أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل الثاني: الجنسية والوطنية في أوربا الأربعاء 15 فبراير 2012, 4:52 pm | |
| الفصل الثاني الجنسية والوطنية في أوربا انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية: قدمنا أن الوطنية والقومية والاعتداد الشديد بالشعب والموقع الجغرافي من خصائص الطبع الأوربي الذي سرى في العنصر الأوربي مسرى الروح، وجرى منه مجرى الدم وأصبح طبيعة ثانية له، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة، لأنها -على علاتها، وبرغم ما طرأ عليها من التحريف والتبدل- لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح، وفيها أثارة من علمه، والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان، ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان، فجمعت النصرانية الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ، وأخضعت الشعوب الكثيرة للكنيسة اللاتينية فغلبت العصبية القومية والنعرة الوطنية، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة، ولكن لما قام لوثر سنة 1483-1526م بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية، ورأى من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان جنسه ونجح في عمله نجاحاً لا يستهان بقدره، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبة الأمر فانفرط عقدها، استقلت الأمم، وأصبحت لا تربطها رابطة، ولم تزل كل يوم تزداد استقلالاً في شؤونها وتشتتاً. حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تحف كل يوم، ولم تزل كفة منافسته راجحة، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الفاضل الإنجليزي المعروف لورد لوثين Lord Lothian السفير البريطاني السابق في أمريكا في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938م. (( لما قضت حركة لوثر التي تدعى حركة إصلاح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية، انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة، أصبحت منازعاتها ومنافساتها خطراً خالداً على أمن العالم )). وكان نتيجة الانحطاط الديني، وانخفاض مبادئ الدين والأخلاق، رجحان كفة الوطنية والجنسية؛ يقول (( لورد لوثين )) في نفس هذه الخطبة: (( إن الدين الذي هو المرشد اللازم للإنسان والوسيلة الوحيدة لحصول الغاية الخلقية، والشرف المعنوي للحياة البشرية، كان نتيجة الانحطاط في سلطانه أن فتن العالم الغربي بمذاهب سياسية تقوم على أساس اختلاف الأجناس والطبقات وآمن -بتأثير العلوم الطبيعية- أن الرقي المادي هو الغاية العليا، والوطر الأكبر، ولا يزال يزيد هذا الأمر في مشاكل الحياة وأثقالها وتكاليفها، وكان من نتائج ذلك أيضاً أنه صعب على أوربا أن توفق بين روحها وحياتها توفيقاً ينقذها من القومية، داهية هذا العصر الكبرى (216) )). طوائف العصبية الجنسية في أوربا: كان نتيجة انحلال النظام الديني وانتعاش النعرة القومية أولاً، أن أصبحت أوربا معسكراً واحداً ضد الشرق كله، وخطت خطّاً فاصلا بين الغرب والشرق أو بين أوربا وبين سواها من القارات والأقاليم، والجنس الآري وبين ما عداه من أجناس البشر، يعد أن كل ما دون هذا الخط له الفضل على كل ما وراءه من نسل وشعب وثقافة وحضارة وعلم وأدب، وأن الأول خلق ليسود ويحكم، والثاني ليخضع ويدين، والأول ليبقى ويزدهر، والثاني ليموت ويضمحل، وهذا بعينه ما امتاز به اليونان والروم في عهدهم، فقد كانوا لا يعدون مهذبين إلا أنفسهم فقط، وكانوا يسمون كل شيء غريباً، خصوصاً كل ما كان واقعاً في شرق المحيط الأطلانتيكي - بربرياً. وكان نتيجة هذه النفسية الجنسية والعصبية ضد كل ما جاء من الخارج ويعزى إلى أجنبي، أن صار بعض الشعوب الأوروبية ينظر إلى الدين المسيحي وإلى المسيح كطارئ ونزيل يريدون أن ينفوه من بلادهم ويتبرأوا منه، يمثل ذلك ما قال أحد المعلمين في ألمانية وهو البروفسور أترني: ((لأي شيء يدرس أولادنا تاريخ أمة أجنبية، ولماذا يقص عليهم قصص إبراهيم وإسحق؟ ينبغي أن يكون إلهنا أيضاً ألمانياًَ )). ونشأت في ألمانيا طائفة تتبرأ من سيدنا المسيح عليه السلام لكونه من بني إسرائيل، والذين لا يزالون يدينون له بالحب والتعظيم يجتهدون أن يثبتوا أنه كان من سلالة آرية، وظهرت في ألمانية نزعة إلى إحياء الآلهة القومية القديمة التي كان يعبدها الشعب الألماني في عهده القديم. وليست روسيا العالمية بأقل حماسة للعصبية الجنسية والوطنية من منافسها القديم ألمانيا. فيعتقد الناس في روسيا أن أغلب الاختراعات الكبرى في العصر الحديث إنما يرجع الفضل فيها إلى الروس. فليس (( لافوازييه )) هو واضح القانون الخاص بتركيب الأجسام، بل هو مدين بما ينسب إليه للعالم الروسي (( ميشيل لوموتوسوف )) وليس (( لأديسون )) فضل في استخدام الكهرباء في الإضاءة فقد سبقه (( لووجين )) الروسي بست سنوات إلى غير ذلك، ونشرت جريدة برافدا: أن العلماء الروسيين توصلوا إلى اختراع التلغراف قبل (( مورس )) وإلى تسيير القاطرة البخارية قبل (( ستفنسن ))، إلى غير ذلك من تحديات للتاريخ ليس الباعث عليها إلا العصبية الجنسية وتقديس (( روسيا )). عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية: ومما يدعو إلى الأسف والاضطراب، أن هذه العدوى الجنسية قد سرت إلى بعض الأقطار الإسلامية التي كان يجب وكان من المترقب أن تكون زعيمة لدعوة الإسلام العالمية، حاملة في عصرها لرسالة الأمن والسلام، وأن تكون جبهة قوية ضد الجنسية والوطنية، وذلك بانحلال الدين في هذه البلاد، وبتأثير الآداب الأوربية والحضارة الغربية، فترى في الترك النزعة الطورانية والدعوة إلى إحياء جاهليتها القديمة وآدابها وثقافتها، والنظرة إلى الدين الإسلامي الذي انتشر على أيدي العرب وشريعة الإسلام وثقافته ولغته نظرة شبه نظرة ألمانيا الجديدة إلى الأديان التي جاء بها الأنبياء من غير النسل الآري والآداب السامية وثقافتها، فاعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام دين طارئ غريب لا يصلح للترك، وأن الأولى بهم أن يرجعوا إلى وثنيتهم الأولى قبل أن اعتنق آباؤهم الدين الإسلامي. تقول الكاتبة خالدة أديب هانم عن (( ضياء كوك ألب )) من كبار مؤسسي تركيا الجديدة أدباً وتهذيباً: (( كان ضياء كوك ألب يريد أن ينشئ تركيا جديدة تكون صلة بين الأتراك العثمانيين وبين أسلافهم الطورانيين، فقد كان يريد أن يقوم بإصلاح مدني بواسطة المعلومات التي جمعها عن التنظيمات السياسية والمدنية في عهد الأتراك قبل الإسلام، كان ضياء يعتقد ويؤمن بأن الإسلام الذي وضعه العرب لا يصلح لشأننا، ولابد لنا من إصلاح ديني يوافق طبائعنا إذا لم نرجع إلى عهدنا الجاهلي (217))). ومما لا شك فيه أن هذه النزعة قد وجدت في الترك وكذلك في الإيرانيين في الزمن الأخير: قال المرحوم الأمير (( شكيب أرسلان )) وهو الخبير الثقة فيما يتعلق بالترك فضلاً عن العرب لطول مكثه في تركيا وكان عضواً في مجلس الأمة: (( وهناك فئة ثانية تدعى الفئة الطورانية تخالف الفئة الأولى، -أي الفئة التي تقول بالقومية العثمانية الإسلامية- في كل هذه النظريات، وأشهر دعاتها ضياء كوك ألب وأحمد أغائف، ويوسف أقشورا اللذان قدما من روسيا، وجلال ساهر، ويحي كمال، وحمدالله صبحي رئيس وجاق (( تورك بوردي )) ومحمد أمين بك الشاعر الملي، وكثير من الأدباء والمفكرين، وأكثر الطلبة والنشء الجديد. وهؤلاء يزعمون أن الترك هم من أقدم أمم البسيطة وأعرقها مجداً، وأسبقها إلى الحضارة، وأنهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل، ويلزم أن يعودا واحداً، ويسمون ذلك بالجامعة الطورانية، ولم يقتصروا منها على الترك الذين في سيبريا وتركستان الصين وفارس والقوقاس والأناضول والروملي، بل مبدؤهم مد هذه الرابطة إلى المغول في الصين، وإلى المجر والفنلانديين في أوربا، وكل ما يقال إنه ينتمي إلى أصل طوراني، وهم يقولون بخلاف ما يقول الأولون، فهم ترك أولاً ومسلمون ثانياً، وشعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية، إلا إذا كانت خادمة لنفوذ القومية الطورانية، فتكون عندئذ واسطة لا غاية، وقد غلا كثير من هذه الفئة في الطورانية حتى قالوا: نحن أتراك فكعبتنا طوران، وهم يتغنون بمدائح جنكيز، ويعجبون بفتوحات المغول، ولا ينكرون شيئاً من أعمالهم، وينظمون الأناشيد للأحداث في وصف الوقائع الجنكيزية ليطبعوهم على الإعجاب بها ويرقوا مستوى نفوسهم بزعمهم (218) )).. وقال أيضاً: (( وهذا ولما كان هذا العصر عصر القوميات كما لا يخفى اقتداء بالأمم الأوربية في الزمن الأخير كانت القومية الفارسية قد أخذت تشتد أكثر من ذي قبل ، وذلك نظير ما حصل عند الترك ، وصار كثير من ناشئة الفرس يبحثون عن دين فارس القديم ، وذلك نظير ناشئة الترك الذين أخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم وعن الذئب الأبيض الذي كانوا يعبدون ، حتى صوروه في بعض كتبهم الحديثة ، وقال لهم المرحوم ( موسى كاظم ) شيخ الإسلام – وهو الذي أخبرني بذلك - : إن العرب كانت عندهم عبادات كهذه تقشعر منها الأبدان ، ولكنهم اقتلعوها بالإسلام وافتخروا بأن الله لطف بهم وأنقذهم منها ورفعهم عن مستوى تلك السفالات. وأما أنتم فتريدون أن تتناسوا الاعتقاد بالبارئ تعالى وتتذكروا عبادة الذئب الأبيض، فيا للأسف )). (( فكما حصل عند الترك حصل عند الفرس وصار ناشئتهم يبحثون عن أديانهم القديمة التي منها الكيومرتية ( أي تعظيم النور ) والتحرز من الظلمة. ومن هنا جاءتهم عبادة النار، ومنها فرقة ( زرادشت ) الذي كان يدعو إلى وحدانية الله، ويقول: إنه خالق النور والظلمة وإن الخير والشر إنما حصلا بامتزاجهما، وإنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، إلى غير ذلك من العقائد والأوابد والآثار التي كانت عند قدماء الفرس: كالثنوية، والزردشتية، والمانوية، ومنهم من يبحث عن المزدكية التي كانت تدعو إلى الإلحاد والإباحية (219))). الديانة القومية الأوربية وأركانها: والخطوة الثانية في هذا الطريق أن أصبحت الشعوب والدول في أوربا، الصغيرة منها والكبيرة، عوالم مستقلة لا ترى العالم خارج الخطوط التي خطتها الطبيعة من جبال وأنهار، أو خطتها بيدها من غاية سياسية واستعمار، ولا تعترف بوجود الإنسان في غير منطقتها فلا تحترمه ولا تعرفه، واتخذت نفسها إلها تدين له بكل ما يدين به العباد المخلصون من عبادة وتقديس وأضاح هي دماء الآخرين ونفوسهم وأموالهم وبلادهم، وقتال في سبيله، وتفان في طاعته، ومحيا وممات لأجله، وهذا الدين القومي يشتمل على شيئين: إيجابي وسلبي، أما الإيجابي فهو الاعتقاد بأن الشعب أو الأمة فوق كل شيء، وأفضل من كل شيء، وأن الله -إذا كانت الأمة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من المصلحة أن تستعمل هذه الكلمة- لم يخلق أفضل من هذه الأمة، ولا أنجب منها، ولا أذكى ولا أقوى ولا أحق بالحكم والسيادة والولاية على الأمم، والرعاية للعالم منها ، وأنها أمينة ووكيله ووصيه في الأرض، ولم يخلق بلاداً أحب إليه من هذه البلاد، ولا تربة أذكى من تربتها، وهذا هو الدين القومي الذي لا يسمح لإنسان أن يعيش في بلاده حتى يؤمن به. ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق، وأن بعضها تقول وتفعل، وبعضها تفعل ولا تقول، فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت في أرض فإنها لا تلبث أن تنشأ وتمد عروقها في الأرض ثم تصير شجرة، فدوحة تظلل الأمة، ولا يمكن لشعب أن يؤمن بالقومية، ثم لا يعتدي ولا يتطاول أو لا يريد أن يعتدي ويتطاول ولا يمقت الآخرين، ولا يزدريهم، كما لا يمكن أن يسرف الإنسان في الخمر، ثم لا يسكر ولا يهذي كما قال الشاعر: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالمــــــــــاء خصوصاً إذا كان العلم والأدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحتى العلوم الطبيعية متعاونة على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية والخيلاء الجنسية والفخر بالآباء والتعظيم بالماضي، ولا يكون رادع من خلق ولا وازع من دين، وتولى القيادة رجال لا يعرفون غير القومية والمجد القومي غاية مرمى، ومن مقومات هذه الحياة القومية التي لا تقوم بغيرها، الكراهة والخوف، وذلك هو الجزء السلبي في دين القومية، فإن الحماسة القومية لا تظهر ولا تبقى حتى يكون للشعب ما يكرهه ويخافه، فلا يزال القائدون يثيرون الكامن من عواطفه، ويذكرون الخامد من حميته ويضربون على الوتر الحساس وهو الكراهة والخوف، فلولاهما لانقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها. وقد حلل ذلك الأستاذ (( جود )) تحليلاً فلسفياً نفسياً فقال: (( إن العواطف التي هي مشتركة والتي يمكن إثارتها بسهولة هي عواطف المقت والخوف التي تحرك جماعات كبيرة من الدهماء، بدل الرحمة والجود والكرم والحب، فالذين يريدون أن يحكموا على الشعب لغاية ما، لا ينجحون حتى يلتمسوا له ما يكرهه ويوجدوا له من يخافه، وإذا أردتُ أن أوحد الشعوب ينبغي أن أخترع لهم عدواً على كوكب آخر -على القمر مثلاً- تخافه هذه الشعوب، فلم يعد من دواعي العجب أن الحكومات القومية في هذا العصر في معاملتها لجيرانها إنما تقاد بعواطف المقت والخوف، فعلى تلك العواطف يعيش من يحكمونها، وعلى تلك العواطف يقوى الاتحاد القومي (220) )). يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:58 pm عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني: الجنسية والوطنية في أوربا الأربعاء 15 فبراير 2012, 4:57 pm | |
| الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية: إن هذا الحل الذي قدمه الأستاذ (( جود )) لمشكلة الأمم ومعضلة الحروب والمنافسات الشعوبية حل عادل وتوجيه معقول، فلا تنصرف عداوة الشعوب والأمم بعضها لبعض حتى يكون لها عدو من غيرها تشترك في عداوته وكرهه والمخافة منه. وتتعاون في الحرب معه ، ولكن هذا لا يحتاج إلى اختراع وإبداع، ولا يلزم أن يوجد لها عدو على كوكب آخر كالقمر والمريخ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ فالدين ينبه إلى أن هذا العدو للنوع الإنساني ولذرية آدم يوجد على الأرض نفسها، وحق على كل إنسان أن يعاديه ويحترس منه ويتعاون مع بني نوعه في معاداته ومحاربته يقول القرآن: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ويقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }. وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين فقط، أولياء الله وأولياء الشيطان، وأنصار الحق وأنصار الباطل، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا، فقال: { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }. وهذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهاباً بالنفس ، ولا أعود منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين ( المسلم والكافر ) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ، ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفساً 1018 المسلمون منهم 259 والكفار 759 (221) أما المصابون في حرب 1914 – 1918الكونية فيبلغ عددهم على الأصح واحداً وعشرين مليون نسمة (222) 000,000, 21 عدد المقتولين منهم سبعة ملايين 000 ,00, 7 وقدر المستر مكستن (Maxton) عضو البرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب الثانية الكبرى 1939م .... لا يقل عددهم عن خمسين مليون 000 ,000, 50 وقد كلف قتل رجل واحد في الحرب الأولى عشرة آلاف جنيه، أما مجموع نفقاتها فيبلغ 000,000,000,37 جنيه أما نفقات الحرب الثانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات 000,000,1 (223). ثم كانت الحروب الدينية الإسلامية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والأموال وفاتحة عهد السعادة والغبطة في العالم، أما حرب التنافس والحمية الجاهلية التي تدعى الحرب الكبرى فقد كانت مقدمة حروب متسلسلة؛ وإليك ما قال المستر لويد جورج بطل الحرب الكبرى ورئيس الوزارة الإنجليزية حينئذ: (( لو رجع سيدنا المسيح إلى العالم لما عاش إلا قليلاً، إنه سيرى الإنسان لا يزال بعد ألفي سنة مشغوفاً بالشر والإفساد والقتل والفتك بيني نوعه، والنهب والإغارة، بل إن أكبر حرب في التاريخ قد استغرقت دم جسم الإنسانية وأهلكت الحرث والنسل حتى أصابت الناس مجاعة، وماذا يرى السيد المسيح يا ترى؟ هل يرى الناس يتصافحون كالإخوان والأصدقاء؟ لا. بل يراهم يتهيأون لحرب أشد هولاً من الأولى وأعظم فتكاً وتعذيباً؛ يراهم يتسابقون في اختراع الآلات الجهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب ( 224 ))). وليس اشتغال هذه الشعوب بالعداوة والحروب فيما بينها، وما هذه القومية والوطنية الخ إلا لانصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها الحقيقي ونسيانها له، فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكل، وكما قال الشاعر الجاهلي: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا فإذا عرفت عدوها وعرفت ضرره على نفسها، وعرفت خطره وقوته كان ذلك مشغلة لها عن كل حرب وعداوة وشح ومنافسة وأحقاد وهمية وتراث مصطنعة. وقد قالت العرب قديماً: (( عند الحفيظة تذهب الأحقاد )) وهكذا جعل محمد صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب المتعادية التي كانت سيوفهم تقطر من دمائهم كالأوس والخزرج في المدينة، وبني عدنان وبني قحطان في الجزيرة، والأجناس المتباينة في العالم، أمة واحدة ومعسكراً واحداً إزاء الكفر والجاهلية، إذ جعل لها في خارجها ما تكرهه وتعاديه، وهو الباطل والطاغوت ووكلاؤه وأنصاره، وشغلها بحربه وقرأ: { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } فنسيت أحقادها وتراثها ولم تتذكرها إلا لما انصرفت عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته فكانت حروب داخلية وفتن يعرفها الجميع. دعاية القوميين وإضرارهم بالشعوب الصغيرة: ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها، ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانة بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء، وتدل بنفسها وتظن أنها مانعتها حصونها وما أعدت للحرب، وتنقطع عن العالم وتتحرش أحياناً بالدول الكبيرة غروراً بنفسها، أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلا عشية أو ضحاها، وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة، ولا يغني أولئك المسئولون عنها شيئاً: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } كذلك وقع لبولندة وبلجيكا وهولاندة ويونان ودنمارك، وهكذا وقع لإيران والعراق في الحرب الثانية. مطامح الدول الكبيرة: أما الدولة الكبيرة فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض وترفرف أعلامها على مساحات واسعة وإن كانت قفاراً أو صحارى وتكون لها مستعمرات وممتلكات في قارات مختلفة، وأن كان ذلك يكلفها جيوشاً وأموالاً بغير فائدة جدية تعود عليها ويصعب عليها حراستها والقيام بشئونها، كل ذلك مما توجبه عليها شريعة القومية، وليس لها غاية أخلاقية وثمرة أدبية غير ما تسميه (( المجد القومي والشرف القومي )). وقد شرح الأستاذ (( جود )) المجد القومي بقوله: (( إن المجد القومي إنما يعني أن يكون الشعب يملك قوة يسلط بها رغبته وهواه على آخرين إذا مست الحاجة، ويكفي لشناعة ما يسمونه ( المثل الكامل للشعب ) وهو المجد القومي إنه يناقض الصفات الخلقية والفضيلة إذا كانت بلاد لا تقول إلا صدقاً، وتفي بوعودها وتعامل الضعفاء معاملة إنسانية فمستوى شرفها عند الأمم منحط فالشرف، كما قال المستر بلدون: عبارة عن قوة تنال الأمة بها المجد والفخار وتستلفت إليها الأنظار وتشغل الأفكار، ومعلوم أن هذه القوة التي تنال الأمة بها هذه الدرجة من الشرف إنما تتوقف على قنابل نارية متفجرة ومشعلة للنيرات، وعلى وفاء الشبان وولائهم للوطن، الذين يحبون إلقاء تلك القنابل على المدن. فالشرف الذي يمدح لأجله شعب يناقض تلك الصفات والأخلاق التي يمدح بها الفرد، فأرى أن الشعب يجب أن يعد همجياً وغير مهذب بالمقدار الذي يملكه من الشرف، إذا ليس من الشرف أن ينال الإنسان أو الشعب الشرف بالخديعة والمكر والظلم (225))). (( إن الكبر -أكثر من الطمع- هو الذي يحمل الطبقة الحاكمة في بريطانيا على اتباع خطط لا تتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام، دع رجلاً يقترح على ولاة الأمر في بريطانيا أن يهجروا قيراطاً من رمل من ممتلكاتها التي لا تغرب فيها الشمس ومن أشدها قحولة وجدباً، تر المحافظين الأبطال في إنجلترا يقيمون العالم ويقعدونه سخطاً وحنقاً، وترى الصحافة الإنجليزية المعتدلة تتميز غيظاً، إذاً تعلم أن هؤلاء المحافظين ليسوا طماعين فقط بل هم مستكبرون معاندون (226) )). منافسة الشعوب في المستعمرات والأسواق: وقد سبقت إلى هذا الاستعمار والامتلاك أمم وتخلفت أخرى، ثم نهضت الأخيرة تنافسها وتطالب بأسهامها وتبحث لها عن مستعمرات وأسواق لبضائعها وشرفات تغزو عليها على المجد والفخار، وتعد بفضلها من الإمبراطوريات الكبار، وقامت الأولى تدفعها وتحول بينها وبين ما تشتهي، وتزعم أنها إنما تغضب للأمم الصغيرة ونصرة المظلوم. ولكن كثيراً من الناس، من أنفسها ومن الأجانب، يشكون في إخلاص هذه الأمم وفي صفاء طويتها وحسن نيتها. يقول الأستاذ (( جود )): (( الانجليزي -جاهلاً أو متجاهلاً للمسائل التي أدت إلى قسمة ضيزى للعمران، ضارباً صحفاً عن سخط الشعوب مثل اليابانيين- يعتقد أن الإنجليز أمة سلمية ويرمي اليابانيين بحب القتال والضراوة بالحروب. والإنجليز لا شك أمة سلمية، ولكن مسالمتهم مسالة لص قد اعتزل حرفته القديمة، وقد أحرز شرفاً وجاهاً بفضل غنائمه السابقة، وهو يبغض الذين يدخلون جديداً في حرفته القديمة، عنده فضول أموال وغنائم لا يستهلكها، ولكنه يلقب الذي يريدون أن يساهموا في ذلك بهواة الحرب (227) )). وكثيراً ما تنشب الحرب بين هذه الأمم السابقة إلى السيادة والتملك وبين الأمم المتطلعة لها الطامحة إليها، ولكن هذه الحرب لا يصح قياسها على حرب تشهر لردع الظالم والانتصار للمظلوم وإقامة القسط عملاً بقول الله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات)، ولكن هذه الحرب حرب شح ومنافسة، وحرب غيرة وحسد، ما كانت جمعية الأمم (الفقيدة) التي كانت هذه الحروب تشهر تحت إشرافها، ولا خليفتها الأمم المتحدة )) إلا كما قال الأمير شكيب أرسلان: (( مثل العروض بحراً بلا ماء، ما وجدت إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية، وتسوغ الفتوحات بتغيير الأسماء، لا يطيعها سوى ضعيف عاجز، ولا تستطيع أن تحكم على قوي متجاوز )) أو في لفظ فقيد الإسلام الدكتور محمد إقبال: (( جمعية لصوص ونباشين تألفت لتقسيم الأكفان )). قال الأستاذ (جود) الإنجليزي: (( إن حرباً تشهر تحت إشراف عصبة الأمم ليست للعدل بين الأمم يقوم بها شرطة العالم للأخذ على يد الظالم وعقاب المعتدي، ليست هذه الحرب إلا كفاحاً بين الطوائف المتنافسة في القوة. الواحدة منها حريصة على المحافظة على القسط الأكبر من ثروة العالم ومواردها، والأخرى متهالكة على تحصيلها، إن مثل هذه الحروب لا تختلف عن حروب نشبت بين الطوائف المتنافسة في الماضي، ولا عن حروب النمسا وبروسيا (228)، وعن حروب السنوات السبع (229) وعن حروب نابليون؛ وعن حرب 1914 – 1918. لا تختلف هذه الحرب عن هذه الحروب كلها إلا في الاسم، أما التذرع بأن هذه الحروب إنما نصبت للدفاع عن الديمقراطية وعن عصبة الأمم، وضد الفاشية والاعتداء فلا يغير من الموقف شيئاً (230))). الفرق بين حكم الجباية، وحكم الهداية: روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة: ((ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً)) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية التي تتأسس على منهاج النبوة، وتسير على آثار الأنبياء وخطتها وسياستها، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين وبإصلاح أخلاق المحكومين وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج وأنواع المحاصيل والإيراد ،وتنظر في جميع مسائل السياسة والمالية من الوجهة الدينية وتقدم المبادئ الدينية والخلقية على المنافع والمصالح المادية ،فتمنع الخمر وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور والعقود المالية الفاسدة النافعة للأفراد المضرة بالمجتمع، فتحظر الربا والقمار وإن كان ذلك يرجع على الحكومة بالخسارة المادية الفادحة، وتشرع مشاريع إصلاحية وتراقب الأخلاق وتعنى بتهذيب النفوس، وإن كان ذلك يكفلها أموالاً طائلة وميزانية ضخمة، ونتيجة هذا النوع من الحكومات إذا قامت في بلاد مَّا بَّينها القران وتنبأ بها للمهاجرين الأولين: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
أما الحكومات التي تقوم للجباية لا للهداية، وللانتفاع لا للنفع، فطبيعي أن تكون عنايتها مصروفة إلى أنواع الخراج والمحاصيل والغلات، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب الأخلاق والفضائل والنظام المنزلي، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور بقيود تنظمها ولا تمنعها، فتسمح بالبغاء الرسمي، وقد ترابي نفسها وتبيح القمار، وكثيراً من الجنايات والجرائم الخلقية بتغيير الأسماء وتحديد بعض الأشياء تأميناً لمصالحها، ولا تبيح الخمر فقط بل تبيعها وتتولى تجارتها وتنظيمها وتحاكم وتعاقب من يمنعها ويجاهد ضدها، وقد تجبر أهل بعض البلاد على اشتراء المخدرات التي تصدرها، كما فعل بعض الحكومات الأوربية في آسيا مع أهل الصين، فطبيعي كذلك أن تصاب هذه الشعوب المحكومة في أخلاقها وترزأ في روحها وقلبها، بل إن أهل البلاد ينحط مستوى أخلاقهم لمجرد المخالطة بهذه الشعوب الحاكمة ومجاورتها، ويلحقهم عدوى الأمراض الخلقية الفاشية في الأقطار الأوربية التي ولدتها الحضارة المادية هنالك، وذلك ما أقروا به. أنفسهم وشكوا منه. فالحكومات الأوربية تحمل معها مفاسد الحضارة الغربية وشرورها، وكيف يرجى من هذه الحكومات أن تزدهر الفضيلة والأخلاق ويرقى مستوى أخلاق الشعب في ظلها ودولتها، ولم يكن ذلك في بلادها وأوطانها، وليس ذلك من رسالتها ومهمتها، ولا مما تدين به وتعتقده (( وكل إناء بالذي فيه ينضح )) ولم تزل طريق الملوك والفاتحين غير طريق الأنبياء والهداة والمصلحين ، وإن الحقيقة التي ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة لا تختلف في الأزمنة والأمكنة: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً }.
|
|