| الفصل الثاني | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 8:51 pm | |
| الفصل الثاني عظمة الفضائل المفصلة.
وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: فضـائل استمـــــاع القــــرآن. المبحث الثاني: فضائل تعلم القرآن وتعليمه. المبحث الثالث: فضـــائل تــــلاوة القـــــرآن. المبحث الرابع: فضـــائل حفـــــظ القـــــرآن. المبحث الخامس: فضائل العمــل بالقــــرآن.
المبحث الأول فضائل استماع القرآن.
وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: استمـاع القرآن سبب لرحمـــــة الله عـــز وجـــل. المطلب الثاني: استماع القرآن سبب لهدايـــــة الإنس والجـــــن. المطلب الثالث: استماع القرآن سبب لخشوع القلب وبكاء العين. المطلب الرابع: استماع القرآن سبب لزيــــــــــادة الإيمــــــــــان. تمهيد إذا كان القرآن العظيم يتعبد بتلاوته، فإنه أيضًا يتعبد بسماعه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يقرأ عليه القرآن وهو يستمع له، فخشع لسماع القرآن منه، حتى ذرفت عيناه الشريفتان -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي معنا لاحقًا.
وطلب استماع القراءة من القارئ حسن الصوت الذي يجيد التلاوة أمر متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار، والصالحين من سلف هذه الأمة، فللتلاوة المُتقنة أكبر الأثر في فهم معاني القرآن، لكن لابد من تقييد ذلك بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الاستماع من الإنصات، والاستجابة لها ثم التدبر الذي يزيل الغشاوة، ويحرك القلوب للعمل.
أما ما يفعله بعض الناس عند سماعهم للقرآن من رفع الأصوات وقولهم: «الله» أو ما أشبه ذلك مما هو معلوم، فهو بدعة مُنكرة وصارفة عن فهم وتدبر القرآن العظيم والانتفاع بمواعظه (689).
وفضائل استماع القرآن العظيم كثيرة ومتنوعة.
وسيكون الحديث عن أهمها من خلال المطــــالب الآتية: المطلب الأول استماع القرآن سبب لرحمة الله عز وجل: قال الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].
لقد أمر الله سبحانه عباده بالاستماع للقرآن والإنصات له لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح وليتوصلوا بذلك إلى رحمة الله تعالى.
«قال الليث: يقال: ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن؛ لقول الله جل ذكره: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
و«لعل» -مِنَ الله- واجبة» (690).
أي: لعلكم تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله تعالى.
«والفرق بين الاستماع والإنصات: أن الإنصات في الظاهر، بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له، فهو أن يُلقي سمعه، ويُحضر قلبه، ويتدبر ما يسمع.
فإن من لازم على هذين الأمرين، حين يُتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرًا كثيرًا، وعلمًا غزيرًا، وإيمانًا مستمرًا متجددًا، وهدى متزايدًا، وبصيرة في دينه.
ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما.
فدل ذلك، على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يسمع له ولم ينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خيرٌ كثير» (691). وليس هناك سبب نزول يخصص الآية بالصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ذلك أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
والأقرب أن يكون ذلك عامًا لا يخصصه شيء، فالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له –حيثما قرئ– هو الأليق بكتاب الله العظيم، وبجلال قائله سبحانه.
وإذا قال تعالى، ألا يستمع الناس وينصتون؟! ثم رجاء الرحمة لهم: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فما الذي يخصصه بالصلاة؟ وحيثما قرئ القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب؛ فكان ذلك أرجى أن تُرحم في الدنيا والآخرة جميعًا.
والناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن العظيم، وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانًا في النفس –حين تسمع لها وتنصت– أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة، مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه (692).
وقد أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن الاجتماع للقرآن وتدارسه واستماعه له فوائد عظيمة وجليلة، منها حصولهم على رحمة الله تعالى، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (693). المطلب الثاني استماع القرآن سبب لهداية الإنس والجن: لقد بيَّن الله تعالى أن القرآن العظيم مصدر الهداية في الدنيا والآخرة، ومن تمسك به تلاوةً واستماعًا وتدبرًا وعملًا فلن يضل ولا يشقى، قال الله تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
واستماع القرآن خاصة من الأعمال الصالحة الجليلة التي بشر القرآن أصحابها بالهداية، ووصفهم بأنهم أصحاب عقول سليمة وراشدة، في قوله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17-18].
هذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسن الأقوال، و(الْقَوْلَ) في الآية جنس، يشمل كل قول، فهم يستمعون جنس القول، ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره، مما ينبغي اجتنابه.
ولا شك أن أحسن القول على الإطلاق هو كلام الله تعالى، ثم كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) [الزمر: 23].
وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله تعالى هذا القرآن العظيم.
وهنا فائدة مهمة وهي: أنه تعالى لَمَّا أخبر عن هؤلاء الممدوحين، أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأن سائلًا يسأل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه، حتى نتصف بصفات أُولي الألباب، وحتى نعرف أن من آثره على غيره فهو من أولي الألباب؟ قيل له: نعم، أحسنه ما نص الله تعالى عليه بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) الآية.
فهؤلاء الذين يستمعون القرآن العظيم ويتبعونه هم الذين هداهم الله تعالى لأحسن الأخلاق والأعمال الظاهرة والباطنة، وهؤلاء هم أولوا العقول الزكية.
ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن وغيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه.
وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل، سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين حسن الأقوال وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة.
أو الذي يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقى عقله تابعًا لها، فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل (694).
ولذلك جعل الله تعالى سماع القرآن العظيم من أسباب هداية الكفار ودخولهم في الإسلام، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) [التوبة: 6].
وكذلك جعل الله تعالى استماع القرآن سببًا لهداية الجن ودخولهم في الإسلام، قال الله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن: 1-2].
فهؤلاء نفر من الجن أراد الله تعالى لهم الخير فصرفهم إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لسماع القرآن الكريم، ولتقوم عليهم الحجة، وتتم عليهم النعمة، ويكونوا منذرين لقومهم.
وذلك: أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا.
فلما أنصتوا، فهموا معانيه، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم، ثم ولوا إلى قومهم منذرين ومبشرين.
قال الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 29-30]. * * * المطلب الثالث استماع القرآن سبب لخشوع القلب وبكاء العين: المؤمنون عند تلاوتهم لكتاب الله تعالى أو استماعهم له تخشع قلوبهم وتذرف عيونهم، يقبلون على ربهم راغبين راهبين، ومن ذنوبهم مستغفرين، وفي رضاه طامعين، ومن غضبه وعقابه وجلين.
ذلك كان شأن الصحابة رضي الله عنهم عند استماعهم وتلاوتهم للقرآن العظيم وقدوتهم في ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام الخاشعين الذي قال عنه ابن مسعود -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرأ علي» قال: قلت: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري». قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41]. قال لي: «كُفَّ، أو أمسك» فرأيت عينيه تذرفان (695).
وعند مسلم: قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: رفعت رأسي، أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل. وفي رواية: فبكى (696).
«قال ابن بطال(697): يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سُنَّة، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها» (698).
ومن الفوائد التي ذكرها النووي (699) -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: «استحباب استماع القراءة، والإصغاء لها، والبكاء عندها، وتدبرها، واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم، والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه تواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم» (700).
وهذه هي سنة الأنبياء وطريقتهم جميعًا عليهم السلام عند استماعهم لكلام الله تعالى وآياته تفيض أعينهم بالدموع، وتخضع وتخشع قلوبهم وتتأثر من كلام الرحمن جل جلاله، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58].
فهؤلاء الأنبياء العظماء من أبرز صفاتهم أنهم إذا سمعوا آيات الله تعالى تتلى عليهم تأثروا تأثرًا عظيمًا، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود، ولبعضهم قشعريرة الجلود ولين القلوب والجلود كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23]، و(وَبُكِيًّا) جمع باك (701).
عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سورة مريم، فسجد، وقال: هذا السجود، فأين البكي؟ يريد البكاء (702).
فهؤلاء الأنبياء عليهم السلام ومن معهم ممن هدى الله تعالى واجتبى من الصالحين من ذريتهم، صفتهم البارزة إذا استمعوا لآيات الرحمن تتلى عليهم (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) لأنهم أتقياء أصحاب قلوب حية، ترتعش قلوبهم لذلك، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض أعينهم بالدموع ويخرون لعظمة الله وكلامه سجدًا وبكيًا (703).
وهذه هي صفة أهل العلم كذلك، أنهم إذا استمعوا لكلام الله تعالى تأثروا فبكوا وزادهم ذلك خشوعًا وعلمًا ويقينًا، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 107-109].
قال القرطبي -رحمه الله-(704): «هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحُقَّ لكل من توسَّم بالعلم وحصل منه شيئًا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل.
وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علمًا [ينفعه]؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية (705). ذكره الطبري (706) أيضًا (707). والأذقان جمع ذَقْن، وهو مجتمع اللَّحيين.
وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللِّحى، أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع». * * * المطلب الرابع استماع القرآن سبب لزيادة الإيمان: قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال: 2].
«ووجه ذلك: أنهم يُلقون له السَّمع، ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك، يزيد إيمانهم» (708).
فهؤلاء المؤمنون عند استماعهم لآيات القرآن العظيم يُلقون إليها الأسماع في إصغاء وخشوع، وأدب وخضوع، وتفكر واعتبار.
فسماع القرآن العظيم «حاد يحدُو القُلوب، إلى جوار علاَّم الغيوب، وسائقٌ يسوقُ الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحرِّك يثير ساكن العزمات، إلى أعلى المقامات وأرفع الدَّرجات، ومُناد ينادي للإيمان، ودليلٌ يسير بالركب في طريق الجنان، وداع يدعو القلوب بالمساء والصَّباح، من قبل فالق الإصباح: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
فلم يعد من اختار هذا السَّماع إرشادًا لحُجَّة، وتبصرةً لعبرة، وتذكرةً لمعرفة، وفكرةً في آية، ودلالةً على رشد، وردًا على ضلالة، وإرشادًا من غَيٍّ، وبصيرةً من عمىً، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرة ومفسدة، وهدايةً إلى نور، وإخراجًا من ظلمة، وزجرًا عن هوى، وحثًا على تقى، وجلاءً لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاءً ودواء وشفاء، وعصمة ونجاة، وكشف شبهة، وإيضاح برهان، وتحقيق حق، وإبطال باطل.
فمن قُرئ عليه القرآن، فليقدر نفسه كأنَّما يسمعه من الله يخاطبه به، وعندئذ تزدحم معاني المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه، فما شئت من علم وحكمة، وبصيرة وهداية، فيزداد حثًا لنفسه، وسفرًا إلى الغاية المقصودة بالمسموع الذي جعل وسيلة إليها، وهو الحق سبحانه، فإنه غاية كل مطلب (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) [النجم: 42]، وليس وراء الله مرمى، ولا دونه مستقر، ولا تقر العين بغيره البتة، وكل مطلوب سواه، فظل زائل، وخيال مفارق مائل، وإن تمتع به صاحبه، فمتاع الغرور» (709).
وأما الكافر بخلاف المؤمن، فإنه إذا سمع كلام الله تعالى لا يؤثر فيه، ولا يتغير حاله، بل يبقى مستمرًا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله إلا من أراد له الله تعالى السعادة في الدنيا والآخرة واستجاب للقرآن وقليل ما هم، قال الله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 124-125] (710).------------------------------------------------الهوامش: 689. تفسر القرطبي، (1/23).690. تفسير السعدي، (2/185).691. انظر: في ظلال القرآن، (3/1425-1426).692. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر، (4/2074)، (ح2699).693. انظر: تفسير السعدي، (4/315).694. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: البكاء عند قراءة القرآن، (3/1627)، (ح5055). وباب: من أحب أن يستمع القرآن من غيره، (3/1625)، (ح5049).695. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر، (1/551)، (ح800).696. هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري، القرطبي، المالكي، ويعرف بابن اللجام (أبو الحسن). محدث، فقيه، استقضى بحصن لورقة، وتوفي في آخر يوم من صفر سنة (449هـ). من آثاره: «شرح الجامع الصحيح للبخاري» في عدة أسفار، و«الاعتصام في الحديث». «انظر: سير أعلام النبلاء، (11/159). معجم المؤلفين، (2/438)».697. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/117).698. من هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن (أبو زكريا)، الفقيه الشافعي الدمقشي الحافظ الزاهد القدوة، ولد سنة (631هـ)، كان يقرأ في كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، من تصانيفه: «شرح صحيح مسلم»، و«المجموع شرح المهذب»، و«الأذكار»، و«رياض الصالحين»، و«التقريب والتيسير» في مختصر الإرشاد، توفي سنة (676هـ). «انظر: شذرات الذهب، (5/354)».699. صحيح مسلم بشرح النووي، (6/329).700. انظر: أضواء البيان، (4/330).701. رواه الطبري في تفسيره (16/73-74)، وأورده السيوطي في الدر المنثور (4/277)، ونسبه إلى ابن أبي حاتم وابن جرير والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه.702. انظر: في ظلال القرآن، (4/2314).703. الجامع لأحكام القرآن، (10/347-348). وانظر: تفسير البيضاوي (3/471)، وابن كثير (5/134).704. رواه الدارمي في سننه، كتاب المقدمة، باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله، (1/85)، (رقم 291).705. هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام العلامة القارئ، المحدث، المفسر، المؤرخ، الفقيه صالح التصانيف، ولد بآمل سنة (224هـ)، ألف كتبًا لم يصنف مثلها ومنها: «تفسيره جامع البيان»، و«تهذيب الآثار»، و«تاريخ الأمم والملوك»، توفي ببغداد سنة (310هـ). «انظر: طبقات المفسرين، (2/110)».706. في جامع البيان، (15/121).707. تفسير السعدي، (2/188). 708. مدارج السالكين، لابن القيم، (1/485).709. انظر: تفسر ابن كثير، (6/143).710. رواه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، (4/2060)، (ح2674). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 10:57 pm | |
| المبحث الثاني فضائل تعلم القرآن وتعليمه.
وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: معلم القرآن ومتعلمه متشبه بالملائكة والرسل. المطلب الثاني: خير الناس وأفضلهم من تعلم القـــرآن وعلمه. المطلب الثالث: تعلم القرآن وتعليمه خيــــر مــن كنـــوز الدنيا. المطلب الرابع: مَنْ علّــــم آيـــــةً كــــــان له ثوابهــا مــا تُليت. المطلب الخامس: ثــــــواب مَــــــنْ يُعَلِّـــــــمْ أولادَهُ القـــــــرآن. تمهيد لقد رغَّب الإسلامُ في تعليم العلم عامة، وجعل ذلك من أفضل العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه جل جلاله ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» (711).
وثواب العلم يصل إلى الإنسان بعد موته مادام ينتفع به، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (712).
قال ابن القيم -رحمه الله- (713): «وهذا من أعظم الأدلَّة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته؛ فإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته مادام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع عمله مع ما له من حياة الذكر والثناء، فجريان أجره عليه إذا انقطع عن النَّاس ثواب أعمالهم حياةٌ ثانيةٌ».
وتتفاوت درجات العلم ومنازله بحسب الموضوع الذي تتناوله، ولا شك أن أشرف العلوم وأجلها هو كتاب الله تعالى، فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، وإن علمه.
وقد حرص سلف الأمة الصالح رضي الله عنهم على تعلم القرآن وتعليمه، وعرف هذا الحرص في سلوك خيارهم وأصفيائهم، وقدوتهم في ذلك معلم البشرية وهادي الإنسانية، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه القرآن، وهو أعرف الناس بمنزلته.
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه حرص على تعليم أصحابه القرآن، إما بنفسه، وإما بتوكيل أصحابه للقيام بهذه المهمة العظيمة.
ومن النوع الأول ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلمنا القرآن، فإذا مر بسجود القرآن سجد وسجدنا معه» (714).
ولاشتهار هذا الأمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صار أصلًا يقاس عليه غيره، ومن هذا القبيل قول جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن» (715).
فإذا طرأ ما يمنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مباشرة ذلك بنفسه وكل بعض أصحابه للقيام بمهمة تعليم القرآن – وهذا من النوع الثاني.
ومنه ما ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دفعه إلى رجل منا يُعلمه القرآن» (716).
وعن أبي موسى -رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس القرآن» (717).
وعلى هذا النَّهج سار السلف الصالح بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بحيث لم يخل عصر من معلمي القرآن الحريصين على تبليغه للناس، وقد أثمرت جهود هؤلاء الأخيار وأدَّت إلى تواتر القرآن جيلًا بعد جيل حتى وصل إلينا –بحمد لله تعالى– غضًا طريًا (718).
والحديث عن فضائل تعلُّم القرآن العظيم وتعليمه يتمثَّل في المطالب الآتية: المطلب الأول مُعلِّم القرآن ومُتعلمه متشبه بالملائكة والرسل: كفى معلِّم القرآن ومتعلِّمه شرفًا وفخرًا أنهم متشبهون بالملائكة والرسل الكرام، فقد بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ليعلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله عز وجل: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 5].
فها هو معلِّم الرسول الأول جبريل عليه السلام، أفضل الملائكة الكرام وأقواهم وأكملهم، نزل بالوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجبريل عليه السلام شديد القوى الظاهرة والباطنة.
فهو قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه، قوي على إيصال الوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعليمه إياه، ومنعه من اختلاس الشياطين له، أو زيادتهم فيه ما ليس منه، وهذا من حفظ الله تعالى لوحيه من جهة، ومن عناية الله تعالى برسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من جهة أخرى، أن أرسل إليه معلمًا كريمًا قويًا أمينًا (719).
ومدح المعلِّم مدح للمتعلِّم فلو قال علمه جبريل، ولم يصفه بهذه الصفات الحميدة العظيمة ما كان يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الفضيلة الظاهرة (720).
«وهذه الآية الكريمة قد تضمَّنت أمرين: أحدهما: أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم، علمه جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر من الله.
والثاني: أن جبريل شديد القوة.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما: وهو كون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه، فقد جاء موضحًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) [البقرة: 97].
وقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء: 192-194].
وأما الأمر الثاني: وهو شدة قوة جبريل النازل بهذا الوحي، فقد ذكره في قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير: 19-20] (721). * * * المطلب الثاني خير الناس وأفضلهم مَنْ تعلّم القرآن وعَلّمه: إن تعلم القرآن العظيم والقيام بتعليمه وبيان معانيه وأحكامه للناس من أفضل الأعمال وأجل القرب، يحظى متعلمه ومعلمه بالخير والفضل في الدنيا والآخرة، وقد وردت أحاديث كثيرة تحض على تعلم القرآن وتعليمه، لأنه كلام الله تعالى، فكان خير الناس بعد الأنبياء من اشتغل به.
1- عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (722).
2- وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلَّمه» (723).
«وقد سئل الثوري (724) عن الجهاد وإقراء القرآن (725)، فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث (726) (*).
فهذه شهادة حق لأهل القرآن بأنهم خير الناس وأفضلهم، فلم يقل خيركم أو أفضلكم أكثركم مالًا أو أولادًا، ولا أوسعكم عقارًا أو نحو ذلك من حطام الدنيا الزائل. وهذه هي صفات المؤمنين الصادقين المتبعين للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهم يحرصون على تعلم القرآن وتزكية نفوسهم به، كما يحرصون على تعليم الآخرين وإرشادهم لهديه والدعوة إليه فيكون نفعًا متعديًا.
«ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]» (727).
وخير الناس وأفضلهم من تعلم القرآن حق تعلمه، وعلمه حق تعليمه، ولا يتمكن من هذا إلا بالإحاطة بالعلوم الشرعية أصولها وفروعها، ومثل هذا الإنسان يعد كاملًا لنفسه مكملًا لغيره فهو أفضل المؤمنين مطلقًا، وقد ورد عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ يُدعى في الملكوت عظيمًا» والفرد الأكمل من هذا الجنس هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأشبه فالأشبه (728).
قال القرطبي -رحمه الله- (729): «قال العلماء: تعليم القرآن أفضل الأعمال؛ لأن فيه إعانة على الدين، فهو كتلقين الكافر الشهادة ليسلم».
وبعض أهل العلم حمل الحديثين بخير الناس وأفضلهم باعتبار التعلم والتعليم: قال الطيبي (730): «أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم من تعلَّم القرآن وعلَّمه».
معنى التعلّم والتعليم: «تعلَّم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها، وتعلم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمي تعلمه وتعليمه؛ فإن المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها، وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل» (731).
* وهنا مسألتان من الأهمية بمكان أوردهما الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث، وأجاب عليهما: (المسألة الأولى): «فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه.
قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئًا أو مقرئًا محضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه» (732).
(المسألة الثانية): «فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناءًا في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلًا.
قلنا: حرفُ المسألة يدور على النفع المتعدي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل «من» مضمرة في الخبر، ولابد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم.
ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا» (733).
* وقد أدرك السلف الصالح هذه الخيرية والأفضلية التي يتميَّز بها مُعلم القرآن ومُتعلمه، فحرصوا على بلوغها: 3- عن سعد بن عبيدة قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن (734) في إمرة عثمان حتى كان الحجاج (735)، قال أبو عبد الرحمن السلمي: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا (736).
(أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي)، علَّم الناس القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة، فقد بدأ يعلم القرآن في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى أيام الحجاج، وهو الذي روى عن عثمان حديث: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (737).
ومعنى قول أبي عبد الرحمن السلمي: «وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا».
«أي: أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة» (738).
ومن أجل ذلك أثنى عليه الحافظ ابن كثير ودعا له بالخير فقال (739): «-رحمه الله- وأثابه، وآتاه ما طلبه ورامه، آمين».
ومثله أيضًا: (الإمام المقرئ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم المدني) (740) أحد القراء السبعة، فقد أقرأ الناس دهرًا طويلًا يزيد عن سبعين سنة؛ لأنه ممن طال عمره (741).
وكذلك: (الإمام أبو منصور الخيَّاط البغدادي) (742) تخرَّج على يديه عدد كبير من قُرَّاءِ القرآن، وقد وصفه الإمام الذهبي (743) -رحمه الله- بقوله: «جلس لتعليم كتاب الله دهرًا، وتلا عليه أمم» (744).
وقد لقن العميان دهرًا لله، وكان ينفق عليهم، حتى بلغ عدد مَنْ أقرأهم من العميان سبعين نفسًا.
قال الإمام الذهبي: «ومَنْ لقن القرآن لسبعين ضريرًا، فقد عمل خيرًا كثيرًا» (745).
«قال السمعاني (746): رُؤيَ بعد موته، فقال: غفر الله لي بتعليمي الصبيان الفاتحة» (747). * * *المطلب الثالث تعلم القرآن وتعليمه خير من كنوز الدنيا:1- عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال:
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّة (748)، فقال: «أيكم يحب أن يغدو (749) كل يوم إلى بطحان (750) أو إلى العقيق (751) فيأتي منه بناقتين كوماوين (752)، في غير إثم ولا قطع رحم؟» فقلنا: يا رسول الله! نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل وخير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل؟» (753). 2- وعند أبي داود بلفظ:
«أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان، أو العقيق، فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين (754) بغير إثم (755) بالله عز وجل ولا قطع رحم (756)؟»، قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: «فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وإن ثلاث فثلاث مثل أعدادهن من الإبل» (757). لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المثل بصورة عجيبة معبرة في الحيث على تعلم القرآن العظيم والحث على قصد بيوت الله تعالى لتعلم القرآن؛ لما فيها من السكينة والطمأنينة، ولقطع علائق القلب من شواغل الدنيا، وبين أن آية واحدة يتعلمها المسلم خير من الدنيا وما فيها.
«والحاصل أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم من الفانيات فذكره هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى، أو بثوابتها من الدرجات العلى» (758).
وسببُ التَّمثيل بالإبل أنها كانت أعزَّ وأثمن أموال العرب في صدر الإسلام، لا يملكها إلا الأغنياء منهم، فرغب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى ما هو أفضل من ذلك، بأن يكون لهم رصيد من الحسنات عند الله عز وجل أعظم من الإبل عند أصحابها في الدنيا، وذلك بأن يتعلموا كلام الله تعالى، فكل آية يتعلمها المسلم هي في ميزان حسناته أفضل من ناقة عظيمة السنام، سالمة من العيوب لو تصدق بها (759).
قال ابن حبان (760) -رحمه الله- بعد أن أورد هذا الحديث في صحيحه:
«هذا الحديث أُضمر فيه كلمة، وهي: (لو تصدَّق بها) يريد بقوله: فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث لو تصدق بها؛ لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وثلاث وأعدادهن من الإبل لو تصدق بها؛ إذ محال أن يشبَّه من تعلَّم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا» (761). وهذا الذي ذكره ابن حبان هنا حسن وجميل، يذكرنا بأجر التبكير إلى صلاة الجمعة، وفيه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنةً»الحديث (762).
ولا شك أن أجر تعلم آية من كتاب الله تعالى عظيم كبير إذا قسناه على ما جاء في الحديث الآنف الذكر من أن المسلم إذا حضر صلاة الجمعة في الساعة الأولى فكأنما تصدق ببدنة، أي: بناقة.
وفي حديث تعلم كتاب الله عز وجل وصفت الناقة بأنها كوماء زهراء، أي: عظيمة السنام، كثيرة اللحم، مائلة إلى البياض من كثرة السمن، هي من خيار أموال العرب آنذاك.
وهذا أفضل من التصدق بمجرد ناقة، كما جاء في حديث التبكير إلى صلاة الجمعة، والله تعالى أعلم.
وقد رغَّب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في تعلم الخير وتعليمه للناس، وعده كأجر حاج، تامًا حجته في قوله: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعلمه، كان له كأجر حاج، تامًا حجته» (763).
ولا ريب أن تعلُّم القرآن وتعليمه يأتي في مقدمة الخير الذي يعلم أو يُتعلم؛ ذلك أنه كلام الله جل جلاله. وفي حديث آخر أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن متعلم الخير ومعلمه بمنزلة المجاهد في سبيل الله تعالى بقوله: «من جاء مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» (764).
وأجدر بمتعلم القرآن ومعلمه أن ينزل منزلة المجاهد في سبيل الله تعالى؛ ذلك أنه جاهد نفسه وهواها، وجاهد الشيطان، وصبر وصابر ورابط في هذه الحلق المباركة، وترك الدنيا وزينتها، فاستحق هذا الشرف العظيم جزءًا وفاقًا.
وكان الصحابة وتابعوهم أحرص الناس على تعلم وتعليم كتاب الله عز وجل وحث الناس وتشجيعهم على احتساب الأجر في ذلك.
وفيما يأتي طائفة من أخبارهم المباركة:
1- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لو جعل لأحد خمس قلائص (765)؛ إن صلى الغداة بالقرية لبات يقول لأهله: لقد آن لي أن أنطلق. والله لا يقعد أحدكم فيتعلم خمس آيات من كتاب الله، فلهن خير له من خمس قلائص وخمس قلائص» (766).
2- عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «أنه كان يقرئ القرآن، فيمر بالآية، فيقول للرجل: خذها، فوالله لهي خير مما على الأرض من شيء» (767). 3- وعن الأعمش قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود، وهو يقرئ قومًا القرآن، أو قال: وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: «يقتسمون ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-» (768).
وأجر تعلُّم وتعليم القرآن العظيم ليس حكرًا على الصحابة الكرام وتابعيهم، وإنما هو لكل من يحذو حذوهم ويسير على خطاهم المباركة في تعلم كتاب الله تعالى إلى يوم الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله تعالى من فضله ومنه وكرمه، إنه جواد كريم.
* * *المطلب الرابع من علَّم آية كان له ثوابها ما تليت:لا ريب أن تعليم الناس القرآن العظيم من النفع المتعدي، وهو ما يلحق المعلم من عمله الصالح وحسناته بعد موته. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته. يلحقه من بعد موته» (769).
وتعليم الناس القرآن العظيم داخل في عموم الدلالة على الخير.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» (770).
قال النووي -رحمه الله- (771):
«فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات، لاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم. والمراد بـ(مثل أجر فاعله) أن له ثوابًا بذلك الفعل كما أن لفاعله ثوابًا، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء».
«وذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو بغير تضعيف.وقال القرطبي: إنه مثله سواء في القدر والتضعيف؛ لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله يهبه لمن يشاء على أي شيء صدر منه، خصوصًا إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل، أو يزيد عليه» (772). فكيف إذا جاء أجر تعليم القرآن منصوصًا عليه حتى لو كانت آية واحدة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من علَّم آية من كتاب الله عز وجل، كان له ثوابها ما تليت» (773).
وهذا من الآثار الحسنة التي تكتب في ميزان معلم القرآن؛ لأنه كان السبب المباشر في تعليمها.
ولذلك قال الله تعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12].
«فالمراد بـ(مَا قَدَّمُوا) ما عملوا من الأعمال قبل الموت؛ شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة كما يقدم المسافر ثقله وأحماله.
وأما الآثار فهي آثار الأعمال وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته بـ(مَا قَدَّمُوا) مثل ما يتركون من خير أو يثير بين الناس وفي النفوس» (774). وهناك قولان للمفسِّرين في قوله: (وَآثَارَهُمْ).
القول الأول:تكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (775).
«فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد، وتعليمه، أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاة، أو زكاة، أو صدقة، أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلًا من المحال، التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره، التي تكتب له، وكذلك عمل الشر» (776).
القول الثاني:
إن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
ويشهد له قول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: خلت البقاع حول المسجد. فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال «يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم (777)، دياركم، تكتب آثاركم» (778). قال ابن كثير -رحمه الله- (779):
«وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتب، فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى».* * *المطلب الخامس ثواب من يعلم أولاده القرآن:تعليم القرآن العظيم للأولاد الصغار سنَّة متَّبعة عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين:1- عن سعيد بن جبير (780) قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم. قال: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم (781). 2- وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: جمعت المحكم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل (782).
قال ابن كثير -رحمه الله- (783):
«فيه دلالة على جواز تعليم القرآن في الصبا، وهو ظاهر، بل قد يكون مستحبًا أو واجبًا؛ لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرًا، وأشد علوقًا بخاطره، وأرسخ وأثبت، كما هو المعهود من حال الناس». أمَّا أجر الوالدين اللَّذين يعلمان أولادهما كتاب الله عز وجل ويصبران على ذلك، فهو أجر عظيم يتناسب وتعبهما وصبرهما وتحملهما المشقة في ذلك، بأن يُكسيا حُلَّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا:
عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب (784)، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر (785)، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطي الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذا (786) كان، أو ترتيلًا (787)» (788). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «.... ويُكسى والداه حلتين، لا تقوم لهم الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب! أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن...» الحديث (789).
وحق لهذين الوالدين أن يعجبا ويدهشا من هذا الإنعام العظيم الذي حصلا عليه من حيث لا يحتسبان، فعندما يكسى هذان الوالدان حلتين عظيمتين من حلل الجنة أغلى وأثمن من الدنيا وما فيها، يتساءلان في دهشة: من أين لنا مثل هاتين الحلتين وليس لنا –فيما نعلم– من العمل والطاعات ما يؤهلنا للفوز بهذه الكرامة العظيمة؟ فيُجابان: بتعليم ولدكما القرآن وصبركما عليه وإخلاص النصح له.
وهكذا فإن صاحب القرآن من أبر الناس بوالديه، ولو علم كل والدين ما يحصل لهما عند الله تعالى من الكرامة والرفعة بأخذ ولدهما للقرآن العظيم لبادرا إلى دفع أولادهما دفعًا، وحثهم حثًا على تعلم القرآن الكريم وتلاوته وتدبره (790).
وقد أحسن الشاطبيُّ -رحمه الله- حينما قال:فيا أيها القاري به متمسكًا مجــلًا له في كــل حــال مبجلاهنيئًا مريئًا والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك أهل الله والصفــوة الملا (791) وهذا من الآثار الحسنة التي تُكتب في ميزان الوالدين، لأنهما السبب المباشر في تعليم هذا الولد، مصداقًا لقوله تعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12]، كما مر بنا في المطلب الرابع من هذا المبحث.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 10:59 pm | |
| الهوامش: 711. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، (3/1255)، (ح1631). 712. مفتاح دار السعادة، (1/175). 713. رواه أحمد في المسند، (2/157)، (ح6461)، وقال محققو المسند، (10/487)، (ح6461): «حديث صحيح». ورواه مسلم بنحوه في: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة، (1/405)، (ح575). 714. رواه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، (1/346)، (ح1162). 715. رواه أحمد في المسند، (5/324)، (ح22818)، وقال محققو المسند، (37/426)، (ح22766): «إسناده حسن». والحاكم في المستدرك، (3/401)، (ح5527)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه». والطبراني في مسند الشاميين، (ح2237)، والبخاري في تاريخه الكبير، (1/444). 716. رواه أحمد في المسند، (4/397)، (ح19562)، وقال محققو المسند، (32/315)، (ح19544): «إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير طلحة بن يحيى – وهو ابن طلحة بن عبيد الله التيمي – فمن رجال مسلم». 717. انظر: الأحاديث والآثار الواردة في فضائل سور القرآن الكريم، د. إبراهيم علي السيد، (ص24-26). 718. انظر: تفسير السعدي، (5/122). 719. انظر: التفسير الكبير، للرازي، (28/245). 720. أضواء البيان، (7/703). 721. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، (3/1620)، (ح5027). وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب: في ثواب قراءة القرآن، (2/70)، (ح1452). وغيرهما. 722. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، (3/1620)، (ح5028). 723. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، نسبة إلى (ثور) أحد أجداده، ولد سنة (97هـ)، وكان إمامًا من أئمة المسلمين في العلم والفقه والحديث، ثقة، حجة، ثبتًا، حتى قال عنه ابن معين وغيره: «أمير المؤمنين في الحديث»، توفي بالبصرة سنة (161هـ). «انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/371-374). البداية والنهاية، (10/134)». 724. أي: تعليمه للناس. 725. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/97). a. كلام الإمام سفيان الثوري رحمه الله ينسحب على الجهاد غير المتعين، أما إذا انتهكت حرمات المسلمين وتعين الجهاد قدم على إقراء القرآن. 726. المصدر نفسه، (9/96). 727. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/229). 728. التذكار في أفضل الأذكار، (ص144). 729. المصدر السابق، والصفحة نفسها. 730. مفتاح دار السعادة، (1/74). 731. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/96). 732. المصدر نفسه، والصفحة نفسها. 733. هو أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي، عبد الله بن حبيب بن ربيعة، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي ?، محدث، ثقة، وقارئ مجود ماهر، وقد كان ثبتًا في القراءة وفي الحديث، حديثه مخرج في الكتب الستة. توفي في سنة (74هـ). «انظر: طبقات ابن سعد، (6/172). حلية الأولياء، (4/191). سير أعلام النبلاء، (4/267)». 734. هو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن قسي – وهو ثقيف – الثقفي، عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، كان حازمًا قويًا ظالمًا، وأمه: الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، مات مريضًا مسلطًا عليه الزمهرير سنة (95هـ)، وشهد مرضه الحسن البصري، وله: (54 سنة). «انظر: وفيات الأعيان، (1/29 – 54). سير أعلام النبلاء، (4/343)». 735. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، (3/1620)، (ح5027). 736. مضى تخريجه قريبًا. 737. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/97). 738. فضائل القرآن (ص207). 739. هو الإمام نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الأصبهاني، مولى جعونة بن شعوب الشجعي. من مشايخه: الأعرج، وأبو الزناد، وأخذ القراءة عن أبي جعفر القعقاع وغيرهم. ومن تلامذته: القعنبي، وإسماعيل بن أبي أويس، وقرأ عليه: قالون، ومالك بن أنس وغيرهم. قال قالون: «كان نافع من أطهر الناس خلقًا، ومن أحسن الناس قراءةً، وكان زاهدًا جوادًا، صلى في مسجد رسول الله ? ستين سنة». وقال مالك: «نافع إمام الناس في القراءة». وقال: «قراءة نافع سُنَّةٌ». مات سنة (169هـ). «انظر: معرفة القراء، (1/107). تهذيب الكمال، (29/281). الأعلام، (8/5). الثقات، لابن حبان (7/532)». 740. انظر: معرفة القراء الكبار، للذهبي (ص64). 741. هو الإمام القدوة المقرئ، (أبو منصور) محمد بن أحمد بن علي البغدادي الخياط الزاهد. قال السمعاني: «صالح، ثقة، عابد، ملقن، له ورد بين العشاءين سسبع، وكان صاحب كرامات». توفي سنة (499هـ). «انظر: سير أعلام النبلاء، (19/222-224»). 742. هو الإمام محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل، الفارقي، ثم الدمشقي، الذهبي، الشافعي (أبو عبد الله) محدث، مؤرخ، ولد بدمشق سنة (759هـ)، وسمع بها وبحلب وبنابلس وبمكة وبمصر، وسمع منه خلق كثير، كان إمامًا في الحفظ، والجرح والتعديل، توفي بدمشق سنة (819هـ) ودفن بمقبرة الباب الصغير. وله تصانيف كثيرة منها: «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»، و«طبقات الحفاظ»، و«الإعلام بوفيات الأعلام»، و«تجريد أسماء الصحابة»، و«سير أعلام النبلاء». «انظر: معجم المؤلفين، (3/80)». 743. سير أعلام النبلاء، (19/222). 744. المصدر نفسه، (19/223). 745. هو منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي، المروزي، المعروف بابن السمعاني (أبو المظفر) مفسر، محدث، متكلم، فقيه، أصولي، ولد سنة (426هـ)، وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم ورد بغداد وانتقل إلى المذهب الشافعي، ورجع إلى بلده فلم يقبلوه، وقام عليه العوام فخرج إلى طوس، ثم قصد نيسابور، وتوفي بمرو سنة (489هـ). من تصانيفه: «منهاج أهل السنة»، و«القواطع في أصول الفقه»، و«تفسير القرآن»، و«الانتصار في الحديث». «انظر: طبقات الشافعية، (4/21 – 26). معجم المؤلفين، (3/919)». 746. سير أعلام النبلاء، (19/224). 747. (الصفة): موضع مظلل في المسجد النبوي الشريف كان فقراء المهاجرين يأوون إليه، وهم المسمون بأصحاب الصفة، وكانوا أضياف الإسلام. «انظر: لسان العرب، (4/2464)، مادة: (صفف)». 748. (يغدو): أي يذهب في الغدوة وهي أول النهار. 749. (بطحان): بضم الباء وسكون الطاء، وقيل: بالفتح والسكون، وقيل بالفتح والكسر. وهو أحد أودية المدينة الثلاثة، وهي: بطحان والعقيق وقناة.«انظر: معجم البلدان، (1/529)». وسمي بطحان بذلك: لسعته وانبساطه من البطح وهو البسط. «انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/231)». 750. (العقيق): قيل أراد العقيق الأصغر، وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة، وخصهما بالذكر: لأنهما أقرب المواضع التي يقام فيها أسواق الإبل إلى المدينة، والظاهر أن (أو) للتنويع. «انظر: عون المعبود، (4/231)». 751. (كوماوين): مثنى كوماء، فقلبت الهمزة في التثنية واوًا، وناقة كوماء: عظمة السنام طويلته. وأصل الكوم العلو، أي: فيحصل ناقتين عظيمتي السنام، وهي من خيار مال العرب. «انظر: لسان العرب، (5/3958)، مادة: «كوم». عون المعبود، (4/231)». 752. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، (1/552)، (ح803). وابن حبان في صحيحه، كتاب العلم، باب الحث على تعليم كتاب الله، (1/321)، (ح115). 753. (زهراوين): أي سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السمن. 754. (بغير إثم): كسرقة وغصب، سمي موجب الإثم إثمًا مجازًا. 755. (ولا قطع رحم): أي: بغير ما يوجبه، وهو تخصيص بعد تعميم. «عون المعبود»، (4/231)». 756. رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، (2/71)، (ح1456). وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1/273)، (ح1292): «صحيح». 757. عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/231). 758. انظر: الأحاديث والآثار الواردة في فضائل سور القرآن، (ص31-32). 759. هو الإمام الحافظ المجود، شيخ خراسان، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي الدارمي البتي، ولد نحو (270هـ)، كان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، عالمًا بالطب والنجوم، ومن أشهر تلاميذه: الحاكم صاحب المستدرك. توفي بسجستان بمدينة بست سنة (354هـ). «انظر: سير أعلام النبلاء، (16/92). مقدمة الترغيب والترهيب، تعليق: مصطفى محمد عمارة (1/20-23)». 760. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، (1/322). 761. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب: فضل الجمعة، (1/264)، (ح881). 762. رواه الطبراني في «الكبير»، (8/94)، (ح7473). والمنذري في الترغيب والترهيب، كتاب العلم، باب الترغيب في الرحلة في طلب العلم، (ح3)، وقال: «رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به». وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1/145)، (ح86): «حسن صحيح». والحاكم في المستدرك، (1/169)، (ح311) بلفظ: «... أجر معتمر تام العمرة» وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. 763. رواه ابن ماجه، في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، (1/82)، (ح227)، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه، (1/44)، (ح186): «صحيح». 764. (القلائص): جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وتجمع على قلاص وقلص أيضًا. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، (4/100). 765. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (6/133)، (رقم 30075). 766. رواه أبو عبيد القاسم في فضائل القرآن (ص52)، وانظر: فضائل القرآن، لابن الضريس (ص47)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، (7/166): «رواه الطبراني ورجاله ثقات». 767. رواه أبو عبيد القاسم في فضائل القرآن (ص51)، وأورده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، (1/123-124)، باب فضل العالم والمتعلم، من رواية الطبراني في «الأوسط» وقال: «إسناده حسن». وانظر: جامع الأصول، (1/291-292)، وهو فيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. 768. رواه ابن ماجة واللفظ به، في المقدمة، باب ثواب معلم الناس الخير، (1/88)، (ح242). وابن خزيمة في صحيحه، (4/121)، (ح2490). وحسنه المناوي في فيض القدير، (2/540)، (ح2497). ووافقه الألباني في: صحيح ابن ماجة، (1/46)، (ح198)، وصحيح الجامع (ح2231)، وأحكام الجنائز (176)، والإرواء (1079). 769. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، (3/1506)، (ح1893). 770. صحيح مسلم بشرح النووي، (13/41-42). 771. عون المعبود شرح سنن أبي داود، (14/26-27). 772. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (3/323)، (ح1335) وقال: «أخرجه سهل القطان في: «حديثه عن شيوخه» (4/243/2)». ثم ساق رجال الإسناد وقال: «وهذا إسناد جيد عزيز، رجال ثقات رجال مسلم غير محمد بن الجهم وهو ابن هارون الكاتب السمري ترجمه الخطيب (2/161) برواية جماعة من الثقات عنه، وقال: (وقال الدارقطني: ثقة صدوق)». 773. التحرير والتنوير، (22/204). 774. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، (2/705)، (ح1017). 775. تفسير السعدي، (4/230). 776. (دياركم. تكتب آثاركم). معناه الزموا دياركم، فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد. «صحيح مسلم بشرح النووي، (5/169)». 777. رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطأ إلى المساجد (1/462)، (ح665). 778. تفسير ابن كثير، (6/591). 779. هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، مولاهم، الكوفي، أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد، من أئمة السلف، من الطبقة الثالثة، ومن الفقهاء والعلماء الصالحين الثقات، وكان عابدًا فاضلًا ورعًا، خرج مع ابن الأشعث على الحجاج والى بني أمية، فلما تمكن منه الحجاج قتله، وذلك سنة (95هـ)، وعمره (49)، وقيل (47) سنة. «انظر: تهذيب التهذيب، (4/11-14)، ترجمة (14)». 780. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: تعليم الصبيان القرآن، (3/1622)، (رقم 5035). 781. رواه البخاري في صحيحه، الكتاب نفسه، والباب نفسه، (3/1622)، (رقم 5036). 782. فضائل القرآن (ص226). 783. (الشاحب): هو المتغير اللون لعارض من مرض أو سفر أو نحوهما. «النهاية في غريب الحديث والأثر، (2/448)، مادة: شحب». 784. (الهواجر): جمع هاجرة، وهو نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، عند اشتداد الحر. «انظر: النهاية في غريب الحديث، (5/244)، مادة: هجر». 785. (هذًا): الهذ والهذذ بفتح الهاء: هو سرعة القراءة وسرعة القطع، يقال: هذ القرآن يهذه هذًا: إذا أسرع في قراءته وسرده. «انظر: لسان العرب، (6/4643)، مادة: هذذ». 786. (ترتيلًا): ترتيل القراءة: هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات. «النهاية في غريب الحديث، (2/194)، مادة: رتل». 787. رواه مطولًا أحمد في المسند، (5/238)، (ح23000) وقال محققو المسند، (38/42)، (ح22950): «إسناده حسن في المتابعات والشواهد من أجل بشير بن المهاجر الغنوي، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وحسنه الحافظ ابن كثير في تفسيره، (1/62)، ولبعضه شواهد يصح بها». وابن أبي شيبة في مصنفه (6/129)، (ح30045)، وعبد الرزاق في مصنفه (3/374)، (ح6014) وذكره البوصيري في مصباح الزجاجة، (3/187)، (ح1321) وقال: «هذا إسناد رجاله ثقات». وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، (7/159)، وقال: «روى ابن ماجه منه طرفًا، ورواه أحمد ورجاله رجال الصحيح». ورواه مختصرًا الحاكم في المستدرك، (1/742)، (ح2043) وقال: «حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وأقره الذهبي. وابن ماجه، (2/1242)، (ح3781). وأحمد في المسند، (5/352)، (ح23026). 788. رواه الطبراني في «الأوسط»، (6/51)، (ح5764). وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة، (6/792)، (ح2829) وقال: «الحديث حسن أو صحيح؛ لأن له شاهدًا من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعًا بتمامه». 789. انظر: أنوار القرآن، لمصطفى الحمصي، (ص181-182). 790. انظر: حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، (ص12-13). 791. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: القراءة على الدابة، (3/1621)، (ح5034). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 11:48 pm | |
| المبحث الثالث فضائل تلاوة القرآن.
وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: التلاوة تجــــــــارة رابحـة. المطلب الثاني: تنزل السكينة والرحمة والملائكة للتلاوة. المطلب الثالث: اغتباط صاحب التـــــلاوة. المطلب الرابع: التلاوة حلية لأهل الإيمان. المطلب الخامس: التلاوة كلهــــــا خيـــــر. تمهيد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من تلاوة القرآن العظيم، فكان يقرؤه قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، ومتوضئًا، ومحدثًا، وفي سيره وركوبه، وسائر أحواله.
فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح» (792).
وهي سنَّة لابد من إحيائها في ركوبنا لمختلف وسائل التنقل المريحة في هذا الزمان خصوصًا أن بعض رحلات التنقل البرية أو الجوية أو البحرية تستغرق الساعات الطوال وربما الأيام المتتابعة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن» (793).
وهذه من الأفعال التي كان يعملها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا لبيان جوازها، ولكن يؤخذ منها أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ القرآن في سائر أحواله.
«وأما القراءة في الطريق: فالمختار أنها جائزة غير مكروهة إذا لم يتله صاحبها، فإن التهى صاحبها عنها كرهت، كما كره النبي -صلى الله عليه وسلم- القراءة للناعس مخافة الغلط» (794). والمستحبُّ للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة، ويجلس متخشعًا بسكينة ووقار، فهذا هو الأكمل، ولو قرأ قائمًا، أو مضطجعًا أو في فراشه، أو على غير ذلك من الأحوال جاز، وله أجر، ولكن دون الأول (795).
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إني لأقرأ حزبي (796) وأنا مضطجعة على سريري» (797).
وقراءة القرآن محبوبةٌ على الإطلاق، إلا في أحوال مخصوصة جاء الشرع بالنهي عن القراءة فيها، كالقراءة حال الركوع، والسجود، والتشهد، وغيرها من أحوال الصلاة سوى القيام، وتكره القراءة حال القعود على الخلاء، وفي حال النعاس، وكذا إذا استعجم عليه القرآن فلم يدر ما يقول، وكذا في حال الخطبة لمن يسمعها (798).
وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى قراءة القرآن بصفة فردية أو جماعية، وفي البيوت، وفي المساجد.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو أصحابه إلى قراءة القرآن في الطرقات بلسان حاله، فلنلحظ أن آيات كثيرة نزلت عليه -صلى الله عليه وسلم- في طريق سفره فكان يقرأ بها، وهي دعوة غير مباشرة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى الاقتداء به في القراءة حتى في الطريق.
وأما دعوته -صلى الله عليه وسلم- إلى القراءة بورد يومي، فنجدها في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» (799).
وفي هذا دعوة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى ملازمة الورد اليومي في قراءة القرآن العظيم، وكُلُّ هذا يريد به -صلى الله عليه وسلم- حثَّ أمته على الإكثار من قراءة القرآن الكريم؛ ليعيش معهم في كل شئون حياتهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا (800).
وفضائل تلاوة القرآن الكريم كثيرة ومباركة، تعود بالخير على صاحبها في الدنيا والآخرة، ولو يعلم المسلمون ما في التلاوة من الفضائل والمغانم لما تركوا كتاب الله تعالى من بين أيديهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار.
والحديث عن أهم هذه الفضائل نجده في المطالب الآتية: المطلب الأول التلاوة تجارة رابحة: 1- يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30].
فهذا ثناء من الله تعالى على قراءة القرآن العظيم.
قال القرطبي -رحمه الله- (801): «هذه هي آية القُرَّاء العامِلين العالِمين». فقد أخبر الله تبارك وتعالى عن عباده المؤمنين الذي يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا أنهم يرجون عند الله تعالى ثوابًا لابد من حصوله.
وكان مطرف بن عبد الله (802) -رحمه الله-، إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء (803).
ومعنى: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ) أي يداومون على تلاوته وهي شأنهم ودينهم، حتى صارت سمة لهم وعنوانًاَ (804).
فهذا ثناء من الله تعالى على قراء القرآن العظيم أنهم يستمرون على تلاوته ويداومون عليها، فهم يتلون ألفاظه بدراسته، ومعانيه بتتبعها واستخراجها (805).
فهؤلاء الصالحون، يرجون بأفعالهم الصالحة: (تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) أي: لن تكسد ولن تهلك، يقال: بارت السوق إذا كسدت، وبار الطعام إذا فسد (806).
وجاءت صفة هذه التجارة الرابحة بأنها: (لَّن تَبُورَ) أي: لن تهلك بالخسران أصلًا، للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدنيوية الدائرة بين الربح والخسران؛ لأنه اشتراء باق بفان، والإخبار بأنهم يرجون ذلك من أكرم الأكرمين، وعد مقطوع ومضمون بحصول مرجوهم (807).
فهذه تجارة من أجل التجارات، وأعلاها، وأفضلها، ألا وهي رضا الرحمن جلا جلاله، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه (808).
فهل من مشمِّر إلى الجنة بالإكثار من تلاوة القرآن؛ فإنها تجارة رابحة ومضمونة عند أكرم الأكرمين القائل في كتابه العزيز: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا) [النساء: 122].
«ولهذا قال تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ)، أي: ليوفيهم ثواب ما فعلوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، (إِنَّهُ غَفُورٌ)، أي: لذنوبهم، (شَكُورٌ) للقليل من أعمالهم» (809).
فالله سبحانه وعد أهل القرآن العاملين به بعظيم الأجر وأن يزيدهم من لدنه تفضلًا وتكرمًا، وهذه الزيادة لا يعلم مقدارها إلا الله ذو الفضل العظيم.
2- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف» (810). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «تعلموا هذا القرآن؛ فإنكم تؤجرون بتلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: (آلم) ولكن ألف ولام وميم».
وفي رواية أخرى أنه قال: «ألف ولام وميم ثلاثون حسنة» (811).
قال المباركفوري (812) -رحمه الله-: «والحرف يطلق على حرف الهجاء، والمعاني، والجملة المفيدة، والكلمة المختلف في قراءتها، وعلى مطلق الكلمة» (813).
ويشير هذا الحديث العظيم إلى عدة أمور: أولًا: أن في تلاوة كل حرف من كتاب الله عز وجل عشر حسنات، وهذا هو أقل التضاعف الموعود بقوله تعالى: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160].
(وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
ولا شك أن زيادة الأجر ومضاعفته تتناسب وحال القارئ من الإخلاص والخشوع والتدبر والتأدب مع كتاب الله تعالى.
ولذا قال أبو ذر -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها وأزيد. ومن جاء بالسيئة، فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر» (814).
قال النووي -رحمه الله- (815): «معناه أن التضعيف بعشرة أمثالها لابد منه بفضل الله، ورحمته، ووعده الذي لا يُخلف، والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى».
ولا نكاد نجد ذكرًا ينال صاحبه مثل هذا الأجر به كما ينال من يتلو القرآن، فمن قرأ سطرًا أو وجهًا أو جزءًا كم سيحصل عليه من الحسنات؟
وإذا علمنا أن الناس يتنازعون يوم القيامة على حسنة واحدة يثقلون بها موازينهم أدركنا عظمة هذا الأجر الذي ينتظر من يتلون كتاب الله حق تلاوته.
وإذا تأملنا حال الطالب الذي يستغرق في دراسة كتاب مقرر عليه عشرات الساعات، وربما العديد من الأيام والأسابيع، ثم يعيده ويلخصه ويراجعه، وقد يحفظ معظمه غيبًا أو شبه غيب؛ ليحصل على الدرجة الكاملة يحقق بها جزءًا من النجاح في أمر دنيوي، وقد لا ينجح في مسعاه، أليس من الجهل وعمى البصيرة أن ينصرف المسلم عن تلاوة القرآن العظيم، وفيه من الخيرات والبركات الدنيوية والأخروية ما فيه، وهي مضمونة ومكتوبة له عند رب العالمين.
ثانيًا: يقول الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) [هود: 114].
ويقول في التائبين العاملين: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان: 70].
فبفضل ما يتلوه المسلم من كتاب الله تعالى، وبما يكتسبه من حسنات مضاعفة، قد يمحو الله ما اكتسب من أوزار ومعاص.
فكل ابن آدم خطاء، ولا أحد ينجو من ارتكاب سيئة أو سيئات، أو الوقوع في ذنب صغير أو كبير، فالمسلم بحاجة دائمة ليكفر عن ذنبه، بل ويبدل الله الكريم سيئاته حسنات، خاصة إذا توافرت منه شروط التوبة من جهة، وشروط التلاوة المطلوبة من جهة أخرى.
ثالثًا: كلما ازداد المؤمن استكثارًا من التلاوة ازداد رقيًا عند الله عزَّ وجَلَّ.
وتحول من صفة ومنزلة إلى منزلة أعلى وأعظم: فعن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة» (816). قال المناوي -رحمه الله- (817): «أي: عبادتها» (818).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين» (819).
ومعنى: «كُتب من القانتين» أي من الطائعين الخاشعين المصلين.
ومعنى: «كُتب من المقنطرين» أي المالكين مالًا كثيرًا، والمراد كثرة الأجر.
وقيل: ممن أعطي أجرًا عظيمًا (820).
وقد يبدو لأول وهلة أن قراءة ألف آية في اليوم من الأمور الصعبة، ولكن عندما نعلم أن تلاوتها لا تستغرق من أحدنا أكثر من ساعة ونصف تقريبًا، بتلاوة متأنية ندرك أن ذلك ليس من الصعوبة في شيء.
فآخر جزءين في القرآن الكريم: (تبارك. وعم) قرابة ألف آية (821).
رابعًا: إن تلاوة القرآن العظيم تزداد وتعظم إذا كانت في الصلاة، كما مر بنا في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الآنف الذكر.
ذلك أن التالي في الصلاة يجمع أكثر من أجر في وقت واحد، فله أجر الصلاة، وأجر الذكر، وأجر التلاوة، ويتضاعف ذلك مع التدبر والخشوع وحضور القلب.
وقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأجر الكبير الذي يفوز به القارئ في صلاته بمثال جميل معبر: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات (822) عظام سمان؟»، قلنا: نعم، قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» (823). فلأن يقرأ المسلم آية من كتاب الله في صلاته خير له من أن يتصدق بناقة حامل عظيمة سمينة، وآيتين خير له من ناقتين، وثلاثًا خير له من ثلاث. وكأنما تلد الحسنات الحسنات، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم. نسأل الله الكريم من فضله وجوده وكرمه (824). * * * المطلب الثاني تنزل السكينة والرحمة والملائكة للتلاوة: مما ورد في فضل الاجتماع على تلاوة القرآن الكريم وتعلمه ومدارسته، وبخاصة إذا كان ذلك في المسجد الذي هو مهوى أفئدة المؤمنين، حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه (825) بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة (826)، وغشيتهم الرحمة (827) وحفتهم الملائكة (828)، وذكرهم الله فيمن عنده» (829).
هذا الحديث من أعظم البشارات التي يبشر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمعين لتلاوة القرآن وتدارسه، فقد رغبهم في مدارسته وحثهم على ذلك لما فيه من عزهم وشرفهم، وصلاح أحوالهم، ولما فيه من الأجر العظيم عند الله تعالى، سواء كان اجتماعهم في المسجد أم في غيره من المدارس أو البيوت.
قال النووي -رحمه الله- (830): «وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، ... ويُلحق بالمسجد في تحصيل الفضيلة الاجتماع في مدرسة، ورباط، ونحوها إن شاء الله تعالى».
ويدل عليه حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: «أنهما شهدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» (831).
وما أظن مجلسًا من مجالس الخير تتكاثر فيه البركات، وتنهل منه الرحمات، ويعود على المسلمين بالأجر الجزيل، والفضل العظيم، كمجلس قرآن فيه تدارس وتعاهد وتعلم وتعليم، ومن حضره نال أربع جوائز عظيمة. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 11:54 pm | |
| الجائزة الأولى: نزلت عليهم السَّكينة. إن أول ما يتحف به هؤلاء المجتمعون على تلاوة القرآن وتدبره، نزول السكينة عليهم، وهي الطمأنينة والراحة النفسية، فلا يصيبهم ما يملأ قلوب الآخرين من قلق واضطراب وأمراض نفسية وعقد ومخاوف جعلت حياة هؤلاء جحيمًا لا يُطاق (832).
ومعنى السكينة: السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب ويسكن بها على الرغب.
وقيل: هي الرحمة.
وقيل: الوقار.
وقيل: هي ملائكة الرحمة (833).
قال ابن حجر -رحمه الله- (834): «والذي يظهر أنها مقولة بالاشتراك على هذه المعاني، فيحمل كل موضع وردت فيه على ما يليق به».
وقال النووي -رحمه الله- (835): «المختار أنها شيء من المخلوقات فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة».
وقد تنزلت السكينة لأحد الصحابة وهو يقرأ القرآن: فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين (836)، فتغشته (837) سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر (838)، فلما أصبح أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال: «تلك السكينة تنزَّلت بالقرآن» (839).
وفي لفظ قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، قال: فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «اقرأ، فلان! فإنها السكينة تنزَّلت عند القرآن، أو تنزَّلت للقرآن» (840).
«قال الطيبي: فإن المؤمن تزداد طمأنينته بأمثال هذه الآيات إذا كوشف بها» (841).
وهذا الرجل الذي كان يقرأ القرآن قيل هو أسيد بن حضير -رضي الله عنه-، كما سيأتي حديثه قريبًا أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفي هذا الحديث كان يقرأ سورة الكهف، وهذا يدل على تعدُّد القصة (842).
وكثيرًا ما يمتن الله جل جلاله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى عباده المؤمنين بتنزل السكينة عليهم؛ لأنها فضل عظيم من الله تعالى، وراحة عظيمة للمؤمن، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح: 4]. فقد امتنَّ الله تعالى على عباده المؤمنين بإنزال السكنية في قلوبهم.
وهي: السُّكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، التي تشوش القلوب، وتضعف النفوس.
فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته، ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه.
فالصحابة رضي الله عنهم، لما جرى بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، من تلك الشروط، التي ظاهرها، أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس.
فلمَّا صبروا عليها، ووطّنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك، إيمانًا مع إيمانهم (843).
والقلوب كثيرًا ما تمتلئ بالهموم والأحزان والاضطرابات، فإذا ما جلس المؤمن مع إخوته يتحلقون حول كتاب الله تعالى ويتدارسونه فيما بينهم زال كل ذلك عنهم ونزلت عليهم السكينة.
فأين أولئك الذين يلتجئون إلى العيادات النَّفسيَّة ليتخلصوا من همومهم وآلامهم النفسية التي تحاصرهم، أين هم من المجالس التي تنزل على أصحابها السكينة، فليفروا من مجالس المعاصي والآثام والموبقات إلى مجالس النور والسكينة؛ ليغسلوا قلوبهم، ويطهروا أنفسهم، ويرتاحوا من آلامهم (844). الجائزة الثانية: غشيتهم الرَّحمة. الرحمة قريبة من أهل القرآن، بل تغشاهم في مجالسهم، وأهل هذا المجلس هم من المحسنين كما قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
وجزاء أهل الإحسان عند الله عظيم، فإن: (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 34].
ويقال لهم: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ) [المرسلات: 44].
والله تعالى يحبهم: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195].
ورحمة الله تعالى خير لهم مما يجمعه أهل الدنيا، كما قال تعالى: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32].
عند ذلك نعلم يقينًا أن ما يجنيه أهل مجلس التلاوة والمدارس من الخير العظيم لا يوازيه كل شيء يجمعه أهل الدنيا من الحطام الزائل.
وقد سمَّى الله تعالى وحيه إلى أنبيائه بالرحمة، كما قال تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ) [هود: 28].
يشير إلى ما اختصه الله تعالى من الوحي والعلم والحكمة.
وكذلك قال صالح عليه السلام: (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) [هود: 63].
ومن باب أولى أن يُسَمَّى القرآن العظيم بالرحمة، فقد قال الله تعالى لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89] (845). وإذا كانت رحمةُ الله قد وسعت كُلَّ شيء، وأحاطت بكل شيء، كما قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156] فهي بأن تسع أهل القرآن وتلاته أحقُّ وأجدر (846).
الجائزة الثالثة: حفَّتهم الملائكة. فتحفهم الملائكة الكرام بأجنحتها تشريفًا وتعظيمًا لهم، ولما اجتمعوا عليه، وقد تنزّلت الملائكة الكرام ودنت من الصحابي الجليل أُسيد بن حُضير -رضي الله عنه- وهو يقرأ القرآن الكريم: فعن أُسيد بن حُضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ لجالت الفرس (847)، فسكت وسكت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره (848) رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «اقرأ يا ابن حُضير، اقرأ يا ابن حُضير»، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فرفعت راسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة (849) فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك؟»، قال: لا، قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم» (850).
قال ابن حجر -رحمه الله- (851): «قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح، لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلًا والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة، قلت: الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يُذكر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ».
وتنزَّلت الملائكة كذلك في مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين في قتال الكافرين، وهي من أكرم المواقف عند الله تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 125].
وكذلك تتنزَّل في ليلة القدر، أعظم الليالي عند الله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر: 4].
وهي كذلك تتنزَّل لتحف المؤمنين، وهم يتلون القرآن العظيم ويتدارسونه فيما بينهم، وتنزل معها المغفرة والرحمة ورضى الله تعالى (852). الجائزة الرابعة: ذكرهم الله فيمن عنده. ومعنى: (ذكرهم الله فيمن عنده) أثنى عليهم، أو أثابهم فيمن عنده من الأنبياء والملائكة الكرام (853).
وأي مكانة أكرم وأعظم من أن يذكر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه عبده الفقير الضعيف فيمن عنده في الملكوت الأعلى!.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» (854).
ولقد ندب الله عباده المؤمنين إلى ذكره فقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال سعيد بن جبير -رحمه الله-: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي (855).
فإذا علم المسلم أن عظيمًا من العظماء ذكره أمام حاشيته أو خاصته بخير وأثنى عليه، ألا تمتلئ نفسه غبطة وسرورًا، ويستبشر بذلك؟
ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض فكيف إذا علم أن الله جل جلاله يُثنى عليه في الملكوت الأعلى؟ ألا يستبشر ويُسر؟
فإن هذا من أعظم الحوافز والدوافع إلى المسارعة إلى مجالس القرآن المباركة تلاوةً وتدارسًا وتدبرًا وعملًا.
فهنيئًا لأهل القرآن بهذا الفضل العظيم والمنزلة الرفيعة، وعجبًا ممن يزهد ويتكاسل أو يُعرض عن مجالس القرآن العظيم (856). * * * المطلب الثالث اغتباط صاحب التلاوة. 1- اغتباط التالي للقرآن: عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا حسد إلا في اثنتين (857): رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورج آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل» (858).
وفي لفظ آخر مرفوعًا: «لا تحاسُد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار» (859).
ومعنى «لا حسد إلا في اثنتين»: «أي: لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد إن حسن، أو أطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين، كأنه قيل: لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم لكان ما فيهما من الفضل حاملًا على الإقدام على تحصيلهما به، فكيف والطريق المحمود يمكن تحصيلهما به؟!» (860).
قال النووي -رحمه الله- (861): «قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي، ومجازي، فالحقيقيُّ: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي: فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمرادُ بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما».
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن صاحب القرآن –الذي يتلوه آناء الليل وآناء النهار– في غِبطَة، أي في فرح وحسن حال، فينبغي أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك، يقال: غبطه يغبطه بكسر الباء غبطًا؛ إذا تمنى مثل ما هو فيه من النعمة، وهذا بخلاف الحسد المذموم، وهو تمني زوال نعمة المحسود منه سواء حصلت لذلك الحاسد أم لا، وهذا مذموم شرعًا، وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم على ما منحه الله تعالى من الكرامة والاحترام والإعظام (862).
والغبطة ليست بحرام بل رُبَّما كانت واجبة أحيانًا أو مندوبة أو مباحة في أحيان أخرى، والله تعالى يقول: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
ويقول تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [الحديد: 21].
والمسابقة منافسة، والمنافسة غبطة.
ولكن مجرد التمني والغبطة لا يكفي بحال من الأحوال مادام المسلم قادرًا على أن يكون خيرًا مما هو فيه، وآتاه الله تعالى من الوسع والطاقة والأسباب التي تُعينه على تحصيل القرآن والعلم الشرعي، ثم قعديتمنى فقط فهذا التمني لا يقدم ولا يؤخر (863).
2- اغتباط القائم بالقرآن: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالًا فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار» (864).
وعن يزيد بن الأخنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل أعطاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ويتبع ما فيه، فيقول رجل: لو أن الله تعالى أعطاني مثل ما أعطى فلانًا، فأقوم به كما يقوم به» الحديث (865).
قال ابن حجر -رحمه الله- (866): «والمُراد بالقيام به العمل به مطلقًا، أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه، والحكم والفتوى بمقتضاه».
وهذا يذكرنا بقول الله تعالى: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران: 113].
والمشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعيد وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: (لَيْسُواْ سَوَاء)، أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ)، أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله فهي (قَآئِمَةٌ)، أي: مستقيمة عادلة. من قولك: أقمت العود فقام، أي استقام.
(يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي: ساعاته واحدها: إنى كمعنى، أو إنو كقنو، أو إنى كنحى.
والمقصود أنهم يقومون الليل، ويُكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم (867). قال ابن عاشور -رحمه الله- (868): «وجملة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) حال، أي يتهجدون في الليل بتلاوتهم كتابهم، فقيدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم، وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال: يتهجدون؛ لأنه يدل على صورة فعلهم».
ولقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على جماعة الأشعريين لكثرة قراءتهم القرآن بالليل، فعن أبي موسى -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين (869) بالقرآن، حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم، بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (870).
قال النووي -رحمه الله- (871): «فيه دليل لفضيلة الأشعريين، وفيه أن الجهر بالقرآن في الليل فضيلة، إذا لم يكن فيه إيذاء لنائم، أو لمصل، أو غيرهما، ولا رياء».
وقال أيضًا (872): «وإنما رجحت صلاة الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والملهيات، والتصرف في الحاجات، وأصون من الرياء وغيره من المحبطات مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في الليل، فإن الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ليلًا».
فهنيئًا لمن يكثر قراءة القرآن، وليبشر بمجيء القرآن العظيم يوم القيامة حين يشهد له بالخير ويشفع له عند رب العالمين: فعن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار» (873).
فالقرآن لا يتخلى عن صاحبه الذي صحبه في الليل والنهار، وفي الصيف والشتاء، فإذا هو يبرز له يوم القيامة حين ينشق عنه قبره، وكأنه يتمثل بصورة قارئه الذي أتعب نفسه بالسهر في الليل، والصوم في النهار. وفي ذلك دلالة على مدى ما أنفق صاحب القرآن من جهد، فأصابه من ذلك التعب والشحوب (874). * * * المطلب الرابع التلاوة حلية لأهل الإيمان: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة (875)، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة (876)، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة (877)، ليس لها ريح وطعمها مر» (878).
ما أروع بلاغة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- في حثه الناس على قراءة القرآن والعمل به عن طريق ضرب الأمثلة المحسوسة التي تقرب المعنى وتحفز الانتباه. قال ابن حجر -رحمه الله- (879): «قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه.
ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة؛ لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبها دهن له منافع، وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضًا من المزايا كبر جرمها وحُسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة، ودباغ معدة، وجودة هضم».
فالمؤمنون -كما يصنفهم الحديث- درجات، وحالهم مع القرآن متفاوتة، وكذلك حال المنافقين. وبيانه كالآتي: 1- أحوال المؤمن مع القرآن. إن المؤمن الذي يقرأ القرآن طيب الظاهر والباطن، كالأترجة في طيب طعمها ورائحتها، وكما أن المؤمن يستريح ويسر بتلاوة القرآن فكذلك الناس من حوله يسرون بصوته والاستماع له.
أما المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فإنه يفقد صفة هامة وهي طيب الظاهر، فمثله كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، وهذا نقص في شخصية المسلم لابد من تداركه بالإقبال على القرآن العظيم تلاوة وحفظًا وتدبرًا. وطيب الطعم هنا كناية عن قوة الإيمان في قلب المؤمن وصحة المعتقد، لكن بعض المؤمنين رغم نقاء قلوبهم وصحة اعتقادهم، يبقى عطره محتبسًا في قلبه وصدره، لا يتعدى أثره إلى غيره، وما ذاك إلا لإعراضه عن تلاوة القرآن وتدبره كما ينبغي.
فالمؤمن الحقُّ يتميز بالقرآن ويرتقي بالقرآن إذا تلاه بشروطه، وعمل به، والتزمه منهج حياة، وسبيل دعوة وإرشاد، فعند ذلك يتكامل الباطن والظاهر، كما يتكامل في الأترجة طيب طعمها، وطيب رائحتها، وحسن منظرها.
وكما لا يتصور أن ينفصل في الأترجة طيب طعمها عن طيب نشرها وعطرها –في الأعم الأغلب– كذلك لا يتصور أن ينفصل إيمان المؤمن عن عمله وسلوكه، ومنه تلاوة القرآن والتزامه منهج حياة.
وكذلك لا يتصور أن ينفصل القرآن عن المؤمن أبدًا، فيصبح القرآن في واد والمؤمن في واد، ومن هنا يمكن أن نفهم الآية الكريمة: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30]؛ فما بين الهجرة إلى القرآن والهجرة عن القرآن يظهر التفاوت بين طيب الطعم مع طيب الرائحة، وبين طيب الطعم وغيب الرائحة.
2- أحوال المنافق مع القرآن. المنافق بين حالين أحسنهما سيء؛ لأنه سيء الباطن ولو حاول التظاهر بصفات أهل الإيمان وشاركهم بقراءة القرآن، فإن هذه القراءة عمل ظاهري يقصد به خداع الناس والتمويه عليهم، فمثله كمثل الريحانة قد يغتر الجاهل بطيب رائحتها فإذا أكل منها ذاق المر والعلقم، وكذلك المنافق إن عاملته وعاشرته تذوقت مرارته وكشفت حقيقته.
قال ابن بطال فيما نقله عنه ابن حجر رحمهما الله جميعًا: «إن قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما يزكو عنده ما أُريد به وجهه وكان على نية التقرب إليه، وشبَّهه -صلى الله عليه وسلم- بالريحانة حين لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره، فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق، ولا اتصل بالقلب» (880).
فالمنافق إذا سمعته يتلو القرآن تصورت وراء هذه التلاوة صدرًا يعمر بالإيمان، ولكنك لو تأملت أكثر عرفت حال وفساد عقيدته عند ذلك ستنصرف عنه وتلقيه من حساباتك ومن حياتك كما يُلقى بالثمرة إذا اختبر طعمها فوجدت مرة خبيثة الطعم.
وإذا كان هذا حال المنافق الذي يقرأ القرآن، فما الظن بالمنافق الذي لا يقرأ القرآن؟ فقد جمع إلى مرارة الطعم (أي فساد العقيدة) خبث الرائحة، فقلبه فاسد بسوء معتقده، ورائحته فاسدة بإعراضه عن كتاب الله تلاوةً، فضلًا عن التدبر والتأثر والعمل، فهذا سيء الباطن والظاهر، فمثله كمثل الحنظلة وهو الشوك الذي تنفر من منظره وتعافه حتى الإبل؛ لما فيه من مرارة وطعم خبيث.
فهو في بحر لجي من الظلمات بعضها فوق البعض: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40].
ففي هذا الحديث الشرف دعوة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى كل مؤمن ومسلم أن يتكامل باطنه مع ظاهره، ومخبره مع مظهره، واعتقاده مع سلوكه، ولا يتحقق ذلك إلا بملازمة المؤمن لتلاوة القرآن وتدبره والعمل به (881). * * * المطلب الخامس التلاوةُ كُلُّها خير: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الماهر بالقرآن (882) مع السفرة (883) الكرام البررة (884)، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه (885)، وهو عليه شاق له أجران (886)» (887).
وعن أبي داود (888) من حديث عائشة أيضًا مرفوعًا بلفظ: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو يشتد عليه، فله أجران» (889).
2- الماهر بالقرآن. فهذه بشارة عظيمة لمن تعلَّم القرآن وأتقن تلاوته وأكثر منها حتى أصبح ماهرًا فهو مع السفرة وهم الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل لهداية الناس، أو الملائكة المقربين؛ لاتصافه بصفتهم التي تشرفوا بها، وهي حمل كتاب الله تعالى وتبليغه، والإكثار من ذكر الله تعالى (890).
مَنْ هو الماهر: هل الماهر بالقرآن الذي يجيد تلاوته فقط، ولا شيء وراء ذلك؟ وهل من فعل ذلك يستحق هذه المنزلة العظيمة؟!
لنستمع إلى الإمام القرطبيِّ -رحمه الله- وهو يصف لنا الماهر بالقرآن، لندرك أن نيل هذه المرتبة الرفيعة يحتاج إلى مشقة وصبر وعمل متواصل حتى ينالها، فيقول (891): «ولا يكون ماهرًا بالقرآن حتى يكون عالمًا بالفرقان، وذلك بأن يتعلم أحكامه، فيفهم عن الله تعالى مراده وما فرض عليه، ويعرف المكي من المدني، ليفرق بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض في أول الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، ويعرف الإعراب والغريب، فذلك الذي يسهل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشك فيما يتلو، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فبها يصل الطالب إلى مراد الله –عز وجل– وهي تفتح له أحكام القرآن فتحًا».
2- الذي له أجران. من فضل الله تعالى وكرمه وتيسيره القرآن للمسلمين أنَّ كل من يقبل على القرآن العظيم فيتلوه ويتدبره فإن له أجرًا عظيمًا عند الله تعالى، سواء أكان ماهرًا بالقراءة أم متعتعًا فيها قد جاهد نفسه واشتدت عليه التلاوة فله أجران: أجرٌ على التِّلاوة، وأجرٌ على المشقَّة.
وهل يعني هذا أنَّ مَنْ له أجران أكثُر ثوابًا من الماهر بالقرآن؟
يجيبنا على هذا السؤال الإمام النَّوويُّ -رحمه الله- حيث يقول (892): «وليس معناه الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل، وأكثر أجرًا؛ لأنه من السفرة وله أجور كثيرة.
ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحقُ به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه، وإتقانه، وكثرة تلاوته وروايته، كاعتنائه حتى مهر فيه».
«والحاصل أن المضاعفة للماهر لا تُحصى، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر، والأجر شيء مقدر، وهذا له أجران من تلك المضاعفات» (893).
والماهر نفسُه كان القرآن متتعتعًا عليه ثم ترقَّى بعد ذلك إلى أن شبه بالملائكة (894). وبعد هذا كله هل يرضى المسلم أن يكون القرآن عليه شاقّاً، وأن يلقى على الدوام صعوبة في تلاوته، ويتتعتع فيه؟
إذا كانت التلاوة شاقة عليه فهذا يؤجر على مجاهدته، ويقبل منه ذلك، فإنه قد بذل جهده ووسعه وطاقته، والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وما آتاها، ولكن لا ينبغي للمسلم أبدًا أن يرضى لنفسه بهذه الحال ويقنع بضعفه إذا كان قادرًا على بذل المزيد.
والعتبُ كلُّ العتب على أولئك الذين يتعتعون في تلاوة القرآن وهو عليهم شاق باختيارهم؛ ذلك بأنهم على درجة من العلم، وإجادة القراءة، أو أنهم ممن حمل شهادات علمية عالية.
لا ريب أنهم مفرطون بذلك، ومرد تفريطهم يرجع إلى أمرين أحسنهما سيء: 1- إما أنهم أهملوا كتاب الله ابتداءً، وأعرضوا عنه، فصعبت عليهم التلاوة وأصبحت شاقة؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فهم لم يتعلموه البتة.
2- أو أنهم تعلموا التلاوة ثم انصرفوا عنها وهجروها، فطال عليهم الأمد فزهدوا في الأجر وشقت عليهم التلاوة بعد ذلك، وهؤلاء على خطر كبير إذا لم يتداركوا أنفسهم، ولهم أوفر النصيب من قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
وإذا كان هذا حال أهل العربية الذين أكرمهم الله تعالى بها، ونزل القرآن بلسانهم، فلا عتب، ولا عجب إذًا على غير العرب من المسلمين إذا شق عليهم القرآن وتتعتعوا في تلاوته.
لكنَّ الواقع خلاف ذلك، فإن كثيرًا من إخواننا المسلمين من غير العرب في بقاع الأرض كلها، يتلون كتاب الله تعالى، وهم مهرة في ذلك، والآلاف من هؤلاء يحفظونه عن ظهر قلب، بل أصبحوا معلمين له، وربما أتوا إلى بلاد عربية ليعلموا أولاد العرب القرآن الكريم، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي هذا الحديث إيحاءٌ قويٌّ، بأن المسلم لا ينبغي له في أي حال كان، أن ينصرف عن تلاوة القرآن العظيم، سواء كان من المهرة المتقنين المتمكنين من التلاوة، أم كان ضعيف القدرة على تحصيل ذلك، فيتخذ ضعفه حجة في الإعراض عن التلاوة.
ولا ريب أن كثرة الممارسة والمحاولة الجادة ستؤدي إلى حسن التلاوة، وربما حسن الحفظ فيما بعد، وهو أمر مجرب، ويسير على من يسره الله عليه، ووفقه لذلك (895). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الأحد 27 يناير 2019, 11:56 pm | |
| الهوامش: 792. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، (1/246)، (ح301). 793. التبيان في آداب حملة القرآن، (ص102). 794. انظر: المصدر نفسه، (ص103-104). 795. هو مقدار معلوم من القرآن تواظب عليه فتقرؤه يوميًا رضي الله عنها. 796. رواه الفريابي في «فضائل القرآن»، (ص230)، (رقم 154). وأبو عبيد في «فضائل القرآن»، (ص119)، (رقم 191، 192). 797. انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، (ص152-153). 798. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، (1/515)، (ح747). 799. انظر: يعلمهم الكتاب التعامل مع القرآن الكريم، (ص42-43). 800. تفسير القرطبي، (14/345). 801. هو مطرف بن عبد الله بن الشخير (أبو عبد الله) الحرشي العامري البصري، أحد أئمة التابعين، فقيه، عابد، مجاب الدعوة، له فضل وورع وعقل وأدب، قال العجلي: «كان ثقة لم ينج بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا هو وابن سيرين». توفي سنة (95هـ). «انظر: سير أعلام النبلاء، (4/187-195)». 802. انظر: تفسير ابن كثير، (6/567). 803. انظر: الكشاف، (3/621). تفسير أبي السعود، (7/151). 804. انظر: فتح القدير، (4/348). تفسير السعدي، (4/216). 805. انظر: تفسير الطبري، (22/132). تفسير السمرقندي، (2/532). 806. انظر: تفسير أبي السعود، (7/151). 807. انظر: تفسير السعدي، (4/217). 808. تفسير ابن كثير، (6/567). 809. رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، (5/175)، (ح2910) وقال: «حسن صحيح غريب» وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: (3/9)، (ح2327). وصحيح الجامع: (2/1103)، (ح6469). 810. رواه أبو عبيد في «فضائل القرآن»، باب فضل قراءة القرآن والاستماع إليه، (ص25)، والدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، (2/302)، (رقم 3308). والطبراني في «المعجم الكبير»، (9/140)، (رقم 8658). والفريابي في «فضائل القرآن»، (ص169)، (رقم 63). وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب فضائل القرآن، باب ثواب من قرأ حروف القرآن، (10/462)، (رقم 9983). وأورده الألباني في: «السلسلة الصحيحة»، (2/267)، (رقم 660). وقال: د. إبراهيم علي السيد في كتابه «الأحاديث والآثار الواردة في فضائل سور القرآن الكريم» (ص40): «إسناده حسن، فيه عمر بن عبيد صدوق، وبقية رجاله ثقات». 811. هو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بهادر المباركفوري، محدث ولد بقرية مباركفور – من توابع أعظم كدة – بالهند سنة (1283هـ)، وقرأ بالعربية وبالفارسية وبالأردية، ورحل إلى البلاد القريبة منه، وقرأ على جماعة، كان ورعًا، إمامًا في السنة؛ أوذي في الله كثيرًا فصبر، وقد أسس عدة مدارس، درَّس فيها بنفسه، ثم اعتزل في بيته، وانقطع للتأليف، وانتفع به خلق كثير. ومن آثاره: «تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي»، وغيره من المؤلفات. توفي في موطنه مباركفور سنة (1353هـ). «انظر: معجم المؤلفين، (3/394). راجع ترجمته بتوسع في: مقدمة تحفة الأحوذي، (ص615-643)». 812. تحفة الأحوذي، (8/182). 813. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله، (4/2068)، (ح2687). 814. صحيح مسلم بشرح النووي، (17/14). 815. رواه أحمد في المسند، (4/103)، (ح16555). والدارمي في سننه، (2/337)، (ح3450). والنسائي في «الكبرى»، (10553) – وهو في عمل اليوم والليلة (717)- وقال الألباني في صحيح الجامع (2/1103)، (ح6468): «صحيح». 816. هو عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين بن يحيى بن محمد الحدادي ثم المناوي، القاهري، الشافعي، ولد سنة (953هـ)، وتوفي سنة (1021هـ)، كان زاهدًا كثير العبادة أحرز العلوم والمعارف، نشأ في حجر والده وقرأ عليه وعلى كثيرين غيره، نبغ في العربية والتفسير والحديث والأدب، ولي تدريس المدرسة الصالحية فأخذ عنه كثيرون، ثم انقطع إلى التأليف، وقد استولى عليه مرض أقعده. قيل: إن بعض الحاسدين دَسَّ له سُمًّا فكان يُملي تأليفه على ابنه محمد، وقد خلط بعضهم بينه وبين ابنه محمد بن عبد الرؤوف المتوفى سنة (1022هـ)، ولابنه هذا شرح على التائية الكبرى للفارضي. ولعبد الرؤوف المناوي تصانيف كثيرة منها: «الجامع الأزهر من حديث النبي الأنور»، و«إتحاف الناسك بأحكام المناسك»، و«الجواهر المضية في الأحكام السلطانية» وغيرها. «انظر: مقدمة فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي (1/9-10)». 817. فيض القدير شرح الجامع الصغير، (11/5951). 818. رواه ابن خزيمة في صحيحه، (2/181)، (ح1144). وابن حبان في صحيحه، (6/310)، (ح2572). وأبو داود في سننه، (2/57)، (ح1398). وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1/263)، (ح1246): «صحيح». 819. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/192). 820. بلغ عدد آيات جزءي «تبارك، وعم» برواية حفص عن عاصم الكوفي رحمه الله: (995)، فإذا أضفنا عدد آيات سورة الفاتحة – وهي ركن في الصلاة – تجاوز العدد (1000) آية. ولا يعني ذلك أن يقتصر المسلم على تلاوتها في صلاته دون غيرهما. 821. (خلفات): الخلفات الحوامل من الإبل إلى أن يمضي عليها نصف أمدها. ثم هي عشار. والواحدة خلفة وعشراء. «انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/89)». 822. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة، (1/552)، (ح802). 823. انظر: أنوار القرآن، (ص79-84). 824. (يتدارسونه): يقرؤونه ويتعهدون تلاوته. وقيل: التدارس قراءة بعضهم على بعض تصحيحًا لألفاظه، أو كشفًا لمعانيه. «انظر: تحفة الأحوذي، (8/268). النهاية في غريب الحديث، (2/113)، مادة: (درس)». 825. (السكينة): الوقار والتأني والسكون. وقيل: الرحمة. وقيل: خلق رقيق كالريح والهواء. 826. «النهاية في غريب الحديث، (2/386)، مادة: (سكن)». 827. (غشيتهم الرحمة): أي غطتهم الرحمة. وغشاه تغشية إذا غطاه، وغشي الشيء إذا لابسه. «النهاية في غريب الحديث، (3/369)، مادة: (غشي)». 828. (حفتهم الملائكة): أي دارت حولهم. «النهاية في غريب الحديث، (1/408)، مادة: (حفف)». 829. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر، (4/2074)، (ح2699). 830. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (17/24). 831. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر، (4/2074)، (ح2700). 832. انظر: ورتل القرآن ترتيلًا، (ص15). 833. انظر: تحفة الأحوذي (8/156). 834. فتح الباري، (9/57). 835. صحيح مسلم بشرح النووي، (6/82). 836. (شطنين): بفتح الشين المعجمة والطاء، تثنية شطن، وهو الحبل الطويل. وإنما شده بشطنين لقوته وشدته. [النهاية في غريب الحديث، (2/475)، مادة: «شطن»]. 837. (تغشته): أي علته وقربت منه. [النهاية في غريب الحديث، (3/369)، مادة: «غشا»]. 838. (ينفر): أي يثب ويجول. «صحيح مسلم بشرح النووي، (6/82)». 839. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف، (3/1615)، (ح5011). 840. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، (1/548)، (ح795). 841. تحفة الأحوذي، (8/156). 842. انظر: فتح الباري، (9/57). 843. انظر: تفسير السعدي، (5/44). 844. انظر: أنوار القرآن، (ص107-108). 845. انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، (1/78). 846. انظر: المصدر السابق، (ص109-110). 847. (جالت الفرس): أي وثبت واضطربت. قال في هذه الرواية: «جالت» فأنث الفرس وهو صحيح؛ لأن الفرس يطلق على الذكر والأنثى. «انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/83»). 848. (فلما اجتره): بجيم ومثناة وراء ثقيلة، والضمير لولده، أي: اجتر ولده من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس. «انظر: فتح الباري، (9/64)». 849. (الظلة): هي ما يقي من الشمس. كسحاب، أو سقف بيت. «صحيح مسلم، (1/548)». 850. رواه البخاري في صحيحه واللفظ له، كتاب فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، (3/1617)، (ح5018). ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، (1/547)، (ح796). 851. فتح الباري، (9/81). 852. انظر: أنوار القرآن، (ص110). 853. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/230). 854. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء، (4/2068)، (ح2675). 855. انظر: تفسير ابن كثير، (1/419). 856. انظر: أنوار القرآن، (ص111). ورتل القرآن ترتيلًا، (ص15). 857. (لا حسد إلا في اثنتين): الحسد: أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه، والغبط: أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها، والمراد بالحسد هنا: الغبطة. «النهاية: في غريب الحديث، (1/383)، مادة: (حسد)». 858. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، (3/1619)، (ح5026). 859. رواه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب تمني القرآن والعلم، (4/2261)، (ح7231). 860. فتح الباري، (9/92). 861. صحيح مسلم بشرح النووي، (6/338). 862. انظر: فضائل القرآن، لابن كثير (ص201). 863. انظر: أنوار القرآن، (ص252-253). 864. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، (3/1619)، (ح5025). 865. رواه أحمد في المسند، (4/104)، (ح17007). وقال محققو المسند (28/168)، (ح16966): «صحيح لغيره». وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/405)، (ح636): «حسن صحيح». 866. فتح الباري، (1/219-220). 867. انظر: تفسير ابن كثير (2/114). تفسير النسفي (1/173). التسهيل لعلوم التنزيل (1/116). 868. التحرير والتنوير، (3/195). 869. (رفقة الأشعريين): الرفقة بضم الراء وكسرها والأشهر الضم، وهم الجماعة المترافقون. [انظر: فتح الباري، (7/487)]. 870. متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغاري، باب غزوة خيبر، (3/1284)، (ح4232). ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم، (4/1944)، (ح2499). 871. صحيح مسلم بشرح النووي، (16/61). 872. التبيان في آداب حملة القرآن، (ص88). 873. رواه أحمد في المسند، (5/238)، (ح23000)، وإسناده حسن في المتابعات والشواهد، وقد سبق تخريجه وشرح ألفاظه الغريبة (ص432). 874. انظر: شرح سنن ابن ماجة، (ص268). أنوار القرآن، (ص179). 875. الأترج: بضم الهمزة والراء، بينهما مثناة ساكنة، وآخره جيم ثقيلة: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، زكي الرائحة، حامض الماء. «انظر: لسان العرب، (9/84)، المعجم الوسيط، (ص4)». قال في القاموس المحيط (1/364): «الأترج والأترجة والترنجة والترنج معروف، وهي أحسن الثمار الشجرية وأنفسها عند العرب». 876. الريحان: جنس من النبات طيب الرائحة من الفصيلة الشفوية، وكل نبت طيب الرائحة، ويقال: للمرأة ريحانة. «انظر: المعجم الوسيط، (ص381)». 877. الحنظل: نبت مفترش، ثمرته في حجم البرتقالة ولونها، فيها لب شديد المرارة. «انظر: المعجم الوسيط، (ص202)». 878. رواه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، (4/2363)، (ح7560). ومسلم في صحيحه واللفظ به، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن، (1/549)، (ح797). 879. فتح الباري، (9/84). وانظر: تحفة الأحوذي (8/168). حاشية السندي (8/125). 880. فتح الباري، (13/657). 881. انظر: أنوار القرآن، (ص89-92). ورتل القرآن ترتيلًا، (ص16-17). 882. (الماهر بالقرآن): هو الحاذق الكامل الحفظ، الذي لا يتوقف ولا تشق عليه القراءة، لجودة حفظه وإتقانه. 883. (مع السفرة): السفرة جمع سافر، ككتبة وكاتب. والسافر: الرسول. والسفرة: الرسل؛ لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله. وقيل: هم الملائكة، سمو بذلك؛ لأنهم ينزلون بوحي الله وما يقع به الصلاح بين الناس، كالسفير يصلح بين القوم، وكذلك أهل القرآن يصلح الله بهم المجتمع. 884. (البررة): أي المطيعون لله، مأخوذ من البر وهو الطاعة. 885. (ويتتعتع فيه): هو الذي يتردد فيه تلاوته؛ لضعف حفظه. 886. (له أجران): أجر بالقراءة، وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته. «انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/84-85). فتح الباري، (8/693). شرح السنة، للبغوي (4/30)». 887. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، (1/550)، (ح798). 888. هو سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر – أو عمران – ولد سنة (202هـ)، وهو أحد أئمة الحديث الحفاظ، ومن أعلام المسلمين فقهًا وعلمًا وورعًا، ومن أشهر من خدم العلم والسنة وجمع وصنف وذب عنها. ومن أشهر مؤلفاته: «كتابه السنن» أحد الكتب الستة التي اتفق أهل العلم على قبولها وصحتها في الجملة، توفي رحمه الله سنة (298هـ). «انظر: تهذيب التهذيب، (4/169-173)». 889. رواه أبو داود، كتاب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في ثواب قراءة القرآن، (2/70)، (ح1454)، وقال الألباني في صحيح أبي داود (1/272)، (ح1290): «صحيح». 890. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/85). ورتل القرآن ترتيلًا، (ص19). 891. التذكار في أفضل الأذكار، (ص83-84). 892. صحيح مسلم بشرح النووي، (6/326). 893. عون المعبود شرح سنن أبي داود، (4/230). 894. انظر: التذكار في أفضل الأذكار، (ص83). 895. انظر: أنوار القرآن، (ص93-98). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الإثنين 28 يناير 2019, 7:12 am | |
| المبحث الرابع فضائل حفظ القرآن.
وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: علـــــــــــــو درجــــــــة الحـافظ. المطلب الثاني: الحافظ مقدم في الدنيا والآخرة. المطلب الثالث: فضــــــــائل متنـــوعة للحــافظ. تمهيد حفظ القرآن العظيم هو الأصل في تلقيه، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49].
فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأن جعل قلوب صالحيها أوعية لكلامه، وصدورهم مصاحف لحفظ آياته.
وقال الله عز وجل لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث القدسي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان» (896).
فمعنى ذلك: أن القرآن العظيم محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الزمان (897).
ومن أعظم نعم الله تعالى على عباده أن يسر لهم حفظ القرآن الكريم. قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 17، 22، 32، 40].
«أي: سهلناه للحفظ وأعنا عليه مَنْ أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيُعان عليه؟» (898).
وقوله تعالى: (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) «أي: فهل من متعظ به، حافظ له؟ والاستفهام هنا بمعنى الأمر، أي احفظوه واتعظوا به» (899).
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يجد أن الله تبارك وتعالى أكَّد تيسير حفظ كتابه بمؤكدات متعدِّدة قويَّة، منها: القسم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا)، ومنها: التعبير بنون العظمة (يَسَّرْنَا)، ومنها: تكرار هذه الآية أربع مرات في سورة القمر.
والواقع المشاهد يصدق هذا التيسير، فقد حفظ القرآن حفاظ لا يحصون عددًا في كل جيل ومن كل قبيل، لا يخطئ أحدهم في كلمة ولا حرف، سواء كانوا عربًا أم عجمًا، وأكثر الحفاظ العجم لا يعرفون من العربية شيئًا، وربما قرأ الواحد منهم القراءات السبع والعشر عن ظهر قلب (900).
وقد عد الإمام أبو الحسن الماوردي (901) -رحمه الله- هذا الأمر وجهًا من وجوه إعجاز القرآن العظيم وخصائصه التي تميز بها عن سائر كتب الله تعالى، فقال: «من إعجازه تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه،.... وما ذاك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه» (902). وقال ابن الجزري (903) -رحمه الله-: «ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة» (904).
وحفظ القرآن العظيم فيه تأسٍ بالسلف الصالح، فهو أصل الأصول، والمعول عليه في جميع الأمور، وهو مرجع أساس لسائر المناهج والعلوم، فكانوا لا يبدؤون إلا به، وما أن نقرأ في ترجمة أحد من أهل العلم إلا ونرى في سيرته: حفظ القرآن الكريم، ثم ابتدأ بطلب العلم (905).
وكان كثير من السلف رحمهم الله يرفضون تدريس الحديث وغيره من العلوم للحدث؛ حتى يحفظ القرآن أولًا.
قال النووي -رحمه الله- (906): «كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن». وَعَدَّ ابن جماعة (907) -رحمه الله- الأدب الأول من آداب طالب العلم: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيُتقنه حفظًا، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأُمُّها وأهمُّها» (908).
ولم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا فيه تشجيع على حفظ القرآن العظيم إلا سلكه، فكان يفاضل بين أصحابه الكرام في حفظ القرآن، فيعقد الراية لأكثرهم حفظًا.
وإذا بعث بعثًا جعل أميرهم أحفظهم للقرآن، وإمامهم في الصلاة أكثرهم قراءةً للقرآن، ويقدم للحد في القبر أكثرهم أخذًا للقرآن، وربما زوج الرجل على ما يحفظه في صدره من القرآن (909).
وهذا هو محور حديثنا من خلال المطالب الآتية: المطلب الأول عُلُوُّ درجة الحافظ: حين يدخل المؤمنون الجنة فإن حافظ القرآن له شأن آخر، حيث يعلو غيره في درجات الجنة لتعلو منزلته، وترتفع درجته في الآخرة، كما ارتفعت في الدنيا.
ويتبين ذلك جليًا من خلال عدة أحاديث: 1- منزلة الحافظ عند آخر آية يقرؤها. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُقال لصاحب القرآن (910): اقرأ وارتق (911)، وارتل كما كنت ترتل في الدنيا (912)، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» (913).
أفاد الحديث الترغيب في حفظ القرآن، وتخصيصُ الصَّاحب في الحديث بالحافظ عن ظهر قلب دون التالي من المصحف تكريمًا له وتشريفًا. قال ابن حجر الهيتمي (914) -رحمه الله-: «الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلَّةً وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم، ومما يؤيد ذلك أيضًا أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمة، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط به الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ، فتعين أنه –أعني الحفظ عن ظهر قلب– هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل، وقول الملائكة له: اقرأ وارق صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى» (915).
الغُنمُ بالغُرْم: والفوز بهذه المنزلة له شروط يوضحها الألباني (916) -رحمه الله- بقوله (917): «فقيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أكثر منافقي أمتي قراؤها» (918)».
فيا لها من سعادة للحافظ المخلص إذا قيل له: اقرأ وارق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها.
ترى إلى أين يرقى؟
«قال الطيبي: إن الترقي يكون دائمًا، فكما أن قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى، وهذه القراءة لهم كالتَّسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذاتهم بل هي أعظم مستلذاتهم» (919).
تنبيه على أثر ضعيف: قال الخطابي -رحمه الله- (920): «جاء في الأثر (921): أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، يُقال للقارئ: ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمَنْ استوفى قراءة جميع القرآن استولى (922) على أقصى درج الجنة، ومَنْ قرأ جزءًا منها كان رُقِيُّهُ في الدرج على قدر ذلك، فيكون مُنتهى الثواب عند مُنتهى القراءة».
2- يلبس تاج الكرامة وحُلَّة الكرامة ويفوز بالرضا. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله (923)، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة» (924).
بَيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القرآن العظيم يرفع شأن صاحبه يوم القيامة، وأنه يطلب من الله تعالى أن يُزين صاحبه ويُحليه ويُلبسه تاج الكرامة ويرضى عنه عز وجل جزاءً وفاقًا، فكما أرضى صاحب القرآن كتاب الله في الدنيا بقيامه به، وعمله به، وتدبره، والدعوة إليه؛ فإن القرآن يسأل الله تعالى أن يرضى عن عبده الحافظ للقرآن العامل به.
ففي هذا الحديث عدَّة كرامات لحافظ القرآن وهي: الإنعام عليه بتاج الكرامة، وحلة الكرامة، فهو يعرف بها يوم القيامة بين الخلائق، وهي علامة على كرامة لابسها ومكانته عند الله عز وجل.
وهذا التَّاج وهذه الحُلَّة وسام شرف ورفعة يتميز بها أصحاب القرآن عن غيرهم من المؤمنين، وجدير بمن لبس هذا التاج وهذه الحلة أن يكون رفيع الدرجة عالي المقام. وإذا كان العبد في الدنيا يزهو ويفتخر ويمتلئ إعجابًا وخيلاء إذا ما خلع عليه سلطان أو ملك خلعة ما، فما بالك بصاحب القرآن يوم القيامة إذا أنعم عليه مولاه، خالق الخلق جميعًا، وملك الناس وإلههم بهذه النعمة العظيمة، والمنزلة الرفيعة، وألبسه تاج الكرامة، وحلة الكرامة على أعين الخلائق.
ما بالك بالسعادة والغبطة والفرح الذي يملأ قلبه.
وأعظم من ذلك كلِّه: رضا الله عنه، ثم يزاد على كل ذلك بكل آية حسنة، فضلًا عن رفعه درجات في الجنة بعدد الآيات التي يحفظها من القرآن.
فهل يعي المسلمون فضائل حفظ القرآن، ويقبلوا عليه بشوق، ورغبة، ونهم، ويربوا على ذلك أبناءهم؟
ويا للأسف إن أكثرهم يتسابقون على دنياهم أضعاف تسابقهم إلى آخرتهم.
وقد حذرنا الله تعالى الدنيا ومتاعهم فقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء: 77].
فمن أظلم ممن زهد في كتاب ربه، فأعرض عنه حفظًا وفقهًا وتلاوة ودراسة وعملًا (925).
3- حافظه من السفرة الكرام البررة: عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له، مع السَّفرة الكِرَامِ البَرَرَة» (926).
هؤلاء السفرة الكرام اختارهم الله تعالى، وشرفهم بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة، قال تعالى: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) [عبس: 13-15].
مغزى معيَّة السَّفرة: ومعنى كون الحافظ مع السفرة يحتمل أمرين: الأول: أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة؛ لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى. فأنزل منازلهم الرفيعة، وأسكن مقاماتهم العالية من جوار الحق تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر: 54-55].
الثاني: أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم (927).
«وما نفتأ نرى الناس اليوم يفتخرون حين ينسبون إلى عظيم من العظماء، أو رجل يحمل الشهرة والاسم اللامع ولو كان ذلك في ميدان الرياضة أو اللهو الباطل، فهنيئًا لهؤلاء ما اختاروه من هوان لأنفسهم، وهنيئًا لحفظة كتاب الله حين اختاروا أن يكونوا مع السفرة الكرام البررة» (928). * * * المطلب الثاني الحافظ مقدم في الدنيا والآخرة: 1- الحافظ أولى الناس بالإمارة: ممن رفعهم الله تعالى بالقرآن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي -رضي الله عنه-، وهو من أواخر صغار الصحابة، كان مولى لنافع بن عبد الحارث، وكان في عهد عمر رجلًا، وكان على خراسان لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (929).
عن عامر بن واثلة؛ أن نافع بن الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» (930).
إن قارئ القرآن، العالم بأحكامه، رفيع القدر، عظيم المنزلة، يفوق غيره وإن كان أشرف منه نسبًا، أو أعظم جاهًا، فهذا مولى من الموالي لا جاه له، ولا مال، ولا حسب، ولا مكانة عليا في المجتمع، وربما كان في السلم الاجتماعي دون غيره بمقاييس أهل الدنيا، ولكنه بمقياس القرآن شيء آخر، وله مقام آخر. فقد رفعه القرآن من مقام المولى إلى مقام الولاية، وعلمه بالقرآن أهله لأن يحكم ويقضي بين الناس، وتكون له الكلمة النافذة، والرأي المسموع في المجتمع.
وهذا هو ذا عمر -رضي الله عنه- يعرف لهذا العالم بالقرآن والحافظ له مكانته وفضله، فإذا به يقر نافعًا على اختياره، ويذكر قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا» الحديث (931).
2- الحافظ أولى الناس بالإمامة. عن أبي مسعود الأنصار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَؤُمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله...» (932).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (933).
وهذا مقام آخر من مقامات الأفضلية للحافظ، بأن قدم على كل من حضر في المسجد للصلاة.
والأكثر قرآنًا هو المقدَّم في إمامة الصلاة وإن كان مولى: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة –موضع بقباء– قبل مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يؤمهم سالم، مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا» (934).
زاد الهيثم بن خالد الجهني: «وفيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد» (935).
قال ابن حجر -رحمه الله- (936): «ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكأن إمامته بهم كانت قبل أن يُعتق،... وإنما قيل له مولى أبي حذيفة؛ لأنه لازم أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بعد أن أُعتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه... وقوله: (وكان أكثرهم قرآنًا) إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه».
والأكثر قرآنا هو المقدم في إمامة الصلاة وإن كان صبيًا مميزًا: عن عمر بن سلمة -رضي الله عنه- قال: لما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حقًا، فقال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا». فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين... (937).
قال ابن حجر -رحمه الله- (938): «وفي الحديث حجة للشافعية في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة ولم ينصف من قال إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم، ولم يطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز».
3- الحافظ مقدم في المشورة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا» (939).
4- الحافظ مقدم في قبره. وكما أعلى الله تعالى شأن حافظ القرآن في الدنيا فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقديم حتى بعد موته: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين رجلين من قتلى أحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن»، فإذا أُشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، فقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» (940). قال ابن حجر -رحمه الله- (941): «وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن، ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل».
ومع أن مقام الشهادة فوق كل مقام، ومع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد لقتلى أحد عند الله تعالى بالصدق فيما عاهدوا عليه، وشهد لهم بالجنة، إلا أنه في غمرة هذه الفضائل للشهداء، لم ينس -صلى الله عليه وسلم- الشهيد الأكثر حفظًا للقرآن في تقديمه في اللَّحد.
فصاحب القرآن، والأكثر أخذًا للقرآن، له الأفضلية حتى بين الشهداء، لعظمة القرآن الذي في صدره، وما تقديم الرسول -صلى الله عليه وسلم- له في اللحد إلا رمز لتقدمه على من سواه من الشهداء في الأجر والثواب، وفي المكانة والجنة.
وإذا كان التفاضل بالقرآن بين الشهداء، فالتفاضل بيه بين الأحياء ولا شك أكبر وأعظم: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
فليتأمل المسلم هذا الأمر جيدًا، ويقف عنده طويلًا، ومن ثم يقوده للعناية بالحفظ والإكثار منه والصبر عليه (942). * * * المطلب الثالث فضائل متنوعة للحافظ: 1- حملة القرآن هم أهل الله وخاصته. من تمام إكرام الله تعالى لحملة كتابه أن جعلهم من أهله وخاصته، وهو شرف عظيم، وتكريم لحفاظ القرآن لا يدانيه أي شرف يسعى إليه الناس في الدنيا؛ ذلك أن العبد الضعيف يصبح من أهل الله وخاصته، ولا شك أن أهل الله وخاصته، هم أقرب الناس إلى نيل رحمته، وكرامته، ومحبته، والقرب منه تعالى، فهو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ لله أهلين (943) من الناس» قالوا: يا رسول الله! من هم؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته» (944).
والمقصود بأهل الله وخاصَّته في الحديث المذكور: هم حفظة القرآن، العاملون به، هم أولياء الله، والمختصون به اختصاص أهل الإنسان به.
وقيل: هم الذين يختصون بخدمته، فإنه لما قربهم واختصهم كانوا كأهله، ومنه قيل لأهل مكة: أهل الله، لما كانوا سكان بيته وما حوله كانوا كأهله (945). وإذا اختص المخلوق أحدًا من المخلوقين قربه منه وأفاض عليه من إكرامه وعطائه ومحبته الشيء الكثير، فما الظن بالله الكريم –وله المثل الأعلى في السماوات والأرض– مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
فأكرم به من فضل، وأعظم بها من مكانة ومنزلة يطمح إليها كل مؤمن، وتصبو إليها كل نفس تريد وجه الله الكريم ورضوانه وجنته.
فلينتسب كل إنسان لما يتمنى ويرغب من أهل المال أو الجاه أو المناصب أو الشهرة، ولتجد القواميس بكل وصف وثناء، فهل تأتي بأكمل مما وصف به حملة كتاب الله: «أهل الله وخاصته»؟ (946).
2- تكريم الحافظ من إحلال الله. إكرام حافظ القرآن الكريم من إجلال الله تعالى وتعظيم؛ لعظيم حرمة الحافظ ومنزلته عند الله تعالى.
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه (947) والجافي عنه (948)، وإكرام ذي السلطان المقسط» (949). وسُمِّي الحافظ حاملًا للقرآن: لما يتحمله من المشاق الكثيرة والتي تزيد على الأحمال الثقيلة (950)، فحق له أن يكرم ويعظم ويبجل؛ لأن في ذلك تبجيلًا وتعظيمًا وإجلالًا لله تعالى، ذلك أن الحافظ قد حوى صدره كلام الله تعالى، فمن هنا ينبغي إكرامه وإنزاله المنزلة اللائقة به.
3- الحافظ من الذين أوتوا العلم. مدح الله تعالى حفاظ كتابه وأثنى عليهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدورهم، وفي هذا منقبة عظيمة لهم، دون غيرهم، فقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49].
«أي في صدور العلماء به وحُفَّاظه، وهما من خصائص القرآن، كونه آيات بينات الإعجاز، وكونه محفوظًا في الصدور بخلاف سائر الكتب؛ فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا في المصاحف» (951).
«ووصفهم بالعلم؛ لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين» (952).
فهؤلاء الحفاظ «سادة الخلق، وعقلاؤهم، وأولو الألباب منهم، والكمل منهم.
فإذا كان آيات بينات، في صدور أمثال هؤلاء، كانوا حجة على غيرهم» (953).
فكفى بحافظ القرآن فخرًا وشرفًا أن الله تعالى أكرمه وجعله من أسباب حفظ القرآن؛ ذلك أن آيات القرآن العظيم محفوظة في الصدور والسطور، وهذا من أسباب حفظ الدين، ووسائل حفظ الشريعة.
فلو تطرق تحريف ما –جدلًا– إلى السطور فأنى له أن يصل إلى الصدور.
قال البيضاوي (954) مادحًا حفاظ القرآن: «يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه» (955).
4- حملة القرآن لا تحرقهم النار. إن أعظم ما يسعى إليه المسلم أن يزحزحه الله تعالى عن النار ويدخله الجنة، وقد أكرم الله تعالى حافظ كتابه بنجاتهم من النار وعدم إحراق أجسادهم الطاهرة فيها؛ لعظمة ما في صدورهم من كلام الله تعالى.
فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار» (956).
فلو صور القرآن وجعل في إهاب وألقي في النار ما مسته النار، ولا أحرقته ببركته، فكيف بالمؤمن المواظب لقراءته ولتلاوته والعمل به؟
وقيل: المعنى من علمه الله القرآن لم تحرقه نار الآخرة، فجعل جسم حافظ القرآن كإهاب له (957).
ويشهد له ما رواه أبو الفضل الرازي (958) بسنده عن يزيد بن عمرو، قال: سألت الأصمعي عنه، قال: يعني في إنسان.
أراد من علمه الله القرآن من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب، كما قال أبو أمامة -رضي الله عنه-: «اقرؤوا القرآن ولا تغرنَّكم هذه المصاحف المعلَّقة (959)، فإن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن» (960).
قال أبو عبيد -رحمه الله- (961): «وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن» (962).
وقال الزبيدي (963) -رحمه الله- في شرحه لأثر أبي أمامة -رضي الله عنه-: «أي حفظه وتدبره وعمل بما فيه، فمن حفظ ألفاظه وضيع حدوده فهو غير واع له» (964).
وقد «ضرب المثل بالإهاب وهو جلد لم يدبغ؛ لأن الفساد إليه أسرع ولفح النار فيه أنفذ؛ ليبسه وجفافه، بخلاف المدبوغ للينه.
والمعنى: لو قدر أن يكون في إهاب ما مسته النار ببركة مجاورته للقرآن، فكيف بمؤمن تولى حفظه والمواظبة عليه، والمراد نار الله الموقدة المميزة بين الحق والباطل.
قال الطيبي: وتحريره أن التمثيل وارد على المبالغة والفرض، كما في قوله: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا) [الكهف: 109]، أي ينبغي ويحق أن القرآن لو كان في مثل هذا الشيء الحقير الذي لا يؤبه به، ويلقى في النار ما مسته، فكيف بالمؤمن الذي هو أكرم خلق الله، وقد وعاه في صدره، وتفكر في معانيه، وعمل بما فيه، كيف تمسه، فضلًا عن أن تحرقه» (965).
فهنيئًا لمن حفظ كتاب الله تعالى فجمعه في صدره، وعمل بما فيه، هنيئًا له بهذه البشارة في النجاة من النار، وهذا من أعظم فضائل حفظ القرآن الكريم، فهل من مشمر لذلك؟ |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الإثنين 28 يناير 2019, 7:14 am | |
| الهوامش: 896. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، (4/2197)، (ح2865). 897. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (17/204). 898. تفسير القرطبي، (17/134). 899. تفسير الجلالين، (ص706). 900. انظر: كيف تتوجه إلى العلوم والقرآن الكريم مصدرها، د. نور الدين عتر، (ص83-84). 901. هو أبو الحسن علي بن محمد المشهور بالماوردي الإمام الفقيه، قيل له الماوردي، لعلم عائلته بصناعة ماء الورد وبيعه، ولد سنة (364هـ) بالبصرة، وطلب فيها العلم على المذهب الشافعي، ثم رحل إلى بغداد وتتلمذ على يد رئيس الشافعية هناك الشيخ الإسفرايني، ثم تقلد رئاسة الشافعية بعده، وله مؤلفات عديدة منها: «الحاوي الكبير»، و«الأحكام السلطانية» وغيرها. توفي سنة (450هـ). «انظر: البداية والنهاية، (12/85). طبقات الشافعية، (5/267)». 902. أعلام النبوة، (ص69). 903. هو محمد بن محمد بن محمد بن علي الدمشقي، ثم الشيرازي، الشافعي (أبو الخير)، ويعرف بابن الجزري، مقرئ، مجود، محدث، حافظ، مشارك في بعض العلوم. ولد في دمشق سنة (751هـ)، وتفقه بها وطلب الحديث والقراءات، وعمر مدرسة للقراء سماها: دار القرآن، وأقرأ الناس. وله تصانيف كثيرة منها: «النشر في القراءات العشر»، و«التمهيد في التجويد»، و«تذكرة العلماء في أصول الحديث»، و«الأربعون العوالي»، وغيرها. توفي بشيراز سنة (833هـ). «انظر: طبقات القراء، لابن الجزري (2/247-251). معجم المؤلفين، (3/687)». 904. النشر في القراءات العشر، (1/6). 905. انظر: الكلمات الحسان فيما يُعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن، (ص43-46). حفظ القرآن الكريم، لمحمد الدويش (ص10-12). 906. المجموع، (1/38). 907. هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن حازم الكناني، الحموي، الشافعي (بدر الدين) مفسر، فقيه، أصولي، متكلم، محدث. ولد بحماة سنة (639هـ)، وولي القضاء بالقدس، والديار المصرية، وبدمشق، وجمع بين القضاء ومشيخة الشيوخ والخطابة، توفي بالقاهرة سنة (733هـ)، ودفن قريبًا من الإمام الشافعي. ومن تصانيفه الكثيرة: «المنهل الروي في علوم الحديث النبوي»، و«تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم»، و«إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل»، و«تحرير الأحكام في تدبير جيش الإسلام» وغيرها. «انظر: الدرر الكامنة، لابن حجر (3-280-283). معجم المؤلفين، (3/30)». 908. تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، (ص166-167). 909. انظر: ورتل القرآن ترتيلًا، (ص69). 910. (لصاحب القرآن): أي حافظة عن ظهر قلب أو حافظ بعضه الملازم لتلاوته مع التدبر لآياته، والعمل بأحكامه، والتأدب بآدابه. 911. (اقرأ وارتق): أمر من رقى يرقى، أي: اصعد درج الجنة بمقدار ما حفظته من أي القرآن. 912. (ورتل كما كنت ترتل في الدنيا): أي لا تستعجل في قراءتك فالترتيل في الجنة لمجرد التلذذ؛ إذ لا عمل ولا تكليف هناك، وفيه إشارة إلى أن الجزاء على وفق الأعمال كمية وكيفية. «انظر: عون المعبود، (4/237). تحفة الأحوذي، (8/232). فقه قراءة القرآن الكريم، (ص71)». 913. رواه أبو داود، كتاب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب استحباب الترتيل في القراءة، (2/73)، (ح1364). وقال الألباني في صحيح أبي داود (1/275)، (ح1300): «حسن صحيح». 914. هو أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، السعدي، الأنصاري، الشافعي، ولد بمصر سنة (909هـ) في محلة أبي الهيتم المنسوب إليها، برع في علوم كثيرة، وازدحم الناس على الأخذ منه، له مصنفات كثيرة منها: «شرح المشكاة»، و«شرح المنهاج»، و«الزواجر عن اقتراف الكبائر». توفي بمكة سنة (973هـ). «انظر: مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر، (1/8-10)». 915. الفتاوى الحديثية، (ص156). 916. هو المحدث محمد ناصر الدين بن نوح الألباني نسبة إلى أصله، من علماء الحديث المعاصرين المشهورين، ولد في أشقودره – عاصمة ألبانيا – سنة (1333هـ) والده كان عالمًا ومرجعًا في أمور الدين سيما المذهب الحنفي، وقد فرَّت أسرته بدينها من حكم الملك أحمد زوغو، واستقرت في دمشق، وفيها تلقى الشيخ ناصر علومه على شيوخها بالإضافة إلى أخذه عن والده، ثم إنه عكف على دراسة الحديث النبوي فبرز فيه آخذًا بالمذهب السَّلفي، وله أكثر من مائة كتاب، توفي في مدينة عمَّان ودفن بها سنة (1420هـ). «انظر: إتمام الأعلام، د. نزار أباظة ومحمد رياض الملاح، (ص416)». 917. السلسلة الصحيحة، (5/284). 918. رواه أحمد في المسند، (2/175)، (ح6637). وقال محققو المسند (11/213)، (ح6637): «إسناده حسن». وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2/386)، (ح750). 919. عون المعبود، (4/237-238). 920. معالم السنن، (2/136). وانظر: عون المعبود (4/237)، تحفة الأحوذي (8/232). 921. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/120)، (رقم 29952) عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: «دخلت على عائشة فقلت: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة؟ فقالت: إن عدد درج الجنة على عدد آي القرآن، فليس أحد ممن دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن». قال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/283): «وجملة القول؛ إن إسناد هذا الأثر ضعيف». 922. الأولى أن يعبر بلفظ الحديث (ارتقى)؛ لأن كلمة (استولى) توحي بالقهر والغلبة والاستيلاء، وأهل الجنة ليسوا كذلك. [انظر: فتح الرحمن في بيان هجر القرآن، (ص46)]. 923. (يا رب حله): الظاهر أنه أمر من التحلية، يقال: حليته أحلية تحلية إذا ألبسته الحلية. والمعنى: يا رب زينه. [انظر: تحفة الأحوذي، (8/232)]. 924. رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ماله من الأجر، (5/178)، (ح2915). وقال: «حسن صحيح». وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (3/10)، (ح2328). 925. انظر: فضائل سور القرآن الكريم (ص64)، أنوار القرآن (ص262-263)، فضائل القرآن وحملته في السنة المطهرة (ص43). 926. رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة {عَبَسَ}، (4/1882)، (ح4653). 927. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (6/84)، عون المعبود (4/230)، تحفة الأحوذي (8/174)، فيض القدير (12/6099). 928. حفظ القرآن الكريم، (ص25). 929. انظر: الإصابة (4/149)، التقريب (1/472)، سير أعلام النبلاء (3/201). 930. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، (1/559)، (ح816). 931. انظر: أنوار القرآن، (ص248). 932. رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، (1/465)، (ح673). 933. رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، (1/464)، (ح672). 934. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، (1/219)، (ح692). 935. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، (1/160)، (ح588). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/117)، (ح550). 936. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (2/241). 937. رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، (3/1299)، (ح4302). 938. المصدر السابق، (8/30). 939. رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، (3/1420)، (ح642). 940. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب اللحد والشق في القبر، (1/401)، (ح1353). 941. فتح الباري شرح صحيح البخاري، (3/213). 942. أنظر: أنوار القرآن، (ص250). 943. (أهلين): جمع أهل، جمعت بالياء والنون لكونها ملحق بجمع المذكر السالم، ونصبت بالياء لكونها اسم إن مؤخر. 944. رواه ابن ماجة في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، (1/78)، (ح215). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (1/42)، (ح178). 945. انظر: النهاية في غريب الحديث (1/83)، لسان العرب (11/28)، شرح سنن ابن ماجة (1/20)، فيض القدير (5/2341، 2060). 946. انظر: حفظ القرآن الكريم (ص15)، أنوار القرآن (ص239). 947. (غير الغالي فيه): الغلو هو التشديد ومجاوزة الحد، والمعنى: غير المتجاوز الحد في العمل بالقرآن، وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه، وفي حدود قراءته ومخارج حروفه. وقيل: الغلو المبالغة في التجويد، أو الإسراع في القراءة، بحيث يمنعه عن تدبر المعنى. 948. (والجافي عنه): أي غير المتباعد عن القرآن، المعرض عن تلاوته، وإحكام قراءته، ومعرفة معانيه، والعمل بما فيه. وقيل: الجفاء أن يتركه بعد ما علمه، لاسيما إذا كان نسيه؛ فإنه عد من الكبائر. «انظر: عون المعبود، (13/192)». 949. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، (4/261)، (ح4843). وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/918)، (ح4053). 950. انظر: عون المعبود، (13/192). 951. تفسير النسفي، (3/261). 952. تفسير القرطبي، (13/354). 953. تفسير السعدي، (4/67). 954. هو أبو سعيد، عبد الله بن عمر بن محمد، ناصر الدين البيضاوي، كان عارفًا بالفقه والتفسير والعربية والمنطق، نظارًا صالحًا متعبدًا زاهدًا شافعيًا، ولي القضاء بشيراز، ودخل تبريز مات بها سنة (85هـ). من مؤلفاته: تفسيره «أنوار التنزيل وأسرار التأويل»، و«مختصر الكشاف»، و«شرح الكافية» لابن الحاجب، و«الإيضاح» في أصول الدين. «انظر: طبقات المفسرين، (1/248)». 955. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، (4/320). 956. رواه أحمد في المسند (4/155)، (ح17456). والطبراني في الكبير (17/308)، (ح850). وابن عبدي في الكامل (1/32). وحسنه الألباني في صحيح الجامع، (2/953)، (ح5282). 957. انظر: فيض القدير، (10/5104). 958. هو أبو الفضل، عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار العجلي، الرازي، المقرئ. ولد بمكة سنة (371هـ) ونشأ بها، وكان أبوه عالمًا ثقة شيخًا للحرم. قال السمعاني: «كان (أبو الفضل) مقرئًا فاضلًا، كثير التصانيف، حسن السيرة، زاهدًا، متعبدًا، خشن العيش، قانعًا، يقرئ ويسمع في أكثر أوقاته». ويبدو أن تصانيفه الكثيرة فُقدت ولم يبق منها إلا كتاب: «فضائل القرآن وتلاوته». تُوفي بكرمان (ولاية مشهورة بين فارس وسجستان وخراسان) سنة (454هـ). «انظر: سير أعلام النبلاء، (18/135). معجم البلدان، ياقوت الحموي (4/454). مقدمة كتابه: «فضائل القرآن وتلاوته»، تحقيق وتخريج: د. عامر حسن صبري (ص9-16)». 959. لعل المقصود: الحث على فضيلة حفظ القرآن عن ظهر قلب، والله أعمل. 960. رواه الرازي في فضائل القرآن وتلاوته، (ص154)، (رقم 125). والبخاري في خلق أفعال العباد، (1/87)، (رقم 273). وابن أبي شيبة في مصنفه، (6/133)، (رقم 30079). والدارمي في سننه، (2/306)، (رقم 3319). وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (9/79). 961. هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي، الخزاعي بالولاء، الخرساني، البغدادي (أبو عبيد) ولد سنة (157هـ)، من كبار العلماء في الحديث، والأدب، والفقه. ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، من كتبه: «الأموال»، و«أدب القاضي»، و«الإيمان ومعالمه وسننه، واستكماله، ودرجاته» مخطوط في الظاهرية بدمشق. توفي بمكة سنة (224هـ). «انظر: تهذيب التهذيب، (8/315-318). الأعلام، (5/176). معجم المؤلفين، (8/101)». 962. فضائل القرآن، (ص54). 963. هو أبو الفيض، محمد بن عبد الرزاق الحسيني، الزبيدي، الملقب بمرتضى، لغوي، نحوي، محدث أصولي. أصله من واسط (في العراق)، ولد في الهند سنة (1145هـ)، ومنشأه في زبيد (باليمن)، رحل إلى الحجاز، وأقام بمصر، فاشتهر فضله، وكاتبه الملوك، توفي بالطاعون في مصر سنة (1205هـ). من تصانيفه الكثيرة: «تاج العروس في شرح القاموس»، و«إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء العلوم للغزالي»، و«بلغة الغريب في مصطلح آثار الحبيب» وغيرها. «انظر: معجم المؤلفين، (3/681). الأعلام، (7/70)». 964. إتحاف السادة المتقين، (4/465). 965. فيض القدير، (10/5105). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الإثنين 28 يناير 2019, 7:44 am | |
| المبحث الخامس فضائل العمل بالقرآن.
وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: وجوب العمل بالقرآن. المطلب الثاني: النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالعمل بالقرآن. المطلب الثالث: الصحابة رضي الله عنهم يتواصون بالعمـل بالقرآن. المطلب الرابع: فضائل العمل بالقرآن. إن الغاية العظمى من إنزال القرآن العظيم هو العمل، وإتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والاتعاظ بمواعظه، والوقوف عند حدوده، وجعله واقعًا عمليًا في حياة الفرد أو المجتمع أو الدولة، ولا يؤجر صاحب القرآن الأجر الكامل المستوفي، إلا بعد تطبيقه واقعًا معاشًا في الحياة، والاهتداء بهديه المبارك، والعمل به آناء الليل وأطراف النهار.
والحديث عن ذلك يتضح من خلال المطالب الآتية: المطلب الأول وجوب العمل بالقرآن: إن الواجب على أهل القرآن وعلى غيرهم العمل به، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والتحاكم إليه، والتزام منهجه.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) [البقرة: 121].
أي: يتبعونه حق إتباعه ويعملون به حق عمله، وقيل: يقرؤونه كما يجب من التدبر له، والعمل به (966).
ولا ريب أن من يقرأ القرآن ولا يعمل بمقتضاه يكون شأنه شأن اليهود، الذين ذمهم الله تعالى في عدم العمل بالتوراة، وشبههم بما يتناسب مع جريمتهم في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة: 5]. قال ابن القيم -رحمه الله- (967): «فقاس سبحانه من حمله كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم، ولا إتباع ولا تحكيم له وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله عز وجل كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته».
وقد وردت آيات في كتاب الله تعالى توجب العمل به، وذلك في مواضع عدة، ومنها ما يأتي: 1- قوله تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 106]. فقد أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده أن يقتد بكتاب الله تعالى ويقتفي أثره ويعمل به؛ لأنه حق لا مرية فيه من واحد أحد (968).
وأمره تعالى كذلك ألا يشغل قلبه وخاطره بهؤلاء المشركين المعاندين، وليشتغل بعبادة الله تعالى واتباع ما أوحي إليه (969).
قال ابن عاشور -رحمه الله- (970): «والاتباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي، ثم استعمل في العمل بمثل عمر الغير، كما في قوله تعالى: (والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) [التوبة: 100].
ثم استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتوبع، فهو الائتمار،... فيجوز أن يكون الإتباع في الآية مرادًا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن».
ولا ريب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اتبع ما أُوحي إليه من ربه خير اتباع، وأولى القرآن العظيم كل عناية وتقدير، ودعا الناس كافة إلى الله تعالى، وشملت دعوته المباركة جميع الأوقات والأزمان، وكافة الظروف والأحوال، فجزاه الله تعالى خير ما جزى به جميع الأنبياء عن أممهم.
2- قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109]. وفي هذه الآية الكريم أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بإتباع الوحي والتنزيل، فإن أصابه مكروه بسبب هذا الإتباع فليصبر عليه إلى أن (يَحْكُمَ اللّهُ) فيه بالحق (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (971).
والمعنى: تمسك بما أنزله الله إليك، واثبت على العمل بمقتضاه، واصبر على مخالفة الناس لك، حتى يفتح الله بينك وبينهم بحكمه، وعدله، ورحمته، وهو خير الفاتحين (972).
قال السعدي -رحمه الله- (973): «(وَاتَّبِعْ) أيها الرسول (مَا يُوحَى إِلَيْكَ) علمًا، وعملًا، وحالًا، ودعوة إليه.
(وَاصْبِرْ) على ذلك، فإن هذا، أعلى أنواع الصبر، وأن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك، واثبت.
(حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ) بينك وبين من كذبك (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) فإن حكمه، مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يُحمد عليه.
وقد امتثل -صلى الله عليه وسلم- أمر ربه، وثبت على الصراط المستقيم، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان بعد ما نصره الله عليهم، بالحجة والبرهان».
3- قوله تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]. لقد أمر الله تعالى الناس جميعًا أن يقتفوا آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاءهم بكتاب من عند الله تعالى فيحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهييه، ولا يخرجوا عما جاءهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى غيره، فيكونوا قد عدلوا عن حكم الله عز وجل إلى حكم غيره.
ودلت هذه الآية الكريمة على ترك إتباع الآراء مع وجود النص من كتاب أو سنة (974).
قال السعدي -رحمه الله- (975): «(اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم)أي: الكتاب الذي أُريد إنزاله لأجلكم، وهو: (مِّن رَّبِّكُمْ) الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة، وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق، ومعاليها.
(وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) أي: تتولونهم، وتتبعون أهواءهم، وتتركون لأجلها الحق، (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة، لما آثرتم الضار على النافع، والعدو على الولي».
4- قوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 55]. ولا ريب أن القرآن العظيم أحسن ما أُنزل إلينا من ربنا تبارك وتعالى، فله الحمد والمنة، والسنة مبينة له وموضحة، لكن هذه النعمة الجليلة تستوجب الشكر العملي لا الشكر اللفظي، فقد هدد من لم يتبع أحسن ما أُنزل إلينا من ربنا بقوله تعالى: (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (976).
كما قال ابن عطية الأندلسي -رحمه الله- (977): «معناه أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيّرة، وأوامر ونواهي منجية، وعادات على الطاعات والبر، وحدودًا على المعاصي، ووعيدًا على بعضها، فالأحسن أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل، وطريق الطاعة، والانتهاء والعفو في الأمور، ونحو ذلك، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية، فيجد أو يقع في الوعيد».
فالمقصود إذًا من إنزال القرآن العظيم العمل بمقتضاه لا تلاوته باللسان وترتيله فقط، ثم نبذه بعد ذلك، كما فعل ذلك فريق من عصاة أهل الكتاب، فذمهم الله تعالى على فعلهم الشنيع وشهر بهم بقوله عز وجل: (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 101].
أي: اطرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم، مما فيه البشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم وتركوا العمل به. وأصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذًا، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طُرحا في الماء (978).
فالله تعالى أمرنا بإتباع كتابه والعمل بمقتضاه، لكنا –ويا للأسف– تركناه كما تركت اليهود والنصارى – إلا مَنْ رحم الله تعالى.
فبقيت أشخاص المصاحف لا يُبالي بما فيها من كلام الله تعالى وأوامره العظيمة لغلبة جهلنا، ولطلب الرياسات، ولإتباع الأهواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (979).
والمتأمِّل في هذه الآيات السابقة يلحظ أمرين مهمين وهما: 1- الآية الأولى والثانية جاءتا بلفظ: وهو (وَاتَّبِعْ) وهو أمر من الله تعالى لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- بإتباع ما أوحي إليه من الكتاب والسنة، والأمر له أمر لأمته من بعده، ولا مخصص للآيتين.
2- الآية الثالثة والرابعة جاءتا بلفظ: (اتَّبِعُواْ) وهو فعل أمر يقتضي الوجوب، كما هو المعلوم من لغة العرب، ولا صارف له.
فهذا يدل دلالة واضحة على وجوب إتباع كتاب الله تعالى، والعمل بمقتضاه.
فالله تعالى وحده نسأل أن يعيننا على العلم لكتابه، وسنة نبيه، وتطبيقهما في واقع الحياة.
ويعيذنا من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن. * * * المطلب الثاني النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالعمل بالقرآن: إن خير من عمل بكتاب الله تعالى، وطبقه في ظاهره وباطنه، وأصبح خلقًا له هو نبينا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي أثنى الله تعالى على خلقه ونعته بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
وقد بينت عائشة رضي الله عنها هذه الآية أوضح بيان، عندما سألها سعد بن هشام بن عامر فقال لها: «يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان القرآن» (980).
قال النووي -رحمه الله- (981): «معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره، وحسن تلاوته».
وقال ابن كثير -رحمه الله- في معنى الآية: «ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثال القرآن، أمرًا ونهيًا، سجيَّة له، وخُلُقًا تطبَّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل، كما ثبت في الصحيحين (982) عن أنس قال: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته، وكان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا» (983).
وخلاصة القول: إن جميع ما فُصل في القرآن العظيم من مكارم الأخلاق فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مُتَحَلّيًا به (984).
ولم يقتصر -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، بل كان يحثُّ أصحابه الكرام وأمته من بعدهم على العمل بالقرآن العظيم، ويؤكد على ذلك بصور مختلفة، مرة بالترغيب في ثواب العمل بالقرآن، وأخرى بالترهيب من مغبة ترك العمل بالقرآن.
ومن أقواله المباركة في ذلك ما يأتي: 1- عن النواس بن سمعان الكلابي -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه (985) سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثال، ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان (986) أو ظلتان سوداوان، بينهما شرق (987)، أو كأنهما حزقان (988) من طير صواف (989)، تحاجّان عن صاحبهما» (990).
فالقرآن العظيم يشفع لصاحبه الذي كان يعمل به في الدنيا، وفي مقدمة ذلك سورة البقرة وآل عمران، تتقدمان في الشفاعة، والذود في حافظهما، والعامل بهما خصوصًا؛ لكثرة ما تحويان من أحكام وأمور عظام. وهذا من أعظم فوائد العمل بالقرآن (991).
2- عن أبي موسى -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر، أو خبيث، وريحها مُرُّ» (992).
في هذا الحديث تبين لنا فضيلة حافظ القرآن العامل بما فيه، وأنَّ المقصود من التلاوة هو العمل بما دل عليه القرآن، لا مجرد تلاوته (993).
قال ابن بطال -رحمه الله- في شرحه للحديث: «قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما يزكو عنده ما أُريد به وجهه، وكان على نية التقرب، وشبَّهه بالريحانة حيث لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره، فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق، ولا اتصل بالقلب» (994).
الذي هو موطن الاعتبار، فكيف يعمل بالقرآن مَنْ هذا حاله (995).
فالقرآن العظيم لا تنفتح أسراره ولا ينتفع به إلا من يعمل به، ويتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع، لا لمن يقرؤه لمجرد التبرك! أو الدراسة الفنية أو العلمية!، أو لمجرد تتبع الأداء البياني فيه!
فالقرآن العظيم لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو؛ إنما تنزل ليكون مادة عمل وتوجيه (996).
3- سُئل عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله (997).
قال ابن حجر -رحمه الله- (998): «أي بالتَّمسك به والعمل بمقتضاه».
وقال أيضًا (999): «فإذا اتبع الناس ما في الكتاب؛ عملوا بكل ما أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- به، لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر: 7]».
ولهذا لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليوصي أمته من بعده بأفضل من اتباع كتاب الله؛ لكونه أعظم وأهم من المال والخلافة –على أهميتهما– فمَنْ اتبع كتاب الله لن يضل أبدًا، بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيه: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (1000).
وأخرجه مسلم من وجه آخر ولفظه: «ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين (1001): أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به» فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه (1002).
فكتاب الله تعالى إن عمل به الناس واستمسكوا به، كفاهم كل شيء: قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51].
4- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «القرآن شافعٌ مُشفعٌ، وماحلٌ (1003) مُصدقٌ، مَنْ جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومَنْ جعله خلفه ساقه إلى النار» (1004).
ومعنى الحديث: أن من اتبع القرآن وعمل بما فيه، فإنه شافع له مقبول الشفاعة في العفو عن زلاته وسقطاته، فمن جعله أمامه بالعمل به قاده إلى الجنة.
ومن ترك العمل به وجعله خلف ظهره أثم على إساءته، ومصدق عليه فيما يُرفع من مساويه وعند ذلك يسوقه إلى النار (1005).
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على وجوب إتباع القرآن العظيم والعمل به، فأين نحن من هذه التحذيرات النبوية المباركة، حتى نفوز بسعادة الدنيا والآخرة. اللهم اجعل هذا الأمر حجة لنا لا علينا. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الإثنين 28 يناير 2019, 7:55 am | |
| المطلب الثالث الصحابة رضي الله عنهم يتوصون بالعمل بالقرآن: اقتفى الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعًا ومن تبعهم بإحسان هذا الخلق الكريم فكانوا يتواصون فيما بينهم على أهمية العمل بكتاب الله تعالى والحذر من ترك العمل به.
ومن وصاياهم المباركة في ذلك ما يأتي: 1- قال عمر -رضي الله عنه-: «لا يغرركم مَنْ قرأ القرآن، إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا مَنْ يعمل به» (1006). 2- قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «تعلموا تعلموا فإذا علمتم فاعملوا» (1007). 3- عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: «إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت» (1008). 4- قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفرطون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حليمًا حكيمًا سكيتًا» (1009). 5- عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «يا معشر القراء (1010) استقيموا (1011)، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا (1012)، فإن أخذتم يمينًا وشمالًا (1013)، لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا» (1014).
6- قال الفضيل بن عياض (1015) -رحمه الله-: «إنما نزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملًاَ، قيل: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه» (1016).
وبمقدار العمل بالقرآن وتطبيقه في واقع الحياة والاهتداء بهديه يكون الأجر، وهذا ملحوظ حتى في قوانين البشر الناقصة، فكيف بكلام الله تعالى الذي يصفه تعالى بقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 42].
ويقول عنه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
وهَبْ أن رجلًا حفظ قانون بلده عن ظهر قلب، ثم هو يُخالف هذا القانون ولا يبالي بتطبيقه والالتزام به، فهل ينفعه ذلك، أو يُقبل منه؟
أو طبيبًا تعلم قوانين الطب وفهمها ووعاها ثم عالج المرضى بخلاف ما تعلم، فماذا تكون النتيجة؟
فإذا كان هذا ملاحظًا في القوانين الاجتهادية الأرضية فما الظن بكتاب الله الذي يُتعبد بتلاوته وبسماعه وبتدارسه؟ ولا يكتمل هذا التعبد والأجر المترتب عليه إلا إذا تلازم مع العمل والتطبيق.
وما يجدي مسلمًا حفظ سورة النور بأكملها، ويعلم جزاء الزاني والقاذف، فإذا هو يقترف هذه الكبائر عياذًا بالله من ذلك! هل ينجيه حفظه من العقوبة؟ (1017).
وعودًا على ذي بدء يتبين لنا مما تقدم أن المقصود الأول من تعلم القرآن وحفظه وتدبُّره هو العمل به: روى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن» (1018). * * * المطلب الرابع فضائل العمل بالقرآن: إن أعظم جزاء ينتظر العامل بالقرآن العظيم هو الجنة. والجنة درجات، كما قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ) [الأنعام: 132].
«أي: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله، يبلغه الله إياه، ويثيبه بها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر» (1019). وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة – أراه قال: وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة» (1020).
وقد وعد الله تعالى من عمل بالقرآن العظيم أن يحييه حياةً طيبةً في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
«فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعهده علمًا وعملًاَ في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء، وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب بالآخرة» (1021).
ولابد لكل من عمل صالحًا أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله، ولكن يغلط أكثر الناس في مسمَّى الحياة حيث يظنونها التنعيم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أو لذة الرياسة والمال والتفنن بأنواع الشهوات.
ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين الإنسان وبين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فأين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن، ورضي بتركها كلها والخروج منها رأسًا، وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، وهو منشرح الصدر، حتى أن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول: فزت ورب الكعبة، ويستطيل الآخر حياته حتى يلقي قوته من يده، ويقول: إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها ثم يتقدم إلى الموت فرحًا مسرورًا، ويقول الآخر مع فقره: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول الآخر: إنه ليمر بالقلب أوقات ليرقص فيها طربًا، وربما قال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب (1022).
وفضائل العمل بالقرآن العظيم كثيرة ومتنوعة، بعضها في الدنيا، وبعضها في الآخرة، ومنها ما يأتي: 1- الهداية في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17-18].
فهذا أمر تكريم من الله عز وجل لنبيه الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يبشر الذين يستمعون القرآن ثم يقودهم هذا الاستماع إلى العمل به وتطبيقه.
وفي معنى قوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) قولان: الأول: يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن؛ لأنه أحسن الكلام.
الثاني: أن (الْقَوْلَ) هو القرآن.
أي: يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو، والصفح، واحتمال الأذى، الذي هو أحسن من الانتصار، ونحو ذلك (1023).
كما قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126].
ومعنى قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ): أي المتصفون بهذه الصفة الجليلة –وهي العمل بكتاب الله– هم الذين هداهم الله تعالى للدين الحق، ومحاسن الأمور، فهداهم لأحسن الأخلاق والأعمال، وضمن لهم ألا يضلوا في الدنيا، ولا يشقوا في الآخرة بسوء الحساب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة» ثم تلا قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123] (1024).
وقال أيضًا: «من قرأ القرآن واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب». ثم تلا الآية نفسها (1025).
ومعنى قوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ): «أي: هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم، ومنازعة الهوى، المستحقون للهداية لغيرهم، وفيه دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس» (1026).
فالذي لا يميز بين الأقوال حسنها وقبيحها ليس من أهل العقول السليمة، والذي يميز لكن شهوته تغلبه أحيانًا، فيبقى عقله تابعًا لشهوته كان ناقص العقل. فهؤلاء أهل العقول الزاكية، والفطر المستقيمة من لبهم وحزمهم عرفوا الحسن وغيره فآثروه وتركوا ما سواه، فهذه علامة العقل الصحيح، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم (1027).
2- الرحمة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
هذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن أقصر سبيل وأوضحه لنيل رحمة الله تعالى هو إتباع هذا الكتاب العظيم علمًا وعملًا.
ومعنى الآية: إن (وَهَـذَا) الذي تُليت عليكم أوامره نواهيه (كِتَابٌ) عظيم الشأن، لا يقادر قدره، (أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) لكثرة منافعه الدينية والدنيوية.
والفاء في قوله تعالى: (فَاتَّبِعُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ عظمة هذا الكتاب، وكونه منزلًا من الله جل جلاله، وفيه ما فيه من المنافع الدينية والدنيوية، هذا كله موجب لإتباعه والعمل به (1028).
قال ابن عاشور -رحمه الله- (1029): «وافتتاح الجملة باسم الإشارة، وبناء الفعل عليه، وجعل الكتاب الذي حقه ان يكون مفعول (أَنزَلْنَاهُ) مبتدأ، كل ذلك للاهتمام بالكتاب والتنويه به،... وتفريع الأمر بإتباعه على كونه منزلًا من الله، وكونه مباركًا، ظاهر: لأن ما كان كذلك لا يتردد أحد في إتباعه... ومعنى: (اتَّقُواْ) كونوا متصفين بالتقوى.
وهي الأخذ بدين الحق والعمل به.
وفي قوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وعد على اتِّباعه، وتعريضٌ بالوعيد بعذاب الدنيا والآخرة إن لم يتَّبعوه».
فهذا ترغيب من الله تعالى لعباده أن يتبعوا هذا الكتاب المبارك، ويعملوا به؛ رجاء أن تنالهم رحمته في الدنيا والآخرة.
3- الفلاح في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
فقد شبه الله تعالى القرآن بالنور الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل، ويميز به بين الهدى والضلال، والحسن والقبيح.
وشبَّه حال المقتدي بهدي القرآن، بحال السَّاري في الليل إذا رأى نورًا يلوح له اتبعه، لعلمه اليقيني أنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنور القرآن العظيم، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويمتثل أوامر، ويجتنب ما نهى عنه، ويعتبر بقصصه وأمثاله، ولا ينبغي لمسلم بعد هذا كله أن تعمى بصيرته عن هذا النور العظيم (1030). فمن استجاب لهذا النور واتبعه وعمل بما فيه، فهو المفلح الفائز بالمطلوب في الدنيا والآخرة، الظافر بخيرهما والناجي من شرهما، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المفلحين.
4- تكفير السيئات وإصلاح البال. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [محمد: 2].
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) «أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم» (1031).
(وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) هذا من عطف الخاص على العام.
«قال سفيان الثوري: يعني لم يخالفوه في شيء» (1032).
(وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) «يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم، وقيل: أي أن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله» (1033).
وثمرة هذا الإيمان الصحيح، وهذا الإتباع الكامل للقرآن والعمل به، أمران عظيمان: أولهما: تكفير السيئات: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) «صغارهم وكبارها، وإذا كفرت عنهم سيئاتهم نجوا من عذاب الدنيا والآخرة» (1034).
«وقيل: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم» (1035).
ثانيهمًا: إصلاح البال. (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أي «أصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه، وفي الآخرة أن أورثهم نعيم الأبد، والخلود الدائم في جناته» (1036).
وقيل: «أصلح دينهم، ودنياهم، وقلوبهم، وأعمالهم، وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم» (1037).
ولا ريب أن إصلاح البال نعمةٌ كبرى، ومنَّة عظمى، تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر، وفي ذلك اطمئنان لهم، وراحة كبيرة، وثقة بالله تعالى في ثوابهم العاجل والآجل.
ومتى صلح البال، استقام السلوك والعمل، واطمأن القلب، وتنزلت عليه السكينة، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والإيمان، وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع (1038).
والسبب المباشر لهذا الجزاء المبارك أنهم: (اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ) [محمد: 3].
أي أنهم عملوا بهذا القرآن العظيم الصادر (مِن رَّبِّهِمْ) الذي ربَّاهم بنعمته، ودبرهم بلطفه، فبراهم تعالى بالحق فاتبعوه، فعند ذلك صلحت أمورهم. فلمَّا كانت الغاية المقصودة لهم متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي الحق المبين، كانت الوسيلة صالحة باقيًا ثوابها (1039).
فهذه هي بعض فضائل العمل بالقرآن العظيم، وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن العمل بكتابه، وحسن الجزاء على ذلك، إنه سميع مجيب. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني الإثنين 28 يناير 2019, 7:58 am | |
| الهوامش: 966. انظر: تفسير الطبري (1/519)، الدر المنثور (1/272)، تفسير ابن كثير (1/165)، التسهيل لعلوم التنزيل (1/59). 967. الأمثال في القرآن الكريم، (ص26-27). 968. انظر: تفسير ابن كثير (2/164)، تفسير البغوي (2/121)، تفسر السمرقندي (1/492). 969. انظر: تفسير القرطبي (7/60)، فتح القدير (2/150). 970. التحرير والتنوير، (6/258-259). 971. انظر: التفسير الكبير، (17/140-141). 972. انظر: تفسير ابن كثير، (2/436). 973. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (2/348-349). 974. انظر: تفسير القرطبي (7/161)، تفسير ابن كثير (3/430). 975. المصدر السابق، (2/95-96). 976. انظر: أضواء البيان، (7/300-301). 977. تفسر ابن عطية، (4/537). 978. انظر: تفسير ابن كثير، (1/296-297). 979. انظر: تفسير القرطبي، (1/437). 980. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، (1/513)، (ح746). 981. صحيح مسلم بشرح النووي، (5/268). 982. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، (4/1908)، (ح6038). ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله ? أحسن الناس خلقًا، (4/1804)، (ح2309). 983. تفسير ابن كثير، (8/164). 984. انظر: عون المعبود، (4/154). 985. (تقدمه): أي تتقدمه. 986. وفي رواية أخرى عند مسلم: «كأنما غيايتان». قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق راسه من سحابة وغبرة وغيرهما. قال العلماء: المراد: أن ثوابهما يأتي كغمامتين. «صحيح مسلم بشرح النووي، (6/331)». 987. (بينهما شرق): هو بفتح الراء، وإسكانها. أي: ضياء ونور. وممن حكى فتح الراء وإسكانها: القاضي وآخرون. والأشهر في الرواية واللغة الإسكان. 988. وفي رواية أخرى عند مسلم: «أو كأنهما فرقان». الفرقان والحزقان، معناهما واحد. وهما قطيعان وجماعتان. يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقة. 989. (من طير صواف): جمع صافة، وهي من الطيور ما يبسط أجنحتها في الهواء. «انظر: تعليق محمد فؤاد عبد الباقي علي مسلم، (1/553)». 990. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، (1/445)، (ح805). 991. انظر: هذا القرآن في مائة حديث نبوي، د. محمد زكي محمد خضر، (ص42). 992. رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن، أو تآكل به، أو فجر به، ((3/1628)، (ح5059). 993. انظر: فتح الباري، (9/85). 994. المصدر نفسه، (13/657). 995. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/83). 996. انظر: في ظلال القرآن، (4/1948). 997. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب الوصية، (2/842)، (رقم (2740). 998. فتح الباري، (5/443). 999. المصدر نفسه، والصفحة نفسها. 1000. رواه الترمذي، (5/663)، (ح3788). وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، (3/227)، (ح2980): «صحيح». 1001. (ثقلين): سميا ثقلين: لعظمهما وكبير شأنهما. وقيل: لثقل العمل بهما. «انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (15/181)» 1002. رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (4/1871)، (ح2408). 1003. (ماحل): أي مجادل ومدافع، وقيل: ساع مصدق، من قولهم: محل بفلان إذا سعى به إلى السلطان. «النهاية في غريب الحديث»، (4/303). مادة: (محل)». 1004. رواه الطبراني في الكبير، (10/10450). وأبو نعيم في الحلية، (4/108). وابن عدي في الكامل، (3/127) عن ابن مسعود. ورواه ابن حبان في صحيحه، (1/167). والبيهقي في الشعب، (2/2010) عن جابر. وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2/818)، (ح4443). والصحيحة: (5/31)، (ح2019). 1005. انظر: فيض القدير، (8/4399)، النهاية في غريب الحديث، (4/303). مادة: «محل». 1006. اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، (ص71)، (رقم 109). 1007. المصدر نفسه، (ص23)، (رقم 10). وقال محققه (العلامة الألباني): «موقوف حسن». 1008. المصدر نفسه، (ص41)، (رقم 53). وقال محققه (العلامة الألباني): «موقوف حسن الإسناد». 1009. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (7/231)، (رقم 35584). ورواه بنحوه: أبو عبيد في فضائل القرآن، (ص113). وأحمد في الزهد، (ص162). وأبو نعيم في الحلية، (1/129). 1010. (يا معشر القراء): جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد. 1011. (استقيموا): أي اسلكوا طريق الاستقامة وهو كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلًا وتركًا. 1012. (فقد سبقتم سبقًا بعيدًا): أي ظاهرًا، ووصفه بالبعد؛ لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير؛ لأن من جاء بعده إن عمل بعلمه لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسًاَ وحكمًا. 1013. (فإن أخذتم يمينًا وشمالًا): أي خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة رضي الله عنه منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. «جميع ما ذُكر في شرح أثر حذيفة، انظره في: فتح الباري، (13/316)». 1014. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ?، (4/2274)، (رقم 7282). 1015. هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي، الزاهد العابد المجاور بحرم الله، ثقةً، أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما، ولد بسمرقند، وتوفي سنة (187هـ). «انظر: وفيات الأعيان، (4/47-50)، (ت531). تقريب التهذيب، (2/113، (ت67). سير أعلام النبلاء، (8/421-442)». 1016. اقتضاء العلم العمل، (ص76)، (رقم 116). 1017. انظر: أنوار القرآن، (ص211). 1018. مقدمة تفسير ابن كثير، (1/36). وقال محققوه: «إسناده جيد». 1019. تفسير ابن كثير، (3/383). 1020. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، (2/864)، (ح2790). 1021. مفتاح دار السعادة، (ص44). 1022. انظر: المصدر نفسه، (ص35-36). 1023. انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، (3/193). 1024. انظر: تفسير ابن عطية، (4/525). 1025. انظر: تفسير القرطبي (11/275)، تفسير ابن كثير (4/49). 1026. تفسير أبي السعود، (7/248). 1027. انظر: تفسير السعدي، (4/316). 1028. انظر: تفسير أبي السعود، (3/201). 1029. التحرير والتنوير، (7/133). 1030. انظر: أضواء البيان (7/80)، التحرير والتنوير (8/319). 1031. تفسير ابن كثير، (4/173). 1032. تفسير البغوي، (4/177). 1033. تفسير القرطبي، (16/224). 1034. تفسير السعدي، (1/784). 1035. الكشاف، (4/319). 1036. تفسري الطبري، (26/39). 1037. تفسير السعدي، (1/784). 1038. انظر: في ظلال القرآن، (6/3281). 1039. انظر: المصدر السابق، والصفحة نفسها. |
|
| |
| الفصل الثاني | |
|