أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل السادس: نتائج انسحاب العراق من حلف بغداد السبت 01 ديسمبر 2012, 11:55 pm | |
| الفصل السادس: نتائج انسحاب العراق من حلف بغداد
ترتب على انسحاب العراق من حلف بغداد الآثار التالية:
- الانسحاب من الاتفاق الخاص العراقي - البريطاني وملاحقه السرية وتجميد اتفاقية قاعدة الجبانية السرية.
- ترتب عليه إلغاء الحكومة ثلاث اتفاقيات، عقدها النظام الملكي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي اتفاقية المساعدات العسكرية الأمريكية المعقودة في عام 1954، واتفاقية المساعدة العسكرية والاقتصادية المعقودة في عام 1955، ثم اتفاقية المساعدة العسكرية، وفقًا لمبدأ أيزنهاور، التي عقدها الطرفان عام 1957.
- انسحاب العراق من المنطقة الإسترلينية، في 4 يونيه 1959، أي بعد شهرين من انسحاب العراق من حلف بغداد، انسجاماً مع سياسة الحياد الإيجابي، وتحرير الاقتصاد العراقي من التبعية البريطانية.
قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعقد اتفاقية عسكرية ثنائية مع كل من تركيا وإيران وباكستان، في مايو 1959، تعهدت فيها بتقديم مساعدات عسكرية لتلك الدول لحفظ الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، إثر انسحاب العراق من حلف بغداد وشرائه الأسلحة من الاتحاد السوفيتي.
تغيير الاسم إلى حلف المعاهدة المركزية "Cento Pact"، وذلك خلال المؤتمر الذي عقد في أنقرة بتاريخ 21 أغسـطس 1959، وبُررت التسمية الجديدة بكون الحلف في مركز وسط بين حلف شمال الأطلسي: " NATO"، وحلف جنوب شرقي آسيا: "SEATO".
3. العراق وإعلان سياسة الحياد الإيجابي:
ركّز عبدالكريم قاسم في خطبه، التي ألقاها في مناسبات عديدة، على اتباع حكومته سياسة الحياد الإيجابي، وسعي حكومة الثورة إلى إقامة علاقات الصداقة مع جميع دول العالم، وإلى توسيع العلاقات والروابط الودية في مختلف الميادين مع الدول الاشتراكية.
بل توسع عبد الكريم قاسم، في تفسير مفهوم الحياد، إلى رفض تدخل الاستعمار في شؤون البلاد العربية، وإلى مقاومة هذا التدخل عن طريق تقديم المساعدات العسكرية والمالية إلى الأقطار العربية التي كانت تتعرض إلى هذا التدخل، مهما كان نوع النظام السياسي السائد في تلك الأقطار.
وكان ردّ الفعل لذلك هو تصاعد الضغوط الخارجية على العراق، من خلال إثارة شركات النفط الأجنبية العاملة بها، من أجل حمل الحكومة العراقية على الانحياز السياسي للمعسكر الغربي.
وكان ردّ فعل حكومة عبدالكريم قاسم، تجاه هذه الضغوط، هو الاتجاه إلى إضعاف مركز هذه الشركات عن طريق إلغاء بعض الامتيازات التي كانت تتمتع بها في العراق.
ومن ثم تم إصدار قانون الرقم (80) لسنة 1961، والذي أمَّم بموجبه 99.5 % من الأراضي غير المستثمرة التي كانت تقع تحت دائرة امتيازاتها.
وقد أدت هذه السياسة إلى انحياز العراق إلى الاتحاد السوفيتي، وتوثيق ارتباطه به، وكسب من ذلك الفوائد التالية:
- الحصول على كميات كبيرة من الأسلحة السوفيتية رفع بها قدرة الجيش العراقي وكفاءته القتالية، عن طريق تزويده بالأسلحة والطائرات الحربية التي لم يستطع الحصول على ما يماثلها من الدول الغربية.
- مؤازرة الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية لمواقف العراق في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة.
- خروج العراق من دائرة الأحلاف العسكرية الغربية، ومن القيود التي وضعت على قواته.
- الحصول على مساعدات مالية من الاتحاد السوفيتي قوامها قرض بمبلغ يعادل (55) مليون دينار عراقي، بفائدة قدرها 2.5%، على هيئة نفقات للبحوث ومعدات وآلات ومواد.
- الحصول على مساعدات فنية قوامها الخبرات والاستشارات، يقدمها الاتحاد السوفيتي في شكل الخبراء والأخصائيين في شؤون الخطط والتصميمات، مع تدريب العراقيين للعمل في المشروعات التي تؤسس في العراق، أو تدربهم بالاتحاد السوفيتي في المشروعات المماثلة [8].
4. أزمة الكويت:
رحب شيخ الكويت عبد الله السالم الصباح بقيام ثورة 14 يوليه 1958؛ لأن الثورة خلصته من ضغوط نوري السعيد من أجل الانضمام إلى الاتحاد العربي الهاشمي، وتحمل نفقات الأردن المالية، وقد كانت المباحثات جارية حول هذا الموضوع بين الكويت والعراق، وتم الاتفاق على مسودة اتفاقية لانضمام الكويت إلى الاتحاد الهاشمي، ولكنها لم تنضم بصفة رسمية [9].
كما كانت المباحثات جارية حول الموضوع نفسه بين العراق وبريطانيا، وتحدد موعد لعقد مؤتمر أنجلو - عراقي في لندن لبحث هذا الموضوع في 20 يوليه 1958.
وقد بعث شيخ الكويت عبد الله السالم الصباح ببرقية تهنئة لعبد الكريم قاسم بنجاح الثورة، كما بعث في 25 أغسطس 1958 كتاباً يشرح فيه "بعض ما تلاقيه الكويت من مصاعب، فيما يتعلق باستيرادها المواد الغذائية من شقيقتها العراق، وعن القيود التي فرضت على تنقل الكويتيين إلى العراق.
وأجاب عبد الكريم قاسم على الكتاب موضحاً فيه أن التعليمات قد صدرت لإطلاق حرية التنقل والنقل بين البلدين.
وفي 25 أكتوبر 1958، زار شيخ الكويت العراق ليقدم التهنئة لقادة الثورة في العراق، وكان شيخ الكويت يهدف، من وراء هذه الزيارة، إلى دعم العلاقات مع العراق، وفي الوقت نفسه ليتعرف على موقف قادة الثورة من الكويت، وعن سير علاقاتهما المستقبلية.
وحدثت بادرة أخرى لتقوية العلاقات بين البلدين في 19 ديسمبر 1958؛ عندما طلبت الحكومة العراقية فتح قنصلية تجارية لها في الكويت لتتولى رعاية مصالح العراقيين فيها، ولتنفيذ القضايا التي أثارها شيخ الكويت في زيارته الأخيرة للعراق.
واستمرت العلاقات بين الكويت والعراق بشكل طبيعي خلال السنوات التي تلت ثورة 14 يوليه 1958، وتم تبادل الوفود التجارية والاقتصادية بين الدولتين بشكل طبيعي.
وعندما أعلنت بريطانيا في 19 يونيه 1961 عن توقيعها على معاهدة الاستقلال مع الكويت أسرع عبد الكريم قاسم إلى إرسال برقية إلى شيخ الكويت في 20 يوليه 1961، يبلغه فيها سروره بإلغاء اتفاقية 1899، "المزورة وغير الشرعية المعقودة بين قائمقام الكويت الشيخ مبارك الصباح، وبين الإنجليز دون علم السلطات الشرعية في العراق آنذاك".
وفي 25 يونيه 1961، عقد عبدالكريم قاسم مؤتمراً صحفياًّ في مبنى وزارة الدفاع، أثار فيه مسألة تبعية الكويت للعراق بوصفها قضاءً عراقياًّ تابعاً لمحافظة البصرة، وأشار في مؤتمره الصحفي إلى الأسس التاريخية التي تؤكد ذلك، وقال: "إننا باستطاعتنا أن نحصل على حقوقنا كاملة، ولكننا نلجأ دوماً وأبداً إلى السلم، إلاّ أنني أؤكد لكم أن الاستعمار لا يفيد معه السلم فهو عدو السلم.
وإن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق.
ولا توجد حدود بين العراق والكويت مطلقاً.
وإن ادعى أحد بأن هناك حدوداً فليظهرها".
وسبق هذا المؤتمر الصحفي، عقد مجلس الوزراء العراقي لعدة جلسات بحث فيها مسألة الكويت، والطريقة التي يجب اتباعها لابتلاع الكويت؛ بزعم استرجاعها إلى الوطن الأم.
وظهر في مجلس الوزراء رأيان:
الأول:
ويمثله العسكريون، وكانوا يرون أن عودة الكويت لا تتم إلا عن طريق الحل العسكري باحتلال الكويت، ومن ثم إعلان نبأ انضمامها إلى العراق.
الثاني:
ويمثله المدنيون، ويؤكدون على ضرورة اتباع الطرق الدبلوماسية لضم الكويت، وتبنى هذا الموقف وزير الخارجية العراقي آنذاك هاشم جواد.
وبعد المناقشات اقتنع عبد الكريم قاسم، والوزراء العسكريون، بوجهة نظر وزير الخارجية، ومن ثم عُقد المؤتمر الصحفي، دون استخدام لغة أو صيغة العمل العسكري.
ويمكن إرجاع أسباب ادعاء عبد الكريم قاسم إلى اعتبار الكويت جزءًا من العراق إلى الآتي:
إشغال الرأي العام العراقي بهذه المشكلة، باعتبارها مسألة قومية، وإبعاده عن التفكير في الوضع الاقتصادي والسياسي المتردي في الداخل.
إن الاحتلال العسكري للكويت سوف يعرض العراق لخطر الحرب مع بريطانيا، خاصة أن القوات العسكرية البريطانية كانت موجودة في البحرين.
حاجة العراق للأموال لتغطية المشروعات الكبيرة التي تمت خلال عامي 1959 - 1960، كما أن موارد النفط في العراق أصبحت لا تكفي لسد نفقات هذه المشروعات، وعليه وضع في اعتباره إمكانية الاستفادة من موارد النفط الكويتية.
ولكن المشكلة أخذت أبعاداً جديدة، إذ أثيرت أمام الأمم المتحدة، بعد أن رفع العراق شكوى أمام مجلس الأمن بسبب إنزال القوات البريطانية في الكويت.
وطُرح في مجلس الأمن مشروعان: أحدهما مصري، والآخر بريطاني، لحل المشكلة.
وقف الاتحاد السوفيتي بجانب العراق، واستخدم حق الفيتو (النقض) ضد المشروع البريطاني.
أما المشروع المصري فلم يحصل على الأصوات اللازمة لصدوره.
وهكذا أخفق مجلس الأمن في حل المشكلة.
عقب ذلك قررت الجامعة العربية إرسال قوات عربية، بديلة عن القوات البريطانية في الكويت، طبقاً للمشروع الذي تقدمت به المملكة العربية السعودية في يوليه 1961، فانسحب العراق من مناقشات مجلس جامعة الدول العربية احتجاجاً على ذلك.
ثم أرسلت أربع دول عربية قوات عسكرية، باسم جامعة الدول العربية، لتحل محل القوات البريطانية في الكويت، وهذه الدول هي: (السودان، الأردن، المملكة العربية السعودية، الجمهورية العربية المتحدة)، بلغ تعدادها (2300) جندي، وصلت إلى الكويت، في شهر سبتمبر 1961.
وفي أكتوبر 1961، غادرت جميع القوات البريطانية الكويت، بعد استبدالها بقوات عربية.
والواقع أن دعوة عبدالكريم قاسم لضم الكويت لم تلق تأييداً لها، وانعزل النظام عن القوى الشعبية، كما انعزل عربيًا ودوليًا؛ بعد قراره قطع العلاقات الدبلوماسية مع أية دولة تعترف بالكويت، وفشل عبد الكريم قاسم في محاولته هذه، وفشل في تحقيق ما كان يهدف إليه، سواء من خلال توفير موقع إستراتيجي مهم للعراق، أو موارد مالية إضافية.
أما الأحزاب السياسية فكان موقفها متبايناً إزاء قضية الكويت، كما يلي:
الحزب الوطني الديموقراطي: كان من رأيه تأييد مطالبة عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق، باعتبار أنها جزء من العراق فصله الاستعمار البريطاني عنه، وأقام فيها كياناً شكلياًّ لخدمة مصالحه في الخليج، خاصة بعد اكتشاف النفط فيه فيما بعد.
ومن ثم فإن الحزب كان يرى أن مقومات الدولة لا تتوافر في الكويت، وأنها مرتبطة اجتماعياًّ واقتصادياًّ بالعراق عن طريق البصرة، غير أنه -أي الحزب- لم يؤيد ضم الكويت إلى العراق، دون موافقة الدول العربية الأخرى، ورأى في تهديدات عبد الكريم قاسم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أية دولة تعترف بالكويت سياسة غير مجدية، بل ومتهورة؛ لأنها تؤدي إلى عزل العراق عربياًّ ودولياًّ.
الحزب الشيوعي العراقي (جماعة اتحاد الشعب):
كان يعارض الطريقة التي اتبعها عبدالكريم قاسم في ضم الكويت، ويؤكد على "أن المسألة الأساسية، في الظرف الراهن، هي مسألة تحرير الكويت من الاستعمار.
وهي جزء من قضية العرب الكبرى.
أما مسألة الرابطة بين العراق المتحرر، والكويت الذي يناضل من أجل التحرر فإن الحزب يرى أن المستقبل سيقررها، طبقاً للإرادة الحرة للجماهير الشعبية في العراق والكويت معاً، يمارسونها بمعزل عن الاستعمار، وعن الأساليب الاستبدادية في الحكم، وفي ظروف التمتع بالحريات الديموقراطية".
وأكد الحزب أن حل مسألة الكويت لا يتم إلا عن طريق تصحيح عرض القضية الكويتية، والتمسك بجوهرها، باعتبارها قضية تحرير الكويت من الاستعمار ومن نهب احتكاراته النفطية، مع ضرورة اتخاذ خطوات حاسـمة لطرح مشكلة تحرير الكويت على الصعيد الدولي، والدفاع عن عدالتها لكسب تأييد شعوب العالم وحكوماتها.
الأحزاب والقوى القومية:
استنكرت مطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت؛ باعتبار أن دوافعها إقليمية وشخصية يراد بها الحفاظ على حكمه الموشك على الانهيار.
فأصدرت حركة القوميين العرب بياناً لها، في 10 يوليه 1961، جاء فيه: "إن هذه الدعوة في جوهرها دوافع إقليمية وشخصية لفظها النضال العربي منذ زمن طويل، وإن هذا الادعاء لا يمت إلى دعوة الوحدة العربية بصلة".
الرابطة القومية في العراق:
أصدرت بياناً أكدت فيه "أن عبدالكريم قاسم، في دعوته هذه، قد نفَّذ رغبة الاستعمار البريطاني، وعبر عن أمانيه وأطماعه أصدق تعبير، عند مناداته بضم الكويت جبراً وبالقوة إلى العراق؛ لأنه أوجد مشكلة يستطيع أن ينفذ منها الاستعمار؛ ليجد الوسيلة والمبرر لبقاء قواته العسكرية مرة أخرى بالكويت، بل ويجد الوسيلة لإبعاد العراق عن الصف العربي.
حزب البعث العربي الاشتراكي:
لم يُصدر بياناً حول الموضوع، ولكن علي صالح السعدي، نائب أمين سر الحزب وقتئذ، فسر موقف الحزب بقوله: "إن أسلوب عبد الكريم قاسم الدعائي في المطالبة بالكويت جعل القوى والأحزاب القومية ترى، في دعوته هذه، مجرد ضم إقليمي؛ لأن الوحدة لا تتحقق إلاّ بالأسلوب الشعبي، وبالاستناد إلى الجماهير".
هكذا فشل عبدالكريم قاسم في محاولته ضم الكويت، والتي كانت حلماً يراوده لإصلاح موقفه الداخلي والخارجي.
كما كان يمكنه من خلالها أن يحقق النتائج التالية:
- تحقيق موقع إستراتيجي للعراق على الخليج العربي، ومنفذ واسع على البحر يستطيع أن يلعب، من خلاله، دوراً مهماًّ في تحديد سياسته في الخليج العربي الغني بالنفط.
- توفير موارد مالية كبيرة للعراق، مع توفير مركز ثقل له على المستوى العربي، وفي منطقة الخليج.
- الحصول على مركز قوي لمنع تصدير نفط عبدان إلى إسرائيل؛ وذلك عن طريق الضغط السياسي والعسكري عليها.
- تحقيق قوة ضغط عراقية على شركات النفط الاحتكارية لاسترجاع حقوقه النفطية المشروعة.
- اكتساب مركز ثقل كبير في إطار التوازن مع إيران.
5. تطور العلاقات مع مصر:
منذ اليوم الأول للثورة بدأ عبدالكريم قاسم يشكو من أن هناك قوىً تحاول أن تجره إلى عمل وحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، والحقيقة أن أجواء بغداد كانت مفعمة بالترقب بعد الثورة؛ فقد كانت هناك جماهير عريضة تتبنى الوحدة.
وظهرت في مواجهتها دعوة تنادي إلى الاتحاد [10].
ولم يكن عبدالكريم قاسم يريد أياًّ من الاتجاهين، ولعلّ هذه هي النقطة الوحيدة التي شاركه فيها جمال عبدالناصر الذي كان يرى أن نشوب معركة حامية في بغداد بين القائلين بالوحدة والقائلين بالاتحاد هو افتعال لمعركة وهمية ليس هناك ما يقتضيها؛ لأن هناك أولوية يجب أن تسبقها، وهي تأكيد وحدة الثورة العراقية، وتدعيم مسيرتها نحو أهدافها.
وبدا عبدالكريم قاسم، وكأن كل ما يعنيه هو تدعيم سلطته الشخصية، بحيث ينفرد وحده بالسلطة في العراق، وقد اختار لنفسه، في ذلك الوقت، لقب "الزعيم الأوحد"، وأدى ذلك الوضع إلى مضاعفات سيئة على القمة العراقية.
وبعث جمال عبدالناصر، في ذلك الوقت، برسالة إلى عبد الكريم قاسم يطمئنه فيها إلى أن الجمهورية العربية المتحدة ليس لها حزب، وليس لها رجال يُحسبون عليها في بغداد، وأن كل ما يهمها هو تثبيت الحكم الوطني في بغداد وتدعيم قوته، ورد عبد الكريم قاسم شفوياًّ بما مؤداه أن مشكلته هي أن عبد السلام محمد عارف ينسب الثورة لنفسه؛ بينما كان هو الذي تولى تنفيذها في بغداد في الوقت الذي كان هو -أي عبد الكريم قاسم- لا يزال بعد خارج العاصمة، ويؤكد أن كون عبد السلام محمد عارف هو الذي قام بالتنفيذ لا ينفي أنه هو (عبدالكريم قاسم) القائد الحقيقي للثورة.
وبعد أقل من شهرين فقط من قيام الثورة، أي في 5 سبتمبر 1958، استطاع عبد الكريم قاسم، والذي كان يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة أن يعزل عبد السلام محمد عارف من منصبه، كنائب للقائد العام للقوات المسلحة، متعللاً بأن ذلك جاء تحت ضغط من قادة الفرق في الجيش العراقي [11].
ولم تمض غير أيام قليلة حتى طلب "عبد الكريم قاسم" من "عبد السلام محمد عارف" أن يغادر العراق إلى أوروبا لبعض الوقت، حتى يستطيع تهدئة الأمور، وسافر عبدالسلام محمد عارف، ثم عاد بعد أسبوع، واعتقلته السلطات في مطار بغداد، ووضع في السجن، وبدأ عبد الكريم قاسم بعدها يلمح، في مجالسه، إلى أن عبد السلام محمد عارف كان يريد أن يفرض عليه أوضاعاً لا يريدها، وأن لديه الوثائق التي تثبت ذلك.
وذهب بعض من الوزراء القوميين، وفي مقدمتهم صديق شنشل، يستفسرون من عبد الكريم قاسم عن أسباب ما فعل، فقال لهم إن السفير البريطاني السير مايكل رايت أبلغه خمس مرات بأن يأخذ حذره من عبد السلام محمد عارف، وإن عبد القادر إسماعيل، زعيم الحزب الشيوعي العراقي، ذكر له أن عبد السلام محمد عارف يتآمر مع بعض الضباط على عزله، والمناداة بوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، بل إن بعض الوزراء من الجمهورية العربية المتحدة من العسكريين السوريين حذروه من أن المصير الذي يعدّ له هو أن يصبح المواطن الثاني في الجمهورية العربية المتحدة، كما أصبح شكري القوتلي المواطن الأول فيها، بل إنهم حذروه من المصير الذي انتهوا هم أنفسهم إليه؛ فقد وجدوا أنفسهم بعد الوحدة وزراء بلا قوة سياسية في حين أنهم كانوا، وهم ضباط في الجيش، أصحاب القوة السياسية كلها.
وعندما وصلت هذه الأنباء إلى جمال عبدالناصر، أرسل يؤكد لعبد الكريم قاسم أن ما يفكر فيه هو أبعد الأشياء عن نواياه.
وأكد ذلك بقوله: "إن عبد الكريم قاسم هو قائد ثورة العراق وزعيمها، وإن القومية العربية والوحدة العربية يتحققان تماماً بالتضامن المخلص والصادق".
لكن وساوس عبدالكريم قاسم ظلت تسيطر على تفكيره، وتحكم تصرفاته.
وذهب بعض من الوزراء القوميين إلى عبد الكريم قاسم، وقالوا له إن جمال عبد الناصر أعلن عن نواياه، وإنه على وجه التأكيد لا يطلب ولا يريد وحدة لسنوات طويلة مع العراق.
قال عبدالكريم قاسم: "إن لديه وثيقة تثبت العكس".
وأبرز لهم من درج مكتبه برقية صحفية حاول صحفي أمريكي أن يبعث بها إلى صحيفته في نيويورك، وكان النص العربي للبرقية يقول: "يتزايد الشعور بالفزع هنا من احتمال قيام انقلاب أو ثورة أخرى في العراق، وقد علمت من أوثق المصادر أن ناصر يؤيد الاتجاه المعارض لقاسم، وقد أيدت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية ذلك، بل ولدى سفارة الولايات المتحدة الأمريكية أدلة قاطعة على أن المصريين يساندون الثائر القديم، رشيد عالي الكيلاني، بالمال والسلاح ضد قاسم".
وفوجئ الذين كانوا يتحدثون مع قاسم بهذا الكلام، وقال أحدهم لعبد الكريم قاسم إنه من الواضح أن هذه البرقية موصى بها من السفارة البريطانية أو السفارة الأمريكية، أو أنها على وجه التأكيد موجهة لأعصابه أكثر مما هي موجهة إلى قراء صحيفة هذا المراسل في نيويورك.
ثم كانت مفاجأتهم أكثر عندما علموا من عبد الكريم قاسم أنه، بناء عليها، أصدر أمراً بالقبض على رشيد عالي الكيلاني! وعندما أبدوا دهشتهم، قال لهم قاسم إن لديه ما هو أكثر؛ فلقد جاءه السفير البريطاني، السير مايكل رايت، في الساعة الثانية صباح يوم 6 ديسمبر 1958، وقابله في وزارة الدفاع، وأبلغه برسالة عاجلة من لندن نصها أن الاستخبارات البريطانية وصلتها معلومات تؤكد أن رشيد عالي الكيلاني يدبر لانقلاب، وأنه يتصل ببعض الضباط في الجيش، وأن مالاً وسلاحاً قد وضعا تحت تصرفه ليقوم بانقلاب يفتح الطريق لانضمام العراق في وحدة أو اتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة!.
وازدادت الدهشة على وجوه الجالسين معه، ولم يجد ما يقوله سوى أن يعلق بقوله "لقد تبين لي أن ما يسمى بثورة رشيد عالي الكيلاني كان خيانة كبرى لمصلحة الاستعماريين والصهاينة".
واحتد أحد الوزراء، وقال لعبد الكريم قاسم إنه "لا يوافق على صدور هذا الكلام منه عن رشيد عالي الكيلاني.
وإذا كانت ثورة الكيلاني التي حاربت الإنجليز عميلة للاستعمار، فماذا نقول عن أحوالنا الراهنة، ونحن حتى الآن لم نخرج من حلف بغداد، ولا استطعنا إخراج الإنجليز من قاعدة الحبانية، ثم تستمتع أنت الآن بدسائس السفير البريطاني مايكل رايت، والذي كان موجوداً في العصر الملكي".
ورد عبدالكريم قاسم بأن السفير مايكل رايت سوف يغادر العراق قريباً.
وقد عرض عليه، عند لقائه، اسم السفير المرشح لكي يخلفه، وهو السفير همفري تريفليان، والذي كان سفيراً لبريطانيا في مصر حتى معركة السويس، وهذا معناه أن الإنجليز يراقبون النشاط المصري ويتوقعون منه شرًّا في العراق.
وعندما وصل هذا كله إلى جمال عبد الناصر استدعى سفير العراق في القاهرة "فائق السامرائي" إلى مقابلته، وأبلغه رسالة منه، طلب إليه أن يبعث بها إلى عبد الكريم قاسم وكان مضمونها:
"إن هناك محاولة لإيجاد خلاف لا مبرر له بين جمهورية العراق، والجمهورية العربية المتحدة، وهي في الحقيقة عملية المقصود بها عزل العراق، وإن الرئيس جمال عبد الناصر لا يستطيع أن يراقب ما يجري الآن، ويكتفي بمتابعته والسكوت عليه، وإنه يفكر طويلاً فيما يمكن عمله، وهو لا يجد وسيلة غير أن يحاول بنفسه لقاء الرئيس عبد الكريم قاسم ليحدثه بكل ما في قلبه، والرئيس على استعداد لأن يذهب إلى بغداد إذا أراد عبد الكريم قاسم ذلك.
وهو على استعداد للقائه والترحيب به في دمشق أو في القاهرة، إذا رغب في ذلك، وستكون فرصه له أن يلمس بنفسه تقديرنا له واعتزازنا بثورة العراق.
وإذا لم يكن يريد إتمام الاجتماع في بغداد أو في دمشق أو في القاهرة فليكن اللقاء في أي بقعة يختارها على الحدود العراقية السورية"، ولم يتلق فائق السامرائي رداًّ على الرسالة، وإن كانت التطورات في العراق بدأت تتكفل بتقديم الردّ.
بدأت حملات اعتقالات واسعة بين الضباط العراقيين؛ فقد اعتقل كل الذين عُرفت عنهم توجهاتهم العربية الخالصة، وبينهم معظم الضباط الذين قاموا بثورة 14 يوليه، كما جرت اعتقالات لأعداد كبيرة من المدنيين المهتمين بالشؤون العامة، وبينهم أعضاء من حزب البعث الاشتراكي.
وجرت استقالات بالجملة بين الوزراء القوميين، وبينهم صديق شنشل وزير الإرشاد، وناجي طالب وزير الشؤون الاجتماعية، والدكتور عبد الجبار جومرد وزير الخارجية، والسيد بابا علي الشيخ محمود وزير المواصلات والأشغال، والدكتور محمد صالح محمود وزير الصحة، والأستاذ حسين جميل، والسيد فائق السامرائي.
ومن ناحية أخرى، أعلن عبد الكريم قاسم أن الثورة في خطر، وأنه يرى تأليف جيش للمقاومة الشعبية يتولى حمايتها، وكان هذا تطوراً خطيراً ينطوي على تشكيك في الجيش.
وإزاء هذه التطورات توجه عدد من الضباط لمقابلة عبد الكريم قاسم، وشرحوا له محاذير وجود جيش شعبي مسلح في مواجهة جيش وطني منظم.
وبدا واضحاً من تعاقب الأحداث أن الحزب الشيوعي وجد فرصة في الجيش الشعبي حتى وصل إلى السيطرة شبه الكاملة عليه.
وراح الجيش الشعبي يرتكب حماقات وجرائم لا حدود لها؛ فقد أعطى لنفسه حق القبض على الناس، وحتى تفتيش البيوت والمكاتب، بل وعقد المحاكمات الشعبية.
وصف فائق السامرائي، في كتاب استقالته، أحوال العراق بقوله في نصها "إن ما يجري في العراق لا يمكن إلا أن يكون تمهيداً لإعلان حكم شيوعي مطلق، وإنه يريد أن يكون سفيراً لحكومة تحترم نفسها، ويحترمها الناس، ويرفض أن يكون سفيراً لعصابة حمراء في طريقها إلى السيطرة على العراق".
وهكذا استطاعت دسائس الغرب وسفرائه أن تدفع عبدالكريم قاسم إلى أحضان الأحزاب الشيوعية.
وابتداء من أواخر عام 1958، بدأ جمال عبد الناصر يلمح في خُطبِه العلنية إلى مخاطر سيطرة الشيوعيين على بغداد، ويرى فيها تهديداً للعراق لا يخدم غير مصالح الاستعمار.
بل أن سياسة العراق واتجاهها ناحية الشيوعية أديا إلى توتر العلاقات، بين القاهرة وموسكو، بسبب الموقف السوفيتي المشجع لحركة الشيوعية في بغداد، والمنتقد لفكرة القومية العربية.
6. مظاهر التفسخ في جميع الميادين:
شهد العراق، في عهد حكومة الثورة، انتكاسات في كثير من الميادين، خاصة منذ عام 1960، إذ استفحلت مظاهر التفسخ والانحلال والتسيب والفوضى في جميع ميادين النشاط العام، في السنوات الأخيرة من حكم عبدالكريم قاسم، وذلك كالتالي:
أ. في السياسة الداخلية:
تميز الحكم بكل مساوئ الديكتاتورية الفردية، وكان من أبرز هذه المساوئ التفسخ السياسي العام، وتفتيت القوى الوطنية، وضرب بعضها بالبعض الآخر، وإثارة الصدع والعنصرية العربية والكردية، واستفحال مظاهر الانفصالية.
كما تميز الوضع كذلك بالإجهاز على جميع الحريات العامة والخاصة، وفقدان الأمن وسيادة الفوضى الكاملة مع تزييف الحريات الحزبية، واستعمال شتى الأساليب والمناورات لشق الأحزاب، وتجميد نشاطاتها، مما حدا بكثير منها إلى العمل السري، فضلاً عن تزوير جميع انتخابات المنظمات المهنية والاجتماعية والشعبية [12]، واستفحال الفساد، والتجسس والانتهازية، والوصولية في جميع أجهزة الدولة، وإطلاق الصحافة المأجورة لفرض سياسة الإرهاب والفزع والتهديد.
ب. في السياسة الاقتصادية:
سار الحكم في السنوات الأخيرة من حكمه بخطى سريعة نحو تعميق التبعية الاقتصادية، والتراجع بسرعة عن كثير من الإنجازات البارزة، التي أمكن تحقيقها خلال العام الأول من الثورة، وقد بدا ذلك في جميع الحقول الاقتصادية.
في الإصلاح الزراعي، جرت تعديلات خطيرة في قانون الإصلاح الزراعي، كان أخطرها قانون تمليك أراضٍ أميرية شاسعة لملاكي العمارة والناصرية، باسم الالتزام، وحق اللزمة، وأصحاب المحارم.
كما زُورت الجمعيات الفلاحية أشنع تزوير، وعاد النفوذ الإقطاعي إلى الريف.
ج. في الحقل التجاري:
تميز الوضع بزيادة العجز في الميزان التجاري زيادة خطيرة، بعد أن أمكن تخفيضه تخفيضاً كبيراً خلال العام الأول من الثورة.
وأُهملت المبادئ الجديدة للسياسة التجارية وخاصة مبدأ الاستيراد النسبي.
وعاد نفوذ الشركات والاحتكاريين في حقل التجارة الخارجية بعد أن أمكن تقليصها خلال العام الأول للثورة.
د. في الحقل الصناعي:
حورب القطاع العام، ووضعت العراقيل أمام تنفيذ مشروعات اتفاقات التعاون الاقتصادي والفني مع الدول العربية والاشتراكية، وكادت تقتصر الحماية على الفئات العليا من القطاع الصناعي نفسه، تحت شعارات اقتصادية زائفة؛ كشعار المشاركة والتجميع، وما إلى ذلك من الشعارات.
هـ. في الحقل المالي:
ازداد العجز المالي غير الموجه، والاعتماد الكامل على المنتج الواحد (وهو النفط)، والتركيز في التمويل على الضرائب الاستهلاكية غير المباشرة، إلى تركيز الاتفاق على المشروعات التبذيرية، إلى تزييف مفهوم التخطيط الاقتصادي، وجعل الخطط الاقتصادية مجرد تجمعات لمشروعات لا صلة لها بأهداف التخطيط العلمي ووسائله ومقوماته.
وقد أدت جميع هذه المساوئ المالية الخطيرة إلى ظهور بوادر التضخم النقدي، والغلاء الفاحش، وزيادة الهجرة الداخلية، واستفحال التهريب، واستشراء البطالة بكل أنواعها، وتحويل ميزانية الدولة إلى ميزانية (موظفين) لا ميزانية (خدمات).
و. في المجال الثقافي:
حوربت الثقافة الحرة، واضُطهد الأساتذة، والطلاب الوطنيون والقوميون، وزُورت الانتخابات المهنية للطلاب والمعلمين، وعادت جميع المفاهيم والشعارات الزائفة: من عزل العلم عن المجتمع، وإبعاد الطلاب والأساتذة عن الحقل الوطني، ومفهوم (العلم للعلم).
وسقطت الشعارات التي كانت الثورة قد رفعتها بإطلاق حرية النشر وديموقراطية الانتخابات.
ز. في مجال السياسة الخارجية:
ازدادت عزلة العراق في الميدان العربي، وخاصة بعد حركة الشواف في الموصل في مارس 1959، وفقدت البلاد كل هيبة واحترام في الميدان الدولي، وذلك لكثرة التصريحات والأحاديث التي تهاجم دول العالم، وخاصة من قبل محكمة المهداوي.
إذ بلغت احتجاجات هذه الدول ستة وثلاثين احتجاجاً نتيجة لتعليقات المهداوي غير المتزنة على هذه الدول.
ووصف سعيد فريحة، صاحب دار الصياد اللبنانية، محكمة المهداوي بقوله:
"لولا فاضل المهداوي وتهريجه وبذاءة لسانه، لما انكشفت حقيقة عبد الكريم قاسم بهذه السرعة، ولما زال عن حكمه طابع الجد والوقار؛ ليتخذ طابع الهزء والزراية والاستخفاف، ولقد نجح في تدمير هيبة نظام حكم عبد الكريم قاسم، وإظهار تفاهته أمام العالم.
وازدادت عزلة النظام؛ عقب قرار عبد الكريم قاسم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي اعترفت بالكويت، وأقامت علاقات دبلوماسية معها، وبسبب هذا القرار تم سحب السفراء العراقيين من معظم الدول العربية، وغير العربية، كما انسحب العراق من جامعة الدول العربية، وبذلك أصبح بعيداً عن أشقائه العرب.
ولقد أضعفت هذه العزلة من مركز عبد الكريم قاسم، ومهدت السبيل للإطاحة به في 8 فبراير 1963، إذ أُعدم رمياً بالرصاص، وكان ذلك إثر قيام ثورة 14 رمضان، إذ اقتيد عبد الكريم قاسم من وزارة الدفاع، عقب استسلامه بعد مقاومة دامت 24 ساعة.
7. الصراع على السلطة داخل العراق وانفراد قاسم بها:
كان منطلق الصراع بين العسكريين هو عدم تنفيذ قرار اللجنة العليا للضباط الأحرار، القاضي بتشكيل مجلس لقيادة الثورة من أعضاء اللجنة العليا فور القيام بالحركة، وأن يعهد إليه بممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأن يستمر في ممارسة اختصاصاته خلال فترة انتقالية تحدد مسبقاً.
وفي الوقت نفسه تتشكل حكومة مدنية من زعماء الحركة الوطنية، ثم تُجرى انتخابات عامة لتكوين مجلس وطني، يمثل القوى الوطنية التقدمية كافة، وإرساء قواعد النظام الديموقراطي في البلاد، ثم حل مجلس قيادة الثورة، ورجوع العسكريين إلى ثكناتهم أو اعتزال الخدمة العسكرية، والانصراف إلى المشاركة في الحياة السياسية.
ومن ثم كانت دهشة الضباط الأحرار عندما صدرت قرارات بتولي عبد الكريم قاسم رئاسة الوزارة، ووزارة الدفاع، والقيادة العامة للقوات المسلحة، وأصبح العقيد عبد السلام محمد عارف نائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً للداخلية، ونائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ولم يذكر شيء عن تشكيل مجلس قيادة الثورة.
ومن ثم عقدت اللجنة العليا للضباط الأحرار اجتماعاً في وزارة الدفاع، مساء يوم 14 (تموز) يوليه 1958، وبحثت موضوع تشكيل مجلس قيادة الثورة، فعارض عبدالكريم قاسم وعبدالسلام محمد عارف ذلك، وشرعا من مركز القوة يوزعان المناصب البارزة على الضباط الأحرار [13]؛ فعُين الزعيم أحمد صالح العبدي رئيساً لأركان الجيش، والزعيم عبدالعزيز العقيلي قائداً للفرقة الأولى، والزعيم ناظم الطبقجلي قائداً للفرقة الثانية، والزعيم خليل سعيد قائداً للفرقة الثالثة، والزعيم محيي الدين عبدالحميد قائداً للفرقة الرابعة، وعين العقيد الشواف آمراً لحامية لواء الموصل، والزعيم أحمد صالح العبدي حاكماً عسكرياًّ عاماًّ [14].
واعتبر الشواف تعيينه بالموصل إبعادا له، مما ترك أثراً بالغاً في نفسه، وأصر على عدم الالتحاق بمنصبه في الموصل، كما أخذ يجمع الضباط الأحرار من خليته، وبعض الخلايا الأخرى حوله، للقيام بحركة انقلابية ضد عبد الكريم قاسم، وعبد السلام محمد عارف للاستيلاء على السلطة، وتشكيل مجلس قيادة الثورة، إلاُ أن جهوده باءت بالفشل؛ بسبب الإنزال الأمريكي في لبنان؛ ومن ثم ظهور خطر على الثورة من دول حلف بغداد.
كما سعى الضباط الموالون لقاسم بإقناع العقيد الشواف للالتحاق بمنصبه في الموصل، بعد تدهور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وظهور بوادر الزحف على العراق، وإسقاط ثورته من قبل الجيوش التركية المحتشدة على طول الحدود التركية - العراقية، والقوات الأمريكية، والبريطانية في لبنان والأردن، ولذلك تأجلت حركة الانقلاب التي كان الشواف يخطط للقيام بها.
وفي ذات الوقت كان الضباط الأحرار، من أعضاء اللجنة العليا، يحملون في أنفسهم من تصرف عبدالكريم قاسم، وعبدالسلام محمد عارف، بسبب عدم إخبارهم بموعد الثورة.
ولم يقروا تصرف قاسم وعارف للاستحواذ على السلطة، وقد وضح ذلك من الساعات الأولى للثورة، إذ لم يخبرا أعضاء اللجنة العليا بساعة الصفر، على الرغم من أن أغلبهم كان مع قاسم وعارف قبل قيام الثورة بأيام.
إن تصرف عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف بالأسلوب السابق ذكره، ولَّد الشكوك لدى أعضاء اللجنة العليا بأنهما تآمرا عليهم من أجل الانفراد بالسلطة، وإبعادهم عنها في مناصب ثانوية، وعدم تطبيق مبادئ تنظيم الضباط الأحرار التي تم الاتفاق عليها في الاجتماعات الأولى للجنة العليا، إضافة إلى تشكيل مجلس السيادة، بدلاً من مجلس قيادة الثورة، الذي كان مزمعاً الإعلان عنه، صباح يوم الثورة، وفي البيانات الأولى التي تُذاع من محطة الإذاعة.
|
|