منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:04 pm

[181] {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
الضمائر البارزة في "بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه" عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصى ودل عليه لفظ {الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله: {سَمِعَهُ} إذ إنما تسمع الأقوال، وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله: {الْوَصِيَّةُ} أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى {الْمَعْرُوفِ} [ البقرة: 180] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف، لأن الإثم في تبديل المعروف، بدليل قوله الآتي: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182].
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص؛ وما صدق من {مَنْ بَدَّلَهُ} هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصى أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلا فإن التبديل لا يتصور إلا في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.
والقصر في قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} إضافي، لنفي الإثم عن الموصى وإلا فإن إثمه أيضا يكون على الذي يأخذ ما لم يجعله له الموصى مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحكم لا يحل حراما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، وإنما انتفى الإثم عن الموصى لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به، إذ {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه، وقد دل قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أن هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعاً.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصى ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل.
والتأكيد بأن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أن الله عالم فلذلك أكد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:05 pm


[182] {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصى أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصى؛ لأن آية الوصية حصرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع؛ لأن ظن المكروه خوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقع إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحداً ولا سيما من ليس من اهـل الوصية وهو المصلح بين اهـلها، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي محجن الثقفي:
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أي أظن وأعلم شيئاً مكروها ولذا قال قبله:
تروى عظامي بعد موتي عروقها
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح.
والإثم المعصية، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصى به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه.
والإصلاح جعل الشيء صالحا يقال: أصلحه أي جعله صالحا، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا، ويقال: أصلح بينهم بتضمينه معنى دخل، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصى والموصى لهم المفهومين من قوله: {مُوصٍ} إذ يقتضي موصى لهم، ومعنى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير.
والمعنى: أن من وجد في وصية الموصى إضرارا ببعض أقربائه، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصى تبديل وصيته، فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصى لأنه آثر بعضهم، ولذلك عقبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعال والتنصيص على أنه مغفور.
وقرأ الجمهور {مُوصٍ} على أنه اسم فاعل أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف {مُوصٍ} بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:06 pm


[183, 184] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}.
حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا؛ إذ منها يتكون المجتمع.
وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر، وافتتحت بيا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.
والقول في معنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] الآية.
والصيام يقال الصوم هو في اصطلاح الشرع: اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياما كما قال العرجى:
فإن شئت حرمت النساء سواكم  . . .  وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقة على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة  . . .  تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وأطلق عل ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب:
حتى إذا سلخا جمادى ستة  . . .  جزءا فطال صيامه وصيامها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والسرب بقصد القربة فقد
عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره.
وقول الفقهاء: إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخلف لأقوال اهـل اللغة كما في "الأساس" وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد، أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف.
وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية" وفي بعض الروايات قولها: "وكان رسول الله يصومه" وعن ابن عباس: "لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء، فقال: ما هذا? فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فنحن نصومه فقال رسول الله: "نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه" فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه، وفي حديث عائشة فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من صام يوم عاشوراء ومن شاء ولم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] الآية وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وبهذا يتبين أن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده.
فحصل صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة.
فقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات، والتشبيه يكتفي فيه ببعض وجود المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدهما الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل السلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها.
وإنهاض هم المسلمين لتلق هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث: "أن ناسا من أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله: ذهب اهـل الدثور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم", الحديث ويحبون التفضيل على اهـل الكتاب وقطع تفاخرا اهـل الكتاب عليهم بأنهم اهـل شريعة قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا اهـدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157] فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه ليهود، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}.
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.
ووقع لأبي بكر بن العربي في "العارضة" قوله كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187].
فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان، لأن فعل {كُتِبَ} يدل على الوجوب وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء ثم فرض رمضان في العام الذي يليه وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات فلاشك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة.
والمراد بالذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من اهـل الشرائع وهم اهـل الكتاب أعني اليهود، لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم "تسرى" يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه "كبور" إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم "بوريم" تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة "استير"، وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما"، أما النصارى فليس، في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: "قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى" ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته،ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب، و"لعل" إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله، قي إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية.
وفي الحديث الصحيح: "الصوم جنة" أي وقاية ولما ترك ذكر متعلق جنة تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.
وقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة، ولا يضر وقوع الفصل بين {الصِّيَامُ} وبين {أَيَّاماً} وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ} إلى {تَتَّقُونَ} لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من لعل كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو {كُتِبَ} فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضى، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة.
والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية.
وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى.
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قوتين: إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقتر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان، بحيث يصير لا حظ له في الحيوانية إلا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية
النفس وإعدادها للعوالم الأخروبة، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيد المقصد من الحياتين، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام، قيل في "هياكل النور1" "النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم.
وفي "حكمة الإشراق" للسهروردي "وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله اهــ".
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشرى بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهـم مقدمات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته، فيتأهَّل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته.

-----------------------------------------------
1 هو للسهروردي.
-----------------------------------------------

إذا المرء لم يترك طعاما يحبه  . . .  ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة  . . .  إذا ذكرت أمثالها نملأ الفما
فإن قلت: إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه اهـل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين اهـل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة.
قلت: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصاباً وركوعا وقرفصاء، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها اهـل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
والمراد بالأيام من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عدا؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر، قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: {إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} فمعدودات جمع لمعدودة، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] لأنهم يقللونها غرورا أو تعزيرا، وقال هنا: {مَعْدُودَاتٍ} لأنها ثلاثون يوما، وقال في الآية الآتية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وهذا مثل قوله في جمع جمل: {جمالات} على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول: الجذوع انكسرت والقيل منه يجيء بصيغة الجمع تقول: الأجذاع انكسرن اهـ وهو غير ظاهر.
وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء كما في الصحيح وهو مفروض بالسنة، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال: "لا أزيد على هذا ولا أنقص منه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:07 pm


{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.
والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض نعه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققوا الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم الصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه.
وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير، وأعدل العبارات ما نقل من مالك، لأن الله أطلق المرض ولم يقيده، وقد علمنا أنه ما أباح الفطر إلا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر، إذ قال: "إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع، فإن الصوم لا يزيد وجع الإصبع وهذا الالتفات إليه، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه1".
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة، لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعوا إلى ضرورة كما في السفر، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال: إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت، وعن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله قلت: نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر? قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} وقيل: إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا، وعزي إلى الحسن والنخمي ولا يخفي ضعفه؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي أو كان بحالة السفر وأصل "على" الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى: {عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].

-----------------------------------------------
1 الفروق" للقرافي "1/118"، عالم الكتب.
-----------------------------------------------

ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصا في المتلبس، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول. . . . .
ماذا على البدر المحجب لو سفر  . . .  إن المعذب في هواء على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل غي التلبس بالفعل، على أن المسافر لا بفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب وقال: هذه السنة، رواه الدارقطني، وهو قول الحسن البصري، وقال جماعة: إذا أصبح مقيما ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك هو قول الزهري، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، وبالغ بعض المالكية فقال: عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب، ولقد أجاد أبو عمر، وقال أحمد وإسحاق والشعبي: يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في "صحيحي البخاري ومسلم" "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه فأفطر حتى قدم مكة"، قال القرطبي: وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه.
وإنما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يقل: فصيام أيام أخر، تنصيصا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر؛ إذ العدد لا يمون إلا على مقدار مماثل.
فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعن من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 125]، ووصف الأيام بأخر وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع؛ إذ كل جمع مؤنث، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] قال أبو حيان: واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة، وفيه نظر؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع هذا الظن، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ.
ولفظ {أُخَرَ} ممنوع من الصرف في كلام العرب.
وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل، أما الوصفية فظاهرة وأما العدل فقالوا: لما كان جمع آخر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أنه يلزم الإفراد والتذكير فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله "والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان؛ لأنه غير معتاد الاستعمال" فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما، وفيه ما فيه.
ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان، فأطلقت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها، ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية.
فأما حكم تتابع أيام القضاء، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات} فسقطت متتابعات، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أو هريرة، وأبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وتلك رخصة من الله، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ.
فلذلك ألغي الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ.
وفي "الموطأ" عن ابن عمر أنه يقول: يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر، قال الباجي في "المنتقى": يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب.
وأما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يحب فيه الفور بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه، وفي "الصحيح" عن عائشة قالت: يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان.
وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور، وبذلك قال جمهور العلماء وشد داود الظاهري فقال: يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم شوال المعاقب له.
وأما من أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه؛ لأن المفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة: تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:07 pm


{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}1
عطف على قوله: {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
والمطيق هو الذي أطلق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يطاق، وفسرها الفراء بالجهد بفتح الجيم وهو المشقة، وفي بعض روايات "صحيح البخاري" عن ابن عباس قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فلا يطيقونه}.
وهي تفسير فيما أحسب، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة، وقيل الطاقة القدرة مطلقاً.
فعلى تفسير الإطاقة بالجهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفدية.
وقد سموا من هؤلاء الشيخ الهرم والمرأة المرضع والحامل فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم، ووافق أبو حنسفة في الفطر؛ إلا أنه لم ير الفدية إلا على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء? والآية تحتملهما إلا أنها في الأول أظهر، ويؤيد ذلك فعل السلف، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عشراً بعد المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً.

-----------------------------------------------
1 في المطبوعة "مساكين" بصيغة الجمع" وهي قراءة المصنف.
-----------------------------------------------

وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذ تضمنت حكما بأن فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر اهـل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر.
ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كل من تلحقه مشقة أو توقع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحداد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظئر.
وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبين إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْاكِينٍ}، بإضافة فدية إلى طعام، وقراه الباقون بتنوين "فِدْيَة"ٌ وإبدال "طَعَامُ" من "فِدْيَةٌ".
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "مساكين" بصيغة الجمع جمع مسكين، وقرأه الباقون بصيغة المفرد، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين.
والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذي به في البلد، وقدره فقهاء المدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بر أو شعير أو تمر.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:08 pm


{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
تفريع على قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الخ، والتطوع: السعي في أن يكون طائعا غير مكره أي طاع طوعا من تلقاء نفسه.
والخير مصدر خار إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين {تَطَوَّعَ} معنى أتى، أو يكون {خَيْراً} صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا.
ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد: فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير، وهذا قول ابن عباس، أو أن يكون: من أراد الإطعام مع الصيام، قاله ابن شهاب، وعن مجاهد: من زاد في الإطعام على المد وهو بعيد؛ إذ ليس المد مصرحا به في الآية، وقد أطعم أنس بن مالك خبزا ولحما عن كل يوم أفطره حين شاخ.
و {خَيْرٌ} الثاني في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يجوز أن يكون مصدرا كالأول ويكون المراد به المفضل عليه لظهوره.

{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
الظاهر رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر إلا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك رحمة الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل يحسب شدة المرض.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تذييل أي تعلمون فوائد الصوم على رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى، وأن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر.
وجئ في الشرط بكلمة "إن" لأن علمهم بالأمرين من شأنه إلا يكون محققا؛ لخفاء الفائدتين.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:08 pm


[185] {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، فقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانيا، لأن قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد {شَهْرُ} بالنصب على البدلية من {أَيَّاماً}: بدل تفصيل.
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره، وإذا جوزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله:
وقائلة خولان فأنكح فتاتهم1
أنشده سيبويه، وكلا هذين الوجهين ضعيف.
والشهر جزء من أثنى عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36] والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم.
ورمضان علم وليس منقولا؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفعلان يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا، وقيل هو منقول عن المصدر.
ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال:
حتى إذا سلخا جمادى ستة  . . .  جزءا فطال صيامه وصيامها

-----------------------------------------------
1 تمامه:
وأكرومة الحيين خلو كماهيا
-----------------------------------------------

ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة، لأن رمضان أول أشهر الحرام بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران: الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر، ألا ترى أن العرب يقولون "الرطب شهري ربيع" ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم:
في ليلة من جمادى ذات أندية  . . .  لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة  . . .  حتى يلف على خيشومه الذنبا
الرابع الربيع الثاني، والثاني وصف للربيع، وهذا هو وقت ظهور النور والكمأة وشهراه رجب وشعبان، وهو فصل الدر والمطر قال النابغة يذكر غزوات النعمان ابن الحارث:
وكانت لهم ربعية يحذرونها  . . .  إذا خضخضت ماء السماء القبائل
وسموه الثاني لأنه يجيء بعد الربع الأول في حساب السنة، قال النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس بهلك  . . .  ربيع الثان والبلد الحرام
في رواية وروى "ربيع الناس" ، وسموا كلا منهما ربيعا لأنه وقت خصب، الفصل الخامس، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب.
السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني، على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع، وجمادى الأولى وجمادى الثانية.
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجئ بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء.
وأسماء الشهور كلها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول، فالأول والثاني صفتان لشهر، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحدة مثل شجر الأرك ومدينة بغداد، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال: إنه لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدره، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا" بنصب رمضان وإنما أنجز إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في "أدب الكاتب".
وإنما أضيف الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن للإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهر لا نصا، لا سيما مع تقدم قوله: {أَيَّاماً} [البقرة: 80] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان.
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجرى على الشهر من إلفات يحقق أن المراد منه الأزمنة المسماة به طول الدهر.
وظاهره قوله: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجزي عليه الموصول، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل وأجرى الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك أغلى كما يشهد به تتبع كلامهم، وليس المقصود الإخبار عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبر لأن لفظ {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر وليس هو مبتدأ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به كما جاء في كثير نن الآيات مثل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد، وقد تقدم قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ومعنى { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} أنزل في مثله؛ لأن الشهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قد انقضى قبل نزوله آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض في السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة عدة سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر.
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبار يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: 5]، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدى في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة.
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين.
ولما كان ذلك هو المراد وفت بشهر معين قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شرف بنول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقا فيه، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية من الملة الحنفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء شهر رمضان" ، وقال ابن سعد: جاء الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان.
وقوله: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} حالان من القرآن إشا بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان.
والمراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العادة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية.
والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام، فالمراد بالهدى الأول: ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني، فلا تكرار.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:09 pm


{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
تفريع على قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الذي هو بيان لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} من استيناس وتنويه بفضل الصيام وما يرجى من عودة على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.
وضمير [مِنْكُمْ] عائد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 14] مثل الضمائر التي قبله، أي كل من حضر الشهر فليصمه، و {شَهِدَ} يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال: إن فلانا شهد بدرا وشهد أحدا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل {شَهِدَ} أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرا، وهو المناسب لقوله بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الخ.
أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويفهم أن من حضر بعضه يصوم أيام حضوره.
ويجوز أن يكون {شَهِدَ} بمعنى علم كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر، وليس شهد بمعنى رأى؛ لا يقال: {شَهِدَ} بمعنى رأى، وإنما يقال شاهد، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في "الأساس" قول ذي الرمة:
فأصبح أجلي الطرف ما يستزيده  . . .  يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل
أي يرى هلال الشهر، لأن الهلال لا يصح أن يتعدي إليه فعل {شَهِدَ} بمعنى حضر ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بينا وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية.
وقرأ الجمهور: "القرآن" بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف، وقرأه ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 184] أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الآية وصار الصوم واجبا علة التعيين خيف أن يظن الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحصر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقا بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه إذا كان شهد بمعنى تحقق وعلم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:09 pm


{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
استئناف بياني كالعلة لقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} إلخ بين به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} نفي لضد اليسر، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو أن يقول: ما يريد بكم إلا اليسر، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها، ويجوز أن يكون قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تعليلا لجميع ما تقدم من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [ البقرة: 183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فأن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.
وقرأ الجمهور: "اليسر" و"العسر" بسكون السين فيهما، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمة إتباع.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
عطف على جملة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إلخ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمت؛ فإن مجموع هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} إلى قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
واللام في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا} تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر إي مادة أمر للذين مفعولها إن المصدرية مع فعلها، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8] قال في "الكشاف": أصله يريدون أن يطفئوا، ومنه قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأن ظاهرة أو مقدرة.
والمعنى: يريد الله أن تكملوا العدة وأن تكبروا الله، وإكمال العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف.
وقرأ الجمهور: {وَلِتُكْمِلُوا} بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كمل.
وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} عطف على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وهذا يتضمن تعليلا وهو في معنى علة غير متضمنة لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه.
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني، والكبر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: الله أكبر، فالتفعيل هنا مأخوذ من فعل المنحوت من قول يقوله، مثل قولهم: بسمل وحمدل وهلل وقد تقدم عند الكلام على البسملة، أي لتقولوا: الله أكبر، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم فبالاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة "الله أكبر" كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتصيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإن التكبير تعظيم يتضمن شكرا والشكر أعم، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر.
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلته مما يريده الله، وهو غير مفصل في لفظ الكبير، ومجمل في وقت التكبير؛ وعدده، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال.
فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثا، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال: لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال أحمد: هو واسع، وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.
وأما وقته: فتكبير الفطر يبتدئ من وقت خروج المصلى من بيته إلى محل الصلاة، وكذلك الإمام ومن خرج معه، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به اهـل المدينة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير.
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشافعي: يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صرة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:10 pm


[186] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
الجملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا. . . .  وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] ثم التفت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أي العباد الذين كان الحديث معهم، ومقتضى الظاهر أن يقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وتدعون فأستجيب لكم إلا أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى، والإشارة إلى جواب من عسى لأن يكونوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الدعاء هل يكون جهرا أو سرا، وليكون نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم علي فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك? وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ} الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل. واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني  . . .  خبير بأدواء النساء طبيب
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة فإن قلت وهو اصطلاح "الكشاف".
ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة: 189] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال: {سَأَلَكَ عِبَادِي} وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكما جزئيا خاصا بهم، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة.
وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء.
والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين، وكذلك اصطلاح القرآن غالبا في ذكر العباد مضافا لضمير الجلالة، وأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17] عبادي هؤلاء بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام.
وإنما قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} ولم يقل: فقل لهم إني قريب إيجازا لظهوره من قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} وتنبيها على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.
واحتيج للتأكيد بإن، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريبا مع كونهم لا يرونه.
و {أُجِيبُ} خبر ثان لإن وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيدا له لتسهيل قبوله.
وحذفت ياء المتكلم من قوله "دعان" في قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا اهـل الحجاز، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقا عليه في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] في هذه السورة.
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عبادة غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربطا للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم.
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} تفريع على {أُجِيبُ} أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري، واستجاب وأجاب بمعنى واحد.
وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادى بالقدوم، أو قول بدل على الاستعداد للحضور نحو "لبيك"، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنه أجاب نداءه.
فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} عطفا مغايرا والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان، فذكر {وَلْيُؤْمِنُوا} عطف خاص على عام للاهتمام به.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} تقدم القول في مثله والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفرح وضرب، والأشهر الأول.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:11 pm


[187] {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}.
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة.
وذكروا السبب نزول هذه الآية كلاما مضربا غير مبين فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر اهـله بعد ذلك فجاء عمر يريد امرأته فقالت: إني قد نمت فظن أنها تعتل فباشرها، وروى البخاري عن البراء ابن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته: حتى نسخن لك شيئا فنام فجاءت امرأته فوجدته نائما فقالت: خيبة لك فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمى عليه من الجوع، وفي كتاب التفسير من "صحيح البخاري" عن حديث البراء ابن عازب قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يحزنون أنفسهم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل: كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسنة ثم نسخ، وهذا قول جمهور المفسرين، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا وقال: هو نسخ لما كان في شريعة النصارى.
وما شرع الصوم إلا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار، والمقصود منها إبطال شئ توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلا الأكل دون الجماع؛ إذا كانوا يتأتون من الإصباح في رمضان على جنابة، وقد جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة كان يرى ذلك يغني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل هذا قد سرى إليهم من اهـل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد ابن جرير من طريق السدى، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة، وذكر ابن العربي في "العارضة" عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم من الليل شيئا فأنزل الله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ} دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري بن صرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي.
فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل.
وليلة الصيام الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جويا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلا ليلة عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.
والرفث في "الأساس" و"اللسان" أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء،
وقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعسر الاحتراز عن ذلك.
ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالعبد عن المرأة، فقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتها في قولهم: لا بس الشيء الشيء، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و {تَخْتَانُونَ} قال الراغب: الاختيان، مراودة الخيانة بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأن ذلك تغرير بها؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ} [البقرة: 9].
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها، وقيل: الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في "الكشاف" قلت: وهو استعمال كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107].
وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الأمر للإباحة، وليس معنى قوله: {فَالْآنَ} إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه: {فَالْآنَ} اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم والابتغاء الطلب، وما كتبه الله: ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} عطف على {بَاشِرُوهُنَّ} والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشده بإبرة أو مخيط، يقال خاط الثوب وخيطه.
وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية:
فلما أضاءت لنا سدفة1  . . .  ولاح من الصبح خيط أنارا

-----------------------------------------------
1 السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.
-----------------------------------------------

وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد "من الصبح" لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك، وجعله في "الكشاف" تشبيها بليغا، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام، كالآية وبيت أبي دؤاد، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.
وقد جئ في الغاية بحتى وبالتبين للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق، ثم قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم، إذ ليس في زمان رمضان إلا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا} ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.
و {إِلَى اللَّيْلِ} غاية اختير لها "إلى" للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى تمتد معها الغاية بخلاف حتى، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهـتمام بتعيين وقت الإفطار؛ لأن ذلك كالبشارة لهم، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الضحوة الكبرى.
بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ثم للجمل.
هذا، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله: "إن وسادك لعريض، وفي رواية: "إنك لعريض القفا، وإنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".
ورويا عن سهل بن سعد قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي ابن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عجيا أسلم سنة تسع أو سنة عشر، وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان أي صوم عاشوراء أو صوم النذر وفي صوم التطوع، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها: {مِنَ الْفَجْرِ} علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.
وحديث سهل، لا شبهة في صحة سنده إلا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} وقوله: فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} مرويا بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة، لأنه لم يقع في "الصحيحين" إلا من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي: فأنزل بعد أو بعد ذلك: {منَ الْفَجْرِ} وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} وأيا ما كان فليس في هذا شئ من تأخير البيان، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود، فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلق بفعل {يَتَبَيَّنَ} على أن تكون "من" تعليلية أي يكون تبينة بسب ضوء الفجر، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إن وسادك لعريض" أو "إنك لعريض القفا" كناية عن قلة الفطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام.
وقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} عطف على قوله: {بَاشِرُوهُنَّ} لقصد أن يكون المعتكف صالحا.
وأجمعوا على أنه لا يكون إلا في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لابد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:11 pm


{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام.
فالإشارة إلى ما تقدم، والإخبار عنها بالحدود عين أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهو في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ} وقوله: {إِلَى اللَّيْلِ} {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوز إلى معصية، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل: {أُحِلَّ لَكُمْ} ومثل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} والحدود والحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوز المرء دخل في شيء آخر، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث: "وحد حدودا فلا تعتدوها".وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]
وقوله: {فَلا تَقْرَبُوهَا} نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
والقول في: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} تقدم نظيره في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي كما بين أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهـتدوا لطريق الامتثال، أو لعلهم يلتبسون بعناية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذين بإثم التقصير إلا أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدر له مفعول مثل {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:12 pm


[188] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
عطف على جملة، والمناسبة أن قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] تحذير من الجرأة على مخالفة الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبة قوة، هذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن االميسر، ومن غضب التقوى مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرور والمقامرة، ومن الرباة ونح ذلك.
وكل ذلك من الباطل الذي ليس من طيب نفس، والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع، لأن ذلك الأخذ يشبه الأكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل لا يخفى.
والأموال: جمع مال ونعرفه بأنه "ما بقدره إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح" ، فلا يعد الهواء مالا، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا، ولا التراب مالا، ولا كهوف الجبال وضلال الأشجار مالا، ويعد الماء المحتقر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا.
والمال ثلاثة أنواع: النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] وقال: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: من الآية79] وقد سمت العرب الإبل مالا قال زهير:
صحيحات مل طالعات بمخرم
وقال عمر: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبة ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث: "يقول ابن آدم: مالي مالي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت" فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.
النوع الثاني: ما تحمل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.
النوع الثالث: ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبر عنه بالنقد أو بالعملة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والودع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه، وهذا لا يتم اعتباره إلا في أزمنة السلم والأمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.
وقولي في التعريف: حاصلا بكدح، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلا بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والاكتساب له ثلاث طرق.
الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجمال والتقاط الكمأة.
الطريق الثاني: الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.
الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما يتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدر بمقداره كدينار ودرهم في شئ مقوم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه.
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعا وخسرا أي بدون وجه، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعنى العوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.
والضمائر في مثل {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين، وفعل {وَلا تَأْكُلُوا} وقع في حيز النهي فهو عام، فأفاد ذلك نهيا لجميع المسلمين عن كل أكل وفي جميع الأموال، فنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102] {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6]، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9]، والتعويل في ذلك على القرائن.
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله: {بَيْنَكُمْ} ؛ لأن بين تقتضي توسطا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول وإلا لما كانت فائدة
لقوله: {بَيْنَكُمْ}.
ومعنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب: المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما أحلقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275] ، ومثل رشوة الحكام، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه"، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي: هي خمسون حديثا.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتصيلة في الفقه.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس الكندي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في "صحيح مسلم" ولم يذكر فيها أن هذه لآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} طف على {تَأْكُلُوا} أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل.
وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل ملا بل آكل غيره، وجوز أن تكون الواو للمعية و {تُدْلُوا} منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي من هذا النوع من أكل الأموال بالباطل.
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع.
فالمعنى على الاحتمال الأول، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس باإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاد الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة، وللقضاء بغير الحق، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.
والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب، وكأن الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل، وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل، وعلى تحريم الجوز في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق، ولا جرم أن هاته الأشياء من اهـم ما تصدى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنان اليشكري:
لو كان حوض حمار ما شربت به  . . .  إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته  . . .  ريب المنون فأمسى بيضة البلد
وأما إرشاء الحكام فقد كان اهـل الجاهلية يبذلون الرشا للحكام ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضي بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات.
حكمتموه فقضى بينكم  . . .  أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه  . . .  ولا يبالي غبن الخاسر
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن فضلة الفقعسي لينفره عليه ففعل، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاء المغيرة ابن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإن صح ولا إخاله: فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله، أما يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال الباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول؛ لأن الحاكم موكل المال لا آكل، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل؛ لأن القضاء بالحق واجب، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلا إذا لم يجعل له شئ من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شئ معين على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ} فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلا ظاهرا1، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء يعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح
واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها علي شاهداك زوجاك، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث: "فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم لإظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.

-----------------------------------------------
1 انظر هذه المسألة في "تفسير القرطبي" "4/120" المسألة الثانية من [آل عمران: 77].
-----------------------------------------------

والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحا وفاسدا شرعا من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعه على الناس فلا يخفي ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلانا بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن علم وعمد فجرمه أشد.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:12 pm


[189] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام، دعا إليه ما حدث من السؤال، فقد روي الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين؛ لأن آية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} متصلة بها.
وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية.
فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه.
ومن كمال النظام ضبط الأوقات، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة، لقوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
وابتدئت الآية بـ {يَسْأَلونَكَ} لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة وجميع الآيات التي افتتحت بـ {يَسْأَلونَكَ} هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها.
وروى أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد.
وجمع الضمير في قوله: {يَسْأَلونَكَ} مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظرا لأن المسؤول عنهم يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف منهم لمعرفة سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل نفسه، وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين.
والسؤال: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر، فإذا كان طلب بذل عدى فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدى الفعل بحرف "عن" أو ما ينوب منابة.
وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة بـ {يَسْأَلونَكَ} وهي سبع آيات غير بعيد بعضها من بعض، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها.
وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقية بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها.
والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها، فيعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب، فإن كان من الحكمة فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جار على وفق السؤال وإلى هذا ذهب صاحب "الكشاف" ، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه، لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه، فإنه متعارف لهم، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.
وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} غير مطابق للسؤال، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى، لا سيما والرسول لم يجيء مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعي تعليمهم مقدمات لذلك العلم، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ،ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8-7] و قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ: 7] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر أنشده في المفتاح ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره:
أتت تشتكي مني مزاولة القرى  . . .  وقد رأت الأضياف ينحون منزلي
فقلت لها لما سمعت كلامها  . . .  هم الضيف جدى في قراهم وعجلي
وإلى هذا صاحب "المفتاح" وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة: لظهورها، وعلى أن الواو في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا الخ.
والأهلة: جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية، قيل والثالثة، ومن قال إلى السبع فإنما أراد الحجاز، لأنه يشبه الهلال، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين، وسبع وعشرين، لأنه في قدر الهلال في أول الشهر، وإنما سمي الهلال هلالا لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك، وإن هل وأهل بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا اهـلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173].
وقوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} أي مواقيت لما يوقت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس، ولم تذكر الأعمال الموقتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
واحتياج الحج للتوقيت ضروري؛ إذ لو لم يوقت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها؛ بخلاف الصلاة فبيست موقتة بالأهلة، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحمل المقصد الشرعي ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة مماثلا فلا يشق أحد على آخر في اختلاف الأكل والنوم ونحوهما.
والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة وقت وسمي العرب به الوقت، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس.
وسمي العرب الوقت المعين ميقاتا كأنه مبالغة وإلا فهو الوقت عينه وقيل: أميقاة أخص من الوقت، لأنه وقت قدر فيه عمل من الأعمال، قلت: فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعين يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.
ومجيء ذكر الحج في هاته الآية وهي من أول ما نزل بالمدينة، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج لأن المشركين يمنعونهم_إشارة إلى وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه1.وسيأتي عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} في [سورة آل عمران: 97] وعند قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] في هذه السورة.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:13 pm


{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
معطوفة على {يَسْأَلونَكَ} وليست معطوفة على جملة: {هِيَ مَوَاقِيتُ} لأنه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولا للمجيب.
ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان مواليا أو مقارنا لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم

-----------------------------------------------
1 فيه نظر، إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.
-----------------------------------------------

جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء، وكانا المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من اهـل المدر، وإن كانوا من اهـل الخيام دخلوا خلف الخيمة، وكان الأنصار يدينون بذلك.
وأما الحمس فلم كانوا يفعلون هذا، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه.
وهم:
قريش.
وكنانة.
وخزاعة.
وثقيف.
وجثم.
وبنو نصر ابن معاوية.
ومدلج.
وعدوان.
وعضل.
وبنو الحارث بن عبد مناف
وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية،
ومعنى نفى البر عن هذا نفى أن يكون مشروعا أو من الحنيفية، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم، فالنفي في قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] والقرينة هنا هي قوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ولم يقل هنالك: واستقبلوا أية جهة شئتم، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.
روي الواحدي في "أسباب النزول" أن النبي صلى الله عليه وسلم اهـل عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار قيل: اسمه قطبة بن عامر وقيل: رفاعة بن تابوت كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لم دخلت وأنت قد أحرمت"? فقال له الأنصاري: دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحمس" فقال له الأنصاري: وأنا ديني على دينك رضيت بهديك فنزلت الآية، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله، وفي "تفسير ابن جرير وابن عطية" عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من اهـل الحجاز فوقف الرجل وقال: إني أحمس فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمس" فنزلت الآية، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها، وأقول: الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: "كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنه عبر بذلك فنزلت هذه الآية"، ورواية السدي وهم، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه، وسياق الآية ينافيه.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} القول فيه كالقول في قوله تعالى : {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177].
و {اتَّقَى} فعل منزل منزلة اللازم؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
وجر {بِأَنْ تَأْتُوا} بالباء الزائدة لتأكيد النفي بليس، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظنا قويا فلذلك كان مقتضى حالهم أن يؤكد نفي هذا الظن.
وقوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} معطوف على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء؛ لأن قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} في منهي النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي.
وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل.
وقرأ الجمهور: {الْبُيُوتَ} في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فعل على فعول فهي كسرة لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا: {عُيُونٍ} [الحجر: 45].وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر.
بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة، قال ابن العربي في "العواصم": والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلا الهمزة فإني أتركه أصلا إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عين عيون.
وأطال بما في بعضه نظر، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض.
وقد تقدم خلاف القراء في نصب {الْبِرَّ} من قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} وفي تشديد نون {لَكِنَّ} من قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تظفرون بمطلبكم من البر: فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئا إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم.
وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة: فقيل إن قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازا ومعنى؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة، والنسيء من أحوال اهـل الجاهلية، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة.وقيل: مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جدا لحصول الجواب من قبل، وقيل: كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألا يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك، وهذا بعيد معنى، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك، وسندا، إذ لم يرو أحد أن هذا سبب النزول.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:13 pm


[190] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
جملة: {وَقَاتِلُوا} معطوفة على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} إلخ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء سنة ست وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] في وسرة الحج ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية: وقد ثبت في "الصحيح" "أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى اهـل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان".
ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شان الخروج إلى الحديبية ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا صد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤا المسلمين لقتلهم، فقوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك: وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال، لأن السبب لا يخصص،
وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين، وقيل: المراد الكفار كلهم، فإنهم بصدد أن يقاتلوا.
ذكره في "الكشاف" ، أي ففعل: {يُقَاتِلُونَكُمْ} مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180].
والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة، فقوله: {وَقَاتِلُوا} بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.
وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل، ولهذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فجعل فاعله ضمير عدوهم، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا؛ لأن تلك الحالة قد يفوت على المسلمين تداركها، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع.
فقوله: {وَلا تَعْتَدُوا} أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تحذير من الاعتداء؛ وذلك مسألة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين، وقيل: أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} آنفا.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:14 pm


[191, 192] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َفإن انتهوا فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عمم المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحا بتعميم الأماكن فإن اهـمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تعميم الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال.
فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.
وعطف الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا: {وَاقْتُلُوهُمْ} ولم يقل: وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيها على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غير مباشر للقتال وأنه من خرج محاربا فهو قاتل وإن لم يقتل.
و {ثَقِفْتُمُوهُمْ} بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفعله كفرح، وفسره في "الكشاف" بأنه وجود على حالة فهو وغلبة.
وقوله: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي يحل لكم حينئذ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] الآية.
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخطابي، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه.
والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العيش وقد تقدمت عند قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعا من مؤاخذتهم عليه؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على اهـبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيل.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:14 pm


{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}
الجملة معطوفة على جملة: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام
بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.
وجعلت غاية النهي بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين.
فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وفي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوهُمْ} تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ولو في غير اشتباك معهم بقتال، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} لأنه يشمل القتل بدل قتال والقتل بقتال.
فقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ } أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا.
وقد اختار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] إلى قوله هنا: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقاربة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقة وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناواة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة المسجد الحرام.
وقرأ الجمهور: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} ثلاثتها بألف بعد القاف، وقرأ حمزة والكسائي {ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم} بدون ألف بعد القاف، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله:
غضبت تميم أن تقتل عامر  . . .  يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
والمعنى ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد "قتلوا" إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد.
وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال: لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ القتال؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق.
قال ابن خويز منداد: وأما قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فيجوز أن يكون منسوخا بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا،
وبالحديث الذي رواه في "الموطأ" عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه"، وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به، وبمثل قوله قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، وقال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده: غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد، قال ابن العربي في "الأحكام" : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد? فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا، فأجاب بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإن قريء: {ولا تقتلوهم} فالآية نص وإن قرئ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام اهــ.
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة.
وأما قول الحنفية وبعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
وقال ابن العرب في "الأحكام": الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
وهو مما شمله قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وقوله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} ، والإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله: {كَذَلِكَ} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم؛ لأن الله غفور رحيم، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} جواب الشرط وهو إيجاز بديع؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف، وهذا من إيجاز الحذف.
والانتهاء: أصله مطلوع نهي يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر  . . .  وعن تربعهم في كل إصفار
أي عن الوقوع في ذلك.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:15 pm


[193] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}.
عطف على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبينة. . .
وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] إلى هنا تفصيلا لجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ؛ لأن عموم {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة.
فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله: فإن قاتلوكم فاقتلوهم، فإعادة فعل {وَقَاتِلُوهُمْ} لتبنى عليه الغاية بقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله، ف"حتى" في قوله: {حَتَّى لا تَكُونَ} إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن "حتى" معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة: 217].
وأياما كان فالمضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.
والفتنة تقدمت قريبا والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته.
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين: إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتزول فتنتهم فيه، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين.
وقد يعرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر، ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين: إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل، وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات، ومن ثم قال علماؤنا: لا تقبل من مشركي العرب الجزية، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.
وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} عطف على {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو معمول لأن المضمرة بعد "حتى" أي وحتى يكون الدين لله.
أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده.
فالتعريف في الدين تعريف الجنس، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الذين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد، والمعنى: ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثرا جيدا قال: جاء رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج? فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فقال ابن عمر: قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الذين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله، قال ابن عمر: كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم، وهذا تصريح بمفهوم قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.
وقوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} قائم مقام جواب الشرط؛ لأنه علة الجواب المحذوف، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال، لأنهم غير ظالمين؛ وإذ لا عدوان إلا على الظالمين وهو مجاز بديع.
والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكله لقوله: {عَلَى الظَّالِمِينَ} كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة.
وهذه المشاكلة تقديرية.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:15 pm


[194] {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها؛ لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعنى الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها.
فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعوا الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم، وإن كان نازلا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين اعتمر عمرة القضية: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال: نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام، والتقدير حرمة الشهر الحرام، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.
وقيل: معنى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم: هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي، يعني أنه من قبيل قولهم "يوم بيوم والحرب سجال".
والباء في قوله: {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} للتعويض كقولهم: صاعا بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر، لأنه يفيد حكما عاما ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.
والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا ورجوعا وأداء، وشهر واحد مفرد هو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرمته مضر كلها ولذلك يقال له: رجب مضر، وقد أشير إليها في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
وقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحاجة لما قبله من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} إلخ فالجملة تذييل والواو اعتراضية ومعنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]والإخبار عن الحرمات بلفظ "قصاص" إخبار بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} تفريع عن قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ونتيجة له، وهذا وجه قول الكشاف: إنه فذلكة، وسمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكله على نحو ما تقدم آنفا في قوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
وقوله: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما سيقوله، فإن قولك في الخطاب: اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [لأنفال: 24] في سورة الأنفال، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية، ويجوز أن يكون المعنى: واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] فهو يجعلهم بمحل عنايته.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:16 pm


[195] {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
هذه الجملة معطوفة على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شئ ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شئ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم.
ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين، والإنفاق تقدم في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية3].
و "سبيل الله" طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شئ فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه، ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعين أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب {سَبِيلِ اللَّهِ} في اصطلاح الشرع في الجهاد.
أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته، و"في" للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العتاد، والخيل، والزاد، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست "في" هنا مستعملة للتعليل.
وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف غرض على غرض، عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغا للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.
والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمي إليه بإلى وإلى المرمي فيه بفي.
والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد "أعطي بيده" أي أعطي يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يشد بيده، فزيادة الباء كزيادتها في {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا
والمعنى ولا تعطوا الهلاك أيديكم فيأخذكم أخذ الموثق، وجعل التهلكة كالآخذ والآسر استعارة بجامع الإحاطة بالمقى، ويجوز أن تجعل اليد مع هذا مجازا عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد اهـم شئ في النفس في هذا المعنى، وهذا في الأمرين كقول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
أي ألقت الشمس نفسها، وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم.
والتهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد في المصادر وزن التفعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكنه مصدر مضاعف العين المعتل اللام كزكى وغطى، أو المهموز اللام كجزأ وهيأ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التضرة والتسرة بضم العين من أضر وأسر بمعنى الضر والسرور، وفي الأسماء الجامدة التضنضبة والتتفلة الأول اسم شجر، والثاني ولد الثعلب، وفي "تاج العروس" أن الخليل قرأها "التهلكة" بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتني منه المقصود.
وعطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك كما قيل:
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقاد غير صحيح، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.
وفي البخاري عن ابن عباس وجماعة من التابعين في معنى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة وإن لم يكن إلا سهم أو مقص فأت به.
وقد قيل في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أقوال:
الأول أن {أَنْفِقُوا} أمر بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة، ويبعده قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وإن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.
الثاني أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك ويبعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك.
الثالث الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.
الرابع الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.
الخامس أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم.
روى الترمذي عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم "القسطنطينية" فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فانزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهليكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو اهــ، والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة.
ووقوع فعل {تُلْقُوا} في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدما على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك.فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين، وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد "من التابعين" وعبد الملك بن الماجشون وابن خويز منداد "من المالكية" ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة.
وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} الإحسان فعل النافع الملائم، فإذا فعل فعلا نافعا مؤلما لا يكون محسنا فلا تقول إذا ضربت رجلا تأديبا: أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أحسنت إليه، وكذا إذا فعل فعلا مضرا ملائما لا يسمى محسنا.
وفي حذف متعلق {أَحْسَنُوا} تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ".
وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر باعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أن كل هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحف بها، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق، والعرب تقول: ملكت فأسجح ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تذييل للترغيب في الإحسان، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخره، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:17 pm


[196] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ اهـلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إلخ.
وما بينهما استطراد أو اعتراض، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفا على التي قبلها عطف قصة على قصة.
ولا خلاف في أن هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجزة، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما يقي منه حتى يستوعب جميعه.
ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} أي كملوه إن شرعتم فيه، وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] على ما اخترناه وقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة: 4]، ومثله أن تقول: أسرع السير للذي يسير سيرا بطيئا، وثانيهما أن يجئ الأمر بوصف الفعل مرادا به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]، وذلك كقولك: أسرع السير فادع لي فلانا تخاطب به مخاطبا لم يشرع في السير بعد، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة، ونظيره قولهم: وسع فم الركية -وقولهم: وسع كم الجبة وضيق جيبها أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة.
والآية تحتمل الاستعمالين، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة، بمعنى إلا يكون حجا وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما:
والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها، وكأن هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها.
واللام في "الحج والعمرة" لتعريف الجنس، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد للجماعة وفيه وقوف عرفة، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه، وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه وعن ابن السكيت: الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلانا أطالوا الاختلاف إليه وفي "الأساس": فلان تحجه الرفاق أي تقصده اهـ.
فجعله مفيدا بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة  . . .  يحجون سب الزبرقانالمزعفرا
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك.
بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعى لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم:
عليهن شعث عامدون لربهم  . . .  فمن كأطراف الحني خواشع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى.
وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في "تاريخ العرب"، وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل "أورشليم" وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلا هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.
واتخذت النصارى زيارات كثيرة، حجا، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة "أورشليم" ، وكذا زيارة قبر "ماربولس" وقبر "ماربطرس" برومة، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة "عسقلان" من بلاد السواحل الشامية، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هن نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبد بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشا جرفها السيل:
كأن الوحوش به عسقلا  . . .  ن صادفن في قرن حج ذيافا
أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة، وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل "زفس" وللهنود حجوج كثيرة.
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها وذكر الحج معها إدماج1، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر".
ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضربون، على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبا "منصل الأسنة" ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.
وقوله: {لله} أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم غيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة، لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.

-----------------------------------------------
1 في "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي، مادة إدماج، ج"1/464": الإدماج في اصطلاح يهل البديع: أن يضمن كلام سيق لمعنء" معنى آخر، وهذا المعن الآخر يجب ألا يكون مصرحا به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله.
-----------------------------------------------

ويجوز أن يكون التقييد بقوله: {لله} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى.
وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية، وعليه فمحمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والطواف، والإتمام، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع.
ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملا في القدر المشترك من الطلب اعتمادا على القرآن، ومن هؤلاء من قرأ، "والعمرة" حتى لا تكون فيما سماه الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج.
وجعلها الشافعية دليلا على وجوب العمرة كالحج، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مرادا به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان، فالمراد بالإتمام إتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين، قالوا: إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام، ولأنه معضود بقراءة "وأقيموا الحج" وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع، لأن الإتمام يتوقف على الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل.
والحق أن حمل الأمر في ذلك على الأمر بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت، وقراءة: "وأقيموا" لشذوذها لا تكون داعيا للتأويل، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلاف الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر؛ بأن يدل على معنى: إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة، فيكون من دلالة الاقتضاء، ويكون حقيقة وإيجازا بديعا، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا، لأنهم كانوا نووا العمرة، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف
يدعي الشافعية أن {أَتِمُّوا} هنا مراد منه إيجاب الشروع، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما أشار له العصام.
فالحق أن الآية ليست دليلا لحكم العمرة وقد اختلف العلماء في حكمها: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك: لا أعلم أحدا رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين.
وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي وسعيد بن جبير، وأبو بردة، ومسروق، وإسحاق بن راهويه.
ودليلنا حديث جابر بن عبد الله: "قيل: يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ فقال: "لا، وأن تعتمروا فهو أفضل"، أخرجه الترمذي، ولأن عبادة مثل هذه ولو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة، وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يقول: لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئا قلت: العمرة واجبة اهـ محل الاحتجاج قوله: لم أسمع إلخ، ولأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ولم يذكر العمرة، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد.
ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة، واحتج أصحابنا أيضا بحديث: "بني الإسلام على خمس", وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيها العمرة، وحديث الأعرابي الذي قال: "لا أزيد ولا أنقص: فقال: "أفلح إن صدق" ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية، إذ قرنت فيها مع الحخ، وبقول بعض الصحابة وبالاحتياط.
واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامة ذلك قبل الرجوع إلى بلده، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء "عام حجة الوداع" فقال: "بم اهـللت"? فقلت: اهـللت كإهلال النبي قال: "أحسنت هل معك من هدي؟"؛ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي، ثم اهـللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي
محله، يريد عمر والله أعلم أن أبا موسى اهـل بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي كان مهلا بحجة وعمرة معا فهو قارن والقارن متلبس بحج، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجة وتمسك بفعل الرسول عليه السلام أنه كان قارنا ولم يحل، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة.
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عطف على {َأَتِمُّوا} والفاء للتفريع الذكرى فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام.
ولا سيما الحج؛ لأن وقته يفوت غالبا بعد ارتفاع المانع، بخلاف العمرة، والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال: أحصره منعه مانع قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت  . . .  عليك ولا أن أحصرتك شغول
وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده، وأصده هذا قول المحققين من أئمة اللغة، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو، قال: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما كما قال الزمخشري في "الكشاف" ، ومن اللغويين من قال: أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جدا.
وجاء الشرط بحرف "إن" لأن مضمون الشرط كربه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بان المشركين سيمنعونهم من العمرة وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وكأن هذا هو الذي يراه مالك رحمه الله، ولذلك لم يحتج في "الموطأ" على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية، وإنما احتج بالسنة وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة.
ولأن هذه الآية جعلت على المحصر هديا ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كسر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في "الموطأ" من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابن عمر وابن الزبير ومروان بن الحكم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدى، فإذا أصح اعتمر.
فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهبار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفه، بخلاف حصار العدو، واحتج في الموطأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ووجه أصحابنا ذلك بالتفرقة؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج؛ فلذلك كان مطالبا بالإتمام، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة، وقال الشافعي: لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة، وقال أبو حنيفة: كل منع من عدو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سعي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه.
ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده، على أن حديث الحديبية متواتر؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يزيدون على عدد التواتر، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله.
وقال الشافعي: المراد هنا منع العدو بقرينة قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدو؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدو فبنص الآية، وأما غيره فبالقياس عليه.وعليه: إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي.
ولم يقل بوجوب القضاء عليه؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد وهو السند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله: {مِنَ الْهَدْيِ} وقدره في "الكشاف" فعليكم، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي.
ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.
و {اسْتَيْسَرَ} هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستصعب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه، فاستيسر هنا مراد به جميع وجوه التيسر.
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فعل من اهـدى، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي1، فإن كان اسما فمن بيانية، وإن كان جمعا فمن تبعيضية، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب، وإن لم يكن ساقه معه فعلية توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيدا لقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة.
والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك.
والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال: حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء، وقيل محله: هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس، وقوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} كناية عن الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل.

-----------------------------------------------
1 جدية السرج شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج.
-----------------------------------------------

وكلمة من للابتداء أي أذى ناشئ عن رأسه.
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : "حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال" ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة? قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك، فنزلت هذه الآية في خاصة وهي لكم عامة اهـ" ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ.
وقوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه.
والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية، وقرينة المحذوف قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة، والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكا، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث: "والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم" يعني الضحية.



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:18 pm


{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ اهـلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
الفاء للعطف على {أُحْصِرْتُمْ} إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هديا ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلا بعد تمكنهم من فعل الحج والفاء لمجرد التعقيب الذكري.
وجيء بإذا فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف، وهو أيضا السلامة من كل ما يخالف منه أمن كفرح أمنا، أمانا، وأمنا، وآمنة، وإمنا بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول: أمنت من اعدو، ويتعدى إلى المأمون تقول: أمنت فلانا إذا جعلته آمنا منك، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126].
وهذا دليل على المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل "إذا أمنتم" ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة، فالآية دلت على حكم العمرة، لأنها لا تكون إلا مع الأمن، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف.
وقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} جواب "إذا" والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا إلى عام قابل، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضا عن هدي الحج، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة، وأن قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج، ويعلم أن من أمن وقد بقى ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.
ومعنى {تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} انتفع بالعمرة عاجلا، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفه الإحرام مدة طويلة، وهذا رخصة من الله تعالى، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظور في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.
فالباء في قوله: {بِالْعُمْرَةِ} صلة فعل {تمتع} ، وقوله: {إِلَى الْحَجِّ} متعلق بمحذوف دل عليه معنى "إِلَى" متربصا إلى وقت الحج أو بالغا إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة "إِلَى" أن بين العمرة والحج زمنا لا يكون فيه المعتمر محرما وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران، فعليه ما استيسره من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم، والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم يحج من عامه ذلك فبل الرجوع إلى أفقه، وخص القران بأن يقترن الحج والعمرة في اهـلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج عل العمرة كان ذلك شرعه الله رخصة للناس، وإبطالا لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج، وفرض الله عليه الهدي جبرا لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعا.
وقد اختلف السلف في التمتع وفي صغته فالجمهور على جوازه، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريبا، وخالفه علي وعمران بن حصين، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء "يريد عثمان" وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معا وتم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرما "أي عام الوداع" فقال لي: "بم اهـللت?" قلت: اهـللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي: "هل معك هدي؟" قلت: لا فأمرني فطفت وسعيت فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر: "إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله" ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى؛ وبحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" ، وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم وإنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافيا لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصا للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا متواتر، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونفلوا حجه وأنه اهـل بها جميعا.
نعم كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك، روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يرى التمتع خاصا بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفه فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل، وتأول قوله تعالى: {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى أيام الحج.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] الآية عطفت على {فَمَنْ تَمَتَّعَ} لأن فمن تمتع مع جوابه وهو {فَمَا اسْتَيْسَرَ} مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدي فعطفت عليه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}.
وجعل الله الصيام بدلا عن الهدي زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقا فجعله عشر أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج.
فقوله: {فِي الْحَجِّ} أي في أشهره إن كان أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية.
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فذلكة الحساب1 أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعدا قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى:
ثلاث بالغداة فهن حسبي  . . .  وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي  . . .  وشرب المرء فوق الري داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق أيم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة "ذلك" كما نقول في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ تلك لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فتلك خمس  . . .  وسادسة تميل إلى الشمام
"أي إلى الشم والتقبيل".
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلا تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب "الكشاف" لما ذكر مثله كقول العرب علمان خير من علم.

-----------------------------------------------
1 نص عليه في البيضاوي وحاشيته لمولانا عصام الدين.
-----------------------------------------------

وعن المبرد أنه تأكيد لدفع وتوهم أن يكون بقى شيء مما يجب صومه، وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلا من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وتبعه صاحب "الكشاف" فقال الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة اهـ وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين.
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول: إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لأنه قد يتوهم من حيث أن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير، فبين الله ما يدفع هذا التوهم، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية.
ونظيره قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [لأعراف: 142] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليله ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيرا.
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل.
وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عن سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.
وأما قول: {كَامِلَةٌ} فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمة، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازة.
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ اهـلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إشارة إلى أقرب شيء في الكلام، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام، والمعنى أن الهدي على الغريب من مكة كي لا يعيد السفر للعمرة فأما الكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور، فلذلك لم يكن عندهما على اهـل مكة هدي في التمتع والقران، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة، وقال أبو حنيفة، الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر.
وحاضرو المسجد الحرام هم اهـل بلدة مكة وما جاورها، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك: ما اتصل بمكة وذلك من ذي طوى على أميال قليلة من مكة.
وقال الشافعي: من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب.
وقال عطاء: حاضرو المسجد الحرام اهـل مكة وأهل عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، وقال الزهري: اهـل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه، وقال ابن زيد: اهـل مكة، وذوي طوى، وفج، وما يلي ذلك.
وقال طاووس: حاضروا المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم، وقال أبو حنيفة: هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلوا من مشقة للتحذير من التهاون بها، فلأمر بالتقوى عام، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم، ولأن الكلام فيه.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} افتتح بقوله: {وَاعْلَمُوا} اهـتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] فإنه لو اقتصر عليه العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، ولكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد إن، آنفا عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]. 



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:18 pm


[197] {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.
استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] في سورة آل عمران فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا، وهذه الآية فيها بيان أعماله،، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق.
وبين نزول هذه الآية ونزول آية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة.
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعي في أدائه، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره.
وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله اهـل الجاهلية فيها.
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم، وبعضها بعض الأشهر الحرم، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرمته مضر لأنه شهر العمرة.
فقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي في أشهر، لقوله بعده: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ولك أن تقدر: مدة الحج أشهر، وهو كقول العرب الرطب شهرا ربيع.
والمقصود من قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تهوينا لمدة ترك الرفت والفسوق والجدال، لصعوبة ترك ذلك على الناس، ولذلك قللت بجمع القلة، فهو نظير ما روى مالك في "الموطأ": أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه، تعنى أكل لحم الصيد، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة: 36] الآية، وقيل: المقصود
بيان وقت الحج ولا أنثلج له.
والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط، أو ثلاثة عشر يوما منه، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك.
وقال بالثالث الشافعي، والرابع قول مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في "المختصر" غير معزو.
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الأشهر عند أصحاب القولين الثالث والربع فحرج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله، كما قالوا: ابن سنتين لمن دخل في الثانية، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ومن يرى خلافه يرى خلافه.
وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج، فقال مجاهد وعطاء والأوازعي والشافعي وأبو ثور: لا يجزي ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها، وعليه: يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج، واحتج الشافعي بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وقال أحمد: يجزئ ولكنه مكروه، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة، لأن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدرة، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة، واحتج النخعي بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة.ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج.
وقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان اهـم أحكامه.
ومعنى فرض: نوى وعزم، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية، أو عمل من أعماله كسوق الهدي، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح، لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها.
وضمير {فِيهِنَّ} للأشهر، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث.
وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} جواب من الشرطية، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى {لا رَفَثَ} من ضمير يعود على "من"؛ لأن التقدير فلا يرفث.
وقد نفي الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهي فانتفت أجناسها، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخير عنه بأنه فعل كما قرره في "الكشاف" في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا، على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع رفث وفسوق على أن "لا" أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرأ وَلا جِدَالَ بفتح اللام على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر لا محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} على أن {فِي الْحَجِّ} خبر "لا"، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي.
والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم  . . .  عن اللغا ورفث التكلم
وفعله كنصر، وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء.
وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك، قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا  . . .  لهو النساء وإن الدين قد عزما
يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله: لهو النساء بالغزل.
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة، وإلا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافي تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري: لا يفسد الحج وعليه هدي، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع المباح فذريعة ينبغي سدها، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم? فقال: إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع.
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام.
وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في "المحلي": إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم.
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] في سورة النساء، إذ فاتنا بيانه هنا.
واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف؛ إذ كان يعضهم يقف في عرفه وبعضهم يقف في جمع وروى هذا عن مالك.
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير "الكشاف" وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم وقال: من بدا له أن يجادل في شئ فليفعل، فزعموا أن بعض اهـل العلم اعترض عليه قائلا: بماذا فسرت قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وأنه وجم لها، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال: لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله: {فَلا رَفَثَ} إلخ:



تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210   تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024, 11:19 pm


{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
معطوف على جملة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير، والمعنى وأكثر من فعل الخير.
والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر، وهو تفعل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تعمم وتقمص أي جعل ذلك معه.
فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداد ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت.
قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذا من هذه الآية وغيرها:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقي  . . .  ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت أن لا تكون كمثله  . . .  وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص.
ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمرا بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضا بقوم من اهـل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله1 فيكونون كلا على الناس بالإلحاف.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} إلخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيها بالتفريع على أنه من التقوى؛ لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض.
وقوله: {وَاتَّقُونِ} بمنزلة التأكيد لقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ولم يزد إلا قوله: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} المشير إلى أن التقوى مما يرغب فيه اهـل العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل، واللب من كل شيء: الخالص منه، وفعله لبب يلب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فعل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيرا.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص، موقع قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} على احتمال أن يراد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادة الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوى الدنيوية بصون العرض.
والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئا، وأصلها تقي قلبوا ياءها واو للفرق بين الاسم والصفة، فالصفة بالياء كامرأة تقي كخزيي وصديي، وقد أطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

-----------------------------------------------
1 كانوا يقولون: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ وكانوا يقدمون مكة بثيابهم التي قطعوا بها سفرهم بين اليمن ومكة فيطوفون بها، وكان بقية العرب يسمونهم الطلس، لأنهم يأتون طلسا من الغبار.
-----------------------------------------------




تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
تفسير سورة البقرة من الآية 181 - 210
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030
» تفسير سورة البقرة من الآية 031 - 060
» تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090
» تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120
» تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: جــديـد المـوضـوعـــات بالمنتـدى :: تفســيـر التحـــريـر والتنــــويـر-
انتقل الى: