الفصل الثاني: عزة الميلاء وليلى الأخيلية

المدينة أو «يثرب» هي مدينة الرسول وفيها قبره ومسجده.
وكان يحيط بها سور وخندق، وهي واقعة في منبسط من الأرض تكتنفها الآجام والغياض، وتتخلل أبنيتها البساتين والحدائق وأكثر مغارسها من النخل.
وقد عمرت في صدر الإسلام، حتى كانت أيام يزيد بن معاوية، فهاجر منها كثير من أهلها لكثرة الفتن والحروب في أيامه، ولكنها ما زالت آهلة بالناس، وفيها أهل البيت.
وكان من أهل المدينة في أواسط القرن الأول للهجرة مغنية يُقال لها «عزة الميلاء»، وكانت مولاة للأنصار، وهي أقدم من غنَّى الغناء الموقع من النساء في الحجاز.
وقد سُميت «الميلاء» لتمايلها في مشيتها لفرط سمنها.
وكان العود حديث العهد عند العرب فأجادت العزف عليه، عدا ما كانت تُحسنه من العزف بالمزاهر وبقية آلات الطرب، وكانت جميلة الوجه ظريفة اللسان كريمة الخلق سخية النفس لا يقدم قادم إلى المدينة إلا الْتمس أن يراها ويسمع غناءها.
وكان العرب يومئذ لا يعدون الغناء من الصنائع اللائقة بأهل الشَّرف، على أن عزة كانت مع ذلك ذات دين حسن وهيبة ووقار، إذا جلست للغناء في حفل عام أنصت لها الحاضرون وكأن الطير على رءوسهم.
وكانت دارها في أقصى شمال المدينة مما يلي طريق الشَّام، يحيط بها بستان من النخيل تتخلله أشجار الفاكهة من البرتقال والتفاح، وعليه سور قليل الارتفاع له باب بمصراع واحد في وسطه خوخة.
وفي بعض جوانب البستان حظيرة مبنية من سعف النخل تُوضع فيها الدواب.
وللدار باحة كبيرة في كل جانبيها غرفتان، وفي الصدر قاعة واسعة تجلس فيها عزة لمقابلة الزوار، وفي باحة الدار نخلات متقاربة تظلل الباحة في أثناء النهار.
ففي يوم من أيام ربيع الآخر سنة ٧٣ للهجرة (وهو يوافق شهر أغسطس سنة ٦٩٣م) قضت عزة الميلاء نهارها في بيتها.
وكان يومًا شديد الحر، والحر ثقيل هناك للرطوبة المتكاثفة مما يتصاعد من أبخرة المستنقعات والأشجار، فلمَّا دنت الشَّمس من الغروب دخلت إلى مخدعها فأخرجت قارورة من الطيب فتطيَّبت، وبدَّلت ثيابها فالْتحفت ملاءة مُعصفرة لونها أصفر زاهٍ، وكشفت النقاب عن رأسها لشدة الحر مع خلو المكان من الرجال.
وأرادت أن تتناول عشاءها على سطح البيت تحت قبة السماء.
وكانت يومئذ في نحو الخمسين من عمرها وقد تزايد سمنها وذهبت استدارة وجهها وارتخى خداها واستطالا إلى أسفل الذقن، وثقل بدنها حتى لم يكن في المدينة دابة تحملها.
وكانت قلما تنتقل من بيتها، والناس يفدون عليها لسماع غنائها أو ضرب عودها، ويحملون إليها الأموال والهدايا من الحُلِيِّ والجواهر، حتى ملأت معصميها بالأساور والدمالج وطوَّقت عنقها بالعقود، وضفّرت شعرها بسلاسل الذهب والدنانير، وعلّقت في أذنيها قرطين كبيرين يتناسبان مع حجم أذنيها؛ لأنها كانت كبيرتهما مع تناسب التكاسير.
وكذلك آذان أهل الغناء والموسيقى في الغالب.
وكان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة لا يعرفها استشار عزة ووسَّطها في خطبتها أو استطلاع مدى جمالها وصحتها.
وكانت عزة قد قضت ذلك اليوم ولم تعمل عملًا لشدة الحر، وعندها فتاة من نزالة المدينة اسمها «سمية» كانت تحبها وتأنس بها.
وكانت الفتاة ترتاح إلى عزة وتكاشفها بِسِرِّهَا وتستشيرها في أمرها، وقد جاءتها يومئذ وعليها ثوبٌ أحمر يكسوها كلها.
وكانت معتدلة القامة صحيحة الجسم، إذا نظرت إلى تقاطيع وجهها أفرادًا لا ترى جمالًا باهرًا، ولكن في عينيها ما يدل على الذكاء والحُب، وحول ثغرها ابتسامة تأخذ بالعقول، حتى كانت وهي في أشد اضطرابها قلّما تبدو الكآبة في وجهها، وربما زاد ذلك في هيبتها.
وفي ذقنها اندفاع قليل إلى الأمام مع بروز، وهو دليل الانعطاف، وفي أنفها ذلف قليل يزيدها مهابة.
وكانت في نحو الثالثة والعشرين من عمرها.
فلَمَّا أرادت عزة الصعود إلى السطح أمرت جارية لها أن تفرشه بالأبسطة وتعد عليه المائدة، وأمسكت ضيفتها بيدها وقالت لها مداعبة: «هلم بنا إلى السطح يا سُمَيَّة واتركي الهموم جانبًا، وتعالي لأريك يثرب وضواحيها من سطح بيتي فإنها من أجمل ما يكون، ولا تعجلي في العودة إلى بيتكم فما أظن أباك قد عاد إليه بعد».
فمشت الفتاة وراءها وقد ارتاحت لقولها، وأرادت نسيان ما يجول في خاطرها من دواعي الهموم، وصعدتا على سلم من خشب كان يهتز تحت قدمي عزة، حتى وصلتا إلى السطح وقد انتهت الجارية من إعداد المائدة.
فجلست عزة، وأجلست سُمَيَّة إلى جانبها، ولاحظت أنها ما زالت مضطربة البال، فأرادت أن تصرف ذهنها إلى شيء آخر فلم ترَ خيرًا من أن توجه الْتفاتها إلى ما يحيط بالمدينة من بساتين النخيل وما بينها من بِرَك الماء والمستنقعات فقالت لها: «تأملي يا بنية في هذه البساتين الواسعة وراء سور المدينة، فإن نظرك لا يقف في آخرها إلا على التلال البعيدة، ولا سيما هذا الجبل، وهو جبل أُحُد الذي جرت فيه الوقعة الشَّهيرة بين النبي ﷺ وقريش، وذكر هذه الوقعة يؤلمني؛ لأن الغلبة فيها كانت للقرشيين، وقُتل من المسلمين سبعون رجلًا وأُصيب النبي بجراح وقُتل عمه حمزة».
قالت سمية: «وهل شهدتِ تلك الوقعة؟»
قالت: «كلا، فقد حدثت منذ سبعين سنة فكيف أشهدها؟!»
ثم عادت إلى إتمام كلامها عن تلك المناظر فقالت: «وإني ليعجبني مناظر المياه حوالي غروب الشَّمس، انظري إلى هذه البحيرة فإن ماءها ساكن كأنه صفحة من الفضة اللامعة، وظلال النخيل تتراءى على شواطئها مقلوبة كأنها مردة من الجان غائصون في الماء».
وكانت الشَّمس لَمَّا دنت من المغيب قد أرسلت أشعتها منحرفة على تلك المغارس، فاستطالت ظلال النخيل، وما زالت تستطيل وتضعف حتى اختلطت بالظلام.
وأمَّا سُمَيَّة فكانت تُساير عزة فيما تقول وبصرها شائع في تلك البحيرة بالرغم عنها، والبصر إذا أطلق سراحه يطلب النور.
وكان سطح البحيرة بعد أن غابت الشَّمس ما زال يلمع بفعل انعكاس الشَّفق عليه، وظلال النخيل فيه واضحة عليه وضوح الخطوط السود على الصفحة البيضاء.
وبعد قليل لم يعد يظهر للرائي غير سطوح المياه وما يبدو فيها من ظلال الأشجار.
•••
اشتغلت عزة وسمية عن الطعام والكلام بالتأمل في ذلك المنظر البديع ثم همَّت عزة بالطعام ودعت سُمَيَّة إلى مشاركتها فيه، وجعلت تقطع من لحم الدجاج وتناولها فتأكل وعيناها شاخصتان إلى تلك المناظر، ثم عادت عزة إلى محادثتها فقالت لها: «ما لي أراك صامتة يا سمية؟ هل تفكرين في تأخر عودتك وتخافين أن ينقم عليك أبوك لهذا؟ إنه إذا علم أنك عند عزة فلن يلومك».
وتوقعت عزة أن تسمع من سُمَيَّة جوابًا، ولكنها رأتها تحدق النظر في تلك البحيرة، وآنست في وجهها بغتة وقد توقفت عن المضغ واللقمة لا تزال في فمها، وقطبت حاجبيها وحددت بصرها، فأعادت عزة سؤالها، فأجابتها سُمَيَّة وهي تشير بيدها إلى البحيرة: «كأني أرى النخيل تنتقل في الماء… ما هذا…؟ ماذا أرى؟»
فالْتفتت عزة إلى جهة البحيرة فرأت ظلالًا تتحرك في الماء بين ظلال النخيل، ولكنها لم ترَ الأشباح على الجرف؛ لأن الظلام حجبها، بينما انعكاس الشَّفق على سطح الماء أبداها فقالت: «إنك ترين ظل شبح سائر بجانب البحيرة».
وتفرَّست عزة قليلًا ثم قالت: «إن الذي نراه ظل شبحين أظنهما فارسين مارين بين النخيل على حافة الجرف، لا بل هما جملان وعليهما رجلان، أليس كذلك؟»
قالت سمية: «بلى، هما جملان، ويُخيل إليَّ أنهما ماشيان على سطح الماء!»
فضحكت عزة وقالت: «إنك ترين ظليهما يا بنية، وأرى الآن شبحًا ثالثًا أظنه جملًا ثالثًا».
ولم يمضِ قليل حتى توارت الأشباح فقالت عزة: «لا تقلقي، ليس ما ترين إلا أناسًا أظنهم قادمين إلى المدينة من دمشق، وما هذه أول مرة رأيت مثل هذا المنظر، فعودي إلى طعامك فقد برد الهواء وانفثأت حمأة القيظ، ومتى فرغنا من الطعام أسمعك صوتًا تلقنته عن أستاذتي رائقة».
فعادتا إلى الأكل وهما لا تتكلمان، ولم تكادا تفرغان من الطعام حتى تكاثف الظلام واحتاجتا إلى الضوء، فصفقت عزة، فجاء رجل في نحو الستين من عمره ما زالت آثار الجمال بادية فيه، وهو نظيف الثوب حسن الهندام، فلَمَّا رأته سُمَيَّة غطَّت وجهها، فضحكت عزة وقالت: «أتحتجبين من مُخَنَّثٍ؟!» ولم تكن سُمَيَّة قد عرفته في الظلام.
وكان في المدينة جماعة كبيرة من هؤلاء المخنَّثين، يخالطون النساء، وأكثرهم يحبون الغناء ويحسنونه.
وكان مَنْ أراد خطبة امرأة سأل عنها أحد المُخنَّثين فيصفها له، ثم يتوسَّط بينه وبينها حتى يتزوجها.
وكان أكثر هؤلاء المُخنَّثين يتردَّدُون على عزة ويتقرَّبُون إليها ليستفيدوا منها تعلم الأصوات.
فلَمَّا وقف ذلك المُخنَّث بين يديها قالت: «ما جاء بك يا طويس؟»
فلَمَّا سمعت سُمَيَّة اسم طويس قالت: «أطويس هذا؟»
قالت: «هو بعينه، ولا تعجبي من أنه جاء على غير موعد؛ فإن ذلك دأبه معنا».
ثم الْتفتت إليه وقالت: «يا طويس قل للجارية تضيء لنا الشَّموع فإننا سننزل بعد قليل».
قال: «أفعل ذلك بشرط».
قالت: «وما هو؟»
قال: «تغنين لي شعرًا على الهزج».
قالت: «أتطلب أن أغني لك الهزج وأنت أهزج الناس؟ ألا سألتني أن أغني من الثقيل أو الرمل؟»
قال: «لا أبالي أي صوت وإنما أقترح عليك شعرًا تغنينه».
قالت: «أفعل إن شاء الله، ولكني أخاف من وجهك فإنه مشئوم».
قال: «وأكثر من مشئوم، فإن أمي ولدتني ليلة قبض النبي ﷺ، وفُطمت ليلة مات أبو بكر، وبلغت الحلم ليلة قتل عمر، وزُففت إلى أهلي ليلة قتل عثمان، ووُلد لي يوم قتل علي!»
فضحكت عزة لخفة روحه وقالت له: «أرجو ألا يكمل شؤمك علينا الليلة، فامضِ أعزَّك الله وافعل ما قلته لك».
نزل طويس، وبعد قليل نزلت عزة وسمية ودخلتا القاعة المعدة لاستقبال الأضياف.
وجلست عزة على مقعد، والأرض مفروشة بالطنافس وحولها الوسائد وقد أُوقدت فيها الشَّموع.
وجلست سُمَيَّة بجانبها وعادت إلى هواجسها.
وأمَّا طويس فإنه تناول دُفًّا مربعًا كان معلقًا على الحائط بين طائفة من الأعواد والمزاهر والدفوف.
ورماه في حجر عزة.
فقالت: «ويلك! ماذا تريد؟»
قال: «بأبي أنت وأمي، أريد أن أسمع غناءك».
قالت: «تمهَّل يا طويس ريثما أستريح».
وفيما هي تكلمه سمعت هدير الجمال بقرب باب البستان، فقالت: «انظر يا طويس مَنْ جاءنا الليلة… إني أخشى أن يكون شؤمك قد وصل إلينا».
قالت سمية: «وأي شؤم تخافين ونحن في أمان؟!»
قالت وقد خفضت صوتها: «ما أظننا في أمان وأميرنا اليوم يأكل المخ ويأكل فوقه التمر على منبر رسول الله ﷺ. اذهب يا طويس وانظر مَنْ القادم».
فهرول طويس إلى نعليه ولبسهما، ومشى وهو يتظاهر بالمُجُون في مشيته حتى قطع البستان وانتهى إلى باب الدار وفتح خوخة الباب وأطلَّ منها، فرأى جملين بجانبهما رجلان: أحدهما قد تلثَّم بالكوفية والْتف بالعباءة، والآخر قصير غير مُلثَّم يشبه أن يكون خادمًا.
فقال لهما: «مَنْ أنتما؟ وماذا تريدان؟»
فأجابه الطويل بصوت كأنه هدير الجمل وقال: «أليس هذا بيت عزة الميلاء؟»
قال: «بلى وماذا تريد منها؟»
قال: «أريد الدخول إليها».
قال: «ومَنْ أنت؟ ألا انتسبت؟»
قال: «لا أنتسب».
قال: «أتريد الدخول وأنت مُلثّمٌ كما أرى؟!»
قال: «نعم».
قال: «دعني أستأذن لك».
وعاد طويس إلى عزة وأخبرها بما رآه.
فلما سمعت سُمَيَّة قوله تحفَّزت للقيام وقالت لعزة: «دعيني أنصرف إلى أبي فقد طال مُكثي عندك اليوم، ولا سيما أني أرى رجالًا قادمين إليك ولا يليق بي البقاء معهم».
قالت: «لك الخيار يا بنية، ولكن إذا انصرفت فلا تطيلي الغياب، وليكن خروجك من الباب الخلفي للدار، وذهابك من الطريق القريب الذي تعرفينه».
فودعتها وانصرفت، وجعل طويس يشيعها ببصره حتى توارت عنه، ثم الْتفت إلى عزة وأشار بضم أنامله وزم شفتيه إلى أنها جميلة.
فأومأت إليه أن يصمت ثم قالت: «اخرج إلى الطارق واطلب إليه أن يريك وجهه أو يذكر لك اسمه».
فذهب طويس وبعد غياب طويل عاد وهو يقول لعزة: «إن صاحبنا من أهل البادية ويهوى الغناء، وقد جاء لسماع عزة الميلاء، وقد سألتُه عن اسمه فأبى أن يخبرني به، ولَمَّا ألححتُ عليه قال إنه لا يقول اسمه ولكنه أنشدني هذين البيتين:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييتَ سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نِخونه
وأنتَ لأخرى صاحب وخليل
«وطلب أن أخبرك أنه قائلهما».
فلما سمعت عزة قول طويس بُغِتَتْ وتبسَّمت، ولولا ثِقَلُ بدنها لوثبت إلى الباب لاستقبال ذلك الضيف. فقال لها طويس: «ما بغتك يا عزة؟»
قالت: «ألا تعرف قائل هذا الشَّعر؟»
قال: «كلا… ومن هو؟»
قالت: «لو أني سمعت لفظ قائله لعرفته ولو كان في غير هذا الشَّعر، ألم ترَ أنه يلفظ حرف المضارعة مكسورًا مثل أهل بهرا؟»
قال: «أظنني لحظت ذلك فيه، ولكن ماذا في هذا؟»
قالت: «ويلك! هذه ليلى الأخيلية الشَّاعرة، وهذا الشَّعر شعرها وهي تكسر حرف المضارعة في لفظها أيضًا».
قال طويس: «إذا كانت هذه هي ليلى فقد تمَّ حظنا؛ لأني أسمع بشعرها وحديثها مع توبة الذي كان يهواها، فهل أدعوها؟»
قالت: «كيف لا وهي صديقتي ويندر أن تنزل إلى المدن إلا لحاجة مَاسَّة؛ لأنها تقطن البادية».
فأسرع طويس مهرولًا حتى أتى الباب ففتحه، ورحب بليلى وجعل ينظر إلى قامتها ويلاحظ مشيتها وهي ملتفة بالعباءة وطولها يندر في النساء.
ولكنه لم يتمكن من رؤية وجهها؛ لأنها كانت ما زالت ملثمة، فدخلت البستان وأشارت إلى خادمها أن يدخل الجملين إلى الحظيرة ومشت تخطر في مشيتها وطويس يمشي وراءها ويتأمَّل قامتها وحُسن مشيتها واللثام محيط برأسها ووجهها جميعًا.
فلَمَّا أقبلت على القاعة نهضت عزة وسارت لاستقبالها عند الباب وهي تقول: «مرحبًا بليلى، أهلًا بك يا حبيبة، لقد بالغت في الاختفاء حتى أسأنا معاملتك وأخَّرناك».
قالت ذلك وتناولت وسادة فوق البساط وثنتها وأجلستها عليها.
فقالت ليلى بصوتها الجهوري الذي لا يكاد يشبه أصوات النساء: «لا بأس عليك، وإن لم يكن ذلك ذنبي؛ لأني كنت أحسبك تعرفينني من صوتي ولهجة كلامي».
كان طويس واقفًا بالباب يَتَشَوَّقُ لرؤية وجه ليلى، ولكنها بقيت ملثمة لا تلتفت إلى طويس كأنها تتوقع خروجه لتخلو إلى عزة، فأدركت هذه ما في نفسها فقالت: «لا تحتجبي يا ليلى منه، إنه طويس المغني».
فضحكت ليلى ونظرت إلى طويس وأزاحت اللثام وهي تقول: «أهذا هو طويس المشهور بالشؤم؟ لقد تمَّ سرورنا بلقياه!»
فلَمَّا أزاحت النقاب بان تحته وجه يتدفّق مهابة وعينان دعجاوان، وثغر حسن، وآثار الصحة بادية في وجهها من سُكنى البر.
فدُهِشَ طويس من جمالها، ولَمَّا رأى استئناسها به فرح وقال وهو يمشي نحو البساط الذي كانت هي جالسة عليه: «إن سروري تمَّ بلقياك أيتها الشَّاعرة البارعة، وقد كنت أعجب لِمَا أسمعه من شغف توبة بك وإشادته في الأشعار بذكرك وأنت زوجة لسواه، فلَمَّا رأيت هذا الوجه علمت السر الذي دعاه إلى ذلك».
فلَمَّا سمعت ليلى اسم توبة علا وجهها الاحمرار وكأنها خجلت وطأطأت رأسها حياءً، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «وهل سمعت شيئًا من قوله؟»
قال: «سمعت كثيرًا، ولكنني أذكر هذه الأبيات فقط:
ولو أن ليلى الأخيلية سلَّمت
عليَّ ودوني جندل وصفائح
لسلَّمت تسليم البشاشة، أو رفا
إليها صدًى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
ألا كل ما قرت به العين صالح».

ولم يتم كلامه حتى اصفرَّ وجه ليلى.
وأدركت عزة ذلك فيها فأحبت الترفيه عنها فدعتها إلى الطعام والغسل، فشكرتها وذكرت أنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وإنما جاءت لزيارتها ساعة لتسمع حديثها وتطرب بغنائها ثم تنصرف.
فقالت عزة: «لعلك قادمة من الشَّام؟»
قالت: «نعم، وقد وصلت إلى المدينة الساعة، وكان معي رفيق خلَّيته في مكان وجِئت إليك على أن أعود إليه عاجلًا».
فتذكرت عزة الأشباح التي رأتها وسمية على شاطئ تلك البحيرة فقالت: «أظنني رأيت أشباحكم عند الغروب بين النخيل».
قالت: «كنا ثلاثة وصلنا عند الغروب إلى ضاحية المدينة على جمالنا».
--------------------------------------------------------------------