المبحث الثاني
عظمة مقاصد القرآن.
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: إقامة الدين وحفظه.
المطلب الثاني: تصحيح العقائد والتصورات.
المطلب الثلث: رفع الحرج.
المطلب الرابع: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه.
المطلب الخامس: تكوين الأسرة وإنصاف المرأة.
المطلب السادس: إسعاد الكلف في الدارين.
تمهيد
معنى «المقاصد» في اللغة:
المقاصد جمع مقصد، وقد وردت هذه اللفظة في اللُّغة بمعان عدة، نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا.
فقد عرَّفها ابن فارس بقوله: (439)
«القاف والصاد والدال أصول ثلاثة: يدل أحدها على إتيان شيء وأمه».
وجاء في لسان العرب (440):
«قال ابن جني: أصل (قصد) ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور: هذا أصله في الحقيقة وإن كان يخص في بعض المواطن بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أُخرى؟ فالاعتزام والتوجه شامل لهما جميعًا».
و«يُقال: إليه مقصدي: وجهتي» (441).
مفهوم «المقاصد» من خلال تعبيرات بعض العلماء:
1 - قال الغزالي (442) -رحمه الله-:
«مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومآلهم» (443).
2 - قال الآمدي (444) -رحمه الله-:
«المقصود من شرع الحكم: إما جلب مصلحة، أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين» (445).
3 - قال الشاطبي (446) -رحمه الله-:
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية» (447).
وقال أبضًا:
«إن الشارع يقصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية» (448).
معنى « مقاصد القرآن»:
من خلال المعاني اللغوية لكلمة مقصد، وما تبعه من تعبيرات بعض العلماء لمفهوم المقاصد، يمكننا تعريف (مقاصد القرآن) بأنها: ما توجَّه القرآن نحو تحقيقه، أو ما قصد القرآن نحو تحقيقه من أمور معنوية أو مادية، كتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتأمين الضروريات والحاجيات والتحسينيات للمرء في هذه الحياة والحفاظ عليها، وتحقيق العدل وما إلى ذلك (449).
أهمية مقاصد القرآن:
إنَّ فهم مقاصد القرآن العظيم، ضرورة دينية، وحاجة دعوية:
أما كونه ضرورة دينية: فلأنه بالفهم الصحيح للقرآن يستقيم سلوك المسلم في حياته، ويحرص على العمل به، ويلتزم أحكامه وهديه...
ولطالما أخطأ كثير من المسلمين في تطبيقهم الخاطئ والجزئي للقرآن، فشوهوا بذلك من جمال القرآن العظيم المتمثل في كماله وتوازنه، ووحدة تعاليمه.
وقل مثل ذلك في إصدار فتاوى سطحية غريبة، وأحكام ظاهرية عجيبة لا تنسجم مع مقاصد القرآن العامة والخاصة، وربما ردت بعض النصوص الشرعية بدعوى الاجتهاد المقاصدي، والعمل بروح الشريعة من جهة أخرى!
وأما كونه حاجة دعوية: فلأنه بقدر فهم مقاصد القرآن، وإحسان عرضها، يُقبل الناس عليه، ويتمسكون بهديه، ويدخلون في دين الله أفواجًا، وبقدر غموضها في نفوسهم، يسوء غرضها، وتتشوه صورتها، ويضعف تمسك المسلمين بالقرآن، ويعرض عن هديه غيرهم، ولطالما ظهرت آثار ذلك في مسيرة الدعوة الإسلامية المعاصرة! (450).
تنوَّع مقاصد القرآن:
«مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم في طور الرشد، وتحقيق أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم: منها ما يكفي بيانه لهم في الكتاب مرة أو مرتين أو مرارًا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارًا كثيرة، لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس في مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتي أكله ويبدو صلاحه ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن كماله إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا في المستقبل فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفي فيه الفحوى والكناية.
والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفي أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة، كالمعهود في متون الفنون وكتب القوانين» (451).
وسيكون الحديث عن عظمة مقاصد القرآن من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول إقامة الدين وحفظه:
إن المتأمل في مقاصد القرآن الرئيسية يجد أنها تدور حول نواح ثلاث:
ناحية العقيدة، وناحية التشريع، وناحية السلوك.
وقد حصر الغزالي -رحمه الله- مقاصد القرآن وآياته في ستة أنواع فقال:
«انحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي الروادف والتوابع المغنية المتمة.
أما الثلاثة المهمة فهي:
تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الوصول إليه» (452).
وهذا الإجمال في كلام الإمام الغزالي -رحمه الله- يحتاج إلي تفصيل، حتى يتبين لنا مقصد رئيس وعظيم من مقاصد القرآن الكريم.
وهو على النحو الآتي:
1 - تعريف المدعو إليه:
إن أعظم مقاصد القرآن الكريم هو معرفة الله تعالى، حق المعرفة، لأنها تورث الطاعة الحقة، فيخلص العبد عبوديته لله تعالى، وهذه العبودية الخالصة هي التي تقيم منهج الله في الأرض.
ولذلك يقول البقاعي (453) -رحمه الله-:
«المقصود من إرسال وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم على الحق، تعريفهم بالملك وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول» (454).
من أضرار الجهل بالخالق:
بدون معرفة الله حق المعرفة، يقع الخلل في إقامة شرعه، فيتولد من ذلك أعظم مفسدة، وهي صرف العبودية لسواه، وقد سماه الله تعالى ظلمًا عظيمًا فقال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) كما ينجم عن هذا الخلل العظيم ظلم الناس، بحيث يغيب شرع الله المطلوب إقامته بين الناس، فتحل محله الأهواء.
وقد وبخ الله المشركين على شركهم فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج: 73 ).
ثم يُبَيِّنْ تعالى بعد ذلك السبب الرئيس في هذا الشرك، أن هؤلاء المشركين: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 74 ).
«فما عظموه حق تعظيمه، إذ لو فعلوا ما أشركوا معه الضعفاء العجز، وهو الغالب القوي... فكيف يشاركه الضعيف الذليل؟» (455).
2 - تعريف الصراط المستقيم:
فهذا هو القصد الثاني، لأن الإنس والجن خلقوا لعبادة الله تعالى، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
قال الغزالي -رحمه الله-: (456)
«وعمدة هذا الصراط المستقيم أمران: الملازمة والمخالفة».
أي: ملازمة صراط الموحدين من الذين أنعم الله عليهم ومن عليهم بالهداية والتوفيق، ومخالفة صراط المشركين من الذين غضب الله عليهم، والضالين عن الهدى ودين الحق.
3 - تهذيب الأخلاق والسلوك:
وهذا هو المقصد الثالث، حيث إن القرآن العظيم يحض كثيرًا على مكارم الأخلاق ومحاسنها في العادات والمعاملات، ومن هذه المكارم الأخلاقية: العفو في قوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة: 237).
والعدل في قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).
والإحسان في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء:36).
والإعراض عن اللغو في قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55).
إلي غير ذلك من الآيات الدالة على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (457).
المطلب الثاني تصحيح العقائد والتصورات
ويتجلي هذا المقصد في عناصر ثلاثة:
1 - تصحيح عقيدة التوحيد:
القرآن العظيم من أوله إلى آخره دعوة إلى التوحيد، وإنكار للشرك، وبيان لحسن عاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، وسوء عاقبة المشركين في الدارين.
وقد اعتبر القرآن الشرك أعظم جريمة يقترفها مخلوق، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).
وإن حقيقة الشرك انحطاط بالإنسان من مرتبة السيادة على الكون -كما أراد الله له- إلى مرتبة العبودية والخضوع للمخلوقات، سواء كانت جمادًا، أو نباتًا، أو حيوانًا، أو إنسانًا، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 30-31).
والدعوة إلى التوحيد هي المبدأ الأول المشترك بين رسالات النبيين جميعًا، فكل نبي نادى قومه أن (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 59).
وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36).
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25).
فلا مكان للوسطاء بين الله عز وجل وبين خلقه، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: 186)، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60).
2 - تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة:
وذلك ببيان الحاجة إلى النبوة والرسالة، قال تعالى: (كان النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213).
وبيان وظائف الرسل، قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (النساء:165).
فليس الرسل آلهة ولا أبناء آلهة، إنما هم بشر يوحى إليهم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110).
ولا يملكون هداية القلوب، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (الغاشية: 21- 22 ).
وقد فنَّد القرآن الشبهات التي أثارها الناس ثديمًا في وجه الرسل، كقولهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (إبراهيم: 10).
وقولهم (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) (المؤمنون: 24 ).
فرد القرآن عليهم بمثل قوله تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: 11).
ومثل قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (الإسراء: 95).
وبين القرآن العظيم عاقبة الذين صدقوا المرسلين والذين كذبوهم، ومعظم قصص القرآن الكريم تدور حول هلاك المكذبين ونجاة المؤمنين، قال تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) (الفرقان: 37-39).
وقال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 103).
3 - تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة:
لقد اتخذ القرآن العظيم في تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة وتثبيتها في نفوس المؤمنين أساليب شتي: فمن ذلك: إقامة الأدلة على إمكان البعث، ببيان قدرة الله تعالى على إعادة الخلق كما بدأهم أول مرة، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم: 27).
وقد بين القرآن العظيم حكمة الله تعالى في الجزاء حتى لا يستوي المحسن والمسيء، والبر والفاجر، فتستحيل الحياة إلى عبث وباطل يتنزه الله تعالى عنه: قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون: 115).
وقال أيضًا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص:27-28).
وقد كثر حديث القرآن العظيم عن القيامة وأهوالها، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات، والحساب الدقيق الذي لا يظلم نفسًا شيئًا، ولا يحمّل وازرة وزر أخرى، وعن الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.
وأبطل القرآن العظيم الأوهام التي أشاعها المشركون أن آلهتهم المزعومة تشفع لهم عند الله تعالى، وما زعمه كذلك أهل الكتاب من شفاعة القديسين وغيرهم.
فلا شفاعة إلا بإذن الله، ولمؤمن موحد، ورضى الله عن هذه الشفاعة، قال الله تعالى عن الكفار: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر: 48).
وقال أيضًا:
"مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر: 18).
وقال تعالى: (منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة: 255 ).
وقال تعالى: (لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء: 28 ) (458).
المطلب الثالث رفع الحرج:
إن شريعة القرآن العظيم تمتاز بكونها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها، بالقول والعمل على مستوى الفرد والجماعة.
والله -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه ما في بعض التكاليف من المشاق، على بعض النفوس، فهو محيط بضعف الإنسان المكلف وقلة حيلته، كما قال تعالى: (وخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28).
وهذه المشاق من قبيل المشاق المعتادة المقدور عليها، وأن المقصد من إحداقها بالأفعال تربية النفوس، وقهرها، وكبح جماحها، لئلا تجنح إلى ما لا يحل، «إذ مخالفة الهوى والشهوة هي من المقاصد المعتبرة شرعًا» (459).
ورغم أن هذه المشاق مقدورة للمكلف، إلا أن الشارع الحكيم زين تكاليف الشرع بزينة رفع الحرج والمشقة، حتى تحبها النفوس، وتقبل على العمل بها دون كلل أو ملل، المفضي إلى الانقطاع.
ورفع الحرج من سنة الأنبياء جميعًا، قال الله تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (الأحزاب: 38).
« أي هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج" (460).
ومن أهل التأويل من اعتبر قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:86 ) دليلًا على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شرائع الله جميعًا، لعموم لفظ: (نَفْسًا)، التي وردت في سياق النفي، لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله (461).
إذًا فالسماحة واليسر من أبرز أوصاف شريعة القرآن العظيم، فقد قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر) (لبقرة: 185 ).
وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: 6 ).
ومن دعاء المؤمنين ماحكاه الله تعالى بقوله: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: 286 ).
والحكمة في سماحة شريعة القرآن العظيم: «أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها.
ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) النساء: 28).
وقد أراد الله تعالى أن تكون الشريعة الإسلامية شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلًا، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها.
وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة، لأن في فطرة الناس حب الرفق» (462).
ومن يتتبع آيات رفع الحرج يلحظ أمرين مهمين، سلكهما القرآن العظيم، في رفعه الحرج عن المكلفين.
الأول:
مجيء آيات على هيئة بشارة تنبئ بمقدم شريعة، من سماتها التيسير والتخفيف، من أمثال قوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى: 8 ).
فهذه الآية الكريمة بشرت رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمته بشرع سمح سهل مستقيم عدل، لا اعوجاج فيه، ولا حرج ولا عسر (463).
الثاني:
مجيء آيات فيها التنصيص على رفع الحرج، إما بالكلية، وإما بالتخفيف منه.
فمن الأول:
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 91).
فأوضحت الآية الكريمة الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، بشرط النصح لله ولرسوله.
ومن الثاني:
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (النساء: 101).
ولقد قال الصحابي الجليل يعلى بن أميَّة -رضي الله عنه- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنما قال الله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ)، وقد أمن الناس! فقال: عَجِبْتُ ممَّا عَجِبْتَ منهُ، فسألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِها عليكم، فاقبلوا صدقتهُ» (464).
قال ابن عاشور -رحمه الله-: (465)
«ولاشكَّ أنَّ محمَلَ هذا الخبر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصرِ لأجل الخوف، فكان القصر لأجل الخوف رخصةٌ لدفع المشقة».
وقد عبَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة، وهو لا يريد إلا دفع المشقَّة، والله أعلم (466).
أما بعد:
فذلك شاهد بواقعية القرآن العظيم الذي يعترف بضعف الإنسان فيشرِّع له ما لا يعجزه، وهذا من عظمته وعلوِّ شأنه ورفعته.
المطلب الرابع تقرير كرامة الإنسان وحقوقه:
إن من أعظم مقاصد القرآن العظيم ما يتعلَّق بتقرير كرامة الإنسان، ورعاية حقوقه.