسية عن إصدار منشورات خاصة بها، وكان هذا إعلاناً عن نوع من الوحدة التنظيمية.
يقول خالد محيي الدين:
"مع تواصل صدور المنشورات بدأت بعض الشائعات تحاول التهوين من أمرها، وتقول أنها تصدر عن مدنيين، من خارج الجيش، وأنه لا وجود لشيء اسمه "الضباط الأحرار".
ولهذا، وبعد المنشور الخامس، بدأ الضباط الأحرار يفكرون في حيلة لإقناع الضباط بأن هذه المنشورات تصدر عن زملائهم، ومن بين صفوفهم.
واهتدوا إلى حل لهذه المشكلة، فكان المنشور من صفحة واحدة، وعلى الصفحة الأخرى أصدرنا مجلة سميت "صوت الأحرار" وكانت تحتوى على أخبار من الجيش، أخبار لا يمكن أن يتعرف عليها إلا الضباط، وكانوا ينشرون الخبر ويعلقون عليه".
وعندما بدأ تساؤل الضباط عن البرنامج، الذي يرتبطون به، أُعدت الأهداف الستة، وصدرت في منشور، أعدها أحمد فؤاد وخالد محيي الدين، ووافق عليها جمال عبدالناصر.
أصبح اسم "الضباط الأحرار" يتردد في الجيش، همساً أحياناً، وعلانية أحياناً أخرى، كما أن القوى السياسية المختلفة، وبعض الصحفيين، حتى المخابرات الحربية، والبوليس السياسي، كانوا يعلمون بوجود هذا التنظيم الوليد.
[center][b][color=#333333]ولكن أجهزة الأمن، سواء في الجيش، أو الداخلية، كانت محدودة العدد والعدة، كان ضباط المخابرات الحربية (15) ضابطاً، جُند بعضهم في الضباط الأحرار، أو كانوا على صلة هامشية