منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الفصل الثاني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 7:37 am

الفصل الثاني
عظمة القرآن في أسلوبه ومقاصده.

وفيه أربعة مباحث
المبحث الأول: عظمة أسلوب القرآن.
المبحث الثاني: عظمة مقاصد القرآن.
المبحث الثالث: عظمة التشريع القرآني.
المبحث الرابع: عظمة قصص القرآن.


المبحث الأول
عظمة أسلوب القرآن.

وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: مناسبته للعامَّة والخاصَّة.
المطلب الثاني: إرضاؤه العقل والعاطفة.
المطلب الثالث: جودة سبكه وإحكام سرده.
المطلب الرابع: تعدُّد أساليبه واتِّحاد معناه.
المطلب الخامس: جمعه بين الإجمال والبيان.
المطلب السادس: إيجاز لفظه ووفاء معناه.

 
تمهيــد
معنى «الأسلوب» في اللغة:
يُقال للسَّطر من النخيل أسلوب، وكُلُّ طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الطريق، والوجه والمذهب، يقال: أنتم في أسلوب سوء، والأسلوب الفَنُّ، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي: أفانين منه، وإن أنفه لفي أسلوب، إذا كان متكبرًا (410).

ويقال: سلكت أسلوب فلان في كذا: طريقته ومذهبه، وطريقة الكاتب في كتابته.

ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة.

والجمعُ: أساليب (411).

«والأساليب الفنون المختلفة» (412).

معنى «الأسلوب» في الاصطلاح:
الأسلوب في اصطلاح الأدباء وعلماء العربية هو: الطَّريقة الكلاميَّة التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ومفرداته.

أو هو المذهب الكلامي الذي أنفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام الذي انفرد به المتكلم (413).
 
معنى «أسلوب القرآن»:
وبناءً على ما تقدم فإن أسلوب القرآن العظيم: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه.

وإذا كان الأمر كذلك فلا غرابة أن يكون للقرآن العظيم أسلوب خاص به، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ذلك أنه كلام رب العالمين تبارك وتعالى.

وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر، تتعدد بتعدد أشخاصهم، وأذواقهم، بل تتعدد في الشخص الواحد أحيانًا بتعدد الموضوعات التي يتناولها، والفنون التي يعالجها.

ومن الجدير بالذكر هنا معرفة أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام، وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.

وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين، مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة، والتراكيب في جملتها واحدة، وهذا هو السر أيضًا في أن القرآن العظيم لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، بل جاء كتابًا عربيًا جاريًا على مألوف العرب، فمن حروفهم تألفت كلماته، ومن كلماتهم تألفت تراكيبه، ولكن المعجز والمدهش أن القرآن قد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ولو دخل عليهم من غير هذا الذي يعرفونه، لأمكن أن يلتمس لهم عذر في ذلك، وأن يسلم لهم طعن، ولذلك قال الله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) (فصلت: 44) (414).
 
تنوع أسلوب القرآن:
مر المجتمع الأول -الذي نزل عليه القرآن- في تحوله من حال إلى حال، بأحوال مختلفة يحتاج كل منها إلى أسلوب خاص في مخاطبته.

فحين كان الكفر هو السائد بينهم: مالت الآيات إلى قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، بما يشتد قرعه على الأسماع، ويصعق القلوب؛ ليوائم جو الردع والزجر والتقريع للمخاطبين وهذا هو الغالب في آيات السور المكية.

وحين ساد الإيمان وأقبلت القلوب على القرآن:
طالت المقاطع والآيات في البيان المتأني والوقع الهادئ بما يريح الآذان، ويجذب القلوب؛ ليوائم جو المحبة والإتباع والانقياد، وهذا هو الغالب في آيات السور المدنية.

فتغير الأسلوب من حال إلى حال، دليل واضح على أن القرآن العظيم يشتمل على أساليب صالحة لمخاطبة البشرية على كل حال.

خاصة إذا علمنا أن أسلوب القرآن ليس موجهًا إلى شخص بعينه، ولا إلى جيل بعينه، بل خوطبت به أجيال كثيرة ومتتابعة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (415).

والحديث عن عظمة أسلوب القرآن يدور من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول مناسبته للعامة والخاصة:
مادام القرآن العظيم مخاطبًا به الناس جميعًا، على امتداد الحياة كلها، فقد كان من حكمته أن يكون مناسبًا للعامة والخاصة، فمن خصائص أسلوبه: أنه لا يعلو عن أفهام العامة ولا يقصر عن مطالب الخاصة، فإذا قرأته العامة أحسوا بجلاله، وذاقوا حلاوته، وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم، وكذلك الخاصة إذا قرؤوه، لكنهم يفهمون منه أكثر ما يفهمه العامة.

وهذا مطلبان لا يدركهما الفصحاء والبلغاء من الناس، ولذلك لجؤوا إلى قاعدة يعتذرون بها فقالوا: (لكل مقام مقال)، أما أن يأتي كلام واحد يخاطب به العلماء والعامة، والملوك والسوقة، والأذكياء ومن دونهم، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والعرب والعجم، ويرى فيه كل منهم مطلبه ويدرك معانيه ما يكفيه، فذلك ما لا يوجد إلا في القرآن العظيم وحده.

فالآيات نفسها لم تتبدل ولم تتغير، لكن فيها من العطاء بحيث يدرك منه كل قارئ قدر طاقته، ووسع عقله وفكره، فلا يحمله ما لا يطبقه، ولا يقصر عن حاجته.

وهو لا يخاطب عامة وخاصة في عصر من العصور، بل يخاطب أولئك في كل عصر ومصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولن تجد فيه الخاصة -فضلًا عن العامة- قصورًا في معانيه، ولا خللًا في تراكيبه، ولا عيبًا في أساليبه.

والعامة كذلك -على الرغم من تحول الأساليب وتغيرها من قرن إلى قرن- لا تنبو عن أفهامهم لفظة، ولا يلتوي على ألبابهم معنى، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان أكثر مما يحتاجون إلى فهم لغتهم العربية.

وهذا لا يكون ولن يكون أبدًا في كلام البشر الناقص، الذي إن أرضى العامة بمعانيه الواضحة، وحقائقه الظاهرة، هبط عن مستوى الخاصة ومشربهم وأذواقهم، وإن أرضى العلماء منهم بدقائقه وإشاراته، عجزت عقول العامة عن فهمه، ومن ثم تنصرف عنهم أذهانهم، وتمجه أذواقهم (416).
 
المطلب الثاني إِرضَاؤُهُ العقلَ والعاطِفةَ:
في الوقت الذي تُخاطب بعض الفلسفات في الإنسان عقلَه، وأخرى تخاطب قلبَه، فإن القرآن العظيم في خطابه يُحَقِّق التَّوازن بمخاطبة العقل والقلب معًا، فيجمع بذلك الحقَّ والجمال معًا.

ففي كلِّ إنسان قُوَّتان:
1- قوة تفكير.
2- وقوة عاطفة ووجدان.


فقوة التَّفكير تغوص باحثةً عن الحقائق والمعاني المستترة.

وقوة العاطفة تطفو فتبحث عن الجمال الظَّاهر، وهذه النفس الإنسانيَّة إمَّا أن تغوص مع تلك أو تطفو مع هذه، فلا تستطيع أن تغوص أو تطفو في لحظة واحدة، أو وقت واحد.

ولن يوجد إنسان سواء كان عالماً، أو أدبيًا، أو شاعرًا يمسك بالأمر من طرفيه، فيأتي بكلام واحد يفي بحاجة هاتين القوتين، ولو وجدت عند أحد من البشر فإنهما لا يعملان إلا مناوبة كلما قويت واحدة، ضعفت الأخرى.

وهو أمر يجده الواحد من نفسه، فإذا قويت (قُوَّة الوجدان) تناقصت (قوة التَّفكير), وحين تظهر (قوة التفكير) تضعف (قوة الوجدان).

وقد أدرك العلماء ذلك فقالوا:
لا يقضي القاضي وهو حاقن، أو جائع، أو غضبان؛ لأن حرارة الغضب تستر العقل فلا يصلح للقضاء (417).

والشَّاهد من هذا:
أنَّ (قوة التفكير) و (قوة الوجدان) تتنازعان في النفس الإنسانية، وتكون الغلبة لإحداهما، فإن تكلَّم المتكلِّم ووَفَّى بحقِّ العقل بخس حَقَّ العاطفة، وإن وفَّى حقَّ العاطفة بخس حقَّ العقل، فإمَّا أن يأتي بكلام علمي مجرَّد يرضي به فكرَه وعقلَه، وإمَّا أن يأتي بكلام أدبي منمَّق يرضي به عاطفته (418).

والقرآن العظيم وحده هو القادر على مُخاطبة العقل والقلب معًا، وأن يمزج الحقَّ والجمال فلا يبغي بعضُهما على الآخر.

وإنَّ المتأمِّلَ في كتاب الله تعالى يلحظ ذلك جليًا، ففي الوقت الذي توُرَدُ فيه الحجج والبراهين العقلية على البعث والإعادة -في مواجهة منكريها- لا يهمل نصيب القلب من تشويق وترقيق، فتُساقُ الأدلة سوقًا يهز القلب هزًا، ويمتع العاطفة إمتاعًا، قال الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس: 78).

لقد أوردت هذه الآية الكريمة شُبهةً على البعث ثم ردَّت عليها بعبارة وجيزة، بليغة، فضيحة، تَنَاسقت فيها الألفاظ، وسمت فيها المعاني، مع دقَّة في الدلالة، وإنَّ أفصح الفصحاء، وأعلم العلماء، لو اجتمعا لم يُقَرِّرا ذلك إلا في صفحات وصفحات، إن هما قَرَّراه.

ولنتأمل قولَه تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22).

عند ذلك يتبيَّن لنا أنه اجتمع في سبع كلمات عمق المقدِّمات اليقينية، ووضوح المقدِّمات المُسَلَّمة، مع دقة في التصوير لما يؤول إليه التنازع من فساد عظيم، فلو ابتغى مثلَه فلاسفة العصور كلها ما استطاعوا تقريره إلاَّ بعبارة طويلة جافَّة.

نماذج وصور:
لننظر إلى القرآن العظيم وهو يسوق قصَّة يوسف مثلًا، كيف يأتي من خلالها بالعظات البالغة، ويطَّلع من خلالها بالبراهين الساطعة، وآداب الشرف، والعفاف، والأمانة، وخشية الله، إذ قال الله تعالى في فصل من فصول تلك القصة الرائعة: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23).

فلنتأمل في هذه الآية الكريمة كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاثة، بدواعي العفاف الثلاثة:
فدواعي الغواية الثلاثة:
1- مراودتُها له.
2- إغلاق الأبواب.
3- دعوتُها له: (هَيْتَ لَكَ).


ودواعي العفَّة الثلاثة:
1- قوله: (إِنَّه رَبِّي).
2- قوله: (أَحْسَنَ مَثْوَايَ).
3- قوله: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).


فصوَّرت هذه الآية الكريمة -وهي تسوق قصة من القصص- جدلًا عنيفًا بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، وبسطت جوانب القضيَّة، وشخَّصت الحدث، وكأنما تنظر إليه من زاوية خفيَّة.

ليصل الشَّاب في النِّهاية والفتاة كذلك إلى إمكان الاستعلاء فوق المغريات مهما كانت جاذبيَّتها، وذلك بعد أن ملك التعبير القرآني هنا أقطار النفس كلها، فامتلأت اقتناعًا بالعفَّة.

وهكذا نجد القرآن كلَّه يوجه العقول والقلوب معًا جنبًا إلى جنب بأسلوب سائغ، ويسير على النفوس (419)، ينبئ عن عظمته، وعلوِّ شأنه، وتأثيره في النفوس وفاعليته.
 
المطلب الثالث جودةُ سَبكه وإحكامُ سَرده:
جودة السَّبك، وإحكام السَّرد، أمر في غاية الأهمية، ذلك أنَّ الكلام هو مرآة المعاني، فإذا اتَّسق الكلام، وترابطت أجزاؤه، وتلاحمت أفراده وأحكم سرده، صفت معانيه وانجلت، فجودة السَّبك وإحكام السَّرد ضرورة لصفاء المعاني، وتحقيقُ ذلك أمر صعب المرتقى، فهو يحتاج إلى ملكة راسخة، وحذق مكين في علم الكلام (420).

و «القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السَّرد، دقيق السَّبك، متين الأسلوب، قويُّ الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقة مفرغة، أو كأنه سمط (421) وحيد، وعقد فريد، يأخذ بالأبصار: نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقًا لأوله، وبدا أوَّله مواتيًا لآخره» (422).

ومن أراد جودةً قويةً في سبك كلامه، وإحكامًا متناسقًا في سرده: فليختر موقعًا مناسبًا لكل عبارة من كلامه، من حيث بداية الكلام، أو نهايته، أو مضمونه، أو خلاصته، وليحسن ربط الكلام بعضه ببعض، ومزج بعضه ببعض، وليختر أحسن الأساليب في ذلك، فقد يكون الإسناد مرة أفضل، وقد يكون التَّعليق أُخرى، وقد يكون العطف ثالثة، وقد تكون الإضافة رابعة وهكذا، ثم بعد ذلك عليه أن ينقي عباراته من الحشو، فإن أتقن ذلك انتقل إلى المعنى الثاني وفعل به كما فعل بالمعنى الأول، وزاد على ذلك إتقان ربطه بالمعنى السابق وبالمعنى اللاحق.

وَرَصفُ المعاني كرصف المباني:
يَضَعها البَنَّاءُ لَبِنَةً لبنة، ويضع بين اللَّبنات ما يربط بعضها ببعض، ثم يعود عليها كلِّها بما يغطِّي آحادها ويُظهرها كالسبيكة الواحدة، ثم يكرُّ أخرى يزيل ما خرج عن سمتها أو نبا عن حَدِّها، وعلى قدر إتقانه للبناء تكون مهارته.

والمتأمِّلُ في كلام البشر يجد أكثرهم لا يتقنون تنظيم أجزاء كلامهم، بل يسوقونه أشتاتًا مفككة، وكثيرًا ما عاب النقاد فحول الشعراء بسوء التخلص حين ينتقلون من معنى إلى معنى في القصيدة الواحدة.

وقد يضطر أصحاب البلاغة -للربط بين غرض وغرض- إلى استخدام أسماء الإشارة، أو أدوات التنبيه، أو كثرة التَّقسيم، والتَّرقيم، والتَّبويب، والعناوين، وعبارات: (أمَّا بعد)، (ونقول كذا)، (قلت)، أو الإشارة في مقدمة الأبحاث إلى تقسيمه إلى أبواب، وفصول، ومباحث، كاعتذار مسبق للانتقال من معنى إلى معنى (423).

أمَّا القرآن العظيم فإنه على تنوُّع أغراضه، وطول نفسه في سوره وآياته، ينتقل من مقصد إلى مقصد، غير مستعين بوسائل العجز المساعدة، بل بطريقة بديعة أخاذة قد نشعر بها أو لا نشعر، ولن نُفَرَّق في ذلك بين أطول سورة في القرآن كسورة البقرة، وبين أقصر سور القرآن (424).

شبهة وردُّها:
و «قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب، أنها على حسب الوقائع تنزيلًا، وعلى حسب الحكمة ترتيلًا وتأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له» (425) (*).

قال الله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1).

ولاحظ أن التفصيل في دائرة:
الإحكام، الذي كان سورًا منيعًا، وكان كذلك؛ لأن منزله هو: (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان: 6).

والقرآن بذلك نعمة تذكر فتشكر:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (الكهف: 1).
 
المطلب الرابع تعدد أساليبه واتحاد معناه:
ومعنى ذلك أن القرآن العظيم يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرائق مختلفة، بمقدرة معجزة، يلهث دونها -بآماد- أبلغ البلغاء، ويكبو خلفها -بقرون- أفصح الفصحاء، فقد اعتنى القرآن العظيم بتصريف القول، بحيث لا يمل قارئه، ولا يسأم سامعه.

ويكتفى هنا ببعض ما أورده الزرقاني (426) -رحمه الله- من أمثلة على تصريف القول في القرآن، فقد أورد أمثله لتعبير القرآن عن طلب الفعل من المخاطبين بعده أوجه، وكذلك تعبيره عن النهي بوسائل عدة، وكذلك تعبيره عن إباحة الفعل بطرق مختلفة (427).

وما لا يدرك جله فلا يترك أقله، فيقتصر هنا على التعبير الأول منها فقط -تعبير القرآن العظيم عن طلب الفعل من المخاطبين- بالوجوه الآتية:
1- الإتيان بصريح مادة الأمر، نحو قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58).
2- والإخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين، نحو: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة: 183).
3- والإخبار بكونه على الناس، نحو: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران: 97).
4- والإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه، نحو: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة: 228)، أي مطلوب منهن أن يتربصن.
5- والإخبار عن المبتدأ، بمعنى يطلب تحقيقه من غيره، نحو: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران: 97)، أي مطلوب من المخاطبين تأمين من دخل الحرم.
6- وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر، نحو: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: 238) أو بلام الأمر نحو: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 29).
7- والإخبار عن الفعل بأنه خير: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220).
8- ووصف الفعل وصفًا عنوانيًا بأنه بر، نحو: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) (البقرة: 189).
9- ووصف الفعل بالفرضية، نحو: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) (الأحزاب: 50) أي من بذل المهور والنفقة.
10- وترتيب الوعد والثواب على الفعل، نحو: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) (البقرة: 245).
11- وترتيب الفعل على شرط قبله،نحو: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) البقرة: 196).
12- وإيقاع الفعل منفيًا معطوفًا عقب استفهام، نحو: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (النحل: 17).
13- وإيقاع الفعل عقب ترج، نحو: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (النحل: 14).
14- وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل، نحو: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).

فهذا مثال واحد من أمثلة تصريف القول في القرآن العظيم، جاء (الأمر) فيه بهذه الأساليب المتعددة.

وهكذا نجد التعبير القرآني يعدد الأساليب -في أداء المعنى الواحد- بألفاظ متعددة بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، وتكلم وغيبة وخطاب، ومضي وحضور واستقبال، واسمية وفعلية، واستفهام، وامتنان، ووصف، ووعد ووعيد، إلى غير ذلك.

وتصريف القول في القرآن العظيم على هذا النحو منَّة يمنُّها الله عز وجل على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن، والإقبال عليه قراءة وسماعًا، وتدبرًا وعملًا، ولذلك قال الله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: 89).

وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54).

وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا) (الإسراء: 41).

فلا عذر -بعد ذلك- لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه (428).

المطلب الخامس جمعه بين الإجمال والبيان:
جمع القرآن العظيم بين الإجمال والبيان، مع أنهما غايتان متقابلتان لا تجتمعان في كلام واحد للناس! بل كلامهم إما مجمل وإما مبين.

فالكلمة الواحدة من كلام البشر: إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان، وإما خفية المعنى فتحتاج إلى بيان، وذلك كلام «المخلوق».

أما القرآن العظيم - وحده - لأنه كلام «الخالق» فالأمر فيه مختلف، فهو خارق للعادة، ولا عجب أن يجتمع في آية واحدة منه، البيان والإجمال جميعًا.

فإذا قرأ الواحد منا آية من القرآن وجد فيها من الوضوح والظهور، حتى يظن أنه أحاط بكل معانيها، فإذا أعاد النظر مرة أخرى ظهر له منها معان جديدة، كلها صحيح أو يحتمل الصحة، فإن زاد التمعن وأطال النظر في الآية، انفتح له من المعاني والمعارف والأسرار ما لم يظهر له من قبل، حتى يكل وينتهي، ومعانيها لا تزال تفيض بالخيرات والبركات، ومن هنا ندرك السر في اختلاف العلماء في استنباط الفوائد والحكم من الآيات قلة وكثرة، ويستدلون بها من نواح شتى ومختلفة، والآية نفسها لم تتغير (429).

نمــاذج:
ومن أمثلة الآيات التي جمعت بين البيان والإجمال قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة: 212).

«هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلت في معناها: أنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله: لماذا يبسط الرزق لهؤلاء، ويقدره على هؤلاء؟ أصبت.

ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد أصبت، ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله أصبت، ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب أصبت.

فعلى الأول يكون الكلام:
تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمه سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.

وعلى الثاني يكون تنبيهًا على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.

وعلى الثالث يكون تلويحًا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر، حتى يبدل عسرهم يسرًا، وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.

وعلى الرابع والخامس يكون وعدًا للصالحين، إما بدخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافًا كثيرة لا يحصرها العد، ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية، رأى من ذلك العجب العاجب» (430).

وهو أمر لا نجد مثله فيما سولا القرآن العظيم، فدل ذلك على عظمته وعلو شأنه، وفخامته، ورفعته التي بها نعتز، فلا يجمل بنا أن نجد العلو والفخامة والرفعة في سواه، وإلا فقد حقرنا عظيمًا أو حاولنا ذلك!
 
المطلب السادس إيجاز لفظه ووفاء معناه:
المعنى واللفظ طرفان متقابلان إن أدنيت هذا أبعدت الآخر، هذا في كلام البشر، أما في القرآن العظيم فالأمر مختلف تمام الاختلاف، ففي كل آية من آياته، نجد بيانًا قاصدًا مقدرًا على حاجة النفوس البشرية، دون أن يزيد اللفظ على المعنى، ومع هذا القصد اللفظي، نجد أن القرآن العظيم قد جلّى لنا المعنى في صورة كاملة، لا تنقص شيئًا من المعنى، ولا تزيد فيه شيئًا دخيلًا وغريبًا، وهو كما قال الله تعالى عنه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1).

هؤلاء البشر أن أتقنوا اللفظ، حتى لا يكون طويلًا، قصروا في المعنى فعادوا يشرحون ويوضحون فيقعون في أسوا مما هربوا منه، وإن اتجهت أذهانهم إلى المعنى لإظهاره جليًا، فلا مفر لهم من الإسهاب والإطناب.

وهو أمر يدركه المرء من نفسه، فإن كتب شيئًا اليوم، كر عليه غدًا وقال: لو أضفت كذا، لكان أوفى، ولو قلت كذا، لكان أفضل، ولو حذفت كذا لكان أنسب وأجمل، ولو عاد ذلك مرات ومرات لوجد نفسه في كل مرة يحتاج فيها إلى المحو، أو الإثبات، أو التهذيب، أو الاختصار، فيدفعه لذلك أمران لا ثالث لهما، إما أن يكون في المعنى قصور، أو يكون في اللفظ إسهاب (431).

تميُّز القرآن:
«لا يمكن أن تظفر في غير القرآن، بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن، بل كلُّ منطبق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان، تجده بين هاتين الغايتين، كالزوج بين ضرتين: بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى؛ فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه، حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى، فتجيء صورته ناقصة خفية، ربما يصل اللفظ معها إلى حد الألغاز والتعمية؛ وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة، حمله ذلك على أن يخرج على حد القصد في اللفظ، راكبًا متن الإسهاب والإكثار، حرصًا على ألا يفوته شيء من المعنى الذي يقصده» (432).

ومهما أوتي هذا البليغ من البلاغة، فإنه يستطيع أن يجمع بين هذين الأمرين (الإيجاز اللفظي، والوفاء بالمعنى) أحيانًا في جمل قليلة، لكن سيبدو عليه القصور بعد ذلك، وينفلت من يده زمام الكلام، وتستعصي عليه الجمل والعبارات.

ومن كان في شك من ذلك فليسأل علماء البيان وصيارفته: «هل ظفرتم بقطعة من النثر، أو بقصيدة من الشعر، كانت كلها أو أكثرها جامعًا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟.

ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحًا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة، والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة، أما سائر شعرهم بعد، فبين متوسط ورديء، وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه، على الناثرين من الخطباء والكتاب» (433).
 
فمن أراد أن يقرأ كلامًا جمع هاتين الغايتين، فليقرأ القرآن العظيم من أوله إلى أخره، حيث البيان الكامل الذي لا يحس فيه عوجًا ولا أمتًا.

فألفاظه الوجيزة المحكمة تؤدي المعاني بلا قصور، وبأحسن عبارة، وبدون زيادة كلمة، فضلًا عن حرف، ونجد في كل كلمة أو حرف من حروف دلالة عظيمة، بحيث لو حذف منه، ربما تغير المعنى، أو حرف، أو شوه، وكذلك الزيادة، ذلك أنه كلام العليم الخبير، الذي تنزه عما يعتري البشر من الكلام والقصور والإعياء، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وهو العزيز الحكيم (434).

قال ابن عطية (435) -رحمه الله- وهو يتحدث عن عظمة القرآن: «لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد» (436).

فالقرآن العظيم يختلف عن كلام البشر - مهما علا وارتقى «حتى كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم، وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي، وصيغ على أكمل ما خلق الله، فإنه مع تحليقه في سماء البيان، وسموه على كلام كل إنسان، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن» (438).
-----------------------------------------
الهوامش
410.     انظر: لسان العرب، (1/473)، مادة: «سلب». مخنار الصحاح، (1/130)، مادة: («س ل ب».
411.     انظر: المعجم الوسيط، (ص441)، مادة: «سلب».
412.     المفردات في غريب القرآن، (ص244)، مادة: «سلب».
413.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/277). خصائص القرآن الكريم، (ص18).
414.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/278).
415.     انظر: خصائص القرآن الكريم، (ص19- 20).
416.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/287)، خصائص القرآن الكريم، (ص34- 35).
417.     انظر: محاسن الإسلام، لمحمد بن عبد الرحمن البخاري، (ص114).
418.     انظر: خصائص علوم القرآن، (ص36). النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز، (ص114- 115).
419.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/288)، خصائص القرآن الكريم، (ص35- 38).
420.     انظر: خصائص القرآن الكريم، (ص39).
421.     السمط: هو القلادة، وجمعه سُموط. «انظر: لسان العرب، (7/322)، مادة: (سمط)».
422.     مناهل العرفان في علوم القرآن، (1/53).
423.     انظر: خصائص القرآن الكريم، (ص40). مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/291).
424.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (ص291).
425.     الإتقان في علوم القرآن، (2/108). وانظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، (1/37).
(*) تأمل كتاب «النبأ العظيم»، د. محمد بن عبد الله دراز، فقد أجاد في بيان هذا اللون وأبدع، وأشبع القلوب والعقول وأمتع، بما يعرض من التناسب والترابط بين سور القرآن.
426.     هو محمد بن عبد العظيم الزرقاني من علماء الأزهر بمصر، تخرج في كلية أصول الدين، وعمل بها مدرسا لعلوم القرآن والحديث، وتوفي بالقاهرة سنة (1367هـ). «انظر: الأعلام، (6/210).
427.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/292 – 294)، وتأمل هذه الأمثلة جيدًا فهي من الأهمية بمكان.
428.     انظر: المصدر نفسه، (2/29).
429.     انظر: خصائص القرآن الكريم، (ص45). مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/296)،
430.     النبأ العظيم، (ص117- 118).
431.     انظر: خصائص القرآن الكريم، (ص47).
432.     مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/297)،
433.     المصدر نفسه، (2/297- 298).
434.     انظر: المصدر السابق، (ص48).
435.     هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن عطية، الغرناطي، القرطبي، علم المفسرين، كان فقيها عارفا بالأحكام والحديث والتفسير اللغة، ولي القضاء. من أهم مؤلفاته: «تفسير المحرر الوجيز»، توفي سنة (546هـ). «انظر طبقات المفسرين، للداودي (1/260)».
436.     تفسير ابن عطية، (1/52).
437.    مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/298).
438.    معجم مقاييس اللغة، (2/404 )، مادة: «قصد».



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 7:45 pm

المبحث الثاني
عظمة مقاصد القرآن.

وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: إقامة الدين وحفظه.
المطلب الثاني: تصحيح العقائد والتصورات.
المطلب الثلث: رفع الحرج.
المطلب الرابع: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه.
المطلب الخامس: تكوين الأسرة وإنصاف المرأة.
المطلب السادس: إسعاد الكلف في الدارين.
 

تمهيد
معنى «المقاصد» في اللغة:
المقاصد جمع مقصد، وقد وردت هذه اللفظة في اللُّغة بمعان عدة، نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا.

فقد عرَّفها ابن فارس بقوله: (439)
«القاف والصاد والدال أصول ثلاثة: يدل أحدها على إتيان شيء وأمه».

وجاء في لسان العرب (440):
«قال ابن جني: أصل (قصد) ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور: هذا أصله في الحقيقة وإن كان يخص في بعض المواطن بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أُخرى؟ فالاعتزام والتوجه شامل لهما جميعًا».

و«يُقال: إليه مقصدي: وجهتي» (441).

مفهوم «المقاصد» من خلال تعبيرات بعض العلماء:
1 - قال الغزالي (442) -رحمه الله-:
«مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومآلهم» (443).

2 - قال الآمدي (444) -رحمه الله-:
«المقصود من شرع الحكم: إما جلب مصلحة، أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين» (445).

3 - قال الشاطبي (446) -رحمه الله-:
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية» (447).

وقال أبضًا:
«إن الشارع يقصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية» (448).

معنى « مقاصد القرآن»:
من خلال المعاني اللغوية لكلمة مقصد، وما تبعه من تعبيرات بعض العلماء لمفهوم المقاصد، يمكننا تعريف (مقاصد القرآن) بأنها: ما توجَّه القرآن نحو تحقيقه، أو ما قصد القرآن نحو تحقيقه من أمور معنوية أو مادية، كتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتأمين الضروريات والحاجيات والتحسينيات للمرء في هذه الحياة والحفاظ عليها، وتحقيق العدل وما إلى ذلك (449).

أهمية مقاصد القرآن:
إنَّ فهم مقاصد القرآن العظيم، ضرورة دينية، وحاجة دعوية:
أما كونه ضرورة دينية: فلأنه بالفهم الصحيح للقرآن يستقيم سلوك المسلم في حياته، ويحرص على العمل به، ويلتزم أحكامه وهديه...

ولطالما أخطأ كثير من المسلمين في تطبيقهم الخاطئ والجزئي للقرآن، فشوهوا بذلك من جمال القرآن العظيم المتمثل في كماله وتوازنه، ووحدة تعاليمه.

وقل مثل ذلك في إصدار فتاوى سطحية غريبة، وأحكام ظاهرية عجيبة لا تنسجم مع مقاصد القرآن العامة والخاصة، وربما ردت بعض النصوص الشرعية بدعوى الاجتهاد المقاصدي، والعمل بروح الشريعة من جهة أخرى!

وأما كونه حاجة دعوية: فلأنه بقدر فهم مقاصد القرآن، وإحسان عرضها، يُقبل الناس عليه، ويتمسكون بهديه، ويدخلون في دين الله أفواجًا، وبقدر غموضها في نفوسهم، يسوء غرضها، وتتشوه صورتها، ويضعف تمسك المسلمين بالقرآن، ويعرض عن هديه غيرهم، ولطالما ظهرت آثار ذلك في مسيرة الدعوة الإسلامية المعاصرة! (450).

تنوَّع مقاصد القرآن:
«مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم في طور الرشد، وتحقيق أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم: منها ما يكفي بيانه لهم في الكتاب مرة أو مرتين أو مرارًا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارًا كثيرة، لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس في مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتي أكله ويبدو صلاحه ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن كماله إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا في المستقبل فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفي فيه الفحوى والكناية.

والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفي أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة، كالمعهود في متون الفنون وكتب القوانين» (451).

وسيكون الحديث عن عظمة مقاصد القرآن من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول إقامة الدين وحفظه:
إن المتأمل في مقاصد القرآن الرئيسية يجد أنها تدور حول نواح ثلاث:
ناحية العقيدة، وناحية التشريع، وناحية السلوك.

وقد حصر الغزالي -رحمه الله- مقاصد القرآن وآياته في ستة أنواع فقال:
«انحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي الروادف والتوابع المغنية المتمة.

أما الثلاثة المهمة فهي:
 تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الوصول إليه» (452).

وهذا الإجمال في كلام الإمام الغزالي -رحمه الله- يحتاج إلي تفصيل، حتى يتبين لنا مقصد رئيس وعظيم من مقاصد القرآن الكريم.

وهو على النحو الآتي:
1    - تعريف المدعو إليه:
إن أعظم مقاصد القرآن الكريم هو معرفة الله تعالى، حق المعرفة، لأنها تورث الطاعة الحقة، فيخلص العبد عبوديته لله تعالى، وهذه العبودية الخالصة هي التي تقيم منهج الله في الأرض.


ولذلك يقول البقاعي (453) -رحمه الله-:

«المقصود من إرسال وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم على الحق، تعريفهم بالملك وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول» (454).

من أضرار الجهل بالخالق:
بدون معرفة الله حق المعرفة، يقع الخلل في إقامة شرعه، فيتولد من ذلك أعظم مفسدة، وهي صرف العبودية لسواه، وقد سماه الله تعالى ظلمًا عظيمًا فقال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) كما ينجم عن هذا الخلل العظيم ظلم الناس، بحيث يغيب شرع الله المطلوب إقامته بين الناس، فتحل محله الأهواء.

وقد وبخ الله المشركين على شركهم فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج: 73 ).

ثم يُبَيِّنْ تعالى بعد ذلك السبب الرئيس في هذا الشرك، أن هؤلاء المشركين: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 74 ).

«فما عظموه حق تعظيمه، إذ لو فعلوا ما أشركوا معه الضعفاء العجز، وهو الغالب القوي... فكيف يشاركه الضعيف الذليل؟» (455).

2 - تعريف الصراط المستقيم:
فهذا هو القصد الثاني، لأن الإنس والجن خلقوا لعبادة الله تعالى، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).

قال الغزالي -رحمه الله-: (456)
«وعمدة هذا الصراط المستقيم أمران: الملازمة والمخالفة».

أي: ملازمة صراط الموحدين من الذين أنعم الله عليهم ومن عليهم بالهداية والتوفيق، ومخالفة صراط المشركين من الذين غضب الله عليهم، والضالين عن الهدى ودين الحق.

3 - تهذيب الأخلاق والسلوك:
وهذا هو المقصد الثالث، حيث إن القرآن العظيم يحض كثيرًا على مكارم الأخلاق ومحاسنها في العادات والمعاملات، ومن هذه المكارم الأخلاقية: العفو في قوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة: 237).

والعدل في قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

والإحسان في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء:36).

والإعراض عن اللغو في قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55).

إلي غير ذلك من الآيات الدالة على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (457).
 
المطلب الثاني تصحيح العقائد والتصورات
ويتجلي هذا المقصد في عناصر ثلاثة:
1 - تصحيح عقيدة التوحيد:
القرآن العظيم من أوله إلى آخره دعوة إلى التوحيد، وإنكار للشرك، وبيان لحسن عاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، وسوء عاقبة المشركين في الدارين.

وقد اعتبر القرآن الشرك أعظم جريمة يقترفها مخلوق، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).

وإن حقيقة الشرك انحطاط بالإنسان من مرتبة السيادة على الكون -كما أراد الله له- إلى مرتبة العبودية والخضوع للمخلوقات، سواء كانت جمادًا، أو نباتًا، أو حيوانًا، أو إنسانًا، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 30-31).

والدعوة إلى التوحيد هي المبدأ الأول المشترك بين رسالات النبيين جميعًا، فكل نبي نادى قومه أن (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 59).

وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36).

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25).

فلا مكان للوسطاء بين الله عز وجل وبين خلقه، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: 186)، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60).

2 - تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة:
وذلك ببيان الحاجة إلى النبوة والرسالة، قال تعالى: (كان النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213).

وبيان وظائف الرسل، قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (النساء:165).

فليس الرسل آلهة ولا أبناء آلهة، إنما هم بشر يوحى إليهم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110).

ولا يملكون هداية القلوب، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (الغاشية: 21- 22 ).

وقد فنَّد القرآن الشبهات التي أثارها الناس ثديمًا في وجه الرسل، كقولهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (إبراهيم: 10).

وقولهم (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) (المؤمنون: 24 ).

فرد القرآن عليهم بمثل قوله تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: 11).

ومثل قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (الإسراء: 95).

وبين القرآن العظيم عاقبة الذين صدقوا المرسلين والذين كذبوهم، ومعظم قصص القرآن الكريم تدور حول هلاك المكذبين ونجاة المؤمنين، قال تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) (الفرقان: 37-39).

وقال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 103).


3 - تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة:
لقد اتخذ القرآن العظيم في تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة وتثبيتها في نفوس المؤمنين أساليب شتي: فمن ذلك: إقامة الأدلة على إمكان البعث، ببيان قدرة الله تعالى على إعادة الخلق كما بدأهم أول مرة، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم: 27).

وقد بين القرآن العظيم حكمة الله تعالى في الجزاء حتى لا يستوي المحسن والمسيء، والبر والفاجر، فتستحيل الحياة إلى عبث وباطل يتنزه الله تعالى عنه: قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون: 115).

وقال أيضًا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص:27-28).

وقد كثر حديث القرآن العظيم عن القيامة وأهوالها، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات، والحساب الدقيق الذي لا يظلم نفسًا شيئًا، ولا يحمّل وازرة وزر أخرى، وعن الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.
 
وأبطل القرآن العظيم الأوهام التي أشاعها المشركون أن آلهتهم المزعومة تشفع لهم عند الله تعالى، وما زعمه كذلك أهل الكتاب من شفاعة القديسين وغيرهم.

فلا شفاعة إلا بإذن الله، ولمؤمن موحد، ورضى الله عن هذه الشفاعة، قال الله تعالى عن الكفار: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر: 48).

وقال أيضًا:
"مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر: 18).

وقال تعالى: (منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة: 255 ).

وقال تعالى: (لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء: 28 ) (458).

المطلب الثالث رفع الحرج:
إن شريعة القرآن العظيم تمتاز بكونها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها، بالقول والعمل على مستوى الفرد والجماعة.

والله -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه ما في بعض التكاليف من المشاق، على بعض النفوس، فهو محيط بضعف الإنسان المكلف وقلة حيلته، كما قال تعالى: (وخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28).

وهذه المشاق من قبيل المشاق المعتادة المقدور عليها، وأن المقصد من إحداقها بالأفعال تربية النفوس، وقهرها، وكبح جماحها، لئلا تجنح إلى ما لا يحل، «إذ مخالفة الهوى والشهوة هي من المقاصد المعتبرة شرعًا» (459).
 
ورغم أن هذه المشاق مقدورة للمكلف، إلا أن الشارع الحكيم زين تكاليف الشرع بزينة رفع الحرج والمشقة، حتى تحبها النفوس، وتقبل على العمل بها دون كلل أو ملل، المفضي إلى الانقطاع.

ورفع الحرج من سنة الأنبياء جميعًا، قال الله تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (الأحزاب: 38).

« أي هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج" (460).

ومن أهل التأويل من اعتبر قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:86 ) دليلًا على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شرائع الله جميعًا، لعموم لفظ: (نَفْسًا)، التي وردت في سياق النفي، لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله (461).

إذًا فالسماحة واليسر من أبرز أوصاف شريعة القرآن العظيم، فقد قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر) (لبقرة: 185 ).

وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: 6 ).

ومن دعاء المؤمنين ماحكاه الله تعالى بقوله: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: 286 ).

والحكمة في سماحة شريعة القرآن العظيم: «أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها.

ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) النساء: 28).

وقد أراد الله تعالى أن تكون الشريعة الإسلامية شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلًا، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها.

وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة، لأن في فطرة الناس حب الرفق» (462).

ومن يتتبع آيات رفع الحرج يلحظ أمرين مهمين، سلكهما القرآن العظيم، في رفعه الحرج عن المكلفين.
الأول:
مجيء آيات على هيئة بشارة تنبئ بمقدم شريعة، من سماتها التيسير والتخفيف، من أمثال قوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى: 8 ).

فهذه الآية الكريمة بشرت رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمته بشرع سمح سهل مستقيم عدل، لا اعوجاج فيه، ولا حرج ولا عسر (463).

الثاني:
مجيء آيات فيها التنصيص على رفع الحرج، إما بالكلية، وإما بالتخفيف منه.

فمن الأول:
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 91).

فأوضحت الآية الكريمة الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، بشرط النصح لله ولرسوله.

ومن الثاني:
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (النساء: 101).

ولقد قال الصحابي الجليل يعلى بن أميَّة -رضي الله عنه- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنما قال الله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ)، وقد أمن الناس! فقال: عَجِبْتُ ممَّا عَجِبْتَ منهُ، فسألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِها عليكم، فاقبلوا صدقتهُ» (464).

قال ابن عاشور -رحمه الله-: (465)
«ولاشكَّ أنَّ محمَلَ هذا الخبر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصرِ لأجل الخوف، فكان القصر لأجل الخوف رخصةٌ لدفع المشقة».

وقد عبَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة، وهو لا يريد إلا دفع المشقَّة، والله أعلم (466).

أما بعد:
فذلك شاهد بواقعية القرآن العظيم الذي يعترف بضعف الإنسان فيشرِّع له ما لا يعجزه، وهذا من عظمته وعلوِّ شأنه ورفعته.
 
المطلب الرابع تقرير كرامة الإنسان وحقوقه:
إن من أعظم مقاصد القرآن العظيم ما يتعلَّق بتقرير كرامة الإنسان، ورعاية حقوقه.



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 7:46 pm

ويتَّضح ذلك من خلال النُّقاط الآتية:
أولًا: تقرير كرامة الإنسان:
طالما يؤكد القرآن العظيم -مرارًا وتكرارًا- أنَّ الإنسان مخلوقٌ كريم على الله تعالى، حيث خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعله خليفة في الأرض، واستخلف أبناءه من بعده، وهي منزلة تطلعت إليها أنظار الملائكة الكرام، فلم تمنح لهم، حكمة من الله تعالى القائل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30).

والقائل أيضًا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).

ويقول تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20).

ومن أجل ذلك أنكر القرآن العظيم على بعض البشر انتكاس فطرتهم حيث جعلوا القوى المسخرة لهم آلهة يعبدونها من دون الله، فقال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت: 37).

وأنكر على بعضٍ آخر من البشر فقدان كرامتهم، وكونهم أذنابًا لغيرهم، وهم الذين حكى الله تعالى قولهم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (الأحزاب: 67).

وأنكر على آخرين غلوهم في تقديس البشر حين أطاعوهم في معصية الله، فقال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) (التوبة: 31).

بل رد القرآن على من نسب إلى بعض الأنبياء أنه دعا الناس إلى عبادة نفسه، فقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) (آل عمران: 79).

ثانيًا: تقرير حقوق الإنسان:
إنَّ ما تتغنى به الإنسانية اليوم، وتطلق عليه اسم (حقوق الإنسان)، قد اعتمده القرآن وقرر ما هو أشمل منه وأعدل منذ (أكثر من أربعة عشر قرنًا).

فقرر القرآن العظيم حق كل إنسان في الحياة، ما لم يرتكب جرمًا موجبًا إباحة دمه شرعًا، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151).

وحق الإنسان في احترام مسكنه الخاص، وعدم دخوله إلا بإذنه، قال تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) (النور: 27-28).

وحق الإنسان في صيانة دمه وماله، وحماية ملكه الحلال، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29).

وحق الإنسان في صيانة عرضه وكرامته، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) (الحجرات: 11).

وحق الإنسان في الزواج وتكوين الأسرة، رجلًا كان أو امرأة، قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).

وحق الإنسان -بعد الزواج- في الإنجاب، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل: 72).

وحق الذرية في الحياة، بنين كانوا أو بنات، ولهذا أنكر القرآن العظيم على أهل الجاهلية، فعلتهم الشنيعة، في وأدهم البنات، وقتلهم أولادهم لأي سبب كان، وعدَّ ذلك جرمًا عظيمًا، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام: 151).

(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء: 31).

(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8-9).

وحق الإنسان في كفاية العيش إن كان عاجزًا أو فقيرًا، في أموال الأغنياء، قرره القرآن بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25).

وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: 103).

وفي أموال الدولة من الغنائم والفيء، ففي كل منها حق لليتامى والمساكين وابن السبيل، وحق الإنسان في إنكار المنكر، ورفض الفساد، ومقاومة الظلم البين، والكفر البواح، قرره القرآن بقوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود: 113).

 
وقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78-79).

ولقد ارتقى القرآن العظيم بهذه الحقوق إلى مرتبة الفرائض والواجبات، لأن ما كان من الحقوق يمكن صاحبه أن يتنازل عنه، أما الواجبات المفروضة فلا يجوز أبدًا التنازل عنها (467)، فما أعظمه من كتاب.

المطلب الخامس تكوين الأسرة وإنصاف المرأة
أولًا: تكوين الأسرة:
من المقاصد التي هدف إليها القرآن، تكوين الأسرة الصالحة، والتي هي الركيزة الأولى للمجتمع الصالح، ونواة الأمة الصالحة.

ولا ريب أن أساس تكوين الأسرة هو الزواج، وقد عده القرآن آية من آيات الله، مثل خلق السماوات والأرض، وغيرهما، فقال الله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).

فقد أشارت الآية الكريمة إلى الدعائم الثلاث التي تقوم عليها الحياة الزوجية، وهي: السكون، والمودة، والرحمة.

وقد سمى القرآن العظيم الارتباط بين الزوجين: (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، كما في قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء: 21)، والمقصود به القعد القوي المتين.

وقد عبر القرآن الكريم عن مدى القرب واللصوق والدفء والوقاية والستر بين الزوجين، فأنزل كلًا منهما من الآخر منزلة اللباس لصاحبه، فقال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187).

ومن أول أهداف الزواج في القرآن:
الذرية الصالحة، التي تقر بها أعين الأبوين، لذا قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل: 72).

ومن دعاء عباد الرحمن:
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).

ولابد لهذه الأسرة أن تكون متوافقة من جهة الدين، لذا حرم القرآن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، فقال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة: 221).

فختمت الآية بحكمة هذا التحريم، فما أبعد المسافة بين المشركين، الذين يدعون إلى النار، وبين المؤمنين الذين يدعون إلى الجنة والمغفرة.

وقد رخص القرآن في نكاح الكتابية، لأنها ذات دين سماوي الأصل، وهي تؤمن -في الجملة- بالله ورسالاته، وبالدار الآخرة، وإن كان إيمانًا مشوبًا!

ولذلك قال الله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: 5).

ونظرًا لأن المسلم يعترف بأصل دين الكتابية، فلن تضام عنده، ولن تضيع حقوقها، بخلاف الكتابي الذي لا يعترف بأصل دين المسلمة، ولا بالكتاب الذي آمنت به، والنبي الذي اتبعته، ومن هنا جاء الإجماع على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، ولو كان كتابيًا (468).

ثانيًا: إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية:
ومن أهم ما جاء به القرآن: إنصاف المرأة، وتحريرها من ظلم الجاهلية لها، فقد كانت النساء قبل الإسلام مظلومات ممتهنات مستعبدات عند جميع الأمم، وفي شرائعها وقوانينها، حتى عند أهل الكتاب، إلى أن جاء الإسلام، ونزل القرآن، فأعطى الله النساء جميع الحقوق التي أعطاها للرجل، إلا ما يقتضيه اختلاف طبيعة المرأة ووظائفها النسوية من الأحكام، مع مراعاة تكريمها، والرحمة بها، والعطف عليها (469).

فقد حررها القرآن من تحكم الرجل في مصيرها بغير حق، وأعطاها حقوقها لكونها إنسانًا، وكرمها لكونها أنثى، وبنتًا، وزوجةً، وأمًا، وعضوًا فاعلًا في المجتمع (470).
 
وقد أوضح الشيخ محمد رشيد رضا (471) -رحمه الله- حال النساء قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ، عند أمم الأرض إجمالًا، فقال: (472) «كانت المرأة تشترى وتباع، كالبهيمة والمتاع، وكانت تكره على الزواج وعلى البغاء، وكانت تورث ولا ترث، وكانت تمتلك ولا تملك، وكان أكثر الذين يملكونها يحجرون عليها التصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل، وكانوا يرون للزوج الحق في التصرف بمالها من دونها.

وقد اختلف الرجال في بعض البلاد في كونها إنسانًا ذا نفس وروح خالدة كالرجل أم لا؟ وفي كونها تلقن الدين وتصح منها العبادة أم لا؟ وفي كونها تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا؟ فقرر أحد المجامع في رومية أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكمم فمها كالبعير، والكلب العقور، لمنعها من الضحك والكلام، لأنها أحبولة الشيطان!

وكانت أعظم الشرائع تبيح للوالد بيع ابنته، وكان بعض العرب يرون أن للأب الحق في قتل بنته، بل في وأدها -دفنها حية- أيضًا، وكان منهم من يرى أنه لا قصاص على الرجل في قتل المرأة ولا دية».
 
إنصاف القرآن للمرأة:
أعطى القرآن العظيم المرأة جميع حقوقها واعتنى بها وحررها من ظلم الجاهلية، ومن أبرز صور تكريم المرأة في القرآن: أن سورة من السبع الطوال تسمى «سورة النساء» تضمنت أنواعًا من إثبات حقوق المرأة في نواح مختلفة، لم تكن تحصل عليها في أيام الجاهلية الأولى.


ومن مظاهر إنصاف القرآن العظيم للمرأة، وتحريرها من ظلم الجاهلية ما يأتي:
1- التأكيد على حقها في الحياة مثل الرجل في قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل: 58-59).

2- أثبت لها حق التملك، والتمتع بما كسبت من حلال مثل الرجل في قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء: 32).

3- أنصفها من ظلم الجاهلية لها حتى في الطعام في قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 139).

4- أثبت لها الكرامة عند الله -حال التقوى- مثل الرجل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 14).

5- أثبت لها ثواب الأعمال مثل الرجل في قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران: 195).

6- ضَمِنَ لها حقها في الإرث مثل الرجل في قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء: 7).

7- ضمن لها حقها في المهر، فقال تعالى آمرًا الرجال: (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء: 4).

8- حرم على الرجال أخذ مالها بغير حق في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) (النساء: 19).

وفي قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء: 20).

9- حررها من تحكم الزوج في مصيرها بغير حق في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة: 231).

10- حث الأزواج على الإحسان إليها بعد طلاقها- مراعاة لحالتها النفسية والاجتماعية- في قوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 241).

وفي قوله تعالى: (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (الأحزاب: 49).

11- أثبت للمطلقة الحامل النفقة، فقال تعالى آمرًا الرجال: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 6).

12- أثبت للمطلقة المرضع أجر إرضاعها، فقال تعالى آمرًا الرجال: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (الطلاق: 6).

وجملة القول:
إنه ما وجد دين، ولا شرع، ولا قانون في أمة من الأمم، أعطى النساء ما أعطاهن القرآن العظيم من الحقوق والعناية والكرامة، أفليس هذا كله من دلائل عظمته وعلو شأنه ورفعته؟

المطلب السادس إسعاد المُكلّف في الدَّارين:
لا شك أن اتباع القرآن العظيم يقود الإنسان إلى الهداية في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (البقرة: 120).

وإن كتابًا هذا شأنه هو وحده المتكفل بإسعاد الإنسان.

والمؤمنون في كل ركعة من ركعات صلاتهم- فرضًا كانت أو نفلًا- يسألون ربهم تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم، كما حكى الله تعالى دعاءهم: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6).

«فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.

ولا تكون الطريق صراطًا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقًا للمقصود، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال، يستلزم تعينه طريقًا» (473).

ومن اتبع هدى الله المتمثل في القرآن العظيم، لا يعتريه ضلال في هذه الدنيا، وينتفي عنه الشقاء في الآخرة، والشقاء ضد السعادة. قال الله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123).

وهذه الهداية إلى الصراط المستقيم تستلزم سعادة الدنيا والآخرة، فقد جمعهما الله تعالى في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).

فقد نصت الآية الكريمة على السعادة الدنيوية نصًا أفاده قوله تعالى: (حَيَاةً طَيِّبَةً)، كما نصت على السعادة الأخروية المستفادة من قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

فقد ضمن الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة «لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدارين، ومتاع الآخرة أبقى وأنقى قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل: 30)، ونظيرها قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3).

ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس، وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته، وعافيته من الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة هو النعيم على الحقيقة، ولا نسبة لنعيم البدن إليه» (474).

السعادة في منطق البشر:
كثيرًا ما يخطئ السواد الأعظم من البشر في مفهوم السعادة، فظنوا أن السعادة في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، ولذة المال والتفنن في أنواع الشهوات.

ولا ريب أن هذه متعة ولذة، تشاركهم فيها البهائم التي لا تعقل، بل قد يكون حظ البهائم أوفر من حظ هؤلاء.

وهذه الألوان والمتع وصنوف الشهوات قد جربت من ذي قبل فلم تحقق السعادة المنشودة، وليست عنا ببعيد تلك المجتمعات التي يسرت لأفرادها مطالب الحياة المادية وكمالياتها، ومع ذلك أحيطت بسياج محكم من التعاسة والنكد، وظلت تشكو وتحس بالضيق والانقباض، وتبحث عن طريق تلتمس فيه السعادة!

وقد أخبرنا الله تعالى عن تعاسة هؤلاء، وعذابهم في الحياة الدنيا، بسبب بعدهم عن هداية القرآن العظيم، ومن أجل ذلك يحذرنا الله تعالى من بريق متاعهم، لأنه زائل فقال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (التوبة: 55) (475).

قال ابن القيم -رحمه الله- تأكيدًا لهذا المعنى: (476)
«ولا تظن أن قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار: 13-14).

مختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من برد القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته؟

وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟! وقد أثنى الله تعالى على خليله? بسلامة قلبه فقال: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات: 83-84)».

ولا شك أن الحياة الطيبة- في منظور القرآن- تكمن في سكينة القلب واطمئنانه، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح: 4).

وقال أيضًا: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

وصيغة المضارع في قوله: (تَطْمَئِنُّ) توحي بتجدد هذا الاطمئنان وديمومته، وهو في حاجة إلى من يرعاه ويحضنه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعبادات، وعند ذلك يصبح صاحبه في أطيب حال في الدنيا، وفي نعيم دائم في الآخرة (477).

وهذا ما أكده أيضًا العز بن عبد السلام (478) -رحمه الله- بقوله: «ومن السعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها، بحيث لا يضيع بذلك ما هو أولى بالتقديم منه، والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ما ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها» (479).

وهذا الكلام النفيس من هذا العالم الجليل ليؤكد لنا مرارًا وتكرارًا أن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، ووحشة لا يزيلها إلا الأُنس بالله، وحزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وصدق معاملته، وقلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وهو المتوافق مع فطرة الله -عز وجل-التي فطر الناس عليها.

نسأل الله القدير أن يجعلنا من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، من الذين قال فيهم: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ) (هود: 108).

ويختم هذا المبحث بخلاصة جامعة، تبرز من خلالها، عظمة المقاصد النبيلة التي رمى إليها القرآن العظيم في هدايته.
وهي على النحو الآتي (480):
أولًا: إصلاح العقائد:
عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما.

ثانيًا: إصلاح العبادات:
عن طرق إرشاد الخلق إلى ما يزكي النفوس ويغذي الأرواح ويقوم الإرادة.

ثالثًا: إصلاح الأخلاق:
عن طريق إرشاد الخلق إلى فضائلها، وتنفيرهم * من رذائلها.

رابعًا: إصلاح الاجتماع:
عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم، ومحو العصبيات، وإزالة الفوارق التي تباعد بينهم، وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد، من نفس واحدة، ومن عائلة واحدة، أبوهم آدم، وأمهم حواء، وأنه لا فضل لشعب على شعب، ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه، متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتبعات، من غير استثناءات ولا امتيازات، وأن الإسلام عقد إخاء بينهم أقوى من إخاء النسب والعصب، وأنهم أمة واحدة لا تفرقها الحدود الإقليمية، ولا الفواصل السياسية والوضعية: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).

خامسًا: إصلاح السياسة، أو الحكم الدولي:
عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس، ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات: من الحق، والعدل، والوفاء بالعهود، والرحمة، والمواساة، والمحبة، واجتناب الرذائل: من الظلم، والغدر، ونقض العهود، والكذب، والخيانة، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل: كالرشوة، والربا، والتجارة بالدين والخرافات.

سادسًا: الإصلاح المالي:
عن طريق الدعوة إلى الاقتصاد، وحماية المال من التلف والضياع، ووجوب إنفاقه في وجوه البر، وأداء الحقوق الخاصة والعامة، والسعي المشروع.

سابعًا: الإصلاح النسائي:
عن طريق حماية المرأة، واحترامها، وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية، والدينية، والمدنية.

ثامنًا: الإصلاح الحربي:
عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة، لخير الإنسانية في مبدئها وغايتها، ووجوب التزام الرحمة فيها والوفاء بمعاهداتها.

تاسعًا: محاربة الاسترقاق:
عن طريق تحرير الرقيق الموجود بطرق شتى، منها الترغيب العظيم في تحرير الرقاب، وجعله كفارة للقتل، وللظهار، ولإفساد الصيام بطريقة فاحشة، ولليمين الحانثة، ولإيذاء المملوك باللطم أو الضرب.

عاشرًا: تحرير العقول والأفكار:
عن طريق منع الإكراه، والاضطهاد، والسيطرة الدينية القائمة على الاستبداد والغطرسة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (الغاشية: 21-22).
--------------------------------------------
الهوامش
439.     (3/355)، مادة: «قصد».
440.    المعجم الوسيط، (ص738)، مادة «قصد».
441.    هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام، ولد سنة (450هـ) من فقهاء الشافعية، له مصنفات في الفقه وأصوله والفلسفة، ولولا اشتغاله بالفلسفة والتصوف لكان له شأن أعظم مما كان . من مصنفاته:«إحياء علوم الدين»، و«المستصفى»، و«الوجيز»، و«الخلاصة». توفي سنة (505هـ). «انظر: وفيات الأعيان، (4/216-219). الأعلام، (7/22)».
442.    المستصفى من علم الأصول، (2/481).
443.    هو علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادي، الآمدي، من أصحاب القاضي أبي يعلى، ومن كبار فقهاء الحنابلة في عصره، له مؤلفات منها: «عمدة الحاضر»، و «كفاية المسافر»، توفي سنة (467هـ). «انظر: ذيل طبقات الحنابلة، (1/8-9)».
444.    الإحكام في أصول الأحكام، (3/271).
445.    هو إبراهيم بن موسي بن محمد اللخمي، الغرناطي، الأصولي، الحافظ ، المالكي، المشهور بالشاطبي، من تصانيفه: «الموافقات في أصول الفقه»، و«الاعتصام»، و«المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية». توفي سنة (790هـ). «انظر: الأعلام، (1/75). معجم المؤلفين، (1/118)».
446.    الموافقات في أصول الشريعة، (2/8).
447.    المصدر نفسه، (2/37).
448.    انظر: محاسن ومقاصد الإسلام، د. محمد أبو الفتح البيانوني، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، (عدد: 43)، (رمضان 1421 هـ)، (ص 234).
449.    انظر: المصدر نفسه، (ص 225 ).
450.    الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، (ص 107).
451.    جواهر القرآن، (ص23).
452.    هو أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي، الدمشقي، الشافعي، نزيل مصر. ولد بوادي البقاع اللبناني سنة (809هـ)، ومن مشايخه: ابن حجر العسقلاني، وابن الجزري، ومن أشهر مصنفاته: «نظم الدرر في تناسب الآي والسور»، و «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور». توفي سنة (885هـ) «انظر: بدائع الزهور، (3/169)».
453.    نظم الدرر في ترتيب الآيات والسور، (1/20-21).
454.    التحرير والتنوير، (17/246-247).
455.    جواهر القرآن، (ص28).
456.    انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم، د. الحسن حريفي، (1/173-177).
457.    انظر: كيف نتعامل مع القرآن العظيم، (ص 83-88). الوحي المحمدي، (ص108-116).
458.    الموافقات في أصول الشريعة، (2/455).
459.    تفسير ابن كثير، (6/448).
460.    انظر: التحرير والتنوير، (2/597).
461.    مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر بن عاشور، (ص 271).
462.    انظر: تفسير ابن كثير، (8/350).
463.     رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، (1/478)، (ح 686).
464.     التحرير والتنوير، (4/240).
465.     انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم، (1/186-190). الوحي المحمدي، (ص180-183).
466.     انظر: كيف نتعامل مع القرآن العظيم، (ص89-94). الوحي المحمدي، (ص173-177).
467.     انظر: المصدر نفسه، (ص108-111).
468.     انظر: الوحي المحمدي، (ص216).
469.     انظر: المصدر السابق، (ص112).
470.     هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة «المنار» وأحد رجال الإصلاح الإسلامي، من الكتاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. ولد في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) سنة (1282ه)، ونظم الشعر في صباه، وكتب في بعض الصحف. ومن أشهر آثاره: «تفسير القرآن الكريم»، و«الوحي المحمدي»، و «شبهات النصارى وحجج الإسلام». توفي بمصر سنة (1354ه). «انظر: الأعلام، (6/126».
471.     الوحي المحمدي، (ص217).
472.     مدارج السالكين، لابن القيم، (1/10-11).
473.     الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، (ص84).
474.     انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم، (1/192).
475.     المصدر السابق، (ص85).
476.     انظر: التحرير والتنوير، (12/182).
477.     هو عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، لمواقفه الجريئة مع الحكام، ولد ونشأ في دمشق سنة (577ه). تولى الخطابة والتدريس بزاوية الغزالي، ثم الخطابة بالجامع الأموي، توفي بالقاهرة سنة (660ه)، ومن كتبه: «قواعد الشريعة»، و «قواعد الأحكام في إصلاح الأنام». «انظر: الأعلام، (4/21».
478.     قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/17).
479.     انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، (2/322-323).
480.     انظر: مع كتاب الله، أحمد عبد الرحيم السايح، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، (عدد: 40)، (ربيع الأول1398ه)، (ص23-27).



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 8:09 pm

المبحث الثالث
عظمة التشريع القرآني.

وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: شمول التشريع القرآني.
المطلب الثاني: خلـود التشريع القرآني.
المطلب الثالث: عدالة التشريع القرآني.


تمهيد
المسلمون جميعًا على تباين أقطارهم، وتباعد ديارهم، يرجعون إلى القرآن العظيم، لأنه المنهاج الأمثل، الذي ارتضاه الله تعالى للإنسانية، وقد اشتمل القرآن والسنة، على العقائد، والعبادات والمعاملات، والحقوق الشخصية، وغيرها.

وثروة القرآن العظيم لا تقف عند حد الاعتقاد الصحيح وتوحيد الخالق جل جلاله، بل من جملة هذه الثروة ما يترتب على التوحيد من: تهذيب السلوك، وتربية العقل والوجدان، وتصحيح المعاملات، وتطبيق قواعد العدل.

وقد احتوى القرآن الكريم، على أنواع الأعمال التي كلف بها المسلمون: كالعبادات المحضة، والمالية، والبدنية، والاجتماعية، وقد اعتبرت هذه العبادات -بعد الإيمان بالله تعالى- أساس الإسلام.

واشتمل القرآن العظيم على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية (6236) احتوت -جملة وتفصيلًا- على العبادات والعقائد والتكاليف وأصول الأحكام، والمعاملات، وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب، وسياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، وكل ما يتصل ببناء المجتمع، ورسم شخصية المسلم الكامل خلقًا وأدبًا وعلمًا.

ولقد جاء القرآن العظيم بتشريعات عادلة، احتوت أحكامًا كلية، ومبادئ عامة، في كل فروع التشريع، وصدق الله العظيم القائل: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) (الإسراء: 12).

والقائل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89).

إن القرآن العظيم- بحق- منهاج كامل وشامل، جاء بكليات الشريعة والأصول، في العبادات، والمعاملات، والأسرة، والميراث، والجنايات، والحدود، وأنظمة الحكم.

ومن آيات الاقتصاد، والمعاملات المدنية، قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (النساء: 5).

ومن آيات الأحوال الشخصية، قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 233).

ومن آيات الميراث، قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء: 7).

ومن آيات الجنايات، قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45).

ومن آيات الحدود، قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4).

ومن آيات المعاهدات، قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال:61).

وقوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58).

ومن آيات الدفاع العام، قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).

ومن آيات الحكم والقضاء، قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 58-59).

وأما من آيات الأخلاق والأدب والسلوك، فهي تملأ القرآن الكريم، وتستطيع أن تحس بها في كل آية من آيات القرآن.

وفي السياسة دعا القرآن العظيم إلى الشورى، في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).

ودعا كذلك إلى احترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة.

وفي النظام الأخلاقي دعا إلى خلوص النية، والتمسك بقيم الخير والحق، والتزام الآداب الفردية والجماعية، التي تسير بالإنسانية إلى الكمال والتقدم.

وفي النظام الاجتماعي دعا إلى الأسرة المتماسكة، القائمة على ركائز المودة والرحمة، والإخلاص، والاحترام، والتعاون، والتعارف، وقيام كل راع بمسؤوليته.

وفي النظام الاقتصادي دعا إلى تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية، واحترام الملكية الفردية.

وفي النظام التشريعي قام على أصول كلية واسعة، وقد تمثلت هذه الناحية في ثروة من الفقه الإسلامي (481).

والحق أن بيان القرآن وتشريعاته لا ينفصل بعضها عن بعض، وكما أن القرآن العظيم معجزة بيانية، فهو بحق معجزة تشريعية كذلك.

تميُّز التشريع القرآني:
اقتضت حكمة الله ومشيئته أن ينزل القرآن العظيم، وقد مر على القانون الروماني مدة ثلاثة عشر قرنًا، وهذا القانون كان مرجع البلاد المتحضرة آنذاك، وقد بلغ من الإصلاح والتهذيب ما بلغ، فكان نتيجة إصلاحات لكبار الفلاسفة، ورجال العلم، والقانون، والاجتماع، فجاءت معجزة القرآن التشريعية تتحدى القوانين والمقننين، والفلسفة والفلاسفة، كما تحدث -من قبل- اللغويين.

وسيجد أي باحث منصف، البون الشاسع بين تشريعات القرآن العظيم وبين غيره من القوانين، ومن حيث سموها وشمولها، وما فيها من فطرة إنسانية، وخلو من السلبيات، والثغرات، والمآخذ (482).

وإن ما اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع، وإقامة العلاقات بين آحاده على دعائم من المودة والرحمة والعدالة، لم يسبق به في شريعة من الشرائع الأرضية، وإذا وازنا بين ما جاء في القرآن، وبين ما جاءت به قوانين اليونان والرومان، وما قام به الإصلاحيون للقوانين والنظم، -مع أنه لا يقارن حق بباطل- نجد أن هذه الموازنة فيها خروج عن التقدير المنطقي للأمور (483).

وإذا تأملنا أي قاعدة من القواعد التشريعية، وأي باب من أبواب الفقه القرآني، نجد مصداقية أسبقية القرآن العظيم، وسمو تشريعاته، ذلك لأن الله تعالى يقول: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء: 105).

أي أن القرآن هو حقًا من عند الله، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82).

ومعنى قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) كما هو، أي كل ما في القرآن من حقائق، وتشريعات، وأخبار، حق لا يتطرق إليه باطل، وهو في أعلى رتب الحق لا يجارى في قضاياه، ولا يدانيه كتاب آخر في أحكامه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 41-42) (484).

«ولهذا السبب فالقرآن له أعلى حظوة لدى المسلمين، وهو ليس مجرد كتاب صلوات، أو أدعية نبوية، أو غذاء للروح، أو تسابيح روحانية فحسب، بل إنه أيضًا القانون السياسي، وكنز العلوم، ومرآة الأجيال، إنه سلوى الحاضر، وأمل المستقبل» (485).

وسيكون الحديث عن أبرز مظاهر العظمة في التشريع القرآني من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول شمول التشريع القرآني:
إن من خصائص التشريع القرآني تميزه بالشمول، وتميزه بالكمال، وقد دل على كمال التشريع القرآني قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).

ومعنى الآية كما فسرها الطبري -رحمه الله- بقوله: (486)
«اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهي، وحلالي وحرامي وتنزيلي من ذلك منه، بوحي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد اليوم».

وهذا الإكمال يتلازم مع الشمول، بمعنى شمول التشريع القرآني لكل ما يحتاجه الناس، فلا تخلو حادثة عن حكم الشريعة في جميع الأحوال والأعصار و الأقطار، فالمعاني التي تضمنها التشريع القرآني تعم جميع الحوادث وتسعها إلى يوم الدين، وهذا خاص بهذا التشريع، فلم يسبق لشريعة أخرى أن استغنت كل الاستغناء عن غيرها، كما هو الحال في التشريع القرآني.

إن أكبر الشرائع قبل الإسلام -وهي شريعة موسى عليه السلام- لم تتوجه لغير بني إسرائيل، ولم تدع العموم والشمول اللذين ميز الله تعالى بهما التشريع القرآني (487).

وهذا التشريع القرآني شامل كذلك لجميع المصالح الدنيوية والأخروية، والفردية والجماعية، فهو تشريع لا يعرف الدنيا بدون الآخرة، ولا الآخرة
 
بدون الدنيا، ولا يعرف الجماعة بدون الفرد، ولا الفرد بدون الجماعة، فالفرد جزء وعضو، والجماعة كل وجسد، وليس للجسد دون الروح، ولا للعقل مجردًا عن العاطفة، إنه تشريع كامل وشامل وعظيم، يسلك مسلك الموازنة بين المصالح الدينية والمنافع الدنيوية.

وقد جاء في تقرير ذلك- رعاية مصالح الدنيا والآخرة- قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77).

قال قتادة (488):
معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك (489).

ولذلك نلحظ أن النصوص التشريعية لم ترد مجرد أوامر جافة، بل خاطبت في الإنسان قلبه ولبه وأحاسيسه، وحركت كوامن الإيمان فيه من مثل: إن كنتم مؤمنين، لعلكم تتقون، لعلكم تذكرون، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر... إلخ.

فمثل هذا الخطاب يذكي جذوة الإيمان في نفس المسلم، فيكون أدعى للاستجابة وأقرب للالتزام والانضباط.

وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي لا ترتكز على دعائم من الإيمان في جوهرها، ولا تراعي أحاسيس الإنسان ومشاعره في أسلوبها، فهي مجرد أوامر ونواه جافة، تكتفي بعلاج الظاهر، والحديث عن الدنيا فقط، على ضعف في العلاج، وقصور في الحديث، وركاكة في الأسلوب (490).

والسبب الرئيس في حرص التشريع القرآني على حصول التوازن بين مصلحة الدنيا ومصلحة الآخرة، أنه وضع لمصالح العباد، وواضعه هو أحكم الحاكمين، فهو أعلم بمصالح خلقه وأحوالهم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير) (الملك:14).

وأما التشريعات الوضعية لا تهتم إلا بمصالح الدنيا، مع عجزها الواضح عن الموازنة بين مصالح الأفراد والجماعة (491).

ونخرج مما سبق بأن عموم التشريع القرآني وشموله يقتضي ما يلي:
أولًا: عمومه الزماني:
فهو تشريع واجب الاتباع، من حين ما بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، لا يجوز أبدًا أن يزاحمه أو ينافسه تشريع، أو مذهب، أو نظام.

ثانيًا: عمومه المكاني:
لأنه شريعة الأرض دون منافس أو مزاحم، فهو تشريع للأرض بسهولها وجبالها ووديانها وبحارها وأنهارها وأعماقها وأجوائها، بل هو تشريع للكون بكل أجرامه، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم: 93).

ثالثًا: عمومه البشري:
فهو تشريع واجب الإتباع على كل البشر على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وحتى الجن، فهو تشريع لكل أحد كيفما وجد، وأينما كان، مكث في الأرض، أو صعد في السماء، أو نزل الأجرام الأخرى -إن استطاع إلى ذلك سبيلًا- فهو تشريع له، ولا يجوز له أن ينفك عنه، أو يتفلت منه، أو يفر، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف: 158).

رابعًا: عمومه وشموله الموضوعي:
فهو لكل شيء، ولكل شأن من شؤون الأحياء والأشياء، وحتى الأموات راعى التشريع القرآني ما لهم من حقوق وحرمة بعد موتهم، واعتنى بالحيوانات رفقًا وعناية وعطفًا، وبالدولة والمجتمعات والكون والكائنات، قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38) (492).

ولذلك عد العلماء أن من ينكر شيئًا من عموم التشريع القرآني وشموله فهو كافر مرتد عن الإسلام، فمن يرى أن أحدًا -مهما كان- يسعه الخروج منه، فردًا أو جماعة أو دولة فهو كافر، أو زعم أن هذا التشريع القرآني خاص بجنس من الأجناس أو عصر من العصور، وأنه لا يعنى بتنظيم شؤون الناس في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، من اعتقد ذلك فهو مرتد عن الإسلام يستتاب فإن تاب وإلا قتل (493).
 
المطلب الثاني خلود التشريع القرآني:
هذا التشريع القرآني العظيم يمتاز بأنه خالد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، فلا يتطرق إليه تعديل أو تبديل، ومع أننا نلحظ أن التشريع القرآني مرن في أحكامه، لكنه راسخ في أصوله، فهو يشبه شجرة ثابتة الأصول، متحركة الفروع.

ومما يدل على خلود التشريع القرآني، وديمومته، واستمراره:
1- قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) )الصف: 9)، فهذا نص مطلق، غير مقيد بزمن.

2- قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) (494).

3- قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ) (الحج: 52).

هذه الآية الكريمة استدل بها الشاطبي -رحمه الله- على خلود التشريع القرآني وحفظه في مجمله، سواء كان كتابًا أو سُنَّة، فقال (495): «فأخبر (الله تعالى) على أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر؛ فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه، وإليه ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد به بعضًا، ويشد بعضه بعضًا».

وهذا لا يتحقق إلا بأن يكون التشريع القرآني محفوظًا إلى يوم القيامة، وإلا فإنه لو تغير وتبدل لا نقطع التكليف به.

ومن فضل الله تعالى أنه ضمن حفظ هذا التشريع القرآني، لا عن أمر قدري بحت مقطوع الصلة بالأسباب، ولكن عن طريق تقييض رجال من هذه الأمة في كل باب من أبواب علومها، ألقى في قلوبهم حبها، والذود عنها.

يقول الشاطبي -رحمه الله- مفصلًا هذا المعنى: (496)
«أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد، لأخرجه الآلاف من الأطفال الأصاغر فضلًا عن الأكبار، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالًا حفظه على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة في لسان العرب، حتى قرروا لغات الشريعة في القرآن والحديث، وهو الباب الأول من أبواب الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب.

-ثم قيض رجالًا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق رفعًا ونصبًا وجرًا وجزمًا، ... واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- في خطابه.

- ثم قيَّض الحقُّ سبحانه رجالًا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ...

- وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة من البدعة ناسًا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابًا وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز أتباع الحق على أتباع الهوى.

- وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيًا عن الصحابة وعلموه من بعدهم حرصًا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف حتى يتوافق الجميع على شيء واحد، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس.

-ثم قيض الله تعالى أناسًا يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه، وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، فاستنبطوا أحكامًا فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من معناها، وتارة من علة الحكم، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك.

وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه، أو احتيج في إيضاحها إليه، وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة».

وإن المتأمل في أمر التشريع القرآني، يجد أن له كلاءتين بهما يحفظ، الأولى: كلاءة من الله تعالى مباشرة، وهي ما تكفل به من حفظ الكتاب، والأخرى: كلاءة ذاتية في هذا التشريع عندما يطبق، ففيه تكمن عوامل الخلود والبقاء، إذا استقام عليه أهله، ولم يضيعوا فرائضه وحدوده، فكذلك فإن الراعي والرعية يحفظ الله بهم هذا التشريع إذا قاموا بواجبهم حياله، ومعروف أن حفظ الدين من ضمن الضروريات المأمور بحفظها، وطريق ذلك إقامة الحدود والشرائع والشعائر التي تحفظ الدين، مثل الصلاة ومعاقبة تاركها، وإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفريضة الجهاد، وإقامة حد الردة، والقيام بمسؤولية الدعوة إلى الله تعالى (497).

وخلود التشريع القرآني، وجعله المنهاج الصحيح الوحيد للحياة البشرية يرجع لأمور عدة منها:
أولًا:
أن هذا التشريع قائم على العدل المطلق، لأن الذي خلق الكون- سبحانه وتعالى- يعلم حق العلم ما يحقق العدل المطلق، وكيف يتحقق.

ثانيًا:
أن شرع الله تعالى مبرأ من الهوى والميل، كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتوفر في أي قانون من صنع الإنسان ذي الشهوات والميل والضعف، سواء كان واضعه فردًا أو طبقة، أو أمة أو جيلًا من أجيال البشر.

ثالثًا:
أن التشريع القرآني متناسق مع ناموس الكون كله، لأن الذي وضعه هو خالق هذا الكون، فإذا شرع للإنسان شرع له باعتباره عنصرًا كونيًا، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه، ومن هنا يقع التناسق بين الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه.

رابعًا:
أن التشريع القرآني هو التشريع الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان، ففي كل منهج غير المنهج الإسلامي يتخذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، أما في المنهج الإسلامي فإنهم يخرجون من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده لا شريك له.

خامسًا:
أنه منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان، وبطبيعة النواميس التي تحكمه، ومن ثم لا يقع ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، إنما هو توازن واعتدال، وهو أمر لا يتوفر أبدًا لمنهج صنعه الإنسان، الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، ولا يعلم إلا الجانب المكشوف من الكون، والإنسان، والحياة، في فترة زمنية معينة.

سادسًا:
أنه المنهج الذي يوثق عرى الوحدة بين البشر جميعًا، إلى الحد الذي تتلاشى فيه الفوارق العنصرية والطبقية، فيصبح المجتمع كالفرد الواحد، تحركه إرادة واحدة، وتديره روح واحدة، تدفعه إلى غاية مشتركة، كمثل أعضاء الجسد الواحد، يقول الله تعالى: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103) (498).



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 8:12 pm

المطلب الثالث عدالة التشريع القرآني:
الناس أمام حكم الله تعالى سواسية، فشريعة القرآن تنظر إليهم من حيث جوهرهم وأصلهم نظرة واحدة، ومن ثم فهي تعدل فيهم بعد أن تساوي بينهم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58).

لقد أمر الله تعالى -في هذه الآية الكريمة- بالعدل بين جنس الناس، لا بين أمة منهم دون أمة، أو جنس دون جنس، أو لون غير لون.

ومعنى العدل هنا: هو إعطاء من يستحق ما يستحق، ورفع الاعتداء والظلم عن المظلوم، وتدبير أمور الناس بما فيه صلاحهم (499).

والعدالة من أبرز سمات التشريع القرآني، وهي ميزان الاجتماع فيه، و بها يقوم بناء الجماعة، وكل تنسيق اجتماعي -صغيرًا كان أو كبيرًا- لا يقوم على العدالة فهو منهار، مهما تكن قوة التنظيم فيه، لأنها دعامة وأساس للنظام الصالح، ولذلك جاء الأمر بها في أجمع آية لمعاني القرآن العظيم، وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90).

قال القرطبي (500) -رحمه الله-:
«هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع» (501).

وللعدل في التشريع القرآني معنى أبعد وأعمق منه في غيره، ذلك لأن له أبعادًا إنسانية راقية، تعرف من مرادفات العدل في لغة العرب، وفي استعمال القرآن، فالعدل يعبر عنه بالقسط، والقسط هو توفية النصيب بمقتضى الإنصاف (502).

والمنصف يعدل ولو كان العدل ليس في صالحه، فعندما نقول: رجل منصف، أي: يعدل ولو من نفسه (503).

القرآن يحرِّض على العدل:
صرح القرآن العظيم بمحبة الله تعالى لعباده المقسطين في أكثر من موضع، فقال الله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42).

وقال تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).

وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
 
ويعبر القرآن العظيم عن العدل -أحيانًا- بالميزان، كما في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7)، والمقصود به العدل (504).

وقوله تعالى: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 8-9).

أي كما خلق السماوات والأرض بالحق والعدل اعدلوا، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل (505).

والمتأمل في سياق الآيات السابقة يجد أنها تتحدث عن نعمة خلق الإنسان، ونعمة الوحي، وعبودية الكون، وقيامه على العدل والميزان، ثم يأتي الأمر لنا بالعدل والميزان والإنصاف والقسط، كما قال تعالى في مطلع السورة: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)
(الرحمن: 1-9).

إذًا فللعدل في القرآن العظيم بعد شعوري، لا ينبغي أن يغفل عنه، فليس هو سردًا لمواد وأرقام تقنن ثم تجعل في سطور، ثم تنظم في دواوين أو دفاتر، ثم توضع في الخزائن، أو على الأرفف! كلا وربي، إن العدل في التشريع القرآني له قيمة حية، بل إن له بعدًا كونيًا، كما في سياق الآيات السابقة من سورة الرحمن (506).

ولقد أعلى القرآن العظيم من شأن العدل، حتى جعله قرين التوحيد، فقال سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18).

ففي هذه الآية الكريمة شهادة من الله تعالى، ومن ملائكته الكرام، ومن الأنبياء وأولي العلم من المؤمنين بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأنه تعالى قائم بتدبير مخلوقاته بالعدل (507).

وفي الوقت الذي اقترن فيه العدل بالتوحيد، بلغ الظلم مبلغ أن يكون قرين الشرك، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).

فحرمه الله تعالى، وأمر بمنعه عن جنس الإنسان، ولو كان كافرًا.

فلا شيء أحب إلى الله تعالى من العدل، ولا شيء أبغض إليه تعالى من الظلم، ولهذا حرمه على نفسه، وبين عباده، كما جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي (508) وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» (509).

فالله تعالى منع نفسه من الظلم لعباده، كما قال -عز وجل-: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (ق: 29).


وقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 108).

وقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) (غافر: 31).

وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) (يونس: 44).

وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء: 40).

ومع أنهم عبيده لا يسأل عما يفعله بهم، إلا أنه تعالى ينفي ظلمهم.

فالذي حرَّم الظلم على نفسه، والذي لا يظلم الناس شيئًا، ولو كان مثقال ذرة، لن يكون ما شرعه، وما حكم به إلا عين العدل والإنصاف، وما على العباد -إذا أرادوا الفلاح في الدنيا والآخرة- إلا أن يحكموا به.

ويقابل هذا التحريم للظلم، أمر بالعدل، فعليه أقام الله تعالى السماوات والأرض، ومن أجله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى: 17).

وقال أيضًا: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).

فالحق والميزان هما العدل والإنصاف، وهما القسط الذي يدعو إليه الكتاب والميزان (510).

مجالات العدل:
أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أمرًا صريحًا بالعدل، كما في قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: 15).

وكذلك أمر المؤمنين بالعدل، لأنه أقرب الأمور وألصقها بالتقوى، كما في قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

بل أمر المؤمنين بالعدل الذي يعم مظاهر حياتهم كلها:
فقد أمرهم بالعدل في الأمور القولية، فقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152).

وأمرهم بالعدل في الأمور الفعلية، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: 135).

وأمرهم بالعدل في الأمور العائلية، فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35).

وأمرهم بالعدل في الأمور المالية، فقال: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) (البقرة: 282).

وقال أيضًا: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) (البقرة: 282).

وأمرهم بالعدل في الأمور القضائية، فقال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (الطلاق: 2).

وأمرهم بالعدل في الأمور التعبدية، فقال: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة: 95).

وأمرهم بالعدل في الأمور النفسية، والمعاملات القلبية، فقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

وأمرهم بالعدل في الأمور السياسية والحكمية، فقال: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58).

وأمرهم بالعدل مع الأعداء والأغيار، فقال: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193).

وأمرهم بالعدل مع المسلمين الأخيار والفجار، فقال: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).

ولهذا كله لا نعجب عندما نجد أن العدل وصية من وصايا الله إلى العباد، قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 152) (511).

ووجوه العدل في التشريع القرآني كثيرة ومتعددة، يدركها من يمعن النظر في أحكامه، ويتدبرها بتجرد وإخلاص، فمثلًا: أحكامه الخاصة بالأسرة وتكوينها وتنظيمها، وحقوق الأفراد وواجباتهم في الأسرة لا تماثلها أحكام مما تواضع عليه البشر واعتادوه، فالأب له حقوقه وعليه التزاماته، والأم كذلك، والأبناء المكلفون كذلك، والقاعدة نفسها نجدها في التعامل بين الزوجين، المتمثلة في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).

وأحكامه الخاصة بالميراث وتوزيعه على الورثة، تعتبر كذلك من العدالة بمكان، فللأب نصيبه وللأم نصيبها، وللزوج نصيبه وللزوجة نصيبها، بحسب الحال من وجود أولاد أو عدم وجود أولاد، ووجود إخوة أو عدم وجود إخوة، وللأبناء نصيبهم وللبنات، وللإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، وهكذا تتدرج الحقوق حتى تصل إلى أصحابها مهما بعدوا.

وأما في مجال العقوبات:
فعندما نلحظ أن القصاص هو العقوبة الرئيسة لأكثر الجرائم الشخصية التي تقع على الأشخاص مباشرة، فإن هذا يعتبر منتهى العدالة وغاية الإنصاف، وكذلك الحدود فإنها عقوبات عادلة إذا أدركنا فداحة الجرائم التي فرضت من أجلها، والله تعالى يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40).

ويقول: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل: 126).

وبالجملة، فما دمنا نسلم ونعتقد بأن أحكام التشريع القرآني منزلة من عند الله تعالى، ويعتبر العدل صفة من صفاته، فلابد أن تكون هذه الأحكام عادلة متقنة، ومن ثم نخرج بنتيجة حتمية وهي: أن العدالة صفة رئيسة من صفات التشريع القرآني (512).

والعدل في التشريع القرآني ليس مجرد مساواة شكلية في الدنيا فقط، بل إنه ربط بين دنيا الناس وأخراهم، فله ارتباط وثيق بالإيمان- وهذا مما يميزه عن النظم الوضعية- ولهذا قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) (الشورى: 15).

قال أبو السعود -رحمه الله- في معناها: (513)
« (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في تبليغ الشرائع والأحكام، وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام، ... (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي خالقنا جميعًا ومتولي أمورنا، (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) لا تتجاوزكم آثارها فنستفيد بحسناتكم أو نتضرر لسيئاتكم».

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالعدل في الدنيا حتى يجيء يوم الفصل فيتولّى الله تعالى العدل في الحكم يوم يُرجع الأمر كله إليه.

مقارنة:
لقد تميَّز مفهوم العدل في التشريع القرآني عنه في النظم الوضعية البشرية، فهذه القوانين لا تعرف من معنى العدل إلا جانبه الظاهر الذي يدركه العقل، كالوفاء في الميزان، وعدم أكل أموال الناس في البيع والشراء، وعدم الغش والاحتكار ونحو ذلك، لكن جانبًا آخر من العدل غير ظاهر، ولا يمكن التوصل إليه إلا من خلال شريعة معصومة، شريعة تخاطب الضمائر والقلوب بالعدل، لأن مصدرها من الله اللطيف الخبير، الذي يعلم خبايا الأنفس وما تخفي الصدور.

فهناك أشكال وألوان من العدالة لا يمكن لهذه القوانين الوضعية العمياء البكماء الصمَّاء أن تبصر الناس أو تخاطبهم بها، فكيف تضمن العدل بين الزوج وزوجته، أو الوالدين وأولادهما، أو الأولاد ووالديهم وهكذا...

وما هي طريقتها في الحفاظ على العدل بين البائع والمشتري، والتاجر والمستهلك، والعامل وصاحب العمل في الأمور المتعلقة بالقلوب والضمائر؟

إن هذه القوانين الوضعية المفلسة ليس فيها بنود أو ذكر لخشية الله تعالى، وللورع أو اتقاء الشبهات أو محاسبة ذاتية للنفس، أو الرجاء في ثواب الجنة والخوف من عذاب النار، ليس فيها إلا ما يتعلق بالصور الفجة من المظالم، فهناك مثلًا أنواع من المعاملات المحرمة في التشريع القرآني لها أحكام متفرعة من الفقه الشرعي، وليس لها ذكر البتة فيما يسمى «بالفقه القانوني»!

ولذلك لم يكن أمر الله تعالى لعباده بالعدل فقط، بل أمرهم -جل جلاله- بالمبالغة في إقامة العدل، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: 135).

«قوله: (قَوَّامِينَ) صيغة مبالغة: أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل» (514).

ولقد حذرهم الله تعالى من ترك العدل لعوارض البغضاء، في قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) )المائدة: 8 (.

وقد نبه الزمخشري -رحمه الله- على قياس الأولى من هذه الآية فقال: (515)
«وفيه تنبه عظيم على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين، الذين هم أولياؤه وأحباؤه».

 
إن أبرز سمات القوانين الوضعية هو الظلم والإجحاف، ومن مظاهر الظلم المقنن في هذه النظم ما يأتي:
لقد ارتكبت مظالم شتى -خلال تاريخ الإنسان- باسم العدالة، فسنَّت القوانين والتشريعات نائية بالبشر في شتى أودية المهالك، زاعمة أنها تحقق العدل، فتقرر العقوبات الكبيرة على للذنب الحقير، وأحيانًا يحكم بالعقوبة على غير مرتكب الجريمة.

ولقد حكى التاريخ عن السُّومريين الذين سكنوا العراق قديمًا، أنهم كانوا يلقون المرأة في النهر، إذا قالت لزوجها: لست زوجي، وإذا قال المُتَبَنَى لمن تَبَنَّاه: لست أبي، فمن حقه أن يحلق رأس المُتَبَنَى ويُقيده في الأغلال إلى أن يبيعه!

وعند الأكاديين -الذين جاؤوا بعد السومريين- كان إذا أخطأ الطبيب في وصف العلاج قطعت يده، وإذا تسبَّب الطبيب في وفاة امرأة يولدها قتلت ابنته، فلا تقع العقوبة على الطبيب، وإذا قتل رجل عبدًا من العبيد، أخذ من عبيده واحداً فقُتِلَ، وإذا استدان رجل مالًا ثم عجز عن أدائه، كان من حق الدائن أن يستعبد ابن المَدين أو ابنته أو زوجته! (516).

ولقد كان في شريعة جنكيز خان (517):
إن من تعمَّد الكذب يُقتل، ومن تجسَّس يُقتل، ومن سَحَرَ يُقتل، ومن بال في الماء الرَّاكد يُقتل، أو انغمس فيه يقتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما يُقتل، ومن أطعم أسيرًا أو كساه بغير إذن أهله يُقتل، ومن وجد هاربًا ولم يردَّه يُقتل، ومن رمى إلى أحد شيئًا من المأكول قتل، بل يتناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحدًا فليأكل منه أولًا، ومن أكل ولم يُطعم من عنده يُقتل، ومن ذبح حيوانًا ذُبح مثله، بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولًا!  (518).

ومن أجل ذلك نجد أن الشرائع التي تولد ظالمة، أو يكتشف الناس بعد حين أنها ظالمة، فإنها تتسم بعدم الاستقرار، فسمتها التغيير الدائم في حين تتسم أحكام التشريع القرآني في أصولها بالثبات الدائم.

وقد كانت دولة مثل فرنسا -قبل ثورتها الشهيرة- تطبق ما يسمى ب «قانون الإقطاع»، وهذا القانون -بشهادة علماء القانون- ظالم وجائر.

وكذلك كان قانون العقوبات المُطبق في إنجلترا -قبل مائة عام- جائرًا، كما أكد علماء القانون الغربيون، إذ كان يقرر عقوبة الإعدام في مئات الجرائم! (519).

ومن المعروف أن عددًا من الدول الغربية ألغت -في السنوات الأخيرة- عقوبة الإعدام لكثير من الجرائم، بحجة أنها عقوبة قاسية وجائرة، ومعنى ذلك أنهم كانوا يتحاكمون فيما بينهم بالظلم والعدوان، قبل إلغاء هذا القانون!

شهادة الخصوم:
شهد غير المسلمين بعدالة التشريع القرآني، والحق ما شهدت به الأعداء، فمنذ عهد النبوة الأزهر كان كفار بني إسرائيل ينشدون العدالة عند نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، بعد أن أيسوا من تحصيلها عند قضائهم وحكامهم، وهناك أكثر من حادثة مشهورة في هذا الشأن، ولقد لفتت عدالة التشريع القرآني أنظار كثير من مفكرين نصارى المعاصرين، فلم يخفوا إعجابهم بهذا التشريع القائم على العدالة والمساواة.

فمن ذلك:
1- يقول المؤرخ الشهير «غوستاف لوبون» (520):
«الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم» (521):

2- ويقول «روبرستون» (522):
«إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغير لدينهم، وروح التسامح والعدل نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام -نشرًا لدينهم- تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية ».

3- ويقول«ميشود» (523):
«إن القرآن الذي أمر بالجهاد، متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، لقد أعفى البطارقة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم محمد -صلى الله عليه وسلم- قتل الرهبان، لعكوفهم على العبادات ولم يمس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- النصارى بسوء حين فتح بيت المقدس، في حين ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود بلا رحمة، وقتما دخلوها».

4- وهناك شهادة أخرى أدلى بها «غوستاف» عن المساواة في التشريع الإسلامي عبر عنها بقوله (524):
«العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا لنظمهم السياسية، وإن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوروبا -قولًا لا فعلًا- راسخ في طبائع الشرق رسوخًا تاماً، وإنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف ثورات في الغرب ولا يزال يؤدي، وإنه ليس من الصعب أن ترى في الشرق خادمًا يصبح زوجًا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان».

5- ويُبدي «د. ول ديروانت» نفس الدهشة للدرجة التي وصل إليها مفهوم المساواة في التشريع القرآني، فيقول (525):
«كان يسمح للعبيد أن يتزوجوا، وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدرًا كافيًا من النباهة، وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية، والسياسية في العالم الإٍسلامي، من كثرة من أصبحوا منهم ملوكًا وأمراء، أمثال المماليك في مصر».
---------------------------------------
الهوامش
481.     انظر: إعجاز القرآن الكريم، أ. د. فضل حسن عباس، وسناء فضل عباس، (ص291-292).
482.     انظر: المعجزة الكبرى، محمد أبو زهرة، (ص385).
483.     انظر: المصدر السابق، (ص296).
484.     دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية، د. محمد عبد الله دراز، (ص31).
485.     انظر: الطبري، (6/79).
486.     انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، (1/376).
487.     هو التابعي الجليل (أبو الخطاب) قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز الدوسي، البصري، الضرير الأكمه، المفسر، كان رأسًا في العربية واللغة وأيام العرب والنسب، كان أحفظ الناس، لا يسمع شيئًا إلا حفظه، وله تفسير، توفي بواسط في الطاعون سنة (117ه). «انظر: تذكرة الحفاظ، (1/112). طبقات المفسرين، (2/47».
488.     انظر: تفسير القرطبي، (3/326).
489.     انظر: من مزايا التشريع الإسلامي، محمد بن ناصر السحيباني، مجلة الجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، (عدد: 61)، (محرم1404ه)، (ص74).
490.     انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، (ص46-47).
491.     انظر: من مزايا التشريع الإسلامي، (ص 70-73).
492.     انظر: البرهان والدليل على كفر من حكم بغير التنزيل، أحمد بن ناصر المعمر، (ص 48).
493.     انظر: المصدر السابق، (ص 75).
494.     الموافقات، (2/40).
495.     المصدر نفسه، (2/41-42).
496.     انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، (1/369).
497.     انظر: القرآن شريعة المجتمع، د. عارف خليل محمد أبو عيد، (ص35-37).
498.     انظر: التحرير والتنوير، (4/162).
499.     هو ابو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي، الأنصاري، الخزرجي، المالكي، من العلماء الورعين الزاهدين في الدنيا المشغولين بالآخرة. كتابه في التفسير: «جامع أحكام القرآن» من أجل التفاسير وأعظمها نفعًا، ومن كتبه المشهورة: «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة». توفي سنة (671ه). «انظر: طبقات المفسرين، (2/69».
500.     الجامع لأحكام القرآن، (5/285).
501.     انظر: المفردات في غريب القرآن، (ص403)، مادة: «قسط».
502.     انظر: مختار الصحاح، (ص312)، مادة: «ن ص ف».
503.     انظر: تفسير ابن كثير، (7/495).
504.     انظر: المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
505.     انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، (1/404-406).
506.     انظر: تفسير الجلالين، (ص67).
507.     (إني حرمت الظلم على نفسي) قال العلماء: معناه تقدست عنه وتعاليت. وأصل التحريم في اللغة المنع. فسمي تقدسه عن الظلم تحريمًا، لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء. «انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (16/348».
508.     رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، (4/1994) (ح2577).
509.     انظر: أضواء البيان، (7/64).
510.     انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، (1/407-411).
511.     انظر: من مزايا التشريع الإسلامي، (ص69-70).
512.     تفسير أبي السعود، (8/27).
513.     فتح القدير، (1/79).
514.     الكشاف، (1/647).
515.     انظر: خصائص الشريعة الإسلامية، د. عمر بن سليمان الأشقر، (ص70- 71).
516.     جنكيز خان: قائد مغولي اسمه الأصلي «تيموجين»»خلف أباه «بقوصاي» رئيسًا للتحالف المغولي. ذكر ابن كثير أن ابتداء حكمه سنة (599ه)، ووفاته كانت سنة _624ه)، وهو والد ملوك التتار، وينسبون إليه. «انظر: البداية والنهاية، (13/117). الموسوعة العربية الميسرة، (ص650».
517.     انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 128).
518.     انظر: المصدر السابق، (ص74-75).
519.     غوستاف لوبون: ولد عام (1841م)، وهو طبيب، ومؤرخ فرنسي، عني بالحضارات الشرقية. من آثاره: (حضارة العرب)، و (الحضارة المصرية)، و (حضارة العرب في الأندلس). «انظر: قالوا عن الإسلام، (ص86). حضارة العرب، (ص431-432».
520.     حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، (ص605).
521.     المصدر نفسه، (ص127).
522.     المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
523.     المصدر نفسه، (ص391).
524.     قصة الحضارة، د.ول ديورانت، ترجمة: زكي نجيب محمود، (3/112-113). وانظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، (1/415، 417، 419، 422-423).
525.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، محمد خير العدوي، (ص 7-8).



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 8:27 pm

المبحث الرابع
عظمة قصص القرآن.

وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف "القصص" لغة واصطلاحًا.
المطلب الثاني: مظاهر العظمة في قصص القرآن.
المطلب الثالث: عظمة مقاصد قصص القرآن.


تمهيد
القصص منهج رباني مبارك، ويعد خلاصة لتجارب الأمم السابقة -على مر التاريخ- تمخّضت عن بيان سنن اله تعالى في الأمم، ومدى تحقق هذه السنن في كل مرة تتوفر فيها أسبابها وشروطها في أي عصر من العصور أو أمة من الأمم.

وهذا القصص القرآني المبارك واقع عاشه أصحابه كما وصف تمامًا في القرآن العظيم، فهو محل تدبر وتفكر واعتبار في مصائر هذه الأمم ومسيراتها، وما أصابها من عزة ونصر وبركة نتيجة الإيمان والطاعة لله، أو ما حلّ بها من ذل وإنكسار وضنك العيش حين تنكبت الطريق السوي، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).

ومن عظيم فضل الله تعالى على هذه الأمة المحمدية أن زوى لها هذه الخلاصات في كتابه العظيم فحفظت بذلك من الضياع أو التحريف، فلم تمتد إليه يد غادر فتزور أو تغير، ولا يد خائن فتسرق أو تخفي-كما هو الشأن في التوراة والإنجيل المحرفين- فهذا القصص الحق محفوظ ما دامت على الأرض حياة تنبض أو شمس تشرق وتغيب، تصديقًا لقول الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

وبقيت هذه الخلاصات بذلك بين أجيال الأمة غضّة حية تمدهم بأسباب النجاح، وأصول التعامل مع أنفسهم، والأمم من حولهم، وتجنبهم طريق الخيبة أو الوقوع في مكائد ومصائد شياطين الجن والإنس.

وهذا غيض من فيض في فوائد القصص القرآني، وفعله في حياة الناس وأثره على تقدمهم أو تأخرهم، فضلًا عمّا فيه من أنواع المعرفة، وسبل الهداية، والمتعة الهادفة، ما كان له الأثر الفاعل في ضبط اتباع الأمة المحمدية، حتى امتازوا عن غيرهم -من الأمم السابقة- بالعطاء والرقي.

وبعد هذا كله كيف يجوز لعاقل ألا يعكف على هذه القصص الحق بالدراسة والتمحيص واستلهام العبرة والموعظة الحسنة، ويعمل بمقتضى ذلك، فينعم بحياة مستقرة، وآخرة مرتضاة (526).

وسيكون الحديث عن عظمة القصص القرآني من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول تعريف "القصص" لغة واصطلاحًا.
أولًا: معنى "القصص" في اللغة:
عند الرجوع إلى كتب اللُّغة يتبيَّن لنا أنَّ أصل المادة (قصص) مشتق من قصَّ أثرهُ أي: تتبَّعه.

والقصَّة: واحدة القصص: هي الأمر والحديث، يُقال: اقتص الحديث، رواه على وجهه، وقص عليه الخبر، والاسم: القصص بالفتح، والقصة التي تكتب (527).

إن الدَّلالات اللُّغوية لمادة (قصّ) تعني في الأصل:
التَّتبع والاقتفاء، وهو معنى ملحوظ في القصة التي هي جملة من الكلام المقصوص، والقصة تكتسب هذا الاسم من معنى فعل القاصّ حين يمارس عمله في قص الخبر، فهو يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقتفي آثار أحداثها في ترتيب بعضها على بعض، وكأنما القاص في ذلك يحاكي قصاص الأثر، وهو تتبع الأقدام على الأرض حتى يعرف مصير تلك الأقدام ويصل إلى النهاية، وهي صلة تنطبق على المعنى اللغوي للفظ (قصة) وذلك حين يقوم القاص وهو يكتب قصة بتتبع الحدث من البداية مرورًا بالوسط، والقص: القطع (528).

ثانيًا: معنى "القصص" في الاصطلاح:
لكثرة التعريفات الواردة في مفهوم القصص اصطلاحًا، ومن باب الاختصار سيقع الاختيار على تعريف جامع للمعنى المراد.

وهو أن القصص القرآني:
أنباء وأحداث تاريخية لم يلتبس بشيء من الخيال، ولم يدخل عليه شيء غير الواقع، ومع هذا فقد اشتمل على مالم يشتمل عليه غيره من قصص، من الإثارة والتشويق مع قيامها على الحقائق المطلقة، الأمر الذي لا يصلح عليه القصص الأدبي بحال أبدًا (529).

وحاصل القول:
إن القصص القرآني: كلام حسن في لفظه ومعناه، مشتمل على أحداث حقيقية، ومتضمن على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الخير، ويدعو إلى التفكر والاعتبار.

ولا يصلح أن نطلق اسم الحكاية على القصة القرآنية؛ لأن الحكاية يلحظ فيها المحاكاة، والوقوف على ما جرى، بغض النظر عن العبر التي فيها أو الاستفادة منها، كما أن الحاكي لا يهدف التأثير والتوجيه من حكايته.

أما القصة فهي تكشف عن آثار الماضي وتنقب عن حوادثه، وتعرضها في أسلوب معجز مشتمل على العبرة والعظة، أخذًا بالعقل والوجدان إلى زمن القصة وأدوارها وأشخاصها، مهما كانت كثيرة وبعيدة (530).

المطلب الثاني مظاهر العظمة في قصص القرآن:
من مظاهر العظمة في القصص القرآني أنه تفرد عن غيره من القصص بعدة مميزات، كان لها بالغ الأثر في إعجازه، ومستواه الرفيع، وبنائه الفني، وشواهد صدق على صفائه من الشوائب.

وسيكون الحديث عن بعض مظاهر العظمة في القصص القرآني كما يأتي:
1- ربانية المصدر:
من المعلوم بداهة أن القصص القرآني جزء من القرآن العظيم، فيثبت له كل ما يثبت للقرآن من مزايا، مثل تنزيله من الله تعالى وحيًا على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وثبوت نقله إلينا بالتواتر، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس له منه سوى تبليغه للناس كما أنزل عليه، ولقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة الناصعة في مقدمات بعض القصص وخواتيمها، كقوله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (هود: 49) (531).
 
2- مطابقة الواقع والصِّدق:
إنَّ كل ما أخبر به القرآن العظيم من قصص، فهو صدق، له واقع مشهود وملموس حين وقوعه، دون أن يكون للخيال أو الوهم أو المبالغة مدخل في شيء أبداً، بل هو الواقع الكامل كما حصل تماماً، وبكل أبعاده المشاهدة والمغيبة، فهو من واقع الحياة، نقل في القرآن الكريم نقلا دقيقاً يأخذ بمجامع القلوب، ولا يمكن أن يكون فيه غير الصدق والواقع المطابق له (532).

والقصص القرآني يختلف اختلافاً كلياً عن القصص الذي عرفه الإنسان؛ ذلك أن القصص البشري منه ما يحكي أحداثاً وقعت ويصور وقائع ثبتت، ومنه ما هو من نسيج خيال القصاص، وليس له على أرض الواقع مستند، فهذا النوع لا يخلو من الكذب والمبالغة، ودليل واقعية القصص القرآني، قول الله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران 62).

وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).

ثم إن الأخبار التي جاء بها القصص القرآني -وخصوصاً ما يتعلق بأهل الكتاب- لم يستطيع أهل الكتاب مِمَّنْ عاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكذبوها، وهم أشد حرصاً على ذلك؛ لإبطال دعوى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد سأل اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين -وهم يعملون قصته من كتبهم- فأنزل الله تعالى قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) )الكهف: 83 (.
 
ولا ريب أن القصص في القرآن قرآن، وهو حق؛ لأنه في كتاب الله تعالى، وقد سمَّاه الله تعالى أحسن القصص، فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3) (533).

3- الانتخاب مع العبرة والعظة:
القصص القرآني تناول من الأحداث أجزاء منتقاة، تناسب أهدافه ومقاصده للعبرة منها، والاتعاظ بها.

وهذه الطريقة في اختيار مادة القصص هي من أحسن الطرق وأكثرها أثرا في نفوس قارئيها؛ لأنها تفي بالغرض من ناحية الهدف، وهي أيضا تعرض بأسلوب فني رفيع، فيه كل عناصر التشويق والإثارة الفنية التي تنتج الانفعالات والعواطف الخيرة في الإنسان، وتدعم هذا الجانب فيه.

علما بأن هذه الأجزاء المنتخبة إنما هي أجزاء واقعية صادقة، ليست خيالا او وهما أو مبالغة، كما سبق ذكره.

وبسبب خضوع القصة القرآنية للمقاصد الشرعية كانت تعرض بالقدر الذي يكفي لأداء هذا الغرض، ومن الناحية التي تتفق معه فيها. فمرة تعرض القصة من أولها كقصة آدم، ومرة من وسطها، وثالثها من آخرها، وتعرض كاملة كقصة يوسف، أو يكتفي ببعض جوانبها، مثل ما يتعلق بالرسالة في قصص نوح وهود، وهكذا حيثما تكمن العبرة في هذا الجانب أو ذاك.
 
أما الموعظة فهي الهدف أو المحور الذي تدور حوله القصة القرآنية في مجملها (534).

4- التنويع في تصوير الأحداث (التكرار):
لمَّا كان القرآن العظيم لا يهدف إلى بيان الحقِّ فقط، بل إلى تعميق مجراه في نفوس المؤمنين، وذلك بقص الأنباء، وضرب الأمثال، وإقامة الأدلة، كان لابد من التكرار المستمر، والتذكير الدائم.

ولا ريب أنَّ التَّربية عملية شاقة، ولا بدَّ أن تكون متواصلة، حتى تؤتي أكلها، وإلا ضاع الجهد والجهد المبذول فيها، وأصبح هباء منثوراً، وكلنا نعلم إلى أي مدى تحتاج تربية النفوس والأفراد من جهد وتذكير دائم بالأمور المراد بنائها في النفوس، وتربية الأفراد عليها.

والتَّكرار هو أنجع وأحسن الوسائل في تنمية هذا الأمر، سواء كان التكرار قولاً يردد، أو عملاً يقتدي به أو يُدرَّب عليه، فيبني فيها القناعة والعاطفة اللازمتين للتحول إلى السلوك الجديد المراد لهذه النفس.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن القرآن العظيم كتاب هداية وإرشاد، وكتاب تربية وبناء، وجدنا أن مسوغات التكرار فيه قضية منطقية جدا، استعملها القرآن لخدمة أغراضه (535).

ولم يكن إيراد القصص وتكراره في القرآن العظيم عزاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- في فقد عزيز، ولا مواساة في مصيبة حلت بأهله، ولو كان الأمر كذلك لاكتفى بالآية أو الآيتين، ولما فقد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضاً من ولده، جاء النص
 
القرآني بالحض على الصبر، ولكن بصفة عامة للمؤمنين، ولم يكن خاصاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 156)، ولكن الأمر أبعد من ذلك- أهدافا وغايات.

فإنَّ الدَّعوة أخذت من عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثلث عمره -مدة ثلاثاً وعشرين سنة- ومن أجلها لقي التعذيب، وفي سبيلها واجه طواغيت الكفر وصناديد قريش، مجرداً من السلاح المادي الذي يدفع به الأذى عن نفسه، إلا السلاح المعنوي -وهو القرآن العظيم- يجاهد به الكفار جهادا كبيرا، كما قال الله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان: 52).

ولغاية بقاء الدعوة واستمرارها هاجر وترك الوطن والأهل والعشيرة، ومن أجل ذلك كله احتاج إلى تثبيت كبير، مستمر ومتكرر، يتناسب وعظم الأمانة الملقاة على عاتقه، ويتلاءم مع طول العهد في الدعوة، وينسجم مع المشقة الكبيرة والمعاناة التي وجدها من الكفار.

ولا يوجد تعارض البتة فيما سُمِّي بالتَّكرار في القرآن، ذلك أن الخلاف بين من ينفي التكرار ومن يثبته لا يعدو أن يكون لفظياً، ولا يترتب عليه أي أثر؛ لأن من نفى التكرار: قصد نفي تكرار الألفاظ ذاتها للقصة الواحدة في المواضع التي ذكرت فيها، فقد يذكر في موضع آخر للقصة ذاتها حدث جديد لم يذكر في موضع سابق، ومن قال بالتكرار: قال بتكرار ذات القصة بالنسبة لذات الأشخاص، وإن اختلفت ظروفها وتباينت وقائعها (536).

وخير مثال يثبت ذلك:
ما جاء في قصة موسى -عليه السلام- والتي تعد بحق من أشد القصص تشابها في تصوير الأحداث، نأخذ ما ورد عن قصة في سورتي الأعراف: (107-126)، والشعراء: (32-51).

سورة الأعراف:
1- (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ).
2- (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ).
3- (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ).
4- (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ).
5- (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
6- (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).
7- (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).
8- (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).
9- (قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ).
10- (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
11- (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
12- (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).

سورة الشعراء:
1- (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ).
2- (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ).
3- (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ).
4- (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ).
5- (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
6- (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
7- (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
8- (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ).
9- (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).
10- (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ).
11- (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
12- (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
13- (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

وهكذا نرى إلى أي مدى تتشابه هذه الآيات ولا تتكرر. والعجيب حقاً أنه في كلا السورتين كان عدد الآيات (19) آية، إنه تشابه الملامح، كالإخوة الأشقاء وليس التماثل أبدا، وهو التنويع بعينه في عرض الأحداث وإضفاء الجمال والكمال عليها بكل موحياتها  (537).

ومن هنا نعلم أن تكرر القصة في عدة مواضع من القرآن، وعرضها بصور مختلفة- من التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، وما شابه ذلك- له فوائد وحكم عظيمة.

ومن أهمها:
«1- بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها:
فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.

2- قوة الإعجاز:
فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي.

3- الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس:
فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام. كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون؛ لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل، مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها.

4- اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة:
فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال» (538).

المطلب الثالث عظمة مقاصد "قصص القرآن":
القصص في القرآن العظيم لا يُقصد به بيان التاريخ بذاته، وإنما له مقاصد متنوعة تلتمس فيها العبرة والعظة.

وكذلك لم يكن القرآن العظيم ليصور الأحداث في الأزمان الغابرة لقصد التنبيه على أحوال الأمم السالفة، أو لغرض التسلية وجذب الأسماع فحسب، وإنما اجتمعت في قصص القرآن مقاصد سامية، تقوم على تحقيق الإيمان وترسيخ أصوله في القلوب.

إن القرآن العظيم يذكر القصة في مواطنها بأساليب متغايرة، وفي صور متقاربة، ولكل منها مغزى لا يؤدي غيره، ومرمى لا يصيبه سواه، وهي بذلك ليست عملاً فنياً مقصوداً لذاته، وإنما هي وسيلة للإيمان والإرشاد، وشرح الأوامر والنواهي الشرعية (539).

إذاً فمقاصد القصص القرآني تتنوع تنوعا كبيرا، وهي موزعة على قصصه، حسب موضوعها وسياقها، وهي مقاصد كثيرة لا يمكن الإلمام بها جميعاً، وسيدور الحديث عن أهمها بإيجاز؛ ليتبين لنا أن القصص القرآني لم يأت اعتباطا، وإنما جاء لمقاصد عظيمة.

ويمكن تحديدها في المقاصد الآتية:
المقصد الأول: إثبات الوحدانية لله تعالى، والأمر بعبادته.
اتفقت دعوة الأنبياء والمرسلين جميعا على إثبات الوحدانية لله تعالى، والأمر بعبادته بطرائق شتى وأساليب مختلفة، وهذا هو أهم مقاصد القصص القرآني، وذلك لإبراز حقيقة التوحيد، وإبطال الشرك والوثنية.

فالرسل والأنبياء جميعاً، دعوا إلى توحيد الخالق جل جلاله، والإقرار له بالوحدانية، لا رب غيره، ولا معبود سواه، فدعوتهم جميعا اجتمعت على التوحيد.

ومن أدلة ذلك:
كما قصه القرآن العظيم في تدرج إبراهيم -عليه السلام- في الاستدلال على الحقيقة الإلهية والإيمان بالوحدانية، فقال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) إلى قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 74- 79).

وكذلك جاء إثبات التوحيد على لسان يعقوب -عليه السلام- وبنيه في قوله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْن ُلَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 132).

وكذلك على لسان نوح -عليه السلام- فقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 59).

وعلى لسان هود -عليه السلام- فقال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 65).

وعلى لسان صالح -عليه السلام- فقال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 73).

وعلى لسان شعيب -عليه السلام- فقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 85).

وجاء في قصة سليمان -عليه السلام-: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل: 25-26).

وكذلك في قصة موسى -عليه السلام- فقال تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14).

وجاءت الدعوى إلى التوحيد واضحة في قصة يوسف -عليه السلام- فقال تعالى: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) إلى قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 37-40).

فقد صرح يوسف -عليه السلام- بأنه لم يبتدع ديناً وإنما سار على ملة آبائه وأجداده الذين هداهم الله إلى العقيدة الصحيحة، ألا وهي وحدانية الله، وهذه العقيدة لا تختلف من عصر إلى عصر، إذ لا يعقل أن يوحي الله تعالى إلى أنبيائه في حقيقتها تتناقض من رسول إلى رسول، إذا فوحدانية الله تعالى دعوة اشتراك في التأكيد عليها جميع الأنبياء (540).

مما سبق ذكره يتبين لنا أن هؤلاء الرسل جميعاً، توحدت دعوتهم في الدعوة إلى الله تعالى من أجل الإيمان به تعالى، ولكن اختلف أسلوب كل واحد منهم فيما بعد هذه الدعوة: فنوح -عليه السلام- خاف على قومه من عذاب الله العظيم، إن هم عصوه وخالفوا أمر الله، وهود -عليه السلام- طلب من قومه تقوى الله؛ لأنه ليس لهم إله غيره عز وجل، وصالح -عليه السلام- بين لقومه أنه قد جاءتهم دلالة واضحة، وعلامة بينة -ناقة الله- بأن يتركوها تأكل في أرض الله، ولا يمسُّوها بسوء، خوفاً عليهم من العذاب الأليم، وهكذا.

ويتضح هذا الأمر جلياً في رد الملأ على كل رسول: فقوم نوح رموه بالضلال المبين، وقوم هود رموه بالسفاهة والكذب، وقوم صالح شككوا في إرساله (541).



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثاني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني   الفصل الثاني Emptyالخميس 24 يناير 2019, 8:31 pm

المقصد الثاني: إثبات الوحي والرسالة.
ذلك أن القصص المذكور في القرآن تأتي فيه إشارة إلى أنه غيب ومجهول، لا يعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا قومه، وهو دليل على صدق الرسالة وإثبات الوحي، وأحيانا تأتي هذه الإشارة في نهاية القصص المذكور، فقال تعالى عقب قصة نوح -عليه السلام-: (تِلْكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: 49).

وقال تعالى تعقيباً على قصة موسى -عليه السلام-: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) إلى قوله تعالى (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) (القصص: 44-46).
 
وهذه القصص تدل دلالة واضحة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه: -صلى الله عليه وسلم- كان أمياً وما طالع كتاباً ولا تتلمذ على أستاذ، ولا يوجد في هذا القصص تناقض أو اختلاف، فقد دل ذلك أنه وحي من عند الله تعالى ويدل كذلك على صحة نبوته -صلى الله عليه وسلم- (542).

ومما يفيد إثبات الوحي والرسالة ما جاء في مقدمات بعض القصص، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 2-3).

فهذا القصص القرآني لم يكن ليعلم إلا من شاهده، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مشهدا لهذه الأحداث الصادقة، كما قال الله -تعالى- عقب قصة مريم: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران).

وفي نهاية سورة الشعراء قال الله -تعالى- بعد ذكر عدد من قصص الأنبياء: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 192-194).

فهذا نص صريح على أن هذا القصص من عند الله وأنه وحيه تعالى وتنزيله (543).

المقصد الثالث: إثبات البعث والجزاء.
كثيرا ما يرد في سياق القصص القرآني إثبات هذا المقصد -البعث والجزاء- فمن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) إلى قوله تعالى: (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 258-260).

وجاء على لسان نوح -عليه السلام-: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح: 4)، فالقصص القرآني ترد فيه كثير من الأدلة على إثبات البعث والجزاء، فيصرفها بطرائق شتى، وأساليب مختلفة؛ ليحقق الإيمان بذلك اليوم (544).

المقصد الرابع: تثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته.
من أعظم مقاصد القصص القرآني تثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته على لزوم الدعوة إلى الحق، وتحمل مشاقها، والصبر على العذاب في سبيلها، وبذلك تقوى ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجنده، وخذلان الباطل وأهله، مصداق ذلك قوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 12) (545).

«لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة، والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون لها نهاية!

فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق، ويريهم معالمه في مراحله جميعا، ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق» (546).

وكثيراً ما نجد في القصص القرآني تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- على ما لقيه هؤلاء الأنبياء الكرام من نفور عن الحق، رغم الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، الدالة على رسالتهم، فإن كثيرا من أتباعهم عموا وصموا عن إتباع الحق، وأصروا على إتباع الباطل، كما جاء على لسان نوح -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: 5-7).

وكذلك: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) (نوح: 21).

إن القصص القرآني -حقاً- عزاء للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لئلا تذهب نفسه حسرات على كفر الكافرين وجحودهم، بعد الأدلة الدامغة التي جاءهم بها (547).

المقصد الخامس: العبرة بأحوال المرسلين وأممهم.
المًراد بهذه العبرة، هو الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأنبياء والمرسلين للاقتداء بهم في الصبر على الأذى، وتبليغ الدعوة، والاقتداء بإيمانهم القوي، وتخليد آثارهم، والإشارة إلى فضلهم، ومكانتهم الرفيعة عند الله تعالى، وفي المقابل الابتعاد عن مثل تصرفات المخالفين من الأمم السابقة.

قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111).

وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام: 34).

ولذلك فإن الله تعالى يحكي في هذا القصص، أن عاقبة أمر المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والآخرة، وعاقبة المؤمنين النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب أهل الإيمان، ويضعف قلوب أعدائهم.

ولهذه العبرة -المبثوثة في ثنايا القصص- فوائد عظيمة: أهمها التنبيه على سنن الله تعالى في حياة الناس، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (الحجر: 13).

فهذه الآية جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق، الذين لا ينظرون في أدلته، لانهماكهم في ترفهم وسرفهم، وجحودهم، والإبقاء على عاداتهم وتقاليدهم.

وقال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 85).

وهذه الآية جاءت في سياق محاجة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء، والسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوى والآثار في الأرض وكيف هلكوا بعدم دعوا إلى الحق؛ فلم يستجيبوا لأمر الله، وذي ذلك يقول الله تعالى كذلك: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام: 10-11).

«أي: فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المُكذبين، فلن تجدوا إلا قوماً مهلكين، وأمما في المثلات تالفين، قد أوحشت منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل، أبادهم الملك الجبار، وكان نبأهم عبرة لأولي الأبصار، وهذا السير المأمور به، سير القلوب والأبدان الذي يتولد منه الاعتبار، وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئاً» (548).
 
فهذا القصص القرآني فيه التأديب والتهذيب للأمة الإسلامية، وذلك أنه ذكر الأنبياء وثوابهم، والأعداء وعقابهم، وذكر في غير موضع تحذيره إياهم عن صنع الأعداء، وحثهم على صنع الأولياء، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) (يوسف: 7) (549).

المقصد السادس: بيان جزاء الأمم السابقة ونهاية مصيرها.
إن موقف المنكرين للرسالات والرسل موحد، مع كل رسول في الإنكار والتكذيب، فقوم نوح قالوا في حقه: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الأعراف: 60).

وقوم هود قالوا له: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (الأعراف: 66).

وقوم صالح قالوا للمؤمنين به: (إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الأعراف: 76).

وقوم لوط قالوا: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف: 82).

وقوم شعيب قالوا له: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) (الأعراف: 88).

وقوم فرعون قالوا في حق موسى: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) (الأعراف: 109).

فهذه الأمم الغابرة التي لم تلتزم بدعوة الأنبياء والمرسلين، كان مصيرها الهلاك والدمار، نتيجة لانحرافها عن الطريق المستقيم، فمن ذلك قول الله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ) (الأنعام: 6).

وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 9).

ومن أسباب هلاكهم -كما مر بنا سابقاً-:
الإشراك بالله تعالى، والظلم والطغيان، والتكذيب بالبعث والجزاء، والتقليد الأعمى، والتهديد للمؤمنين، وإيذاؤهم، إلى غير ذلك من الأسباب.

كل ذلك ليعتبر المسلمون بأحوال هذه الأمم، ويبتعدوا عن أفعالها وأقوالها، حتى لا يصيبهم ما أصابهم من الهلاك والدمار.

وقد بيَّن الله تعالى في كثير من قصص القرآن أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، كما قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).

فهي سُنَّةٌ ماضية أثبتها الله في قوله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام: 34) (550).

المقصد السابع: تربية المؤمنين.
مقاصد القصص القرآني تتضافر جميعا في تربية المسلمين التربية الصحيحة والشاملة، ومن أعظمها: التربية على العقيدة الصحيحة، من الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالبعث والجزاء، والإيمان بالأنبياء والمرسلين، والصبر على أذى الكافرين وإعراضهم عن الحق، حتى يظهره الله تعالى ويهلك أعداءه.

نجد ذلك -مثلاً- في قصة السحرة الذين آمنوا بموسى -عليه السلام- فقضى عليهم فرعون بالصلب والقتل، فثبتوا على عقيدتهم رغم فظاعة التهديد، وفي قصة أصحاب الكهف تربية في الثبات على التوحيد، والإيمان بالبعث والجزاء.

والتربية في القصص القرآني المبارك شاملة للأنبياء والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين.

ومما ورد في تربية الأنبياء قول الله تعالى لإبراهيم الخليل-عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة: 131).

قال أبو السعود -رحمه الله-:
«أسلم أي: أذعن وأطع، وقيل: اثبت على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاص، أو استقم وفوض أمرك إلى الله تعالى، فالأمر على حقيقته، والالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه -عليه السلام- لإظهار مزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في جوابه -صلى الله عليه وسلم- إلى العالمين؛ للإيذان بكمال قوة إسلامه، حيث أيقن النظر بشمول ربوبيته للعالمين قاطبة، لا لنفسه وحده كما هو المأمور به» (551).
 
ومن أنواع التربية في قصص القرآن:
التربية على الصبر، والبر، وامتثال أوامر الله تعالى، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل -عليه السلام- إذ قال الله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 101- 105).

وفي قصة لقمان مع ابنه كثير من الفضائل التربوية النبيلة، ففيها التوحيد والنهي عن الشرك بالله، وفيها البر بالوالدين، وفيها شكر الله والوالدين، وفيها البعث والجزاء، وفيها الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على المصيبة، والنهي عن إمالة الخد عجباً وكبراً، والنهي عن المشي في الأرض مرحاً، والأمر بالاقتصاد في المشي، وإغضاض الصوت، إذ قال تعالى: الآيات: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12-19).

ومن أنواع التربية في قصص القرآن:
التربية على الصدق، اقتداء بالأنبياء والمرسلين، إذ قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم: 41).

ومنها التربية على الإخلاص في الطاعة وتنفيذ أوامر الله، كما في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 51).

ومنها التربية على الوفاء والأمانة، إذ يضرب يوسف -عليه السلام- المثل الأعلى في ذلك، إنه ليذكر جيداً إكرام العزيز له، وكان دائما الإحسان بالإحسان، قال تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23).

وبعد ثبوت براءته قال يوسف-عليه السلام- ما حكاه الله تعالى: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (يوسف: 52).

ومنها التربية على مكارم الأخلاق، ويظهر ذلك جلياً في دعوة شعيب لقومه في عدة مواضع، منها ما حكاه الله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 85).

لقد بدأ بإصلاح العقيدة، ثم ثنى بعد ذلك بإيفاء الكيل والميزان حال البيع، والنهي عن بخس الناس أشياءهم حال الشراء، فقد ربط بين الإيمان والأخلاق، ودعا إلى التخلي عن الرذائل (552).

وهكذا نرى أن القرآن العظيم «يستخدم قصصه لجميع أنواع التربية والتوجيه الذي يشملها منهجه التربوي؛ تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، والتوقيع على الخطوط المقابلة في النفس، والتربية بالقدوة، والتربية بالموعظة، فهي سجل حافل لجميع التوجهات»  (553).

ويمكن أن نجمل الأهداف التربوية للقصص القرآني في ثلاثة جوانب وهي:
1-    مد الفرد والجماعة بالقيم الإسلامية.
2-    تربية المسلم على الثقة المطلقة بالله في قضائه وقدره.
3-     تزويد قارئه وسامعه بالعديد من المعارف والحقائق التي تفيده في مسيرة الحياة، والتعامل مع الآخرين (554).


المقصد الثامن: الدعوة إلى الخير والإصلاح، ومنع الفساد.
نجد أن من مقاصد القصص القرآني الدعوة إلى الخير والإصلاح، ومنع الفساد في الأرض. كما في قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 85).

وكذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود: 84-85).

ففي قصة شعيب -عليه السلام- دعوة صريحة إلى ناحية عملية، تتصل بالإصلاح الاجتماعي، ومنع الفساد في الأرض، والقيام بحق الأمانة في التعامل.

وقد بيَّن القصص القرآني، عاقبة الصلاح والفساد، كما في قصة ابني آدم، إذ قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ) الآيات. (المائدة: 27- 32).

وكذلك في قصة صاحب الجنتين، إذ قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) (الكهف: 32- 42).

وقصة سد مأرب، إذ قال الله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ 15- 19).

وفي قصة آدم وإبليس -المبثوثة في مواضع شتى من القرآن- التنبيه لأبناء آدم من غواية الشيطان، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم، منذ عهد أبيهم آدم؛ ذلك لأن إبراز هذه العداوة عن طريق القصة أوقع أثراً في النفس البشرية، لتحذر أشد الحذر من غواية الشيطان ودعوته إلى الشر (555).

المقصد التاسع: مواجهة اليأس بالصبر.
ويبرز هذا المقصد جليا في قصة يوسف -عليه السلام- وفيها جملة من الآيات تحقق هذا المقصد، ومنها قوله تعالى: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18).

وقوله تعالى: (قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 64).

وقال تعالى: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 83).

وقوله تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
 
المقصد العاشر: بيان قدرة الله على الخوارق.
في هذا المقصد يتبين لنا الفارق العظيم في المحتوى بين القصص القرآني والقصص البشري، فهل يوجد في القصص البشري ما حكاه الله تعالى عن قصة الذي مر على قرية وهي خاوية، إذ يقول الله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 260).

أم يوجد في القصص البشري قصة كخلق آدم، ومولد عيسى، وإحياء الطير لإبراهيم، وتحول عصا موسى، وقصة موسى مع العبد الصالح، وغيرها؟

إن ما ورد في القصص القرآني من ذكر للخوارق والمعجزات، جاء ليدل على قدرة الله تعالى الكاملة، والتي لا يستطيعها مخلوق في الكون كله، ويشير كذلك إلى بيان الفارق بين النظرة الإنسانية العاجلة قصيرة المدى، وبين الحكمة الإلهية الكاملة والمحيطة بالماضي والحاضر والمستقبل، إضافة لعلم الله تعالى الكامل بالغيب: قريبة وبعيدة على حد سواء، مما يلقي في روع المؤمنين الاطمئنان الكامل إلى جانب الله تعالى والركون إليه  (556).
 
المقصد الحادي عشر: بيان نعم الله على أنبيائه وأصفيائه.
نجد من المقاصد القصص القرآني بيان نعم الله تعالى على أنبيائه وأصفيائه، مما يترك أثراً طيباً في نفوس المؤمنين بأن الله تعالى يكافئ أولياءه وأصفياءه وينعم عليهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا لد دور في ثباتهم على الحق الذي يعتقدونه.

وإن نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه تتجلى في مواقف شتى ومنها (557):
إنعامه تعالى على سليمان -عليه السلام- بتسخير الجن والطير، فقال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) الآيات. (النمل: 16-44).

وتسخير الريح، وذلك في قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) الآيات. (سبأ: 12-14).

وقال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأنبياء: 81).

وإنعامه على داوود بتسخير الجبال والطير والإنة الحديد، إذ قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) (سبأ: 10-11).

وتعليمه صنعة الدروع فقال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء: 80).

وإنعامه على إبراهيم بالغلام الحليم، إذ قال تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات: 101).

والتبشير بإسحاق، فقال تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 112).

وعلى موسى وقومه بفلق البحر لهم وإنجائهم من فرعون وجنده، إذ قال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة: 50).

وقال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ) (الشعراء: 63-66).

والامتنان على موسى وهارون، إذ قال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الآيات. (الصافات: 114- 122).

وإنعامه على إبراهيم وإسماعيل بفدائه بالذبح العظيم، إذ قال تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الآيات. (الصافات: 107- 110).

وإنعامه على يونس بنبذه من بطن الحوت، وإنبات شجرة اليقطين عليه، وهداية قومه للإيمان بعد ذلك، إذ قال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الآيات. (الصافات: 139- 148).

وإنعامه على عيسى بإظهار كثير من المعجزات على يديه، منها قوله تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: 46).

وقوله تعالى: (إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 49).

وإنعامه على مريم بتبرئة ساحتها مما اتهمها به قومه، فقال تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران: 47).

وقال تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) إلى قوله تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 28- 32).

وقال تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 91).

وإنعامه على زكريا بهبته يحيى، وإصلاح زوجه، إذ قال تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: 38- 39).

وقال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).

وفي الإنعام على الأنبياء والأصفياء تخليد لذكرهم الحسن، فها نحن أولاء ما زلنا نقرأ -حتى الآن- ما فعلوه فيما سبق من الزمان، وسيأتي من بعدنا ليقتدوا بهم إلى أن يأذن الله تعالى بقيام الساعة، وفي هذا ما فيه من الخلود والخير، وليعلم الذين أتوا من بعد هؤلاء الأنبياء أن ما يفعلونه من خير فلن يكفروه، وهذا من عاجل البشرى للمؤمنين (558).
---------------------------------------------------
الهوامش
526.     انظر: لسان العرب، (7/75)، القاموس المحيط، (ص808-809)، المعجم الوسيط، (ص76).
527.     انظر: القاموس المحيط (ص809).
528.     انظر: القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، عبد الكريم الخطيب (ص49).
529.     انظر: الدعوة الإسلامية، د. أحمد أحمد غلوش (ص288). معالم القصة في القرآن الكريم، (ص33-34).
530.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، (ص91).
531.     انظر: المصدر نفسه، (ص111). سيكولوجية القصة في القرآن، تهامى نقرة، (ص221).
532.     انظر: الأهداف التربوية للقصص القرآني في حياة النبي ? الدعوية، وليد أحمد مساعدة، مجلة دراسات، الجامعة الأردنية [علوم الشريعة والقانون]، (عدد: 1)، (صفر 1422هـ)، (ص 182).
533.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، (ص 11). التصوير الفني في القرآن، (ص 180- 188).
534.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، (ص118- 120).
535.     انظر: الأهداف التربوية للقصص القرآني في حياة النبي ? الدعوية، (ص 183).
536.     انظر: المصدر السابق، (ص123- 124). ويمكن التوسع في هذا البحث بقراءة: دراسات قرآنية، محمد قطب (ص 247- 261). سيكولوجية القصة في القرآن، تهامي نقرة (ص 111- 155).
537.     مباحث في علوم القرآن، (ص 308).
538.     انظر: روائع الإعجاز في القصص القرآني، محمود السيد حسن، (ص 61- 62).
539.     انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، (2/886- 893).
540.     انظر: دراسات قرآنية، (ص 250).
541.     انظر: تفسير الطبري، (14/ 140).
542.     انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، (2/896- 898).
543.     انظر: المصدر نفسه، (2/899).
544.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، (ص41- 42).
545.     في ظلال القرآن، (4/1948).
546.     انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، (2/901).
547.     تفسير السعدي، (2/9).
548.     انظر: المصدر السابق، (2/903- 904).
549.     انظر: المصدر نفسه، (2/905- 913).
550.     تفسير أبي السعود، (1/ 163).
551.     انظر: المصدر السابق، (2/ 924- 928).
552.     القصص القرآني، عماد زهير حافظ، (ص 16).
553.     انظر: القصة القرآنية ودورها في التربية، أحمد أحمد غلوش، مجلة كلية التربية، جامعة الرياض، (العدد: 1)، (السنة: 1397هـ)، (ص6).
554.     انظر: التصوير الفني في القرآن، (ص 135).
555.     انظر: معالم القصة في القرآن الكريم، (ص 45).
556.     انظر: بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، (2/918- 921).
557.     انظر: المصدر السابق، (ص 47).
 (*) ولا يقصد مع هذا الكلام أن يكتفي الدعاة إلى الله تعالى بتلاوة الآيات فقط حال الدعوة، مع إغفالهم التوضيح والبيان، والتفصيل والتعليل، وضرب الأمثلة والشواهد، وذكر القصص والعبر...، لأن هذا يخالف نص القرآن، وهدى رسول الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النخل: 44].
558.     تفسير الطبري، (11/291).



الفصل الثاني 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الفصل الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثاني: الفصل الثاني دور مؤسسات المجتمع
» الفصل الثاني
» الفصل الثاني
»  الفصل الثاني عشر
» الفصل الثاني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: رسالة ماجستير: عظمة القرآن :: البـاب الأول :: الفصل الثاني-
انتقل الى: