منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 شرح الحديث رقم (30)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

شرح الحديث رقم (30) Empty
مُساهمةموضوع: شرح الحديث رقم (30)   شرح الحديث رقم (30) Emptyالثلاثاء 29 مايو 2012, 4:28 am

ح30: حديث أبي ثعلية الخشني:
(إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها...) قط
-----------------------------------------------
30- عَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشرٍ- رَضِي اللهُ عَنْهُ- عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها)). حديثٌ حسنٌ رواه الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُه.
-------------------
شرح فضيلة الشيخ:
محمد حياة السندي

------------------
(1) تَرْجَمةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ:
أبو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ جُرْثُومُ بنُ نَاشِرٍ، بِنُونٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، مَاتَ في الشَّامِ، في خلافةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَقِيلَ في خلافةِ عبدِ المَلِكِ سنةَ خمسٍ وسبعينَ.

الشَّرحُ:

عَن أبي ثَعْلَبَةَ (عَنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ): ((إِنَّ اللهَ)) العَلِيمَ الحَكِيمَ ((فَرَضَ)): أَوْجَبَ ((فَرَائِضَ)) في الأموالِ والأَبْدَانِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بهِ، منهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِهِ ((فَلاَ تُضَيِّعُوهَا)) بلْ أَدُّوْهَا كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى؛ لأَنَّ الآمِرَ جَلِيلٌ جَبَّارٌ يَلْزَمُ طَاعَتُهُ، حَكِيمٌ لَمْ يَفْرِضْ إلاَّ لِحِكَمٍ وَفَوَائِدَ، فَأْتُوهَا لِتَفُوزُوا بِثَوَابِهَا.

((وَحَدَّ)) في الفَرائِضِ وَغَيْرِها ((حُدُودًا)): مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةً، ((فَلاَ تَعْتَدُوهَا))؛ لأَنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ، بَلْ قِفُوا عِنْدَهَا؛ إذْ وَظِيفةُ العَبِيدِ الوُقُوفُ عندَ حُدودِ المَلِكِ المَجِيدِ، وليسَ لَهُم التَّجَاوُزُ؛ لأِنَّهُ يُنَافِي العُبُودِيَّةَ.

((وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا)) فَلاَ تَرْتَكِبُوهَا؛ لأنَّ المُحَرِّمِ رَبٌّ قَهَّارٌ يَجِبُ تَرْكُ مَا حَرَّمَ، حَكِيمٌ لا يُحَرِّمُ إِلاَّ ما فيهِ مَضَارُّ وَمَفَاسِدُ، فَقُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْهَا؛ كَيْلاَ تُبْتَلَوْا بِوَبَالِهَا؛ فَإِنَّ وَبَالَهَا شَدِيدٌ.

((وَسَكَتَ عَنْ)) تَحْرِيمِ ((أَشْيَاءَ)) أَوْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا، ((رَحْمَةً لَكُمْ))؛ لأنَّ في ذَلِكَ تَخْفِيفًا عَلَيْكُمْ،((غَيْرَ نِسْيَانٍ)) لَهَا، فإنَّهُ مُنَزَّهٌ عنْهُ،((فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا))، ولا تَسْأَلُوا حُكْمَهَا، بلِ اتْرُكُوهَا على ما كانَ؛ لأنَّ في البَحْثِ سُوءَ أَدَبٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَسَبَبًا لَجَرِّ شِدَّةٍ، وَلَيْسَتْ وَظِيفَةُ العِبَادِ إلاَّ المَشْيَ على مُقْتَضَى حُكْمِ إِلَهِ البِلاَدِ.
---------------------------
المنن الربانية لفضيلة الشيخ:
سعد بن سعيد الحجري
---------------------------
الحديثُ الثَّلاثُونَ

عنْ أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرْثُومِ بنِ نَاشِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِّسْيَانِ، فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)). حَسَّنَهُ المُؤَلِّفُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

والحديثُ ضعيفٌ كما قَالَ الأَلْبَانِيُّ في (إِرْوَاءِ الغَلِيلِ).

(1) الرَّاوِي: هوَ أَبُو ثَعْلَبَةَ جُرْثُومُ بنُ نَاشِرٍ الخُشَنِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ لا تَخْنُقْنِي كَمَا تَخْنُقُ هؤلاءِ)، فَمَاتَ وَهوَ سَاجِدٌ سَنَةَ (75) هجريَّةً، وَلهُ أَرْبَعُونَ حَدِيثاً.
موضوعُ الحديثِ: الوقوفُ عَنْ حدودِ اللَّهِ تَعَالَى.

المفرداتُ:

((فَرَضَ)): أَوْجَبَ وَأَلْزَمَ وَكَتَبَ، وَليسَ للإِنسانِ خِيَارٌ أَمَامَ الفرائضِ، بلْ هُوَ مُلْزَمٌ بها، وَقدْ قَالَ علماءُ الأصولِ: (الْفَرْضُ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ)
((فلا تُضَيِّعُوهَا)): أيْ لا تُهْمِلُوهَا وَلا تَتْرُكُوهَا فَيَضِيعَ العمرُ وَيَضِيعَ الأَجْرُ. وَضَيَاعُ الفرائضِ حَسْرَةٌ وَندامةٌ يومَ القيامةِ.
الحَدُّ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعاً للزَّجْرِ عَن المعصيَةِ.
((تَعْتَدُوهَا)): أيْ تَقْرَبُوهَا وَتَتَجَاوَزُوهَا.
((تَنْتَهِكُوهَا)): أيْ تَقَعُوا فيها وَتَسْتَحِلُّوهَا.
وقدْ قَسَّمَ هذا الحديثُ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِلى أربعةِ أَقْسَامٍ، وَهيَ:
أَوَّلاً: الفرائضُ، وَهيَ: مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تعالى على عبادِهِ، وَأَلْزَمَ بهِ وَلمْ يَعْذُرْ بِتَرْكِهِ؛ كالصلاةِ وَالزكاةِ وَالحجِّ وَالصيامِ وَنحوِهَا، وَهذا يَشْمَلُ جميعَ الواجباتِ التي أَمَرَ اللَّهُ بها على سبيلِ الإِلزامِ بالفعلِ، وَيُثَابُ فَاعِلُ ذلكَ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ.

ثانياً: المَحَارِمُ، وَهيَ: التي نَهَى اللَّهُ عنها وَحَرَّمَهَا وَمَنَعَ الوقوعَ فيها. وَهذا يَشْمَلُ جميعَ المَنْهِيَّاتِ التي نَهَى عنها الشارعُ الحكيمُ على سبيلِ الإِلزامِ بالتَّرْكِ، وَيُثَابُ تَارِكُهَا وَيُعَاقَبُ فَاعِلُهَا؛ كالزِّنَا وَالرِّبَا وَشُرْبِ الخمرِ وَالشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَقَتْلِ النفسِ وَنَحْوِهَا.

ثالثاً: الحدودُ، وَهيَ: التي حَدَّدَهَا الشرعُ الحكيمُ وَقَيَّدَهَا وَمَنَعَ تَجَاوُزَهَا؛ كَتَحْدِيدِهِ للصلاةِ وَالصيامِ وَالحجِّ وَهكذا، وَيَدْخُلُ في هذا ارْتِكَابُ ما نَهَى اللَّهُ عنهُ، مثلُ الطلاقِ؛ فإِنَّهُ حُدِّدَ بالسُّنَّةِ.

وَتَعَدِّي ذلكَ مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِثْلُ النَّظَرِ للحرامِ وَسَمَاعِ الحرامِ، وَيَدْخُلُ في ذلكَ تَرْكُ الأمرِ بالمعروفِ وَالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ، وَفي الحديثِ:((مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ...)) الحديثَ.

وَيَدْخُلُ في ذلكَ الحدودُ المُقَرَّرَةُ شَرْعاً كَحَدِّ الزنا وَالسَّرِقَةِ وَالخمرِ وَالقذفِ وَنحوِهَا.

رَابِعاً: المَسْكُوتُ عنهُ، وَهوَ ما لمْ يُذْكَرْ حُكْمُهُ بِتَحْلِيلٍ وَلا تَحْرِيمٍ، فيكونَ مَعْفُوًّا عنهُ. وَأَعْظَمُ الناسِ ذَنْباً مَنْ سَأَلَ عَنْ شيءٍ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِهِ، مِثْلُ: عُمُومِ الملابسِ غيرِ المُحَرَّمَةِ، وَالأطعمةِ غيرِ المُحَرَّمَةِ، وَالمُعَامَلاتِ غيرِ المُحَرَّمَةِ، وَالعَادَاتِ التي لَيْسَ للناسِ فيها مَحْظُورٌ شَرْعِيٌّ، وَنَحْوِهَا.

الفوائدُ:

1- وُجُوبُ القيامِ بفرائضِ اللَّهِ تَعَالَى.

2- الالتزامُ بأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى.
3- مَنْ حَفِظَ الفرائضَ حَفِظَهُ اللَّهُ.
4- مَنْ ضَيَّعَ الواجباتِ ضَاعَتْ حَيَاتُهُ.
5- وُجُوبُ الوقوفِ عندَ حدودِ اللَّهِ تَعَالَى.
6- مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى.
7- التحذيرُ مِن الوقوعِ في المُحَرَّمَاتِ.
8- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ.
9- تَنْزِيهُ اللَّهِ عَن النسيانِ.
10- كَرَاهِيَةُ التَّنْطِيعِ في السؤالِ عَمَّا لا يَقَعُ.
11- السلامةُ في تَطْبِيقِ شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى.
-------------------
شرح فضيلة الشيخ:
ناظم سلطان المسباح

--------------------
(1) هذا الحديثُ ضعيفٌ لا يَصِحُّ، وإليكَ كلامُ العلاَّمةِ المحدثِ ناصرِ الدِّينِ الألبانيِّ عليهِ بالنَّصِّ، كما أوردَهُ في كتابِ (إرواءُ الغليلِ): ضعيفٌ.

أخرجَهُ الدَّارقطنيُّ في (سننـِهِ) (ص502) وكذا البيهقيُّ (10|12 - 13) وأبو بكرٍ الذكوانيُّ في (اثنا عشرَ مجلسًا) (ق12|1) وابنُ السماكِ في (حديثـِهِ) (2|12|2) والخطيبُ البَغداديُّ في (الفقيهُ والمتفقِّهُ) (ق160|2) ومحمـَّدُ بنُ محمَّدٍ أبو الفتوحِ الطَّائيُّ في (الأربعينَ) (ق31|2 حديث 16) وابنُ بطَّةَ في (الإبانة) (2|126|1) مِن طرقٍ عن داودَ ابنِ أبي هندٍ، عن مكحولٍ، عن أبي ثعلبةَ الخشنيِّ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكَرَهُ.

قلْتُ: وهذا إسنادٌ رجالُهُ ثقاتٌ رجالُ مسلمٍ، لكنْ له عِلَّتانِ كما قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ في (شرحُ الأربعينَ النَّوويَّةُ) (ص200).

إحداهُمَا: أنَّ مكحولاً لم يَصحَّ له السَّماعُ مِن أبي ثعلبةَ، كذلك قالَ أبو مِسْهَرٍ الدِّمشقيُّ وأبو نُعَيْمٍ الحافظُ، وغيرُهُمَا.

قلتُ: لو صَحَّ سماعُهُ منه في الجملةِ، فلا يَصِحُّ أنَّهُ سَمِعَ هذا الحديثَ منه؛ لأنَّهُ مُدَلِّسٌ وقد عَنْعَنَهُ عنهُ.

والثَّانيَةُ: أنَّهُ اخْتُلفَ في رفعِهِ ووَقْفِهِ علَى أبي ثَعلبةَ، ورواهُ بعضُهُم عن مكحولٍ عنه مِن قولِهِ، لكنْ قالَ الدَّارقطنيُّ: الأشبهُ بالصَّوابِ المرفوعُ.

قالَ: وهو أشهرُ.

قالَ ابنُ رجبٍ: (وقدْ حسَّنَ الشَّيخُ النَّوويُّ رحمَهُ اللهُ هذا الحديثَ، وكذلك حسَّنَهُ قبلَهُ الحافظُ أبو بكرٍ السَّمعانيُّ في أمالِيهِ).

قلتُ: وتَبِعَهُ أبو الفتوحِ الطَّائيُّ فقالَ عقبَهُ: (حديثٌ كبيرٌ حسنٌ، تفرَّدَ به داودُ عن مكحولٍ) .

قلْتُ: فإنْ أرادُوا أنَّهُ حسنٌ لغةً فهو كذلِكَ، وإنْ أرادُوا أنَّهُ حسنٌ اصطلاحًا - كما هو الظَّاهرُ - فليسَ كذلِكَ للعلَّةِ الأولَى، فإنَّهَا علَّةٌ قادحةٌ، وأمَّا العلَّةُ الأخرَى فليسَتْ قادحَةً؛ لأنَّهُ قد رفعَهُ جماعةٌ مِن الثِّقاتِ عن داودَ بن أبي هندٍ، منهم حفصُ بنُ غياثٍ، وقدْ أخرجَهُ البيهقِيُّ عنهُ موقوًفا، لكنَّ المرفوعَ أولَى لموافقتِهِ للرُّواةِ الآخرينَ الَّذينَ رفعُوهُ، وكأنَّهُ لذلِكَ رجَّحَهُ الدَّارقطنيُّ كما سبقَ، واللهُ أعلمُ.

وله شاهدانِ، ولكنَّهُمَا واهيانِ جدًّا، فلا يصلحانِ للشَّهادةِ.

الأوَّلُ: مِن حديثِ أصرمَ بنِ حَوْشَبٍ بسندِهِ، عن أبي الدَّرداءِ مرفوعًا، نحوَهُ.

وأَخْرَجَهُ الطَّبرانيُّ في (المعجَمُ الصَّغيرُ) (ص230).

والآخرُ: مِن طريقِ نَهْشَلٍ الخراسانيِّ بسندِهِ عن أبي الدَّرداءِ أيضًا.

أَخْرَجَهُ الدَّارقطنيُّ (ص550).

وكلٌّ مِن أَصرمَ ونَهشلٍ كذَّابٌ.
-------------------------------------
جامع العلوم والحكم للحافظ:
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

-------------------------------------
(1) هذا الحديثُ مِن روايَةِ مَكحولٍ، عن أبي ثَعلبةَ الْخُشَنِيِّ،وله عِلَّتانِ:

إحداهما: أنَّ مَكحولاً لم يَصِحَّ له السماعُ مِن أبي ثَعلبةَ، كذلك قالَ أبو مِسْهَرٍ الدِّمشقيُّ وأبو نُعيمٍ الحافظُ وغيرُهما.

والثانيَةُ: أنه اخْتُلِفَ في رفْعِهِ ووَقْفِهِ علَى أبي ثَعلبةَ، ورواهُ بعضُهم عن مَكحولٍ مِن قولِهِ، لكن قالَ الدارقُطنِيُّ: (الأشبَهُ بالصَّوابِ المرفوعُ)، قالَ: (وهو أَشْهَرُ).

وقد حَسَّنَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا الحديثَ، وكذلك حَسَّنَهُ قبلَهُ الحافظُ أبو بكرِ بنُ السَّمْعَانِيِّ في (أَمَالِيهِ).

_ وقد رُوِيَ معنَى هذا الحديثِ مَرفوعًا مِن وُجوهٍ أُخَرَ، خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ في (مُسْنَدِهِ)، والحاكمُ مِن حديثِ أبي الدرداءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا))، ثم تلا هذه الآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإِسنادِ، وقالَ الْبَزَّارُ: إسنادُهُ صالحٌ.

_ وَخَرَّجَهُ الطبرانيُّ والدارقُطنيُّ مِن وجهٍ آخَرَ، عن أبي الدرداءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِ حديثِ أبي ثَعلبةَ، وقالَ في آخِرِهِ: ((رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ فَاقْبَلُوهَا))، ولكنَّ إسنادَهُ ضَعيفٌ.

_ وخَرَّجَ التِّرمذيُّ وابنُ ماجهْ، مِن روايَةِ سيفِ بنِ هارونَ، عن سليمانَ التَّيْمِيِّ، عن أبي عُثمانَ، عن سَلمانَ قالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السَّمْنِ والْجُبنِ والفِراءِ، فقالَ: ((الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ)).

_ وقالَ التِّرمذيُّ: (رواهُ سُفيانُ - يعني ابنَ عُيَيْنَةَ - عن سُليمانَ، عن أبي عُثمانَ، عن سَلمانَ مِن قولِهِ، قالَ: وكأنه أَصَحُّ).

_ وذَكَرَ في كتابِ (الْعِلَلِ)، عن البخاريِّ أنه قالَ في الحديثِ المرفوعِ: (ما أُراهُ محفوظًا) وقالَ أحمدُ: (هو مُنْكَرٌ)، وأَنْكَرَهُ ابنُ مَعينٍ أيضًا.

_ وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ: (هو خَطأٌ)، رواهُ الثِّقاتُ، عن التيميِّ، عن أبي عُثمانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلاً ليس فيهِ سَلمانُ.

قلتُ: (وقد رُوِيَ عن سَلمانَ مِن قولِهِ مِن وُجوهٍ أُخَرَ).

_ وَخَرَّجَهُ ابنُ عَدِيٍّ مِن حديثِ ابنِ عمرَ مَرفوعًا، وَضَعَّفَ إسنادَهُ.

ورواهُ صالحٌ الْمرِّيُّ، عن الْجريريِّ، عن أبي عثمانَ النَّهْدِيِّ، عن عائشةَ مَرفوعًا، وأَخطأَ في إسنادِهِ.

_ ورُوِيِ عن الحسَنِ مُرْسَلاً.

_ وخَرَّجَ أبو داوُدَ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (كان أهلُ الجاهليَّةِ يأكلونَ أشياءَ، ويَتركون أشياءَ تَقَذُّرًا، فبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وأَنْزَلَ كتابَهُ، وأَحَلَّ حَلالَهُ وحَرَّمَ حَرامَهُ، فما أَحَلَّ فهو حَلالٌ، وما حَرَّم فهو حَرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}[الأنعام: 145] الآيَة وهذا مَوقوفٌ.

_ وقالَ عُبيدُ بنُ عُمَيْرٍ: (إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَحَلَّ حلالاً وحَرَّمحَرامًا، وما أَحَلَّ فهوحلالٌ، وما حَرَّمَ فهو حرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ).

فحديثُ أبي ثَعلبةَ قَسَّمَ فيهِ أحكامَ اللَّهِ أربعةَ أقسامٍ: (فرائضُ، ومَحارمُ، وحدودٌ، ومَسكوتٌ عنه) وذلك يَجْمَعُ أحكامَ الدِّينِ كلَّها.

_ قالَ أبو بكرِ بنُ السَّمْعَانِيِّ: (هذا الحديثُ أصلٌ كبيرٌ مِن أصولِ الدِّين)

- قالَ: وحُكِيَ عن بعضِهم أنَّهُ قالَ:(ليس في أحاديثِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حديثٌ واحدٌ أَجْمَعُ بانفرادِهِ لأصولِ العلْمِ وفُروعِهِ مِن حديثِ أبي ثَعلبةَ) قالَ: وحُكِيَ عن أبي وَاثلةَ الْمُزَنِيِّ أنه قالَ: (جَمَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ في أربعِ كلماتٍ، ثم ذَكَرَ حديثَ أبي ثَعلبة).

قالَ ابنُ السَّمعانيِّ: (فمَن عمِلَ بهذا الحديثِ فقد حَازَ الثَّوابَ، وأَمِنَ العقابَ؛ لأنَّ مَن أدَّى الفرائضَ، واجْتَنَبَ الْمَحارِمَ، ووَقَفَ عندَ الحدودِ، وتَرَكَ البحثَ عمَّا غابَ عنه، فقد اسْتَوْفَى أقسامَ الْفَضْلِ، وأَوْفَى حقوقَ الدِّينِ؛ لأن الشرائعَ لا تَخْرُجُ عن هذه الأنواعِ المذكورةِ في هذا الحديثِ). انتهَى.

(1) فأمَّا الفرائضُ: فما فَرَضَهُ اللَّهُ علَى عِبادِهِ وأَلزَمَهم القيامَ به، كالصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والْحَجِّ.

وقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ: هل الواجبُ والْفَرْضُ بمعنًى واحدٍ أمْ لا ؟

فمِنهم مَن قالَ: هما سواءٌ، وكلُّ واجبٍ بدليلٍ شرعيٍّ - مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ أو غيرِ ذلك مِن أَدِلَّةِ الشرعِ - فهو فَرْضٌ، وهو المشهورُ عن أصحابِ الشَّافعيِّ وغيرِهم، وحُكِيَ روايَةً عن أحمدَ؛ لأنه قالَ: (كلُّ ما في الصلاةِ فهو فَرْضٌ).

ومنهم مَن قالَ: بل الفرضُ ما ثَبَتَ بدليلٍ مَقطوعٍ به، والواجبُ ما ثَبَتَ بغيرِ مَقطوعٍ به، وهو قولُ الحنفيَّةِ وغيرِهم.

وأكثرُ النُّصوصِ عن أحمدَ تُفرِّقُ بينَ الفرضِ والواجبِ، فنَقَلَ جماعةٌ مِنْ أصحابِهِ عنه أنه قالَ: (لا يُسَمَّى فَرْضًا إلا ما كان في كتابِ اللَّهِ تعالَى)،

وقالَ في صَدَقَةِ الفِطْرِ: (ما أَجْتَرِئُ أن أقولَ: إنَّها فَرْضٌ)، مع أنه يَقولُ بوُجوبِها، فمِنْ أصحابِنا مَنْ قالَ: (مُرادُهُ أنَّ الفرضَ: ما ثَبَتَ بالكتابِ، والواجبَ: ما ثَبَتَ بالسنَّةِ).

ومنهم مَنْ قالَ: أراد أنَّ الفَرْضَ: ما ثَبَتَ بالاستفاضةِ والنَّقْلِ المتواتِرِ، والواجبَ: ما ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الاجتهادِ، وساغَ الْخِلافُ في وُجوبِهِ.

ويُشْكِلُ علَى هذا أنَّ أحمدَ قالَ في روايَةِ الْمَيمونيِّ في بِرِّ الوالدينِ: (ليس بفَرْضٍ، ولكن أقولُ: واجبٌ ما لم يكنْ مَعصيَةً) وبِرُّ الوالدينِ مُجمَعٌ علَى وُجوبِهِ، وقد كَثُرَتِ الأوامرُ به في الكتابِ والسُّنَّةِ، فظاهرُ هذا أنَّهُ لا يقولُ: فرضًا إلا ما وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ تَسميتُهُ فرضًا.

وقدِ اختلَفَ السَّلفُ في الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن الْمُنْكَرِ:

هل يُسمَّى فريضةً أمْ لا ؟

فقالَ جُوَيْبِرٌ عن الضحَّاكِ: (هما مِنْ فرائضِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ)، وكذا رُوِيَ عن مالِكٍ.

وروَى عبدُ الواحدِ بنُ زيدٍ، عن الْحَسَنِ؛ قالَ: (ليسَ بفريضةٍ، كان فريضةً علَى بَنِي إسرائيلَ، فرَحِمَ اللَّهُ هذه الأُمَّةَ لِضَعْفِهم، فجَعَلَهُ عليهم نافلةً).

وكتبَ عبدُ اللَّهِ بنُ شُبْرُمَةَ إلَى عمرِو بنِ عُبيدٍ أبياتًا مَشهورةً أوَّلُها: الأَمْرُ بالمعروفِ يا عمرُو نافِلَةٌ والقَائِمونَ بِهِ لِلَّهِ أَنْصارُ واخْتلَفَ كلامُ أحمدَ فيهِ: هل يُسمَّى واجبًا أمْ لا؟

فرَوَى عنه جماعةٌ ما يَدُلُّ علَى وُجوبِهِ، وروَى عنه أبو دَاوُدَ في الرجلِ يَرَى الطُّنبورَ ونحوَهُ: أواجبٌ عليهِ تَغييرُهُ؟

قالَ: (ما أَدْرِي ما واجبٌ، إن غَيَّرَ فهو فَضْلٌ).

وقالَ إسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ: (هو واجبٌ علَى كلِّ مُسلمٍ إلا أنْ يَخْشَى علَى نفسِه)، ولعلَّ أحمدَ يَتوَقَّفُ في إطلاقِ الواجبِ علَى ما ليس بواجبٍ علَى الأعيانِ، بل علَى الكِفايَةِ.

وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في الجهادِ:

هل هو واجبٌ أمْ لا ؟

فأَنْكَرَ جماعةٌ منهم وُجوبَهُ، منهم:

عَطاءٌ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، وابنُ شُبْرُمَةَ، ولعلَّهم أرادوا هذا المعنَى.

وقالَت طائفةٌ: (هو واجبٌ)، منهم: سعيدُ بنُ الْمُسيِّبِ، ومكحولٌ، ولعلَّهما أرادا وُجوبَهُ علَى الكفايَةِ.

_ وقالَ أحمدُ في روايَةِ حَنبلٍ: (الغزوُ واجبٌ علَى النَّاسِ كلِّهم كوُجوبِ الْحِجِّ، فإذا غزا بعضُهم أَجْزَأَ عنهم، ولا بُدَّ للناسِ مِن الغزْوِ).

_ وسألَهُ الْمَرُّوذِيُّ عن الجهادِ: أفرضٌ هو ؟

قالَ: (قد اخْتَلَفُوا فيهِ، وليس هومِثْلَ الحجِّ)، ومُرادُهُ: أنَّ الحجَّ لا يَسْقُطُ عمَّن لم يَحُجَّ مع الاستطاعةِ بِحَجِّ غيرِهِ، بخلافِ الجهادِ .

_ وسُئِلَ عن النَّفيرِ: متَى يَجِبُ ؟

فقالَ: (أمَّا إيجابٌ فلا أدري، ولكن إذا خَافُوا علَى أنفسِهم فعليهم أن يَخْرُجوا).

وظاهِرُ هذا التوَقُّفُ في إطلاقِ لفظِ الواجبِ علَى ما لم يأتِ فيهِ لفظُ الإِيجابِ تَوَرُّعًا، ولذلك تَوَقَّفَ في إطلاقِ لفظِ الحرامِ علَى ما اختُلِفَ فيهِ،وتَعارَضَتْ أدِلَّتُهُ مِن نصوصِ الكتابِ أو السُّنَّةِ، فقالَ في مُتْعَةِ النساءِ: لا أقولُ: (هي حَرامٌ، ولكن يُنْهَى عنه)، ولم يَتوقَّفْ في معنَى التحريمِ، ولكن في إطلاقِ لَفْظِهِ، لاختلافِ النصوصِ والصحابةِ فيها، هذا هو الصحيحُ في تفسيرِ كلامِ أحمدَ.

وقالَ في الْجَمْعِ بينَ الأختين بِمِلْكِ اليمينِ: لا أقولُ: (حرامٌ، ولكن يُنْهَى عنه)، والصَّحيحُ في تفسيرِهِ أنه تَوَقَّفَ في إطلاقِ لفظةِ الحرامِ دونَ مَعناها، وهذا كلُّهُ علَى سبيلِ الوَرَعِ في الكلامِ؛ حَذَرًا مِن الدُّخولِ تحتَ قولِهِ تعالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

_ قالَ الربيعُ بنُ خُثَيْمٍ: (لِيَتَّقِ أحدُكم أن يَقولَ: أحلَّ اللَّهُ كذا، وحَرَّمَ كذا، فيقولَ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لم أُحِلَّ كذا ولم أُحَرِّمْ كذا).

_ وقالَ ابنُ وهبٍ: (سَمِعْتُ مالكَ بنَ أَنَسٍ يقولُ: أَدْرَكْتُ عُلماءَنا يَقولُ أحدُهم إذا سُئِلَ: أَكْرَهُ هذا، ولا أُحِبُّهُ، ولا يقولُ: حلالٌ ولا حَرامٌ).

وأمَّا ما حُكِيَ عن أحمدَ أنهقالَ: (كلُّ ما في الصلاةِ فهو فَرْضٌ)، فليس كلامُهُ كذلك، وإنما نَقَلَ عنه ابنُهُ عبدُ اللَّهِ أنه قالَ: (كلُّ شيءٍ في الصلاةِ مما وَكَّدَهُ اللَّهُ فهو فَرْضٌ)، وهذا يَعودُ إلَى معنَى قولِهِ: (إنَّهُ لا فَرْضَ إِلا ما في القرآنِ)، والذي وَكَّدَهُ اللَّهُ مِن أمرِ الصلاةِ: القيامُ والقراءةُ والركوعُ والسجودُ، وإنما قالَ أحمدُ هذا؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ كان يقولُ: الصَّلاةُ فرضٌ، والركوعُ والسجودُ لا أقولُ: إنَّهُ فرضٌ، ولكنه سُنَّةٌ، وقد سُئِلَ مالكُ بنُ أَنَسٍ عمَّنْ يقولُ ذلك، فكَفَّرَهُ، فقيلَ له: إنَّهُ يَتأوَّلُ، فَلَعَنَهُ، وقالَ: لقد قالَ قَولاً عظيمًا.

وقد نَقَلَهُ أبو بكرٍ النَّيْسَابوريُّ في كتابِ (مَنَاقِبِ مَالِكٍ) مِن وُجوهٍ عنه.

وروَى أيضًا بإسنادِهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ مَيمونِ بنِ الرماحِ، قالَ: دخلتُ علَى مالكِ بنِ أنسٍ، فقلتُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، ما في الصَّلاةِ مِن فَريضةٍ وما فيها مِن سُنَّةٍ - أو قالَ: نافلةٍ ؟ فقالَ مالكٌ: (كلامُ الزنادقةِ)، أَخْرِجُوهُ.

ونَقَلَ إسحاقُ بنُ منصورٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويهِ أنَّهُ أَنْكَرَ تقسيمَ أجزاءِ الصَّلاةِ إلَى سُنَّةٍ وواجبٍ، فقالَ: (كلُّ ما في الصَّلاةِ فهو واجبٌ)، وأشارَ إلَى أنَّ منه ما تُعادُ الصَّلاةُ بتركِهِ، ومنه ما لا تُعادُ.

وسببُ هذا - واللَّهُ أعلمُ -أنَّ التعبيرَ بلفظِ السُّنَّةِ قد يُفْضِي إلَى التَّهاوُنِ بفِعْلِ ذلك، وإلَى الزُّهْدِ فيهِ وتَرْكِهِ، وهذا خِلافُ مَقصودِ الشارعِ مِنَ الْحَثِّ عليهِ، والتَّرغيبِ فيهِ بالطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى فِعْلِهِ وتحصيلِهِ، فإطلاقُ لفظِ الواجبِ أَدْعَى إلَى الإِتيانِ به، والرغبةِ فيهِ.

وقد وَرَدَ إطلاقُ الواجبِ في كلامِ الشَّارعِ علَى ما لا يَأْثَمُ بتَرْكِهِ، ولا يُعاقَبُ عليهِ عندَ الأكثرينَ، كغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وكذلك ليلةُ الضَّيْفِ عندَ كثيرٍ مِن العلماءِ أو أكثرِهم، وإنَّما المرادُ به الْمُبالَغَةُ في الْحَثِّ علَى فِعْلِهِ وتأكيدِهِ.

وأمَّا الْمَحَارِمُ، فهي التي حَمَاها اللَّهُ تعالَى، ومَنَعَ مِن قُربانِها وارتكابِها وانتهاكِها.

والْمُحَرَّماتُ المقطوعُ بها مَذكورةٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، كقولِهِ تعالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151] إلَى آخِرَ الآياتِ الثلاثِ.

وقولِهِ تعالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وقد ذَكَرَ في بعضِ الآياتِ الْمُحرَّماتِ الْمُختَصَّةَ بنوعٍ مِن الأنواعِ كما ذَكَرَ الْمُحرَّماتِ مِن الْمَطاعِمِ في مَواضعَ، منها قولُهُ تعالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].

يتبع إن شاء الله...


شرح الحديث رقم (30) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

شرح الحديث رقم (30) Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الحديث رقم (30)   شرح الحديث رقم (30) Emptyالثلاثاء 29 مايو 2012, 4:44 am

وقولُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}
[البقرة: 173]

وفي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115].

وقولُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ}[المائدة: 3].

وذَكَرَ الْمُحَرَّماتِ في النكاحِ في قولِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}[النساء: 23] الآيَةَ.

وذَكَرَ الْمُحَرَّماتِ مِن الْمَكاسِبِ في قولِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: 275].

وأمَّا السُّنَّةُ ففيها ذِكْرُ كثيرٍ مِن الْمُحَرَّماتِ، كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزيرِ وَالأَصْنَامِ)).

وقولِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).

وقولِهِ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).

وقولِهِ: ((إِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)).

فما وَرَدَ التَّصريحُ بتَحريمِهِ في الكتابِ والسُّنَّةِ فهو مُحَرَّمٌ.

وقد يُستفادُ التحريمُ مِن النَّهيِ مع الوَعيدِ والتَّشديدِ، كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلَ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[المائدة: 90 - 91].

وأمَّا النَّهيُ الْمُجَرَّدُ، فقد اخْتَلَفَ الناسُ:

هل يُستفادُ منه التَّحريمُ أمْ لا ؟

وقد رُوِيَ عن ابنِ عمرَ إنكارُ استفادةِ التحريمِ منه.

قالَ ابنُ المبارَكِ: أَخْبَرَنَا سَلامُ بنُ أبي مُطيعٍ، عن ابنِ أبي دخيلةَ، عن أبيهِ، قالَ: كنتُ عندَ ابنِ عمرَ، فقالَ: (نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الزَّبيبِ والتَّمرِ)، يعني: أن يُخْلَطَا، فقالَ لي رجُلٌ مِن خَلْفِي: ما قالَ ؟

فقلتُ: (حَرَّم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبيبَ والتمرَ).

فقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ: (كَذَبْتَ).

فقلتُ: ألم تَقُلْ: (نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فهو حَرامٌ ؟)
فقالَ: (أنتَ تَشْهَدُ بذاكَ ؟).

قالَ سَلامٌ: (كأنه يقولُ: مِن نَهْيِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ما هو أَدَبٌ).

وقد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ عن العُلماءِ الوَرِعينَ كأحمدَ ومالِكٍ تَوَقِّيَ إطلاقِ لفظِ الحرامِ علَى ما لم يُتَيَقَّنْ تَحريمُهُ ممَّا فيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ أو اختلافٍ.

وقالَ النَّخَعِيُّ: (كانوا يَكْرَهون أشياءَ لا يُحَرِّمُونَها).

وقالَ ابنُ عَوْنٍ: قالَ لي مَكحولٌ: (ما تَقولون في الفاكهةِ تُلْقَى بينَ القَومِ فيَنْتَهِبُونَها؟
قلتُ: إنَّ ذلك عندَنا لَمَكروهٌ.

قالَ: حرامٌ هي ؟

قلتُ: إنَّ ذلك عندَنا لَمَكروهٌ.

قالَ: حرامٌ هي ؟

قالَ ابنُ عَوْنٍ: (فاسْتَجْفَيْنَا ذلك مِنْ قولِ مَكحولٍ).

_ وقالَ جَعفرُ بنُ مُحَمَّدٍ: (سَمِعْتُ رجلاً يَسألُ القاسمَ بنَ مُحَمَّدٍ: الغناءُ أَحرامٌ هو ؟ فسَكَتَ عنه القاسمُ.

ثم عادَ، فسَكَتَ عنه.

ثم عادَ،فقالَ له: (إنَّ الحرامَ ما حُرِّمَ في القرآنِ ؟ أرأيتَ إذا أُتِيَ بالحقِّ والباطلِ إلَى اللَّهِ، في أيِّهما يكونُ الغِناءُ ؟)

فقالَ الرجُلُ: في الباطلِ.

فقالَ: فأنتَ فَأَفْتِ نَفْسَكَ.

_ قالَعبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ: (سَمِعْتُ أبي يقولُ: أمَّا ما نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنها أشياءُ حرامٌ، مِثلُ قولِهِ: ((نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا))، فهذا حَرامٌ، ونَهَى عن جُلودِ السِّباعِ، فهذا حَرامٌ، وذَكَرَ أشياءَ مِن نحوِ هذا. ومنها أشياءُ نَهَى عنها، فهي أَدَبٌ).

وأمَّا حُدودُ اللَّهِ التي نَهَى عن اعتدائِها، فالْمُرادُ بها جُملةُ ما أَذِنَ في فِعْلِهِ؛ سواءٌ كان علَى طريقِ الوُجوبِ، أو الندْبِ، أو الإِباحةِ، واعتداؤُها: هو تَجاوُزُ ذلك إلَى ارتكابِ ما نَهَى عنه، كما قالَ تعالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] والمرادُ: مَن طَلَّقَ علَى غيرِ ما أَمَرَ اللَّهُ به وأَذِنَ فيهِ.

وقالَ تعالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، والمرادُ: مَن أَمْسَكَ بعدَ أن طَلَّقَ بغيرِ مَعروفٍ، أو سَرَّحَ بغيرِ إحسانٍ، أو أَخَذَ ممَّا أَعْطَى المرأةَ شيئًا علَى غيرِ وَجْهِ الفِديَةِ التي أَذِنَ اللَّهُ فيها.

وقالَ تعالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} إلَى قولِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14]، والمرادُ: مَن تَجَاوَزَ ما فَرَضَهُ اللَّهُ للْوَرَثَةِ، ففَضَّلَ وارثًا، وزادَ علَى حَقِّهِ، أو نَقَصَهُ منه، ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خُطبتِهِ في حَجَّةِ الوداعِ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)).

_ وروَى النَّوَّاسُ بنُ سِمعانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلا تُعَرِّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قالَ: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الإِسْلامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّراطِ كِتابُ اللَّهِ، وَالدَّاعي مِنْ فَوْقُ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ))خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ، وهذا لَفْظُهُ، والنَّسائيُّ في تفسيرِهِ، والتِّرمذيُّ وحَسَّنَهُ.

فضَرَبَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الإِسلامِ في هذا الحديثِ بصراطٍ مُستقيمٍ، وهو الطريقُ السَّهلُ، الواسعُ، الْمُوصِلُ سالكَهُ إلَى مَطْلُوبِهِ، وهو - مع هذا - مُستقيمٌ، لا عِوَجَ فيهِ، فيَقتضِي ذلك قُرْبَهُ وسُهولتَهُ، وعلَى جَنَبَتَيِ الصِّراطِ يَمْنَةً ويَسرَةً سُورانِ، وهما حدودُ اللَّهِ، فكما أنَّ السُّورَ يَمْنَعُ مَن كان داخِلَهُ مِنْ تَعَدِّيِهِ ومُجاوَزَتِهِ، فكذلك الإِسلامُ يَمْنَعُ مَن دَخَلَهُ مِن الخُروجِ عن حدودِهِ ومُجَاوَزَتِها، وليس وراءَ ما حَدَّ اللَّهُ مِن المأذونِ فيهِ إلا ما نَهَى عنه، ولهذا مَدَحَ سُبحانَهُ الحافظينَ لحدودِهِ، وذَمَّ مَن لا يَعرِفُ حَدَّ الحلالِ مِن الحرامِ، كما قالَ تعالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97].

وقد تَقَدَّمَ حديثُ القرآنِ وأنه يَقولُ لِمَنْ عَمِلَ به: (حَفِظَ حُدُودِي، ولِمَنْ لم يَعْمَلْ به: تَعَدَّى حُدُودِي).

والمرادُ: أنَّ مَن لم يُجاوِزْ ما أُذِنَ له فيهِ إلَى ما نُهِيَ عنه فقد حَفِظَ حدودَ اللَّهِ، ومَنْ تَعَدَّى ذلك فقد تَعَدَّى حُدودَ اللَّهِ.

وقد تُطْلَقُ الْحُدودُ ويُرادُ بها نفسُ الْمَحَارِمِ، وحينئذٍ فيُقالُ: لا تَقْرَبُوا حُدودَ اللَّهِ كما قالَ تعالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}[البقرة: 187]، والمرادُ: النَّهيُ عن ارتكابِ ما نَهَى عنه في الآيَةِ مِن مَحظوراتِ الصِّيامِ والاعتكافِ في الْمَساجِدِ، ومِن هذا المعنَى - وهو تَسميَةُ الْمَحارِمِ حُدودًا - قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدْهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا سَفِينَةً)) الحديثَ المشهورَ، وأرادَ بالقائمِ علَى حُدودِ اللَّهِ الْمُنْكِرَ للمُحرَّماتِ والناهِيَ عنها.

_ وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَقُولُ: اتَّقُوا النَّارَ، اتَّقُوا الْحُدُودَ، قَالَهَا ثَلاثًا))، خَرَّجَهُ الطبرانيُّ والْبَزَّارُ.

وأرادَ بالحدودِ مَحارِمَ اللَّهِ ومَعاصِيَهُ، ومنه قولُ الرجُلِ الذي قالَ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فأَقِمْهُ عَلَيَّ.

وقد تُسَمَّى العُقوباتُ الْمُقَدَّرَةُ الرادعةُ عن الْمَحَارِمِ الْمُغَلَّظَةِ حُدودًا، كما يُقالُ: حدُّ الزِّنَى، وحَدُّ السَّرِقَةِ، وحدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ، ومنه قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لأسامةَ: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟)) يعني: في القَطْعِ في السَّرِقَةِ.

وهذا هو المعروفُ مِن اسمِ الحدودِ في اصطلاحِ الفُقهاءِ.

وأمَّاقولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ))، فهذا قد اخْتَلَفَ الناسُ في مَعناهُ.

فمِنهم مَن فَسَّرَ الحدودَ ها هنا بهذه الحدودِ الْمُقَدَّرَةِ، وقالَ: (إنَّ التَّعزيرَ لا يُزادُ علَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، ولا يُزادُ عليها إلا في هذه الحدودِ الْمُقَدَّرَةِ)

ومِنهم مَن فَسَّرَ الحدودَ ها هنا بِجِنْسِ مَحارِمِ اللَّهِ، وقالَ: (المرادُ أنَّ مُجاوَزَةَ العَشْرِ جَلَدَاتٍ لا يَجوزُ إلا في ارتكابِ مُحَرَّمٍ مِنْ مَحارِمِ اللَّهِ، فأمَّا ضَرْبُ التَّأديبِ علَى غيرِ مُحَرَّمٍ فلا يُتجاوَزُ به عَشْرُ جَلَدَاتٍ).

وقد حَمَلَ بعضُهم قولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا))علَى هذه العُقوباتِ الزَّاجرةِ عن الْمُحَرَّماتِ، وقالَ: (المرادُ النَّهيُ عن تَجاوُزِ هذه الحدودِ وتَعَدِّيها عندَ إقامتِها علَى أهلِ الجرائمِ). ورَجَّحَ ذلك بأنه لو كان المرادُ بالحدودِ الوقوفَ عندَ الأوامرِ والنَّواهِي لكان تَكريرًا لقولِهِ: ((فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا))، وليس الأمرُ علَى ما قالَهُ؛ فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يَقتضِي أنَّهُ لا يَخرجُ عمَّا أُذِنَ فيهِ إلَى ما نُهِيَ عنه، وذلك أَعَمُّ مِن كونِ الْمَأذونِ فيهِ فَرْضًا أو نَدْبًا أو مُباحًا كما تَقدَّمَ، وحينئذٍ فلا تَكريرَ في الحديثِ، واللَّهُ أَعلمُ.

وأمَّا المسكوتُ عنه، فهو ما لم يُذكَرْ حُكْمُهُ بتحليلٍ، ولا إيجابٍ، ولا تحريمٍ، فيكونُ معفوًّا عنه لا حَرَجَ علَى فاعلِهِ، وعلَى هذا دَلَّتْ هذه الأحاديثُ المذكورةُ ها هنا، كحديثِ أبي ثَعلبةَ وغيرِهِ.

وقد اخْتلفَتْ ألفاظُ حديثِ أبي ثَعلبةَ، فرُوِيَ باللفظِ الْمُتقدِّمِ، ورُويَ بلفظٍ آخَرَ، وهو: ((إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ - مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ - فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا))خَرَّجَهُ إسحاقُ بنُ رَاهوَيْهِ.

ورُوِيَ بلفظٍ آخَرَ وهو: ((إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَسَنَّ لَكُمْ سُنَنًا فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَشياءَ فَلا تَعْتَدُوهَا، وَتَرَكَ بَيْنَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ رَحْمَةً مِنْهُ فَاقْبَلُوهَا وَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا))خَرَّجَهُ الطبرانيُّ. وهذه الروايَةُ تُبَيِّنُ أنَّ الْمَعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذِكْرُهُ، فلم يُحرَّمْ ولم يُحلَّلْ.

ولكن مما يَنْبَغِي أن يُعْلَمَ: أنَّ ذِكْرَ الشيءِ بالتَّحريمِ والتَّحليلِ مما قد يَخْفَى فَهْمُهُ مِنْ نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فإنَّ دَلالةَ هذه النُّصوصِ قد تكونُ بطريقِ النَّصِّ والتَّصريحِ، وقد تكونُ بطريقِ العُمومِ والشُّمولِ، وقد تكونُ دَلالتُهُ بطريقِ الْفَحْوَى والتنبيهِ، كما في قولِهِ تعالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ مِن التَّأفيفِ مِنْ أنواعِ الأَذَى يكونُ بطريقِ الأَوْلَى، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الْمُوافَقَةِ.

وقد تكونُ دَلالتُهُ بطريقِ مفهومِ المخالَفَةِ، كقولِهِ: ((فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ))فإنه يَدُلُّ بمفهومِهِ علَى أنَّهُ لا زَكاةَ في غيرِ السَّائمةِ، وقد أَخَذَ الأكثرونَ بذلك، واعْتَبَروا مفهومَ المخالَفَةِ، وجَعلوهُ حُجَّةً.

وقد تكونُ دَلالتُهُ مِنْ بابِ القِياسِ، فإذا نصَّ الشَّارعُ علَى حُكْمٍ في شيءٍ لمعنًى مِن المعاني، وكان ذلك المعنَى مَوجودًا في غيرِهِ، فإنَّهُ يَتعدَّى الْحُكْمُ إلَى كلِّ ما وُجِدَ في ذلك المعنَى عندَ جُمهورِ العُلماءِ، وهو مِن بابِ العدْلِ والْمِيزانِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وأَمَرَ بالاعتبارِ به، فهذا كلُّهُ ممَّا يُعرَفُ به دَلالةُ النُّصوصِ علَى التَّحليلِ والتَّحريمِ.

فأمَّا ما انْتَفَى فيهِ ذلك كلُّهُ، فهُنا يُسْتَدَلُّ بعدَمِ ذِكرِهِ بإيجابٍ أو تحريمٍ علَى أنَّهُ مَعْفُوٌّ عنه، وها هنا مَسلكانِ:

أحدُهما أن يُقالَ: لا إيجابَ ولا تحريمَ إلا بالشَّرعِ، ولم يُوجِب الشَّرعُ كذا، أو لم يُحَرِّمْهُ، فيكونَ غيرَ واجبٍ، أو غيرَ حرامٍ، كما يُقالُ مِثلُ هذا في الاستدلالِ علَى نفيِ وُجوبِ الوِترِ والأُضْحِيَّةِ، أو نفيِ تحريمِ الضَّبِّ ونحوِهِ، أو نفيِ تحريمِ بعضِ العُقودِ الْمُخْتَلَفِ فيها، كالْمُساقاةِ والْمُزارعةِ ونحوِ ذلك، ويَرْجعُ هذا إلَى استصحابِ بَراءَةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يَدُلُّ علَى اشتغالِها، ولا يَصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلا لِمَن عَرَفَ أنواعَ أدلَّةِ الشَّرعِ وسَبَرَهَا، فإنْ قَطَعَ - مع ذلك - بانتفاءِ ما يَدُلُّ علَى إيجابٍ أو تحريمٍ، قَطَعَ بنفيِ الوُجوبِ أو التحريمِ، كما يَقْطَعُ بانتفاءِ فَرْضِيَّةِ صلاةٍ سادسةٍ، أو صيامِ شهرٍ غيرِ شهرِ رمضانَ، أو وُجوبِ الزَّكاةِ في غيرِ الأموالِ الزَّكَويَّةِ، أو حَجَّةٍ غيرِ حَجَّةِ الإِسلامِ، وإن كان هذا كلُّهُ يُسْتَدَلُّ عليهِ بنصوصٍ مُصَرِّحةٍ بذلك، وإن ظنَّ انتفاءَ ما يَدُلُّ علَى إيجابٍ أو تحريمٍ، ظنَّ انتفاءَ الوُجوبِ والتحريمِ مِن غيرِ قَطْعٍ.

والْمَسْلَكُ الثاني: أن يَذْكُرَ مِنْ أدلَّةِ الشَّرعِ العامَّةِ ما يَدُلُّ علَى أنَّ ما لم يُوجِبْهُ الشرعُ ولم يُحَرِّمْهُ، فإنَّهُ مَعْفُوٌّ عنه، كحديثِ أبي ثَعلبةَ هذا وما في مَعناهُ مِن الأحاديثِ المذكورةِ معه، ومِثلُ قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عن الحجِّ: أَفِي كلِّ عامٍ؟فقالَ: ((ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيائِهِمْ؛ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُم بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).

ومِثلُ قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في حديثِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّم فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)).

وقد دلَّ القرآنُ علَى مِثْلِ هذا أيضًا في مَوَاضِعَ، كقولِهِ عزَّ وجلَّ: {قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآيَةَ [الأنعام: 145]، فإنَّ هذا يَدُلُّ علَى أنَّ ما لم يَجِدْ تحريمَهُ فليس بِمُحَرَّمٍ.

وكذلك قولُهُ: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَليهِ وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام: 119]، فعَنَّفَهم علَى تَرْكِ الأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ، مُعَلِّلاً بأنَّهُ قد بَيَّنَ لهمُ الحرامَ، وهذا ليس منه، فدَلَّ علَى أنَّ الأشياءَ علَى الإِباحةِ، وإلا لَمَا أَلْحَقَ اللَّوْمَ بِمَن امْتَنَعَ مِن الأكلِ ممَّا لم يَنُصَّ له علَى حِلِّهِ بِمُجرَّدِ كونِهِ لم يَنُصَّ علَى تَحريمِهِ.

واعْلَمْ أنَّ هذه المسألةَ غيرُ مَسألةِ حُكْمِ الأعيانِ قبلَ وُرُودِ الشَّرعِ: هل هو الْحَظْرُ أو الإِباحةُ، أو لا حُكْمَ فيها؟

فإنَّ تلك المسألةَ مَفروضةٌ فيما قَبْلَ وُرودِ الشَّرعِ، فأمَّا بعدَ وُرودِهِ فقد دَلَّتْ هذه النُّصوصُ وأشباهُها علَى أنَّ حُكْمَ ذاك الأصلِ زالَ واسْتَقَرَّ أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإِباحةُ بأَدِلَّةِ الشَّرعِ.

وقد حَكَى بعضُهم الإِجماعَ علَى ذلك، وغَلَّطوا مَن سَوَّى بينَ المسألتينِ، وجَعَلَ حُكْمَهما واحدًا.

_ وكلامُ الإِمامِ أحمدَ يَدُلُّ علَى أنَّ ما لا يَدخلُ في نصوصِ التَّحريمِ فإنَّهُ مَعْفُوٌّ عنه.

_ قالَ أبو الحارثِ: قلتُ لأبي عبدِ اللَّهِ - يعني أحمدَ -: إنَّ أصحابَ الطَّيْرِ يَذْبَحُونَ مِنَ الطَّيرِ شيئًا لا نَعرِفُهُ، فما تَرَى في أَكْلِهِ؟

فقالَ: (كُلْ مَا لَمْ يَكُنْ ذَا مِخْلَبٍ أَوْ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلا بَأْسَ بِهِ)، فَحَصَرَ تَحريمَ الطَّيْرِ في ذي الْمِخْلَبِ المنصوصِ عليهِ، وما يَأكلُ الْجِيَفَ؛ لأنَّهُ في معنَى الغُرابِ الْمَنصوصِ عليهِ، وحَكَمَ بإباحةِ ما عَدَاهما.

_ وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ يَدُلُّ علَى مِثْلِ هذا.

_ وحديثُ سَلمانَ الفارسيِّ فيهِ النهيُ عن السؤالِ عن الْجُبْنِ والسَّمْنِ والْفِرَاءِ؛فإنَّ الْجُبنَ كان يُصْنَعُ بأرضِ الْمَجوسِ ونحوِهم مِن الكُفَّارِ، وكذلك السَّمْنُ، وكذلك الْفِرَاءُ تُجْلَبُ مِن عندِهم، وذبائحُهم مَيْتَةٌ، وهذا مما يُسْتَدَلُّ به علَى إباحةِ لَبَنِ الْمَيتةِ وأَنْفَحَتِها، وعلَى إباحةِ أَطعمةِ الْمَجوسِ، وفي ذلك كلِّهِ خِلافٌ مَشهورٌ، ويُحْمَلُ علَى أنَّهُ إذا اشْتَبَهَ الأمرُ لم يَجِب السُّؤالُ والبحثُ عنه، كما قالَ ابنُ عمرَ لَمَّا سُئِلَ عن الْجُبنِ الذي يَصْنَعُهُ الْمَجُوسُ،فقالَ: (ما وَجَدْتُهُ في سوقِ المسلمينَ اشتريتُهُ ولم أَسألْ عنه) وذُكِرَ عندَ عمرَ الْجُبْنُ وقيلَ له: إنه يُصْنَعُ بأنافحِ الْمَيْتَةِ، فقالَ: سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا.

_ قالَ الإِمامُ أحمدُ: أَصَحُّ حديثٍ فيهِ هذا الحديثُ، يعني: جُبْنَ الْمَجوسِ.

_ وقد رُوِيَ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجُبنةٍ في غَزوةِ الطَّائفِ، فقالَ: ((أَيْنَ تُصْنَعُ هَذِهِ؟))قالُوا: بفارِسَ، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((ضَعُوا فِيهَا السِّكِّينَ وَاقْطَعُوا، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا))خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ، وسُئِلَ عنه، فقالَ: هو حديثٌ مُنْكَرٌ، وكذا قالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ.

وخَرَّجَ أبو دَاوُدَ معناهُ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، إلا أنه قالَ: في غَزوةِ تَبوكَ.

_ وقالَ أبو حاتمٍ: هو مُنْكَرٌ أيضًا.

_ وَخَرَّجَهُ عبدُ الرزَّاقِ في كتابِهِ مُرْسَلاً، وهو أَشبهُ، وعندَهُ زيادةٌ وهي: أنَّهُ قيلَ له: يا رَسولَ اللَّهِ، ، نَخْشَى أَنْ تَكونَ مَيْتَةً؟

قالَ: ((سَمُّوا عَلَيْهِ وَكُلُوهُ)).

_ وخرَّج الطبرانيُّ معناهُ مِن حديثِ مَيمونةَ، وإسنادُهُ جَيِّدٌ، لكنه غريبٌ جِدًّا.

_ وفي (صحيحِ البُخاريِّ) عن عائشةَ، أنَّ قومًا قالُوا للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنا بِاللَّحمِ، لا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟

فقالَ: ((سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُم وَكُلُوا)).قالَتْ: وكانوا حَدِيثِي عهدٍ بالكُفرِ.

_ وفي (مُسْنَدِ الإِمامِ أحمدَ) عن الحسنِ، أنَّ عمرَ أرادَ أن يَنْهَى عن حُلَلِ الْحِبَرَةِ؛ لأنَّها تُصبَغُ بالْبَوْلِ، فقالَ له أُبيٌّ: ليس ذلك لك، قد لَبِسَهُنَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولَبِسْنَاهُنَّ في عَهْدِهِ، وَخَرَّجَهُ الخلالُ مِن وجهٍ آخَرَ، وعندَهُ: أنَّ أُبَيًّا قالَ له: (يا أميرَ المؤمنينَ، قد لَبِسَها نبيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ورأَى اللَّهُ مَكَانَها، ولو عَلِمَ اللَّهُ أنَّها حرامٌ لَنَهَى عنها، فقالَ: صَدَقْتَ).

_ وسُئِلَ الإِمامُ أحمدُ عن لُبْسِ ما يَصْبُغُهُ أهلُ الكتابِ مِن غيرِ غَسْلٍ،فقالَ: (لِمَ تَسألُ عمَّا لا تَعْلَمُ؟! لم يَزَلِ النَّاسُ منذُ أَدْرَكْنَاهم لا يُنْكِرون ذلك).

وسُئِلَ عن يهودَ يَصْبُغُون بالبولِ، فقالَ: (المسلِمُ والكافرُ في هذا سواءٌ، ولا تسألْ عن هذا، ولا تَبْحَثْ عنه)، وقالَ: (إذا عَلِمْتَ أنَّهُ لا مَحالةَ يُصْبَغُ بشيءٍ مِنَ البولِ وصَحَّ عندَكَ، فلا تُصَلِّ فيهِ حتَّى تَغْسِلَهُ).

_ وخَرَّجَ مِن حديثِ الْمُغيرةِ بنِ شُعبةَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَ له خُفَّانِ، فلَبِسَهما ولا يَعْلَمُ أَذَكِيٌّ هما أمْ لا.

_ وقد وَرَدَ ما يُسْتَدَلُّ به علَى البحثِ والسؤالِ، فخرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِن حديثِ رجُلٍ، عن أمِّ مسلمٍ الأَشجعيَّةِ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أتاها وهي في قُبَّةٍ فقالَ: ((مَا أَحْسَنَهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَيْتَةٌ)).

قالَتْ: (فجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُها). والرجلُ مجهولٌ.

_ وخَرَّجَ الأَثْرمُ بإسنادهِ، عن زيدِ بنِ وَهْبٍ، قالَ: أتانا كتابُ عمرَ بأَذرَبِيجانَ: (إنَّكم بأرضٍ فيها الْمَيْتَةُ، فلا تَلْبَسُوا مِنَ الْفِرَاءِ حتَّى تَعْلَموا حِلَّهُ مِن حَرامِهِ).

_ وروَى الْخَلالُ بإسنادِهِ، عن مُجاهِدٍ أنَّ ابنَ عمرَ رأَى علَى رجُلٍ فَرْوًا، فمَسَّهُ وقالَ(لو أَعْلَمُ أنه ذُكِّيَ لسَرَّنِي أن يكونَ لي منه ثوبٌ).

_ وعن مُحَمَّدِ بنِ كعبٍ أنَّهُ قالَ لعائشةَ: (ما يَمْنَعُكِ أن تَتَّخِذِي لِحَافًا مِن الْفِرَاءِ؟ قالَتْ: أَكْرَهُ أن أَلْبَسَ الْمَيْتَةَ).

_ وروَى عبدُ الرزَّاقِ بإسنادِهِ، عن ابنِ مسعودٍ أنه قالَ لِمَن نَزَلَ مِن المسلمينَ بفارسَ(إذا اشْتَرَيْتُم لَحْمًا فَسَلُوا، إن كان ذبيحةَ يهودِيٍّ أو نَصرانيٍّ فكُلوا).

وهذا لأنَّ الغالبَ علَى أهلِ فارسَ المجوسُ وذبائحُهُم مُحَرَّمةٌ.

والْخِلافُ في هذا يُشْبِهُ الْخِلافَ في إباحةِ طعامِ مَن لا تُباحُ ذَبيحتُهُ مِن الكفَّارِ، وفي استعمالِ أواني الْمُشْرِكينَ وثيابِهم، والْخِلافُ فيها يَرْجِعُ إلَى قاعدةِ تَعَارُضِ الأصلِ والظاهِرِ، وقد سَبَقَ ذكرُ ذلك في الكلامِ علَى حديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ))

وقولُهُ في الأشياءِ التي سَكَتَ عنها: ((رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ)) يعني: أنَّهُ إنَّما سَكَتَ عن ذِكْرِها رحمةً بعِبادِهِ ورِفقًا، حيث لم يُحَرِّمْها عليهم حتَّى يُعاقبَهم علَى فِعْلِها، ولم يُوجِبْها عليهم حتَّى يعاقِبَهم علَى تَرْكِها، بل جَعَلَها عَفْوًا، فإن فَعَلوها فلا حَرَجَ عليهم، وإن تَرَكُوها فكذلك، وفي حديثِ أبي الدرداءِ: ثم تلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، ومثلُهُ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}[طه: 52].

وقولُهُ: ((فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) يَحتمِلُ اختصاصَ هذا النهيِ بزَمَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ كثرةَ البحثِ والسؤالِ عمَّا لم يُذْكَرْ قد يكونُ سببًا لنزولِ التَّشديدِ فيهِ بإيجابٍ أو تحريمٍ، وحديثُ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ يَدُلُّ علَى هذا، فيُحْتَمَلُ أن يكونَ النَّهيُ عامًّا، والْمَرْوِيُّ عن سَلمانَ مِن قولِهِ يَدُلُّ علَى ذلك؛ فإنَّ كثرةَ البحْثِ والسُّؤالِ عن حُكْمٍ ما لم يُذْكَرْ في الواجباتِ ولا في الْمُحَرَّماتِ، قد يُوجِبُ اعتقادَ تحريمِهِ أو إيجابِهِ؛ لِمُشابَهَتِهِ لبعضِ الواجباتِ أو الْمُحرَّماتِ، فقَبولُ العافيَةِ فيهِ وتَرْكُ البحثِ والسُّؤالِ عنه خيرٌ، وقد يَدخلُ ذلك في قولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قالَها ثلاثًا.

خَرَّجَهُ مسلِمٌ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ مَرفوعًا.

والْمُتَنَطِّعُ: هو الْمُتَعَمِّقُ البَحَّاثُ عمَّا لا يَعنِيهِ، وهذا قد يَتَمَسَّكُ به مَن يَتعلَّقُ بظاهرِ اللَّفظِ، ويَنفِي المعانِيَ والقياسَ كالظاهريَّةِ.

والتَّحقيقُ في هذا الْمَقامِ - واللَّهُ أعلمُ - أنَّ البحثَ عمَّا لم يُوجَدْ فيهِ نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ علَى قِسمينِ:

أحدُهما: أن يُبْحَثَ عن دُخولِهِ في دَلالاتِ النُّصوصِ الصَّحيحةِ مِن الْفَحْوَى والمفهومِ والقياسِ الظاهرِ الصَّحيحِ، فهذا حقٌّ، وهو ممَّا يَتعيَّنُ فِعْلُهُ علَى الْمُجْتَهِدِينَ في مَعرِفةِ الأحكامِ الشرعيَّةِ.

والثاني: أن يُدَقِّقَ الناظِرُ نَظَرَهُ وفِكْرَهُ في وُجوهِ الفُروقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فيُفرِّقُ بينَ مُتماثلينِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لا يَظهرُ له أثرٌ في الشرعِ، مع وُجودِ الأوصافِ الْمُقتضيَةِ للجَمْعِ، أو يَجْمَعُ بينَ مُتفرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الأوصافِ الطَّرديَّةِ التي هي غيرُ مُناسبةٍ، ولا يَدُلُّ دليلٌ علَى تأثيرِها في الشَّرعِ، فهذا النَّظرُ والبحثُ غيرُ مَرْضِيٍّ ولا محمودٍ، مع أنَّهُ قد وَقَعَ فيهِ طوائفُ مِنَ الْفُقهاءِ، وإنَّما المحمودُ النَّظرُ الْمُوافقُ لنَظَرِ الصَّحابةِ ومَنْ بعدَهُم مِنَ القُرونِ الْمُفَضَّلةِ كابنِ عبَّاسٍ ونحوِهِ، ولعلَّ هذا مرادُ ابنِ مسعودٍ بقولِهِ: (إيَّاكم والتَّنَطُّعَ، إيَّاكم والتَّعَمُّقَ، وعليكم بالعَتيقِ)، يعني بما كان عليهِ الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.

ومِن كلامِ بعضِ أئِمَّةِ الشافعيَّةِ: (لا يَليقُ بنا أن نَكتفيَ بالخيالاتِ في الفُروقِ، كدَأْبِ أصحابِ الرأيِ، والسِّرُّ في تلك أنَّ مُتَعَلَّقَ الأحكامِ في الحالِ الظُّنونُ وغَلَباتُها، فإذا كان اجتماعُ مَسألتينِ أَظْهَرَ في الظنِّ مِنَ افتراقِهما وَجَبَ القضاءُ باجتماعِهما، وإنِ انْقَدَحَ فَرْقٌ علَى بُعْدٍ، فافْهَموا ذلك فإنه مِن قواعِدِ الدِّينِ). انتهَى.

يتبع إن شاء الله...


شرح الحديث رقم (30) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

شرح الحديث رقم (30) Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الحديث رقم (30)   شرح الحديث رقم (30) Emptyالثلاثاء 29 مايو 2012, 4:48 am

ومما يَدْخُلُ في النَّهيِ عن التعمُّقِ والبحثِ عنه: أمورُ الغيبِ الخبريَّةُ التي أُمِرَ بالإِيمانِ بها ولم يُبَيَّنْ كَيْفِيَّتُها، وبعضُها قد لا يكونُ له شاهدٌ في هذا العالَمِ المحسوسِ، فالبحثُ عن كَيفيَّةِ ذلك هو ممَّا لا يَعْنِي، وهو مما يُنْهَى عنه، وقد يُوجِبُ الْحَيْرَةَ والشَّكَّ، ويَرْتَقِي إلَى التَّكذيبِ.

_ وفي (صحيحِ مسلمٍ)، عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ)).

_ وفي روايَةٍ له: ((لا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟)).

_ وفي روايَةٍ له أيضًا: ((لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟)).

_ وَخَرَّجَهُ البخاريُّ، ولَفْظُهُ: ((يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ)).

_ وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عن أَنَسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا مَا كَذَا، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟)).

_ وَخَرَّجَهُ البخاريُّ، ولفظُهُ: ((لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟)).

_ قالَ إسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ: (لا يَجوزُ التَّفَكُّرُ في الخالِقِ، ويَجوزُ للعِبادِ أن يَتفكَّروا في المخلوقينَ بما سَمِعُوا فيهم، ولا يَزيدونَ علَى ذلك؛ لأنَّهم إن فَعَلُوا تَاهُوا).

قالَ: وقد قالَ اللَّهُ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[الإِسراء: 44] فلا يَجُوزُ أن يُقالَ: كيف تُسبِّحُ القِصَاعُ، والأَخْوِنَةُ، والخبزُ المخبوزُ، والثِّيابُ المنسوجةُ.

وكلُّ هذا قد صَحَّ العلْمُ فيهِ أنَّهم يُسَبِّحُونَ، فذلك إلَى اللَّهِ أن يَجعلَ تَسبيحَهم كيف شاءَ وكما يَشاءُ، وليس للناسِ أن يَخُوضُوا في ذلك إلا بما عَلِمُوا، ولا يَتكلَّموا في هذا وشِبْهِهِ إلا بما أَخبرَ اللَّهُ، ولا يَزيدُوا علَى ذلك، فاتَّقُوا اللَّهَ ولا تَخُوضُوا في هذه الأشياءِ المتشابِهَةِ؛ فإنَّهُ يُرْدِيكم الخوضُ فيهِ عن سَنَنِ الْحَقِّ. نَقَل ذلك كلَّهُ حَرْبٌ، عن إسحاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
------------------
شرح معالي الشيخ:
صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
(مفرغ)

--------------------------------------
القارئ:

وعن أبي ثعلبة الخُشَني (جرثوم بن ناشر) -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إنَّ الله فرض فرائض فلا تُضيعوها(1)، وحدَّ حُدوداً فلا تعتدوها(2)، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء لكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها)) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

الشيخ:

هذا الحديث أيضاً من الأحاديث الأصول العظيمة: عن أبي ثعلبة الخُشني (جُرثوم بن ناشر)، وجُرْثوم وجُرثومة معناها: الأصل الذي يُرجعُ إليه فـ(جرثوم) اسم له دِلالتهُ القوية في اللغة يعني: هو أصْلٌ لغيره.

و(الجُرْثومة) هي الأصل، وليست كلمة ذم، وإنمّا هي في اللغة: ما يدل على أنه أصلٌ لغيره.

قال جُرثوم بن ناشر -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها…)) الحديث.

قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها)) يُعنى هنا بالفرائض: ما جاء إيجابه في القرآن.

قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها))، ((فرضَ))يعني: أوجب واجبات فلا تُضيِّعوها، ومن المعلوم أنَّ كلمة (فرض) في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة، وما دلَّ القرآن على وجوبه فهو فرْض، فقوله عليه الصلاة السلام هنا: ((إنَّ الله فرض فرائض فلا تُضيعوها)) يعني ما أوجبه الله -جل وعلا- في القرآن، فما ثبت في القرآن وجوبُه فيسمى فرضاً بهذا الحديث.

ولهذا ذهب جماعةٌ من أهل العلم، منهم الأمام أحمد: على أنَّ الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا- يُقال له: (فرض)، وما دلت السُّنة على وجوبه يُقال له: (واجب) إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرَّق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل لا من جهة المرتبة، فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما: الوجوب.

- (الفرض) واجب. و(الواجب) فرض.

لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمِّي (فرضاً).

وما كان من جهة الدليل من السنة سمِّي (واجباً).

وقال بعض أهل العلم: إنّ الفرض أرْفعُ درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإنَّ (الفرض) عنده: ما ثبت بدليل قطعي، و(الواجب): ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرَّق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب.

وقال طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور-: إنّ الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة:

- فيُقال: الصلوات الخمس فرائض، ويُقال: هي واجبة.

- ويُقال: صوم رمضان واجب، ويُقال: فرض.

- ويقال: الحج واجب وفرض.

- ويقال: بر الوالدين واجب وفرض.

وهكذا على هذا القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأنَّ الفرائض والواجبات معناهما واحد.

فالفرض معناه الواجب ولهذا نقول إنّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إنَّ الله تعالى فرض فرائض فلا تُضيعوها)) يعني: ما أوجبه الله -جل وعلا- في القرآن فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جلّ وعلا-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.

- وبقوله -جلّ وعلا-: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم تُرحمون} والآيات كثيرة في هذا الباب.

- وبقوله -عليه الصلاة والسلام-((إلا وإني أوتيت الكتاب ومثلهُ معه))إلى أن قال: ((ألا وإنَّ ما حرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله))الحديث المعروف؛ حديث تحريم الحمر الأهلية في خيبر.

المقصود أنَّ قوله: (فلا تضيعوها) يعني امتثلوا وأدّوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإنَّ الله ما فرضها إلا لتُمتثل، وهذا يدل على أنّ من ضيع أَثَم، لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة: (أنَّ ترك الواجب مُحرم).

(2) قال: ((وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها)) هذا اللفظ: ((حدّ حدوداً فلا تعتدوها))يدخُل فيه البحث من جهاتٍ كثيرة، لكن ألخصُ لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسُّنة التي جاء فيها لفظ الحدّ والحدود.

وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:

الأول: أن يُؤتى بلفظ الحدود بإطلاق يعني بلا أمر أو نهيٍ بعدها، كقوله تعالى في سورة النساء: {تلك حُدود الله ومن يطع الله ورسوله}.

الثاني: تأتي ويكون بعدها النهي عن الاعتداء كقوله -جل وعلا-: {وتلك حُدود الله ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه}، وكقوله: {تلك حُدودُ الله فلا تَعتدوها}.

والثالث: أن يكون بعد ذكر الحُدود النهي عن المُقاربة: {فلا تقربوها} كقوله في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف {تلك حُدود الله فلا تقربوها} فهذه ثلاثة أنواع في القرآن.

وفي السنة أتى الحد أيضا، ويُرادُ به:

- العُقوبات المقدَّرة.

- أو: يُرادُ به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يُعاقب.

إذا تقرَّر ذلك فنرجعُ إلى تأصيل هذا في أنّ الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي السالف في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنمَّا هو لنصوص الكتاب والسنة، وأمَّا التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه فهذا استعمال اصطلاحي ليس هو استعمال (الحدود) في نصوص الكتاب والسنة.

فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها يعني نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء؛ فإنّ المُراد بالحدود هنا الفرائض أو ما أُذنَ به، فما أذن به فرضاً كان أو مستحبّاً أو مُباحاً فالحدود هنا يُرادُ بها هذه الأشياء، ولهذا جاء بعدها {فلا تعتدوها} فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارجٍ عن المأذون به فقد تَعدى الحد، وقد خَرج عنْهُ، وهذا الحد هو حد المأذونِ به؛ فهذا نوع، {تلك حُدود الله} جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا- في التركات {يوصيكمُ الله في أولادكُم..} الآيات في سورة النساء لما أتمها في آيتين قال: {تلك حُدود الله ومن يطع الله ورسوله..} يعني هذا ما أمر الله -جل وعلا- به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حُدود المأمور، ولهذا عقَّبها بالطاعة قال: {ومن يطع الله ورسوله}، {وتلك حُدود الله ومن يتعد حُدود الله فقد ظلم نفسه}، هذه الحدود هي ما أُذن به وأمر به هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المُحرمات، الحدود هي: ما أُذن به يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.

الحُدود بالمعنى الثاني: -إذا جُعلت للمُحرمات- فلها ضابطان:- الأول: أن يكون بعدها {فلا تقربوها}

- وأن يكون بعدها أو معها ذكر عقوبة، وهذا يعني أنّ الحدود هنا هي المُحرمات، لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن الاقتراب؛ {تلك حُدود الله فلا تقربوها} يعني المحرمات لا تُقرب.

ولأجل هذا النوع قيل في العُقوبات التي شُرعت تطهيراً لمن انتهك المُحرمات قيل لها حُدوداً من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة.
فإذاً العقوبات التي شُرعت لمن ارتكب محرمّاً فقارب أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة: (حد) لأنه دَخل في الحد، وقيل لها: (حُدوداً) لأنه اقتحم الحُدود.

وأمّا النوع الثالث: وهو العُقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جُعل في الشرع له عِقاب بعينه، فَيُقال: حد السرقة، حدُّ الخمر.. إلى أخره.

كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله)).

((في حد من حدود الله)): يعني إلا في معصيةٍ جاءت الشريعةُ بالعُقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود والتعزيرات عند الفقهاء.

فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا القسم الثالث: ((لا يُجلد فوق عشرة أسواط)) يعني: تأديباً، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يُؤدب من أُبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط (إلا في حد من حُدود الله) يعني: إلا في عُقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حداً على اصطلاح الفقهاء أو أن تكون تعزيراً.

وهذا بحث طويل في كتاب الحدود ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود وما جاء في النصوص بكلمة الحدود.

إذا تَقررت هذه القاعدة وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء، ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.

قال عليه الصلاة والسلام ((وحدّ حُدوداً فلا تعتدوها)) هنا الحُدود على ما ذكرنا هي ما أُذن به؛ الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك لهذا قال: ((فلا تعتدوها))يعني لا تعتدِ ما أُذن لك فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح ولا تنتقل منه إلى غيره:

فالأول: ((فرض فرائض فلا تضيعوها))
يعني: امتثِل الفرائض، أد الواجبات.

والثاني: كُن في دائرة المستحب والمباح ولا تتعدَّهُ إلى غيره.

ثم قال: ((وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها)) وهذا من العطف المغاير لأن التحريم غير تعدي الحُدود كما ذكرنا لك من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرّم الله -جل وعلا- نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن ننتهكه والتعبير بالانتهاك أيضاً يُفيد الاعتداء وعدم المُبالاة مِمَّن انتهك المُحرمات وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((حرّم أشياء))يُفيد أن هذه الأشياء المُحرمة قليلة، ولهذا تجد أن أصول المُحرمات في الأطعمة قليلة: {قُل لا أجِدُ فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً..} إلى آخر الآية، أو المُحرمات بعامّة: {قُل تعالوا أتل ما حَرم رَبّكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} الآيات المعروفة بالوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو المحرمات في اللباس فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرّمات في الأشربة فهي أيضاً محددة أو محرّمات في المنازل فهي محددة أو مُحرمات في المراكب فهي محدودة، لهذا؛ المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المُحرمات لأنَّ دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع لهذا قال: ((وحرّم أشياء)) هذه الأشياء قليلة فعجيب أن تُنتهك فقال: ((فلا تنتهكوها)) فيكون هذا المنتهك لهذه الحرمات ينتهك هذا القليل ويُغرى بهذا القليل ولهذا لم يحرم الشرع شيئاً فيه لابن آدم منفعة -في حياته- حاجية أو تحسينية أو ضرورية؛ بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها ولا تُؤثر عليه في حياته، فما حرّم الله -جل وعلا- أو حرّمه رسوله صلى الله عليه وسلم من أشياء فإنه لا حاجة لابن آدم إليها في إقامة حياته أو التلذُّذ بحياته فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذّذ فيها بأشياء كثيرة تُغنيه عن الحرام.

قال: ((وسكتَ عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) وهذا السُّكوت الذي وُصِفَ الله -جل وعلا- به ليس هو السُّكوت المقابل للكلام يقال تكلم وسكت، وإنمَّا هذا سكوتٌ يُقابَلُ به إظهار الحكم فالله -جل وعلا- سكت عن التحريم بمعنى لم يحرم، لم يُظهر لنا أنّ هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحُكم، سكوت عن الحكم وليس سكوتاً عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السُّكوت لله -جل وعلا- وهذا مما لم يأتِ في نصوص السلف في الصفات.

وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أنّ السكوت صفة؛ لأنّ السُّكوت قسمان: سُكوتٌ عن الكلام وهذا لا يوصَفُ الله -جل وعلا- به، بل يوصفُ الله سبحانه وتعالى بأنهُ: متكلم ويتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء، وأمَّا صفة السُّكوت عن الكلام فهذه لم تأتِ في الكتاب ولا في السنة فنقف على ما أوقفنا الشارع عليه فلا نتعدى ذلك.

والقسم الثاني من السكوت: السكوت عن إظهار الحكم أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فُرِض -مثلاً-: أنا أمامكم الآن وأتكلم باسترسال، سكتُ عن أشياء وأنا مسترسِل في الكلام بمعنى: أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم أُوصَفُ فيه بالسكوت فتقول مثلاً: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة لم يُبدها لأجل أنّ المقام لا يتسعُ لها مع أني متواصلُ الكلام، والله -جل وعلا- له المثل الأعلى فنصفُه بما وصَف به نفسه أو وصفَهُ به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول إن الله -جل وعلا- سكت عن أشياء بمعنى لم يُظهر لنا حكمها إذا تقرَّر هذا من جهة البحث العَقدي فنرجعُ إلى قوله: ((سكت عن أشياء)) يدل أن هذه الأشياء قليلة،((رحمة لكم غير نسيان)) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا رحمة لا نسيان والله -جل وعلا- ليس بنسي كما قال سبحانه: {وما كان رَبُّكَ نسيا}، {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} فالله سبحانه ليس بذي نسيان بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى وجل وتقدس ربنا، فإذاً هناك أشياء لم يُبين لنا حكمها فالسكوتُ عنها رحمة غير نسيان، أمرنا عليه الصلاة والسلام ألا نبحث عنها فقال: ((فلا تبحثوا عنها)).

إذا تقرّر هذا فالأشياء المسكوت عنها أنواع:

النوع الأول: ما لم يأتِ التنصيصُ عليه من المسائل لكنها داخلةٌ في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه، فهذا النوع ممّا دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أُصول الفقه فهذا لا يُقال عنه إنَّه مسكوتٌ عنه لأنَّ الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها الكتاب والسنة بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال إنه مسكوت عنه ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص ففهموا منها الحكم أو في الإطلاق أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.

النوع الثاني: أشياء مسكوتٌ عنها لكن داخلة ضِمْن الأقيسة يعني يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس إذا كانت العِلة واضحة، إذا اجتمعت فيها الشروط وكانت منصوصاً عليها فإذا كان القياس صحيحاً فإنّ المسألة لا تعدُّ مسكوتاً عنها.

الحاله الثالثه: أن تكون المسألة مسكوتاً عنها بمعنى أنَّه لا يظْهر إدخالها ضِمْن دليلٍ فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- ولم يُنصَّ على حكمها ولم تدخُل ضِمن دليل عام فسُكِت عنها فهذا يدل على الإباحة لأنَّ الإيجابَ أو التحريم نقْل عن الأصل فالأصل ألاّ تكليف ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل فلا بد للوجوب من دليل ولا بد للتحريم من دليل فما سُكِت عنه فلا نعلمُ له دليلاً من النص من الكتاب والسنة ولا يدخل في العمومات وليس له قياس فهذا يدل على أنّهُ ليس بواجب ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام- على من سأله عن الحج فقال الرجل: يا رسول الله أفي كلِّ عام؛ هذه مسألة مسكوت عنها وتوجه الخطاب للرَّجُل بألاَّ يبحث عن هذا، فسُكت عن وجوب الحج؛ هل يتكررّ أم لا يتكرر والأصل أنه يحصلُ الامتثال بفعله مرة واحدة فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لو قلتُ نعم لوجبت؛ ذروني ما تركتكم))يعني إذا تركتُ البيان فاسكتوا عن ذلك.

قد ثبت في (صحيح مسلم) أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إنّ أشد المسلمين في المسلمين جُرْماً رجل سأَل عن شيء فحرِّمُ لأجل مسألته)) فقد قال -جل وعلا-: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكمُ وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها}.

فإذاً هذا النوع ممَّا سُكِت عنه فلا يسوغُ لنا أن نبحث ونتكلف الدليل عليه، تلحظ أحياناً من بعض الأدلة التي يُقيمها بعض أهل العلم أنَّ فيها تكلفاً للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخلُ فيها بوضوح فإنها تبقى على الأصل: ((وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)). وهذا من رحمة الله -جل وعلا- بعباده.

أسأل الله الكريم بأسمائه وصفاته العلى أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يثبت العلم في قلوبنا ويرزقنا زكاته والعمل به وتعليمه والإحسان في ذلك كله.
------------------------------------------------------------

الكشاف التحليلي

حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه -مرفوعاً-:
(إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها...)
ترجمة الراوي
معنى اسم (جرثوم) في لغة العرب
تخريج الحديث
اختلاف ألفاظ حديث أبي ثعلبة
موضوع الحديث
درجة الحديث
منزلة الحديث
قال أبو بكر السمعاني: (هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين)
المعنى الإجمالي للحديث
هذا الحديث قسم الأحكام إلى فرائض وحدود ومحارم ومسكوت عنه
هذه الأقسام الأربعة جماع أحكام الدين
ذكر بعض الأحاديث في معنى حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)
بيان معنى (الفرائض)
هل الواجبُ والفرضُ بمعنى واحد؟
الفرض أعظم من الواجب من حيث مصدر الدليل
تورع السلف عن القول بالفرضية والوجوب
معنى تضييع الفرائض
مسألة: اختلف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل يسمى فريضة أم لا؟
مسألة: اختلف العلماء في الجهاد، هل هو واجب أم لا؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وحد حدوداً فلا تعتدوها)
تعريف (الحدود)
المراد بالحدود في الحديث: حدود ما أذن به شرعا
أنواع استعمال لفظ (الحدود) في الكتاب والسنة
النوع الأول: أن ترد مطلقة
مثال النوع الأول: قوله تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات...)النوع الثاني: أن ترد مقترنة بالنهي عن تعديها
مثال النوع الثاني: قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها)
يعنى بالحدود هاهنا حدود ما أذن به، وما جاوزه فغير مأذون به
النوع الثالث: أن ترد مقترنة بالنهي عن قربانها
مثال النوع الثالث: قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها)
يعنى بالحدود هاهنا حدود ما حرم؛ فينهى عن اقترابه
النوع الرابع: أن ترد بمعنى العقوبة الشرعية على الذنب
هذا النوع من الاستعمال ورد في السنة النبوية
مثال النوع الرابع: حديث (حد الساحر ضربة بالسيف)
النوع الخامس: أن ترد بمعنى الذنب
مثال النوع الخامس: حديث (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)
تنبيه: استعمال الفقهاء للفظ (الحدود) استعمال اصطلاحي
بيان خطأ حمل معاني النصوص على اصطلاحات حادثة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها)
بيان معنى (التحريم)
قوله: (وحرَّم أشياء) يُفيد أن هذه الأشياء المُحرمة قليلة
الأدلة على أن الأشياء المحرمة قليلة
المحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة
صيغ التحريم في القرآن والسنة
يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد
مسألة: هل يستفاد التحريم من النهي المجرد؟
معنى (الانتهاك)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء)
تعريف المسكوت عنه
أنواع الأشياء المسكوت عنها:
النوع الأول: ما لم ينص على حكمه مع دخوله في عموم نص آخر
النوع الثاني: ما لم ينص على حكمه لكنه داخل ضِمْن قياس صحيح
النوع الثالث: ما لم يظْهر دخوله ضِمْن دليلٍ أو قياس
مسألة: هل يوصف الله تعالى بالسكوت؟
أقسام السكوت:
القسم الأول: سُكوتٌ عن الكلام
لم يرد في النصوص وصف الله تعالى بالسكوت عن الكلام
من صفات الله تعالى الاختيارية: أنه يتكلم إذا شاء
القسم الثاني: سكوت عن إظهار حكم أو خبر
يوصف الله تعالى بهذا النوع من السكوت كما في هذا الحديث
مسألة: ما لم يرد فيه إيجاب ولا تحريم، يستدل على أنه معفو عنه بمسلكين:
المسلك الأول: أن الإيجاب والتحريم إنما يكونان بأدلة الشرع وما عدا ذلك فهو عفو
المسلك الثاني: الاستدلال بالأدلة العامة على أن ما لا إيجاب فيه ولا تحريم فهو عفو
هدي السلف فيما اشتبه تحريمه
مسألة: هل في الحديث دلالة على حكم الأعيان قبل ورود الشرع؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (رحمة بكم غير نسيان)
دلالة هذه الشريعة السمحة على رحمة الله تعالى
تنزيه الله تعالى عن النسيان
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تبحثوا عنها)
هل يختص النهي بزمن النبي صلى الله عليه وسلم؟
البحث المذموم على قسمين:
القسم الأول: البحث عن أشياء سكت عنها الشارع رحمة بالأمة
سبب النهي: لئلا ينزل فيه وحي بالتشديد كما فعل بالأمم السابقة
أدلة تحريم هذا القسم:
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...)
حديث (لو قلت: نعم لوجبت...، ذروني ما تركتم فإنما أهلك من كان قبلكم...)
حديث (إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرماً...)
انقطاع التشريع بموت النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الإذن في تكلف المسائل
قد يقع التشديد من الناحية القدرية
القسم الثاني: البحث في المسائل على غير هدى من الشرع ولا التزام بحدوده الشرعية
هذا القسم لا يختص النهي عنه بزمن النبي صلى الله عليه وسلم
النهي عن السؤال عما لا نفع فيه
النهي عن تكلف المسائل
أنواع البحث عما لا نص فيه:
النوع الأول: البحث عن دخوله في دلالات النصوص العامة
هذا النوع من البحث صحيح لا حرج فيه، وهو مما يتعين على المجتهدين فعله لاستخراج الأحكام
لا تخلو مسألة شرعية من حكم للشارع فيها
النوع الثاني: تدقيق النظر في وجوه الفروق المستبعدة وتكلف الاستدلال لها
التحذير من هذا النوع من البحث
من فوائد حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه
وُجُوبُ القيامِ بفرائضِ اللَّهِ تَعَالَى
أن الفرائض أمانة فلذلك نهينا عن تضييعها
وُجُوبُ الوقوفِ عندَ حدودِ اللَّهِ تَعَالَى
التحذيرُ مِن الوقوعِ في المُحَرَّمَات
إثبات صفة الرحمة لله تعالى
دلالة الشريعة السمحة على رحمة الله تعالى بعباده
تنزيه الله تعالى عن النسيان

الأسئلة

س1: اذكر ترجمة موجزة لراوي الحديث؟

س2: بين درجة هذا الحديث؟
س3: اذكر بعض الأحاديث التي جاءت في معنى حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه؟
س4: ما الفرق بين الواجب والفرض؟
س5: ما معنى تضييع الفرائض؟
س6: هل الجهاد في سبيل الله واجب؛ اذكر الخلاف في ذلك.
س7: اذكر أمثلة لأنواع استعمال لفظ الحدود في الكتاب والسنة؟
س8: هل يستفاد تحريم الأمر من النهي المجرد؟
س9: اذكر أمثلة للأشياء المسكوت عنها؟
س10: هل يوصف الله تعالى بالسكوت؟
س11: ما الحكم إذا لم يرد في شيء الإيجاب ولا التحريم؟
س12: تحدث بإيجاز عن هدي السلف فيما اشتبه تحريمه؟
س13: هل يختص النهي عن السؤال عما سكت الشارع عنه بزمن النبي صلى الله عليه وسلم؟
س14: ما حكمة النهي عن السؤال عما سكت الشارع عنه؟
س15: عدد بإيجاز بعض فوائد حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه؟



شرح الحديث رقم (30) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
شرح الحديث رقم (30)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مشكل علم مصطلح الحديث في العصر الحديث
» شرح الحديث رقم (45)
» شرح الحديث رقم (41)
» الحديث رقم (30)
» شرح الحديث رقم (42)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـحــــديث الـنبــوي الـشـريف :: شروح الأربعون النووية :: شرح مجموعة من العلماء-
انتقل الى: