منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 يوميات هيروشيما

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:35 am

٢١ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صحو السماء.. ازداد عدد الزوار بمرور الأيام وكان كلٌّ منهم يقص علينا ما رآه أو سمعه، كما كانوا يطلعوننا على وجهات نظرهم فيما حدث، وسمعتُ القصص التي كانوا يصرُّون على روايتها لنا من الصباح حتى المساء، وكثيرًا ما سُئلتُ عن مكان وجودي ساعة حدوث البيكا، وقبل أن يعطوني فرصة الحديث كانوا يروون لي تجاربهم الخاصة مع ذلك الحادث الجلل، ويحاول كلٌّ منهم أن يضفي على تجربته الخاصة طابعًا فريدًا، كما أن بعضهم كانوا يقصون حكاياتٍ غريبة.

وقد ذكر لنا أحد الزوار أن محطة الإسعاف التي أُقيمَت بمكتب العمل في هيجي ياما كانت في حالة فوضى، تفوح منها رائحة الحروق التي أصابت المرضى الذين كانوا يشبهون الأخطبوط٢٢ المسلوق، وأكد أنه لم يرَ في حياته أجسادًا متقرحة مثل أجساد أولئك المرضى، واستطرد هذا الرجل قائلًا: «يا دكتور هل تعتقد أن باستطاعة الإنسان أن يرى بعين برزَت من موضعها؟… لقد رأيتُ رجلًا خرجَت عينه من موضعها نتيجة إصابةٍ لحقَت به وكان يقف وقد وضع عينه على راحة يده، وجمد الدم في عروقي حين لاحظتُ أن تلك العين تبدو وكأنها تحملق فيَّ، هل تعتقد يا دكتور أن تلك العين كانت تراني؟»

ولم أحر جوابًا ولكني سألتُه: «هل رأيتَ صورتك بوضوحٍ على حدقة العين؟»

فأجاب الزائر: «لا، فلم أكن قريبًا من ذلك الرجل إلى تلك الدرجة».

ولحُسن الحظ قطع المناقشة وصول صديقٍ قديم هو الدكتور ياسوهارا الذي يقيم في تاماشيما وكان كبير الجرَّاحين بمستشفانا منذ عامَين أو ثلاثة أعوام مضَت، وما إن رآني حتى قال: «يا دكتور إن هذا مكانٌ غير آمن، ويجب ألا تظل هنا، تعالَ معي إلى بيتي، إنك لا يمكن أن تشفى في مثل هذا المكان».

وكنت على يقين أن الدكتور ياسوهارا عاطفي إلى حدٍّ بعيد وأنه قد يأخذني رغم أنفي إلى حيث يريد، غير أن حماسه قد فتر عندما رأى زوجتي والسيد شيوتا والآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا، فقد أكد له منظر أولئك الأصدقاء القدامى أنني لست وحدي الذي يعاني من تلك الحالة، فاستدار إلى صندوقٍ كان يحمله وقد ترقرقَت الدموع في عينه، وقال بصوتٍ مؤثر: «لقد أحضرتُ لك هديةً صغيرة، صندوق من الخوخ».

وبعد أن سألنا عن بقية الأصدقاء في المستشفى والمصلحة أخبرَنا أن ابن عمي الكابتن أوراب قد مات، وأن أصدقاءنا القدامى ورفاقنا في الدراسة الدكتور آكاماتسو والدكتور أوسوجي يُعتبَران في عداد المفقودين.

لقد اعتدتُ على سماع مثل تلك الأنباء المحزنة فلم تعُد تؤثِّر في نفسي.

تناولْنا خوخ أوكاياما اللذيذ الذي أحضره لنا الدكتور ياسوهارا مع وجبة الغداء.

عقدتُ العزم على تسجيل تطوُّر حالة المرض عند أكبر عددٍ ممكن من المرضى خلال جولاتي التفقدية بعد ظهر اليوم، ولكن الأمور كانت مُربكةً مُحيّرة فلم أدرِ من أين أبدأ، وقد استيقظَت المرأة التي أصابها الجنون ليلة الأمس وأخذَت تصرخ بكلماتٍ غير مفهومة، وزاد عدد المرضى الذين بدَت عليهم أعراض البثور، وشكا البعض من تساقُط الشعر بكمياتٍ كبيرة.

فقمتُ بتسجيل بعض الحالات:

    السيد ساساكي:
في الثالثة والخمسين من عمره، ذكر، دخل المستشفى يشكو من انقباض في الصدر، انتشرَت البثور في ذراعيه بعد ذلك، وحجم كلٍّ منها مثل بصمة إصبع الخنصر، حرارته ٣٩° مئوية، فقد جزءًا كبيرًا من شعره، حالته سيئة.

    السيدة هامادا:
أنثى، في السابعة والأربعين من عمرها، أُصيبَت في منزلٍ يقع في تبو-تشو على بعد كيلومتر واحد من مركز الانفجار، كانت تشكو من القيء والضعف العام والصداع والعطش الشديد فور وقوع الانفجار، واستمرَّت تلك الأعراض لمدة أربعة أيام مصحوبة بفقدان الشهية والإسهال، تحسنَت حالتها تدريجًا واعتقدْنا بشفائها في ١٥ أغسطس فيما عدا فقدانها للشهية من حين لآخر، ثم تفاقمَت تلك الحالة في ١٨ أغسطس ١٩٤٥م، وأخذَت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وعندما دخلتُ المستشفى بالأمس كان جلدها جافًّا وتغطِّي البثور صدرها وأكتافها وذراعيها، وتشكو من عدم القدرة على الابتلاع، ورائحة أنفاسها كريهة، حالتها بالغة السوء.

    الآنسة كوباياشي:
أنثى، في التاسعة عشر من عمرها، أُصيبَت في شارعٍ بحي هاتشوبوري على بعد ٧٠٠ متر من مركز الانفجار، تقيأَت عدة مرات أثناء محاولتها الهرب، عانت من الضعف العام خلال الأيام الثلاثة التي أعقبَت الحادث، بالإضافة إلى الإسهال والاضطرابات المعوية، وأخذَت حالتها في التحسن بعد ذلك واستعادت شهيتها، غير أنها ظلَّت ملازمة الفِراش بسبب الضعف العام، ثم ساءت حالتها بشكلٍ عام في حوالي ١٨ أغسطس وأُدخلَت المستشفى، وبعد دخولها ظهرَت عليها أعراض البثور، نبضها عادي، لا تُعتبَر حالتها سيئة.

سقوط الشعر عرَضٌ غريب ولكننا لا نفهم كنهه، ودون أن أدري أمسكتُ بحفنة من شعر رأسي وأخذتُ أشدها، لم يكن برأسي الكثير من الشعر ولكني حين انتزعتُ بعضه بالقوة شعرتُ بالألم، وأخذتُ أفحص رءوس المرضى بعناية فتبينتُ أثر الشعر المتساقط بدرجاتٍ متفاوتة في كثير منهم، وكانت حالة الآنسة كوباياشي والسيد ساكاي من أبرز تلك الحالات، لقد ظهر عرَضٌ جديد يجب أن نأخذه في الاعتبار، وكنت أكثر الناس قلقًا بسبب هذه الظاهرة.

أمَّا الفتاة الجميلة الشابة التي احترق جسدها كله دون وجهها فلم تبدُ عليها تلك الأعراض الجديدة، وكانت لا تزال ترقد في بِركة من القيح، وحالتها تميل إلى الثبات، لا يبدو عليها التحسن أو التدهور، ونظرًا لعدم وجود من يعتني بها من أقاربها فقد أوليتُها عنايةً خاصة في كل جولة من جولاتي، وحاولتُ أن أحث المرضى الآخرين على العناية بها، وكانت تقدِّر لي اهتمامي بها وتبتسم كلما رأتني، ورغم أن جسدها كان أسود متسخًا غير أن ابتسامتها كانت تحمل الكثير من معاني الجمال، وزاد من جمال وجهها بَريق سنٍّ ذهبية كانت تتألق مع ابتسامتها.

وعندما عُدتُ إلى فِراشي أخبرتُ رفاقي بظاهرة فقدان الشعر التي بدَت على المرضى، وحاولتُ أن أجذب كميةً أكبر من شعري، وفعل رفاقي نفس الشيء، أصبح كل إنسان بالقاعة يشد شعر رأسه، ولكن شعرهم لم يسقط، كما أنني عجزتُ عن انتزاع بعض الشعر هذه المرة من رأسي، حين تأكدنا من أننا لا نعاني من ذلك العرض الجديد، اقتنعنا أننا في طريقنا إلى الشفاء واحتفلنا بهذه المناسبة بتناول بعض الخوخ، وعندما أكلتُ الثمرة التي أصابتني أحسستُ أنها قد أزالت المرارة من حلقي، وكلما تذكرتُ ذلك الخوخ اللذيذ يسيل لعابي.

ظهرَت أعراض الحمَّى على زوجتي يائيكو وأعطيتُها قرصًا من الأسبرين.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:36 am

٢٢ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صافي السماء.. استيقظتُ قبل طلوع النهار بوقتٍ طويل، ولم أستطع مواصلة النوم، بينما غرق رفاقي في سباتٍ عميق، وتركتُ فِراشي ووقفتُ في الشرفة أرقب الشمس عند شروقها، كانت السماء صافية والجو حارًّا! ولبثتُ بالشرفة حتى اكتمل شروق الشمس، وفكرتُ في الخروج لاستطلاع الخرائب التي تقع مكان قيادة الفرقة الثانية التي كانت تعسكر بالجزء الملحَق بقلعة هيروشيما.

وفي الطريق إلى تلك الخرائب شعرتُ بالحاجة إلى التبول فتلفتُّ حولي بحثًا عن مكان لقضاء الحاجة فعثرتُ على مرحاضٍ نظيف، سُررتُ لأن ذلك المرحاض كان أنظف بكثير من مرحاض المستشفى الذي لم يكن سوى حفرة في الأرض محاطة بحوائط من الحصير كما ذكرتُ آنفًا، ولما كان هذا المرحاض الذي اكتشفتُه يقع على مسافةٍ قريبة من المستشفى فقد عقدتُ العزم على استخدامه من الآن فصاعدًا.

توقفتُ عند خرائب مخازن الجيش إلى الجنوب من المستشفى فعثرتُ على بقايا دراجتَين ناريتَين مغطَّاة بالحجارة المهدمة وقرميد الأسقف، ولكن لم تكن هناك أسلحة، وعجبتُ كيف استطاع الجيش أن يجلو عن ذلك المكان، كان هناك قبل حادث القنبلة مخزنٌ خشبي بالقرب من الجانب الجنوبي من مبنى المصلحة، وقد اشتعلَت النار أول ما اشتعلَت فيه فلم يبقَ منه شيء سوى قطَع مبعثرة من قرميد السقف، وانتقلَت النار من ذلك البناء الخشبي إلى المستشفى والمصلحة، ورغم أن الجيش كان قد دَمَّر دون داعٍ العديد من المنازل في المنطقة تحسُّبًا للحرائق؛ ترك هذا البناء الخشبي القابل للاشتعال في موضعه، على الرغم من أن جميع المنازل التي كانت تقع على بعد خمسين مترًا من المستشفى قد أزيلَت جميعًا، ولهذا السبب لم يحترق المستشفى عن آخره، ولكن هذا المحزن الخشبي الذي لا قيمة له تُرِك في موضعه ليكون سببًا في الدمار الذي حدث لمباني المستشفى والمصلحة والإصابات التي حدثَت لنا.

ومن السهل أن يفهم القارئ سر كراهيتنا لقادة الجيش، فقد كانت غلظتهم وغباؤهم لا يعرفان حدودًا، ولم تراعِ حقوقنا الشخصية، ولم نكن ندري متى سيُسمَح لنا بإيقافهم عند حدهم والتعبير عن إرادتنا، وحدث ذات مرة أن أُوقِف السيد ميزوجوتشي عند محطة هيروشيما واستجوبه أحد أفراد الشرطة العسكرية، وعندما تأكد من عدم وجود سبب لمؤاخذته صفعه على وجهه لمجرد أن سحنته تشبه الكوريين.

بعدما غادرتُ خرائب هذه المنطقة المهجورة التي ترمز إلى الاستبداد عُدتُ إلى المستشفى لتناوُل طعام الإفطار، وحين كانت السيدة سائيكي العجوز تُقدِّم لي الأرز بادرتني بالحديث وقد ارتسمَت على وجهها علامات الاهتمام: «يا دكتور لقد سمعتُ أن فِرق سلاح المهندسين مستعدة أن تعطيك ما تريد من القمصان والبزات العسكرية، فلماذا لا تذهب أنت والسيد ميزوجوتشي لإحضار ما يسد حاجة المرضى والمستشفى؟ إن لديهم الكثير؛ فالجيش يملك كل شيء».

ثم فتحَت ذراعيها إلى أقصى ما تستطيع، واستطردَت تقول: «سيعطونك مثل هذا القدر، فلديهم البطاطين والبزات العسكرية والأحذية المخزونة في تلالٍ ضخمة، صدِّقني إن لديهم كل شيء؛ فالجيش يملك الكثير!»

ولما كان السيد ميزوجوتشي قد تحقق من مدى صدق تلك الإشاعة فقد أدلى بدلوه في الحديث قائلًا: «أيتها الجدة، لقد كان بعض تلك الأشياء متاحًا حتى الثامن عشر من هذا الشهر، ولكنهم الآن لن يعطونا شيئًا، ورغم ذلك يمكننا أن نحاول معهم».

ثم التفَت نحوي وقال: «لا زال لديهم مخزونٌ كبير، فإذا توجهنا إلى ضابط القيادة بسلاح المهندسين وشرحنا له مدى حاجتنا إلى تلك الأشياء من أجل المستشفى ربما استطاع أن يفعل شيئًا من أجلنا، وعلى أي حال فلا بأس من المحاولة».

فوافقتُ على اقتراح السيد ميزوجوتشي وعزمنا على التوجه إلى قيادة سلاح المهندسين بعد ظهر اليوم.

امتلأت العيادة الخارجية بالمرضى الذين جاءوا يطلبون فحص دمائهم، وشاهدتُ بين من ينتظرون دَورهم في الممر اثنين لم يبقَ في رأسهما إلا القليل من الشعر، كما رأيتُ السيدة مائي أوكا التي كانت تعمل من قبلُ ممرضة بالمستشفى وقد فقدَت زوجها خلال الحادث وجاءت إلى المستشفى لفحص حالتها؛ حيث كانت تشكو من الإعياء، ونظرةٌ واحدة إلى تلك المرأة المسكينة الواهنة الهزيلة ذات الوجه الكالح والعينَين الذابلتَين كانت كافية للتأكد من دنو أجلها، لقد جاءت إلى المستشفى تنشد العون، غير أنه لم يكن باستطاعتنا أن نصنع شيئًا من أجلها.

لم يطرأ تغيُّرٌ ملحوظ على حالة مرضى القسم الداخلي اليوم، ولما كنت أقوم بجولاتٍ مستمرة بالمستشفى؛ فقد استطعتُ أن أميز بين المرضى وأقاربهم الذين يلازمونهم ولم يكن ثمة مشكلة سوى أن عدد أقارب المرضى كان يفوق عدد المرضى أنفسهم، وكان هؤلاء الأقارب يغادرون المستشفى في الصباح بحثًا عن العمل ثم يعودون إليها في المساء، وبذلك كانت عنابر المستشفى أشبه ما تكون بمنطقةٍ سكنية مليئة بالمرضى، ونظَّمَت كل عائلة من العائلات حصير «التتامي» الذي تتخذه فِراشًا لها بصورةٍ تسمح بجمع أفراد الأسرة الواحدة بجوار بعضهم البعض، وكانت تلك التتامي تحيط بموضع الموقد وآنية الطبخ، وتولى السيد نوماتا الإشراف على عنابر المرضى بمبنى الملحق، بينما تولى السيد كيموتو الإشراف على عنابر المرضى بالمستشفى، وكان عملهما نموذجًا لما بذله رجالي من جهد لتوفير مكان الإقامة لهذا الخليط من الناس تحت سقفٍ واحد.

أصبحَت حالات الصلع التي انتشرَت بين المرضى تثير مخاوفنا الآن أكثر من حالات البثور، وقد ساءت حال السيدة هامادا اليوم ففقدَت شعرها جميعًا وازدادت البثور تحت جلدها، أمَّا الآنسة كوباياشي فقد سقطَت صريعة الحمَّى وتورمَت حنجرتها وأخذَت تشكو من الإعياء وضيق التنفس والآلام المعوية، وأصبح رأسها الأصلع يشبه القرع الأصفر، وغطَّت البثور جسدها بأحجامها المختلفة، وأصبحَت حالتها هي والسيدة هامادا في غاية السوء.

أمَّا السيد ساكاي المريض الذي تحدثتُ عنه بالأمس فقد بدا رأسه وكأنه حليق، أمَّا الآنسة كوباياشي التي كانت قد فقدَت شعرها في وقتٍ مبكر؛ فقد بدأ ينبت لها شعرٌ أسود وجعل رأسها يبدو وكأنه مطلي بالحبر، واشترك هؤلاء المرضى الثلاثة هامادا وكوباياشي وساكاي في المعاناة من الصلع والبثور، فتساءلتُ: «تُرى من سيموت منهم قبل صاحبه؟»

لم تكن لدَينا وسيلة لتقدير حجم الإصابة بالبثور؛ لأنه ما لم تبدُ أعراضها على المرضى فقد تمر دون أن نلحظها، كما أننا لا نملك وسيلة للتأكد من العلاقة بين ظهور البثور وحدوث الصلع؛ لأن كلتا الحالتين كانتا تظهران على المريض الواحد خلال ساعات، وعندما يُصاب بهما المريض دفعةً واحدة تصحبهما أعراض إعياءٍ شديد.

بعد تناوُل الغداء قمتُ والسيد ميزوجوتشي بزيارة قائد سلاح المهندسين، وحاولتُ أن أبدو حسَن الهيئة، ولكن ذلك كان من الصعوبة بمكان، فقد كان بنطلوني وقميصي متسخَين، وكانت قيادة الفرقة الخامسة بسلاح المهندسين تقع في ضاحية هاكوشيما على شبه جزيرةٍ بين فرعَين من فروع نهر أوتا إلى الشمال مباشرة من المستشفى، وكان منزلي يقع بنفس الضاحية، وقبل حادث القصف كنت أظن أن تلك الضاحية كبيرة المساحة، ولكنها بدَت أصغر مما كنت أظن بعدما قُوِّض معظم منازلها ودُمِّر ما بقي من المنازل تدميرًا شديدًا، وكانت المخازن الرئيسية للفرقة تقع عبر النهر ويصلها بالضاحية جسر كوهي، وقابلَنا عند نهاية الجسر جندي يعرف السيد ميزوجوتشي من قبل عرض علينا أن يقودنا إلى مكان القائد.

سرْنا عبر منطقة كانت تحيط بها الأسلحة والمعدات من الجانبَين حتى بلغْنا مدخل مغارةٍ حُفِرَت في بطن التل؛ حيث طلب منا الجندي الانتظار ثم دخل المغارة وعاد بعد قليل وبصحبته قائد الفرقة، وقد دهشتُ عندما رأيتُ الجندي والقائد عزلًا من السلاح فشعرتُ بالاكتئاب حين أيقنتُ أن جنودنا قد جُرِّدوا من سلاحهم، إن هذا المنظر يرمز إلى الهزيمة التي مُنينا بها.

كان القائد متقدمًا في السن تبدو الكآبة على وجهه، فشعرتُ بالرثاء لحاله، ولم أدرِ كيف أبدأ الحديث إليه، انحنيتُ محيِّيًا، وتولى السيد ميزوجوتشي تقديمي له، ثم استعدتُ رباطة جأشي وأخذتُ أحدِّثه عن المستشفى وما يقع على عاتقي من مسئولياتٍ؛ بادئًا بذكر تفاصيل ما حدث يوم البيكا حتى اليوم، وأنهيتُ حديثي بطلب المساعدة.

واستمع الضابط العجوز إلى حديثي بأدبٍ جم، وعندما فرغتُ منه أجابني بصوتٍ خفيض ونبراتٍ ضعيفة قائلًا: «حتى يوم ١٧ كانت لدي أوامر بتوزيع ملابس الجيش وبعض المعدات الأخرى. أمَّا الآن فقد تغيرَت هذه السياسة وتلقيتُ أوامر أخرى تقضي بتسليم تلك الأشياء إلى إدارة المدينة لتتولى مسئولية توزيعها على المواطنين».

فسألتُه: «أليس من الممكن أن تقدِّم لإدارة المدينة الملابس والبطاطين والأشياء الأخرى الضرورية لتغطية حاجة مائتَين من المرضى وأن تشير إلى وجوب تسليم هذه الأشياء إلى مستشفانا؟» فوافق الضابط العجوز على اقتراحي ووعد ببذل ما في وسعه لتحقيق رغبتنا، فشكرناه على لطفه وأحنينا رءوسنا بالتحية ثم عُدنا أدراجنا.

في الطريق إلى المستشفى ألقيتُ نظرة على المعدات التي كانت تبدو كنوزًا بالنسبة لنا.

كان هناك الكثير من الأشياء، بلط ومصابيح بحرية، وأواني للطهي، ومكاتب ومقاعد وصناديق كُتِب عليها عبارة «أحذية»، مكدسة في أكوامٍ تكاد تبلغ عنان السماء، بالإضافة إلى تلال من البطاطين والبزات العسكرية وصناديق كبيرة تحوي مصنوعاتٍ جلدية، وبدا لنا أن هذه الأشياء كفيلة بتوفير الكساء لجميع مواطني هيروشيما، فإذا استطعنا أن نحصل على بعض تلك الأشياء لمستشفانا لوجدْنا حلًّا لإحدى مشاكلنا الرئيسية.

وأثناء عودتنا أخذتُ أبحث في ذاكرتي عمن يستطيع من بين معارفي أن يتوسط لنا في هذا الموضوع، ولكني لم أتذكر أحدًا، ولهذا قررتُ أن أوفد السيد ميزوجوتشي إلى إدارة المدينة ليبلِّغ المسئولين هناك بما دار في مقابلتنا مع قائد فرقة المهندسين، ويلتمس منهم العون قبل أن يخرج الأمر من أيديهم.

وبعد العشاء أطلعَني الدكتور كاتسوبي والدكتور هانا أوكا على النتائج الأولية لتحاليل الدم التي قاموا بإجرائها، ولم يكن باستطاعتهم استخدام المجهر في الليل لانقطاع الكهرباء عن المستشفى منذ حادث القصف؛ ولذلك اقتصر عملهما طوال اليوم على فحص ٥٠ حالة فقط، وتراوح عدد كرات الدم البيضاء عند الأشخاص الذين أُصيبوا بمنطقة أوشيتا على بعد ثلاثة كيلومترات من مركز الانفجار ما بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ كرة، أمَّا المرضى الذين كانوا أكثر قربًا من مركز الانفجار فكان عدد كرات الدم البيضاء عندهم أقل من ذلك، فبلغ عدد كرات الدم البيضاء عندهم ألفًا، أمَّا المرضى الذين اشتد بهم المرض فقد كانت كرات الدم البيضاء عندهم أقل من الألف، وكلما كان موقع الإصابة أقرب إلى مركز التفجير كلما نقص عدد كرات الدم البيضاء، فإذا استطعنا فحص دماء بضع مئات من المرضى لكان بمقدورنا أن نبيِّن العلاقة بين البعد عن مركز التفجير وعدد كرات الدم البيضاء.

غير أن موقع مركز التفجير لم يكن محدَّدًا بدقة؛ لأن القنبلة الذرية لم تنفجر على الأرض٢٣ وإنما انفجرَت في الهواء؛ ولذلك لم تترك آثارًا محددة في موقعٍ بعينه.

وقد ذكر البعض أن القنبلة انفجرَت فوق جسر أيوي، بينما ذكر البعض الآخر أنها انفجرَت فوق مكتب بريد هيروشيما أو مستشفى شيما أو متحف العلوم والصناعة أو مدخل هيكل جوكوك، ولما كنا لا نستطيع ترجيح أحد تلك الآراء؛ فإنه لا يمكننا أن نحدد مركز التفجير بدقة.

وقد أجمعَت معظم الآراء على اعتبار مدخل هيكل جوكوك مركزًا للتفجير، ولكني أعتقد أن ذلك المركز يقع إلى الجنوب من الهيكل؛ ولذلك افترضنا أن تلك المنطقة هي مركز التفجير.

وقد دفعَتنا النتائج الأولية لفحوص الدم إلى المزيد من حب الاستطلاع، فتلك هي المرة الأولى التي نواجه فيها عدوًّا مجهولًا هو القنبلة الذرية، وأثارتني نتائج التحاليل حتى إنني لم أستطع النوم طوال الليل إلا لمامًا.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:37 am

٢٣ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صافي السماء وإن بدَت بعض السحب في الأفق وتهب نسمات عليلة.

بدأتُ يومي بزيارة المرحاض الأنيق الذي اكتشفتُه بالأمس، وعندما عُدتُ إلى الحجرة كان السيد شيوتا متجهِّمًا يرقبني من النافذة، والسيد شيوتا هذا هو مديرنا السابق الذي أُعِيد إلى وظيفته منذ بضعة أيام، وكلما أُتيحَت له فرصة الخروج من المصلحة كان يعود إلينا بكيسَين بكلٍّ منهما خمسون علبة من السجاير، ولا أدري من أين أو كيف كان يحصل على تلك السجاير، ولكننا كنا نسعد بها، ولم أرَ مثل هذه الكمية من السجاير إلا في محلات البيع، ولم أحلم يومًا بالحصول على مثلها، وكنا نحتفظ بتلك العلب لنستمتع بكرم السيد شيوتا، وقد شاركنا الاستمتاع بها مدمنو التدخين من المرضى، وساعدَت تلك السجاير معاونينا من الطلبة على أداء خدماتهم على الوجه الأكمل، فلم يكن باستطاعتنا أن نفعل شيئًا دون أن يؤمِّن لنا السيد شيوتا مئونتنا من السجاير، وهو أمر لم يكن متاحًا لمواطني هيروشيما في تلك الأيام.

تحسنَت حالة الدكتور ساسادا اليوم فأصبح باستطاعتنا أن نرى وجهه البريء وراء تلك القشرة التي يختلط لونها بالأحمر والبني، وكان تحسُّنه طفيفًا، كما أن البثور التي ظهرَت في صدره والتي حاول أن يخفيها عنا شُفيَت تمامًا، أمَّا حروق الآنسة ياما فما زالت تؤلمها ولكن لم تبدُ عليها أعراض البثور أو الصلع، وقلَّ الرشح من حروق الآنسة سوسوكيدا وتحسنَت حالة وجهها، وهبطَت درجة حرارة زوجتي، غير أنها لا تزال تعاني من القشعريرة ولكنها لا تبدو في حالةٍ سيئة، وقد ابتهجنا جميعًا لاختفاء البثور من صدر الدكتور ساسادا؛ لأن ذلك يعني أنها لا ترتبط دائمًا بالموت، وهو استنتاجٌ جعلنا نمتلئ بهجةً وتفاؤلًا.

وحوالي الساعة العاشرة زارني صديقي السيد إيسون، وكان نبأ تعيينه رئيسًا لمصلحة المواصلات مفاجأة لي، وكان يشغل من قبل منصب رئيس القسم الطبي بوزارة المواصلات عندما الْتحقتُ بخدمة المصلحة، ونال احترامي لعلمه وكفايته في إدارة المستشفيات، وكان قلقًا بسبب الإشاعات التي تواترَت عن أن هيروشيما لن تصبح صالحة للسكن قبل ٧٥ عامًا فلم أتوانَ عن بث الطمأنينة في نفسه.

كان الجو في العنابر الأخرى يختلف تمامًا عن الجو في قاعتنا هذا الصباح فإن المرضى الذين لم يصبهم الصلع كانوا قلقين على مصيرهم يشدُّون شعرهم من حينٍ لآخر، أمَّا أولئك الذين أصابهم الصلع فقد ظنوا أنهم قد أصبحوا على أعتاب الموت، ويجب أن أعترف بمشاركتهم هذا الشعور رغم أن اختفاء البثور من جسد الدكتور ساسادا قد أقنعني أنه لا صلة بين تلك الأعراض وبين الوفاة.

وحدث أثناء مروري بالمستشفى أن استوقفني أحد المرضى قائلًا: «يا دكتور، إن شعري قد خف أليس كذلك؟» فأجبتُه بقولي: «لقد ولدتُ بشعرٍ خفيف وقضى الزمن على جزءٍ آخر من شعري، ولعلَّك تعلم كما أعلم أنا أيضًا أنه لا علاقة بين الشعر وطول العمر».

ولكن هذه الإجابة كانت تُخفي ما أعانيه من الخوف، فلم أقل للمريض إنني كنت أشد شعري مثل الجميع لأتأكد من أنه لن يسقط، كنت في قرارة نفسي قلقًا إلى حدٍّ كبير، ولم ينطلِ تظاهري بالشجاعة على أحد، وكلما حاولتُ أن أخفي حقيقة شعوري فضحَتني تعابير وجهي.

واكتشفتُ خلال جولاتي أن أولئك الذين لم تبدُ عليهم أعراضٌ أخرى غير الصلع قد بدَءوا في التحسن، وأُصيب أحد مرضى العيادة الخارجية بالصلع تمامًا، ولكنه لا يشكو من الإعياء، غير أن الصلع لا يعني أن وفاة المريض أمر لا مفر منه.

وقد تجولتُ بين المرضى مراتٍ ومرات، أطيِّب خاطرهم، وأهدِّئ من روعهم، دون أن أستطيع أن أقدِّم لهم العلاج الناجع.

أمَّا المرضى الثلاثة الذين وصفتُ حالتهم بالأمس فقد ازدادوا وهنًا على وهن، وانتشرَت البثور في أجسادهم، وكان السيد ساساكي أشد الثلاثة مرضًا وإعياءً، ربما ذلك بسبب تقدُّمه في السن، فأصبح أصلع تمامًا هو والآنسة كوباياشي، أمَّا شعر السيدة هامادا فقد خف قليلًا، ومن الصعب أن نقرر إذا كانت ستصبح صلعاء تمامًا أو لا.

وكان بين مرضى البثور من اختفَت بثورهم مثل الدكتور ساسادا، بينما كانت البثور عند البعض الآخر تتناقص، وليس لدَينا دليل حتى الآن أن ثمة علاقةً بين سقوط الشعر والبثور المنتشرة تحت الجلد، وربما ارتبط الصلع بالحالة الصحية العامة للمريض أو العكس.

قمتُ هذا الصباح بإضافة حالةٍ جديدة إلى سجل العيادة:
السيد أوتاني، ذكر، السن خمسون عامًا، أُصيب في الطابق الثاني بمبنى إدارة التموين في هاتشوبوري على بُعد ٧٥٠ مترًا من مركز التفجير، تقيَّأ نحو خمس عشرة مرة فور سقوط القنبلة، وكان يشكو من الصداع والإعياء، تحسنَت حالته بعد أسبوع وأصبح قادرًا على المشي مرةً أخرى، يشكو من التهاب اللثة، منذ يومين أو ثلاثة أيام أصبحَت حالته سيئة، لا تبدو عليه أعراض الصلع ولكن البثور تنتشر في جسده.

وتعد حالة هذا الرجل مماثلة لحالة الكثيرين الذين تماثلوا للشفاء ثم تدهورَت صحتهم بعد ذلك، وإذا صح ذلك فإنه يعنى أن الأشخاص الذين يبدون الآن في حالةٍ طيبة قد يمرون بنفس المرحلة.

انتهيتُ من جولاتي وذهبتُ لتناوُل طعام الغداء، ولم يكن هناك بحجرة الطعام سوى السيدة سائيكي العجوز، فقلتُ لها أثناء جلوسي لتناوُل الطعام: «أيتها الجدة، إن عدد المرضى الذين ساءت حالتهم في ازدياد، إنني لا أهتم كثيرًا لحالة أولئك الذين فقدوا شعرهم، ولكني قلق على أولئك الذين يشكون من تورُّم الحلق والحمَّى؛ إذ لا يبدو عليهم التحسن ولا أمل لهم في النجاة، حتى إذا تحسنَت حالتهم نوعًا ما فإنها لا تلبث أن تسوء من جديد».

واستمعتُ إليَّ الجدة التي تحملَت كل مشاكلنا بصبرٍ وتوقفَت برهة وهي تعد الشاي لتقول: «يا دكتور، يجب أن تعتني بنفسك أولًا، فالإرهاق في العمل في مثل تلك الظروف غير مستحب، وأنت تعمل فوق طاقتك، إن لون وجهك أصبح لا يعجبني، يجب عليك أن تبحث عمن يساعدك ويخفف عنك بعض العناء».

ووضعَت الجدة كوب الشاي أمامي وبعد أن شربته دخَّنتُ سيجارة ثم عُدتُ إلى غرفتي.

وقلتُ للدكتور ساسادا والسيد شيوتا: «إن السماء تبارك هذه القاعة، إن السماء تباركها، ولكن مرضى الطابق الأرضي حالتهم سيئة إنه أمر مزعج، فالذباب ينتشر بينهم، ويغطي السقوف مثل بذور السمسم، وإذا اقتربتَ من المرحاض رأيتَهم يتدفقون عليه في جلبةٍ كبيرة، حتى إن السيدة سائيكي العجوز تسميهم الذباب الآدمي (نيمباي)، أتدرون لماذا؟ لأنها رأت الناس يذبونهم كما يذبون الذباب».

وضحك رفاقي غير أني واصلتُ الحديث بضيق: «إذا كنتم لا تصدقوني انزلوا إلى الطابق الأرضي وانظروا بأعينكم».

فرد السيد شيوتا قائلًا: «إننا نعلم هذا جيدًا ولم نضحك منك، ولكننا ضحكنا من التعبير الساخر الذي أطلقَته السيدة سائيكي عليهم، ربما كانت على حق ولهذا السبب رأيناك تختار المرحاض الذي يقع خارج المستشفى».

فأجبتُ: «جرِّبه مرة يا سيد شيوتا وقارن بينه وبين مرحاض المستشفى لتعرف أيهما الأحسن، ولكني أنصحك أن تنتظر حتى يحل الليل إذا أردتَ أن تقضي حاجتك».

وجاء الدكتور كوياما بينما كنا نضحك ونمزح حول موضوع المرحاض والذباب الآدمي الذي حدثَتني عنه السيدة سائيكي، وبدا عليه الضيق فقال متعجبًا: «كدتُ أفقد صوابي؛ فإن محاولة تنظيم فِرق الإسعاف من الصعوبة بمكان، ولا أستطيع أن أحصل منهم على عملٍ مفيد، لأنهم يجلسون ويثرثرون في مسائل لا تتصل بعملهم، ألا يكفي هذا العبث؟»

وشرع الدكتور كوياما في إعطائي بعض التفاصيل حول نظام العمل بالمستشفى حتى يغير موضوع الحديث، فذكر لي أن الدكتور فوجي طبيب الأسنان يتولى الإشراف على عيادة الجراحة الخارجية، أمَّا الدكتور هانا أوكا فيدير العيادة الطبية الخارجية، بينما كان الدكتور آكي ياما يشرف على عنابر المستشفى وملحق المستشفى بمبنى المصلحة، ويتولى توجيه الأطباء الخارجيين الذين جاءوا لمساعدتنا، وتفرغ الدكتور كاتسوبي لغرفة العمليات والعناية بالمرضى في العنابر الداخلية، أمَّا الممرضات فقد مارسْن عملهن في هذا المكان أو ذاك كلما دعَت الحاجة إلى الاستفادة بجهودهن، وتولى الدكتور كوياما إدارة عيادة العيون بالإضافة إلى واجباته الإدارية.

وسألتُ الدكتور كوياما عن ملاحظاته حول مرضى عيادة العيون، فذكر لي أن قاع عيون المرضى الذين كانوا ينظرون إلى الطائرة ساعة إلقائها القنبلة قد احترق، ويبدو أن بريق الضوء الناجم عن تفجير القنبلة اخترق حدقات عيونهم وأصابهم بالعمى، وأن معظم حالات حروق قاع العين من الدرجة الثالثة؛ ولذلك لا أمل في شفائهم، أمَّا أولئك الذين أصابتهم الحروق في وجوههم أو أجسامهم فكانوا أحسن حظًّا، فإذا كانت وجوههم قد شُوِّهَت فإنهم على الأقل ما زالوا يحتفظون بنعمة البصر.

عانت زوجتي من الحمَّى من جديد، وازداد ارتجافها فأعطيتُها أقراصًا من الأسبرين والبيراميدون.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:39 am

٢٤ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ لطيف بشكلٍ عام.

كان الليل مرتعًا للبعوض، ونتيجةً لذلك لم أذُق طعم النوم إلا لمامًا، ورأيتُ فيما يرى النائم حلمًا مزعجًا؛ رأيتُني في طوكيو عقب وقوع زلزالٍ مدمِّر أسِير وسط تلال من أشلاء الموتى، وكانت جميع الجثث تنظر إليَّ، ورأيتُ عينًا فوق راحة فتاة، ثم طارت تلك العين في السماء فجأةً واتجهَت نحوي، وحين نظرتُ إلى السماء رأيتُ العين أكبر بكثير من حجمها الطبيعي، وأخذَت تحوم حول رأسي بينما كانت حدقتها متجهةً نحوي، ولكني كنت عاجزًا تمامًا عن الحركة.

واستيقظتُ على إحساسٍ بضيق التنفس، وكان قلبي يدق بعنف، ويبدو أنني كنت ألتقط أنفاسي بصعوبةٍ بعد هذا الحلم المفزع، لقد تأثرتُ كثيرًا بالقصة التي سمعتُها عن ذلك الرجل الذي كان يحمل عينَيه على راحة يده في نقطة إسعاف هيجي ياما.

واستلقَيتُ على فِراشي محاوِلًا أن أتذكر اسم الرجل الذي قص عليَّ تلك القصة، ولكني لم أستطع تذكُّر اسمه، كنت أعرف الرجل تمام المعرفة، وأعرف مكان عمله ولكني لا أذكر اسمه، وقد أزعجني عدم القدرة على تذكُّر الأسماء، وهي ظاهرةٌ بدَت بشكلٍ واضح بعد البيكا، وكانت الأسماء تطرأ على ذهني أحيانًا ثم تختفي تمامًا أحيانًا أخرى، وكثيرًا ما كنت أتذكر الأسماء ولا أكاد أتذكر الملامح، فإذا استمر الأمر على ذلك الحال ربما بلغتُ حد الجنون.

وتذكرتُ تقرير الدكتور كوياما عن المرضى الذين فقدوا البصر نتيجة تركيزهم النظر على القنبلة ساعة البيكا، وحالتهم لها ما يبررها، فقد تلفَت أعصاب عيونهم تمامًا، ولكني لم أُصَب بشكلٍ مباشر، رأيتُ البريق حقًّا، لكن الإشعاعات المحرقة لم تصِبني بسوء، وظلَّت عدسات عيني سليمة.

وربما كان البيكا يسبب تلف الأجهزة حتى لو أصابها بشكلٍ غير مباشر، ولعلَّ الضعف أصاب عيني نتيجة البيكا، ولا أعتقد أنني أعاني حالة إعياءٍ رجعي، تُرى هل من الممكن أن يحدث ذلك بالنسبة للعيون؟ وهل هناك علاقةٌ بين تلك الظاهرة وعدم القدرة على تذكُّر الأسماء وملامح الوجوه؟ وهل ستتحسن حالتي أم ستلازمني هذه الحالة حتى نهاية العمر؟ وعندما أشرق الصباح كنت في حالةٍ سيئة، أوقن أن الشفاء لن يعرف طريقه إليَّ.

ولم يخفف الإفطار كثيرًا مما أعانيه، ولذلك عُدتُ إلى فِراشي بعد الإفطار، وأخذتُ أحملق عبْر النافذة شارد الذهن، فوقعَت عيناي على شاحنةٍ تتجه نحو المستشفى، ونسيتُ كل متاعبي، كانت الشاحنة محملة باللوازم التي طلبناها من فرقة سلاح المهندسين، وبعد تفريغها أصبحَت هناك كومةٌ هائلة من الأشياء أمام باب المستشفى تشمل المناشير والبلط وأواني الطبخ والحبال والدلاء والمصابيح والأحذية والفئوس والسكاكين والمكاتب والعديد من الأشياء الأخرى، يا لها من معونةٍ ثمينة!

وساهم في تفريغ تلك الحمولة كل قادر على الحركة من المرضى وأقاربهم، ونالوا كل ما يحتاجون إليه، وكان إقبالهم كبيرًا على أدوات الطهي، ولم أشأ أن أتخلف عن الركب، فحصلتُ لنفسي على إناءٍ أبيض للأرز تتوسطه نجمةٌ زرقاء، وطبقٌ أبيض تزينه رسوم الكريز، وعم الفرح والابتهاج جميع من بالمستشفى، وانقلب سكون عنابر المستشفى إلى ضوضاء وصخب لم نعشهما منذ البيكا، فتعالت الأصوات والضحكات، وأصبح المرضى الذين كانوا يطهون طعامهم في علب الصفيح يقتنون الآن أواني جديدة وأطباق جديدة وضعوها بجوار وسائدهم، وسعد فريق الصيانة بالمستشفى بالحصول على المناشير والبلط؛ فبمقدورهم الآن أن يوفروا لنا كل ما نحتاجه من أخشاب للوقود، وأصبح لدَينا معدات للطهي وأواني للطعام لأول مرة منذ وقع البيكا، كما تتوفر لدَينا الآن الآلات والأدوات اللازمة لتوفير حاجتنا من الأخشاب.

ولم أستطع أن أقوم بجولاتي المعتادة هذا الصباح، فقد اختلط الحابل بالنابل في المستشفى؛ ولذلك قمتُ بتلك الجولات بعد الظهر.

تُوفِّي السيد ساكاي بعد أن اشتكى في لحظاته الأخيرة من ضيق التنفس وفقدان الرؤية، كما ماتت السيدة هامادا بنفس الطريقة، أمَّا الآنسة كوباياشي فقد بلغَت درجة حراتها ٤١° ولكنها كانت لا تزال على قيد الحياة، وساءت حالة فمها المتقيح وأخذَت تعاني من ضيق التنفس، ومنذ الصباح داهمَتها آلامٌ معوية حادة، ولم نستطع التحقق مما إذا كانت تعاني من التهابٍ بريتوني أو تهتُّكٍ في المعدة، أمَّا السيد أونومي فقد زاد وهنًا على وهن، وغطَّت البثور جسده، كما أخذ يعاني من سقوط الشعر هذا الصباح، أمَّا المرضى الذين أصبحوا صلعى تمامًا أو الذين كانوا في طريقهم إلى الصلع؛ فلم تبدُ عليهم أعراضٌ جديدة.

وأكد هذا استنتاجنا أن الصلع لا يعني بالضرورة دنو الأجل.

وتحسنَت حالة الدكتور ساسادا والسيد شيوتا، أمَّا الآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا فلم تتجاوز حالتهما حد الخطورة، وإن كانت تميل إلى الثبات، واستمرَّت زوجتي تعاني من الحمَّى والرعشة، ولم أملك من وسيلةٍ لعلاجها سوى الأسبرين.

وبعد العشاء تبادلتُ أطراف الحديث مع السيد ميزوجوتشي والآنسة كادو والسيدة سائيكي العجوز بحجرة الطعام، وعلمتُ منهم أن الناس هاجموا مخازن سلاح المهندسين، وكانوا مثل قبائل البربر يجرون العربات ويحملون فوقها كل ما تصل إليه أيديهم.

وعلمتُ أن جانبًا من الإمدادات التي وصلَتنا اليوم وتُركَت أمام المستشفى قد سُرِق.

لقد أصبحَت هيروشيما مدينةً مضطربة، ولكني لم أدهش لسماع تلك الأخبار؛ فلم تكن هناك قوات لحفظ الأمن بالمدينة، غير أني شعرتُ بالخجل لأعمال السلب والنهب التي حدثَت.

رأيتُ ضوءًا يتراقص أمام نافذتي في وقتٍ متأخر من الليل، وحين نظرتُ من النافذة تبينتُ أنهم يحرقون جثتَي السيد ساكاي والسيدة هامادا، وكان ظل الحمام يتأرجح خلف محرقة الجثث.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:40 am

٢٥ أغسطس ١٩٤٥م

غيومٌ في الصباح الباكر ما لبثَت أن انقشعَت ثم أصبح السماء صحوًا.

استيقظتُ وذهبتُ إلى مرحاضي الخاص، وفي طريق العودة إلى المستشفى توقفتُ عند المكان الذي أحرقَت فيه جثتا السيد ساكاي والسيدة هامادا، ولم تكن عظام الجماجم تحترق تمامًا من قبلُ لعدم توافر الأخشاب لدَينا، أمَّا الآن فقد توافرَت الأخشاب بعد حصولنا على المناشير والبلط ولم يبقَ من الجثتَين سوى رماد أبيض.

عسكرَت جيوش من الذباب حول مدخل المستشفى، وكلما خطا المرء خطوةً طار الذباب في سحُبٍ سوداء، وكان صوت طنينه فظيعًا، ورأيتُ كومة من الذباب فوق بعض عظام السمك، فمددتُ عصًا وحركتُ تلك العظام لأجد تحتها كمياتٍ ضخمة من الدود الأبيض، وما كدتُ أرفع العصا بعيدًا عن موضع العظام حتى عاد الذباب يتكوم فوقها بشكلٍ مخيف، ولم يكن ذلك الذباب ذبابًا آدميًّا (نيمباي) على حد تعبير السيدة سائيكي العجوز، ولكن ليس ثمة فرق على أي حال، فالذباب يتواجد داخل المستشفى كما يتواجد خارجه، ولا نملك وسيلة للقضاء عليه، فمع رداءة الجو وانتشار القاذورات إلى درجةٍ كبيرة يتهيأ له مرتعٌ خصب، وكان الذباب أقل مضايقة بالطابق الثاني منه بالطابق الأرضي.

كنا لا نرى ذبابةً واحدة حولنا بعد البيكا، ولكننا الآن نغرق في خضم من الذباب والبعوض، وقد ناقشْنا هذه المشكلة أثناء تناوُل الإفطار على أمل أن نجد فكرة عند أحدنا تفيد في التخلص من تلك الحشرات، ولكن السيدة سائيكي العجوز ضربَت رأسها بيدها وقالت: «إنه ذبابٌ آدمي تقمصَته أرواح الموتى؛ ولذلك لا يمكن مواجهته، إنه يملأ الطابق الأرضي والمطبخ، حتى إن المرء لا يكاد يفتح فمه دون أن يتفادى اندفاع الذباب فيه».

وفكرْنا في إحراق المناطق التي يتوالد فيها الذباب حول المستشفى بالبنزين، ولكن من أين لنا به وقد أصبح البترول أثمن من دم الإنسان؛ ولذلك عدلْنا عن الفكرة، كما أن الذباب كان يتكاثر في الخرائب المنتشرة في المدينة كلها؛ ولذلك لا يحتمل أن تثمر الجهود التي نبذلها في هذا الصدد.

تلقَّينا اليوم حمولةً جديدة من المعونة العسكرية التي قدمها لنا سلاح المهندسين، ولكن تلك الحمولة كانت أقل نفعًا من حمولة الأمس، فيما عدا بعض أواني الطهي وأحد المواقد وبعض المكاتب القديمة المتآكلة، وتضمنَت حمولة اليوم صناديق ممتلئة بأعلام اليابان الصغيرة، وأخرى تحتوي على بعض الأدوات ذات اللون الكاكي، كما ضمَّت بعض الصناديق أشياء صغيرة كان من بينها مصابيح تعمل بالبطارية داخل أكياس من الجلد.

وكان الأشخاص الذين يأتون إلى المستشفى أو يغادرونها يأخذون بعض الأعلام وبعض الأدوات ذات اللون الكاكي، وكان الأطفال يلعبون بالأعلام ويجرون هنا وهناك ملوِّحين بها متصايحين ضاحكين بسعادةٍ غامرة.

وراقبتُ من نافذة غرفتي الناس وهم يأخذون بعض تلك الأشياء التي كُوِّمَت أمام المستشفى، كان بعضهم ينظر ذات اليمن وذات الشمال خلسةً قبل أن يلتقط ما يريد، بينما كان البعض يلتقط الشيء ثم ينظر ذات اليمن وذات الشمال وينصرف، على حين كان البعض الآخر يهجم على تلك الأشياء يجوس بينها بطريقةٍ تبعث على الاشمئزاز ويختطف ما تصل إليه يده ثم ينصرف مسرعًا.

كانت تلك الدراما الصغيرة تعكس طبيعة وتربية هؤلاء وأولئك، وكان القليل من الناس يقف أمام كومة المعدات ثم يسأل بعض العاملين بالمستشفى عما إذا كان باستطاعته أن يأخذ بعضًا منها، وجعلني هذا النوع الأخير من الناس أشعر أن الخير ما زال موجودًا في هذا العالم، كما جعلني أعقد العزم على مراجعة نفسي قبل الإقدام على سلوك أي مسلك.

وفي جولاتي هذا الصباح اكتشفتُ أن جميع مرضى القسم الداخلي يعانون الآن من البثور والصلع، ورغم ذلك لم تتدهور أحوالهم، مما جعل التفاؤل يعم جميع عنابر المستشفى، وقد سألني الكثيرون عما إذا كان شعرهم سينبت من جديد، ورغم أنني لم أكن على يقين من ذلك كنت أردُّ بالإيجاب، ولم يكن من الأمانة أن أتصرف على هذا النحو، ولكن عزائي الوحيد أن كلماتي كانت تبعث السرور في نفوس هؤلاء المرضى.

وقليلٌ من بين مرضى البثور والصلع من جفَّت حلوقهم وارتفعَت حرارتهم وكانت حالة هؤلاء المرضى سيئة، وعدد كرات الدم البيضاء عندهم أقل من غيرهم، أمَّا السيد أونومي فكان يعاني ألمًا مبرحًا نتيجة سقوط الشرج، وازدادت البثور في صدره، وساءت حال فمه وارتفعَت درجة حرارته، وبدَت حالته سيئة بوجهٍ عام، غير أن الآنسة كوباياشي كانت أسوأ منه حالًا، فما زالت تعاني آلامًا معوية وحالتها سيئة بوجهٍ عام، ورغم أنها لم تقاوم يدي حين قمتُ بفحصها إلا أن لمسات أصابعي كانت تسبب لها ألمًا مبرحًا، كان فمها وحلقها جافَّين متورمَين، ولم يكن باستطاعتها ابتلاع أي شيء، وبلغَت درجة حرارتها ٤١°، ورجتني أن أيسِّر لها سبيل الموت.

وكان كلٌّ من السيد أونومي والآنسة كوباياشي قد اشتكيا من التجشؤ وفقدان الشهية بعد البيكا، ثم عانيا من القيء والإسهال بعد ذلك، ولكن حالتهما تحسنَت بعد أسبوع، ثم أصابتهما البثور والصلع منذ أربعة أو خمسة أيام، وازداد شعورهما بالألم المصحوب بالتهاب الفم وتورمه، وأصبح واضحًا أن هذه المجموعة من الأعراض بالإضافة إلى انخفاض عدد كرات الدم البيضاء الذي اتفقا فيه تحدد جميعًا تشخيص حالتهما.

أما الدكتور ساسادا فكان آخذًا في التحسن، وفكرْنا في السماح له بمغادرة المستشفى، واستمرَّت حالة الآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا على ما كانت عليه دون تحسُّن.

دخل السيد كادويا مدير إدارة الشئون الاجتماعية بمصلحة المواصلات المستشفى بعد أن ظهرَت عليه أعراض الإسهال، وكان قد نُقِل إلى مصلحة المواصلات بهيروشيما بعد البيكا، فنقلتُ زوجتي إلى فِراشٍ في الممر حتى نخلي مكانها للسيد كادويا، وكان الإسهال عنده مصحوبًا بآلام معوية شديدة، وظننتُ أن حالته ستتحسن لأنه لم يكن موجودًا بهيروشيما عند انفجار القنبلة.

وبعد تناوُل العشاء تبادلنا أطراف الحديث حول الآثار التي ترتبت على تفجير القنبلة الذرية، وكان الاعتقاد السائد بيننا أنه إذا كانت تلك القنبلة تحوي غازًا سامًّا فإن الموت لا بد أن يكون ظاهرةً عامة، ولاحظ البعض أن من جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا ظهرَت عليهم أعراضٌ شبيهة بتلك الأعراض التي ظهرَت على أهالي هيروشيما الذين كانوا يقيمون بها عند وقوع الكارثة، وذكرتُ حالة رجلٍ جاء من جيون إلى هيروشيما بعد البيكا ثم مات بتلك الأعراض، كما لاحظتُ أن التهاب اللوزتين والحلق وجفاف الفم كان عرضًا سائدًا بين أولئك الذين نجوا من الإصابة وظهرَت عليهم تلك الأعراض بعد قيامهم بتمريض المصابين، وأُشِيع أن الكثير من الناس الذين كانوا يحتمون داخل مبانٍ خرسانية قُرب مركز التفجير قد نجوا من الإصابة في بداية الأمر ثم ماتوا بتلك الأعراض بعد ذلك نتيجة قيامهم بالعمل وسط الخرائب.

وعاد القلق يسيطر على الجميع من جديد، وعجزنا عن بعث الطمأنينة في نفوس من أُصيبوا بالصلع والبثور، فمخاوفهم لها ما يبررها.

انقضَت ستة أيام على الفحص الأول الذي أجريناه للدم، وعلينا أن نكرر الفحص مرةً أخرى في الغد، وعقدتُ العزم على أن أُعد تقريرًا بنتيجة الفحص في كل عنبر من عنابر المستشفى، وأن أضمِّن تلك النتائج في تقريرٍ شامل يتضمن العلامات والأعراض التي بدَت على مرضانا مع وصف ما يطرأ على حالتهم من تطوُّر، فقد يساعد ذلك على استعادة الطمأنينة إلى النفوس، واقتنعتُ أن مثل ذلك التقرير الذي يعتمد على ملاحظاتنا سيفعل الكثير لإزالة مخاوف المرضى.

وأويتُ إلى فِراشي لأنعم لأول مرةٍ بنوم عميق.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:42 am

٢٦ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر طوال اليوم.

كنت منهمكًا في كتابة ملاحظاتي حول أعراض المرض بعد تناوُل الإفطار عندما اندفعَت إحدى الممرضات إلى الحجرة لتبلغني نبأ احتضار الآنسة كوباياشي، وما كدتُ أصل إليها حتى كانت قد فارقَت الحياة.

وكانت تشكو باستمرارٍ من آلامٍ باطنية مبرحة منذ الصباح الباكر، رغم أن بطنها كانت قد ترهلَت قليلًا، ولم نلاحظ عليها أعراض الالتهاب البريتوني، تُرى هل كانت تشكو من التهاب البنكرياس أو من فتقٍ نتيجة حمْلٍ خارج الرحم؟ لقد كان المرضى الآخرون يشكون من آلام البطن ولكن حالتها كانت أكثر إيلامًا من غيرها، وقد تناقشتُ مع الدكتور كاتسوبي حول الاحتمالات المختلفة للمرض ولم نصِل إلى نتيجةٍ أفضل من تلك التي بدأْنا بها، وكان ثمة سبيلٌ واحد للوصول إلى الحقيقة، فقلتُ للدكتور كاتسوبي: «يجب أن نشرح الجثة فهذا هو السبيل الوحيد للتعرف على هذه الحالة».

فوافقني الدكتور كاتسوبي على هذا الاقتراح وهو مستغرق في التفكير.

حل ميعاد فحص الدم بالنسبة لنا، فنزلتُ مع الدكتور كاتسوبي إلى العيادة الخارجية بالطابق الأرضي، وعلمْنا من الدكتور هانا أوكا أن أولئك الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير لا زال عدد كرات الدم البيضاء عندهم منخفضًا، أمَّا أولئك الذين كانوا على بُعدٍ يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة كيلومترات من مركز التفجير فقد كان عدد كرات دمائهم البيضاء متزايدًا.

وسررتُ حين علمتُ أن عدد كرات دمي البيضاء أخذَت تتزايد من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، وربت الدكتور هانا أوكا على كتفي وقال: «إن كل شيء على ما يُرام الآن يا دكتور».

وحين عُدتُ إلى جحرتي أخبرتُ الجميع أن خلايا دمي البيضاء قد تزايَد عددها وحثثتُهم على الذهاب لإجراء الفحص، وقد كان لهذا النبأ وقعٌ طيِّب عندهم، وبينما كنت أتحدث مع من حولي فرِحًا جاءني من يبلغني أن الرئيس إيسونو يريد أن يراني، فذهبتُ إلى مكتبه لأجده قلقًا مرتاعًا، وبادرني بالسؤال دون تحية: «يا دكتور هاتشيا هل أنت بخير؟ إن لون بشرتك لا يبدو طبيعيًّا، هل صحيح أن الناس الذين جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا سيلقَون حتفهم؟ وهل يجب أن نترك المصلحة ونذهب إلى مكانٍ آخر؟

إن العاملين معي ينتابهم القلق ولا يُقبلون على العمل كما يجب، فما رأيك؟» فأجبتُه بقولي: «أيها الرئيس إيسونو، أعتقد أنك منزعج لأنك نُقلتَ إلى هنا من مكانٍ آخر، أمَّا نحن الذين لم نترك هذا المكان منذ وقع الحادث الأليم فقد اعتدنا الظروف التي نعيشها، ولم نعد نشعر بالضيق نحوها، وقد سمعتُ مثلك تمامًا أن الناس لن يستطيعوا الحياة هنا طوال الخمسة والسبعين عامًا القادمة، ولكنه هراء، انظر إليَّ لقد عاصرتُ الحادث من بدايته ولم يبقَ مكان في جسدي دون إصابة، وها أنا ذا أسترد صحتي، ويحدث نفس الشيء لبقية العاملين معي، فلم يمُت منا أحد، وعدم انتظام موظفيك في مزاولة أعمالهم راجع إلى ارتباطاتهم المنزلية وإلى ما يقع على عاتقهم من مسئولياتٍ عائلية عاجلة، وأنت تعلم —كما أعلم أيضًا— أن كل بيت فقد واحدًا أو أكثر من أفراد الأسرة أو لحقت بهم الإصابات، أمَّا الذين قضوا نحبهم فقد كانوا أقرب الناس إلى مركز التفجير، وثمة علاقة بين تأثير القصف والأعراض التي بدَت على المرضى والتي تطورَت على شكل بثور أو صلع، وسنقوم بتشريح جثة أحد هؤلاء المرضى اليوم، ونحن قلقون على حال المرضى وليس على غيرهم ممن جاءوا إلى هيروشيما بعد سقوط القنبلة، وأعترف لك أننا لا نعرف سبب تلك الأعراض كما أننا لا ندري ماذا نفعل».

وحاولتُ أن أطمئن الرئيس إيسونو غير أني لم أنجح في ذلك، فقد استطرد قائلًا: «إذا لم يكن باستطاعتك أن تصنع شيئًا فإن عدد العاملين سوف يتناقص ثم لا نجد بعد ذلك من يقوم بالعمل، وأعتقد أن ما يجب أن نفعله لاستعادة ثقة العاملين هو أن ننقل المصلحة إلى مكانٍ أكثر أمنًا، فربما كانت السموم لا تزال تنتشر في المدينة».

فأجبتُه بحدَّة: «إنني أعلم أن هناك من يقول إن جو المدينة مسمَّم، ولكنها أكذوبة، وهذا المستشفى خير مثال لعدم صحة هذه المعلومات، فلم يمُت منا أحد بعد، ولن يدرك الموت أحدًا».

فأجاب الرئيس إيسونو بلهجةٍ تنضح بالشك: «إنني أعجب لذلك!» فاستطردتُ قائلًا بحماس: «أيها الرئيس، ثِق تمامًا أن كل شيء سيصبح على ما يُرام، وفي نيتي أن ألصق تقريرًا في مكانٍ يستطيع كل فرد أن يقرأه لإزالة مخاوف الناس التي ثارت نتيجة الإشاعات الكاذبة التي انتشرَت في المدينة».
فأجاب الرئيس متعلقًا بالأمل: «حسنًا، أرجوك أن تفعل هذا».

كان الرئيس إيسونو المسكين يحاول أن يصدِّقني بصعوبةٍ بالغة وأفكاره شاردة، فقلتُ له وأنا أغادر المكتب: «دعِ الأمر لي».

عقدتُ العزم على ألا أدخر جهدًا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأن نلصق بيانًا بالنتائج التي نتوصل إليها حتى يصبح بمقدور كل إنسان أن يطلع عليه في صبيحة الغد.

تناولتُ طعام الغداء، وبينما كنتُ أهم بالذهاب إلى حجرتي نادتني السيدة سائيكي العجوز قائلة: «يا دكتور، إن الدكتور كاتسوبي يبحث عنك، لقد تركتُه واقفًا أمام غرفة الأشعة، وتجده في انتظارك هناك».

وجدتُ الدكتور كاتسوبي في حجرة الأشعة مع جثة المريضة المسجَّاة فوق منضدة، وكان يهم بتشريحها، فانحنيتُ احترامًا لروح المتوفاة، واتجهتُ نحو المائدة، وفتحتُ بطن الجثة لأجدها ممتلئة بسائل دموي، فصِحتُ متعجبًا: «إنه أمرٌ غريب يا دكتور كاتسوبي، فهي حالة تهتُّك البنكرياس».

فهز الدكتور كاتسوبي رأسه قائلًا وقد أخذَت يده تجول داخل تجويف البطن: «لا أعتقد أن البنكرياس هو السبب».

كان الطحال ضامرًا، أمَّا الكبد فكان بُنيًّا داكنًا وقد اكتسى ببقعٍ دموية صغيرة، وتمددَت الشعيرات الدموية للمعدة والأمعاء، واكتسَت الأمعاء ببقعٍ مخاطية دموية كالكبد تمامًا، ووجدْنا بين الشريان الحرقفي كميةً كبيرة من السائل الدموي، وكلما حرك الدكتور كاتسوبي يده داخل تجويف البطن انبثق بعض هذا السائل الدموي خارجها.

واتضحَت أسباب ما كانت تعانيه تلك المرأة المسكينة من آلام باطنية، كما اتضحَت أسباب وفاتها؛ فإن هذه البثور التي أخذَت شكل النقاط الدموية الحمراء لم تكن منتشرة على الجلد فقط ولكنها كانت تكسو الأحشاء جميعًا، وتجلَّى ذلك بوضوحٍ بعد فحص معدتها وأمعائها وكبدها وغشاء التجويف البطني.

كما لاحظنا أمرًا آخر؛ فإن الدم لم يتجلط داخل تجويف البطن رغم مرور بعض الوقت على الوفاة، ولعلَّ السبب في ذلك فقدان الدم خاصية التجلط، وذلك يرجع إلى تناقص عدد صفائح الدم بقدر ما يرجع إلى نقص كرات الدم البيضاء، وقد أبديتُ وجهة نظري هذه للدكتور كاتسوبي فوافقني عليها.

لقد علمنا من تشريح جثةٍ واحدة الشيء الكثير، وإذا كنا قد لجأنا إلى التشريح قبل ذلك لما احترنا في تعليل الأعراض التي بدَت على مرضانا، ولم أقتنع يومًا ما بأهمية التشريح مثلما اقتنعتُ به في ذلك الحين.

وقضيتُ بقية النهار في إعداد التقرير، وحين جاء المساء كنت لا أزال أعالج البيانات الخاصة بالعلاقة بين المسافة بين مواقع المرضى ومركز التفجير ونتائج فحص الدم لأقوم بإعداد تقريرٍ مختصَر يتضمن ما شاهدتُه وسمعتُه وما احتوَته سجلَّات المرضى.

ووجدتُ صعوبة في التعبير بالكتابة عما أريد، ومزقتُ الكثير من الأوراق، حتى استطعتُ أخيرًا أن أنجز التقرير في ساعةٍ متأخرة من الليل.

وفيما يلي نص البيان الذي دفعتُ به إلى السيد ميزوجوتشي ورجوتُه أن ينسخه على فرخٍ كبير من الورق يلصق نسخة منه في كل مكان بالمستشفى والمصلحة قبل طلوع النهار:

بيانٌ حول مرض الإشعاع الذري
مستشفى المواصلات بهيروشيما
   
(١)    لم يحدُث تغيُّر في دماء الأشخاص الذين يعملون في المدينة بعد حادث سقوط القنبلة الذرية ممن لم يتواجدوا بها وقت حدوث البيكا، ولم يُكتشَف أي تغيُّر في دماء الأشخاص الذين كانوا موجودين ببدروم مصلحة التليفونات عند حدوث البيكا، ويُرجَى من الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه الحالة الاستمرار في عملهم كالمعتاد.

  
  (٢)    تبيَّن أن الأشخاص الذين يُعانون من نقص في خلايا الدم البيضاء كانوا بالقرب من مركز تفجير القنبلة، وهم موظفو مصلحة التليفونات، وموظفو مكتب التلغراف، والأشخاص الذين كانوا يقيمون في المناطق المجاورة لتلك المصالح، أمَّا الأشخاص الذين كانوا يعملون بمصلحة المواصلات عند وقوع الانفجار فإن خلايا دمهم البيضاء طبيعية وقد تنقص قليلًا عن المعدَّل الطبيعي.

   
(٣)    لا يبدو ثمة علاقة بين الإصابة بالحروق البالغة وتناقُص خلايا الدم البيضاء.

 
   (٤)    لا يحمل فقدان الشعر بالضرورة أية دلالة تُنذر بالخطر.
    
    (٥)    على الأشخاص الذين يعانون من نقص في خلايا الدم الأبيض تجنب الإصابة بالجروح والإجهاد؛ لأن مقاومة أجسامهم ضعيفة.

    (٦)    على أولئك الذين أُصيبوا بجروح أن يتأكدوا من عدم إصابتهم بمرض الإشعاع الذري، أمَّا المصابون فعليهم مداومة العلاج حتى لا تتسرب العدوى إلى مجرى الدم.

    (٧)    وفقًا للتقارير التي نقلَتها السلطات عن جامعة طوكيو؛ لا يبدو أن ثمة إشعاعات يورانيوم متبقية في المدينة.

انتهى.
(توقيع)
متشهيكو هاتشيا
المدير
مستشفى هيروشيما للمواصلات

وجدتُ صعوبةً بالغة في النوم لأن فِراشي كان مبتلًّا بسبب الأمطار، وقضيتُ معظم الليل أطارد البعوض.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:43 am

٢٧ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر.. اليوم العاشر بعد المائتَين يقترب؛٢٤ لذلك نتوقع هطول موجة من الأمطار، وقد أصبح المبنى كله مبتلًّا نظرًا لعدم وجود نوافذ زجاجية تقي الغرف من الأمطار، وكانت المياه تنساب على الأرض وأصبح الفرش مبتلًّا، وزاد البعوض والذباب من ضيقنا ومتاعبنا.

لم أكن قد اغتسلتُ منذ وقع البيكا بسبب ما أعانيه من جروح، وكان جرح فخذي متهتكًا حتى إن اللحم كان بارزًا خارج الجلد مثل ورق الشوجي الممزَّق، وأصبحَت رائحتي كريهة بسبب العرق، حتى أصبحتُ أتأفف من نفسي كلما اقتربَت ذراعاي أو ركبتاي من أنفي، وكان جسدي لزجًا يتصبب عرقًا هذا الصباح، وبعد تناوُل الإفطار طلبتُ من السيدة سائيكي العجوز أن تعاونني على الاغتسال بقطعة من الإسفنج وقليل من الماء الساخن؛ فلم يكن لدَينا صابون للاغتسال، واستغرق تنظيف جسدي من الأوساخ التي علقَت به وقتًا طويلًا وشعرتُ بعده بالراحة.

عندما أخلو إلى نفسي أتجه إلى التفكير في أشياء كثيرة، فها هي ذي السقوف السوداء المحترقة، والجدران التي أتت النيران على طلائها، والنوافذ التي تفتقر إلى الزجاج، بينما قبع «الكونرو» أو الموقد الياباني الصغير الذي يعمل بالفحم النباتي يعلوه إناء الشاي المكسو بالهباب وقد تغطى بطبق بدلًا من غطائه المفقود، وبجواره سلة من الغاب تختلط فيها أطباق الأرز التي كان الجيش يستعملها يومًا ما بأكواب الشاي دون تمييز، فذكَّرَتنني هذه الأشياء بآلام الحرب.

وأخذتُ أفكر من ناحيةٍ أخرى في تلك الحجرة التي تتعدَّد ألوانها ويندر أن يجد المرء مثلها، إن كل ما نستعمله من أشياء يحمل بصمات القنبلة الذرية، فكل إناء أو وعاء كان إما مكسورًا وإما محترقًا، وكانت مائدة الطعام التي نتناول عليها وجباتنا يومًا ما مكتبًا قديمًا متهالكًا، ترك الزجاج المتطاير على سطحه خطوطًا وفجوات، ولا تزال بعض قطع الزجاج مرشوقة في سطحه، فبدا وكأنه مطعَّم بالزجاج بيد عاملٍ محترف، واحتلَّت الصناديق ذات اللون الأصفر التي تحتوي على بعض أعلام الجيش أحد أركان الغرفة، وكانت السيدة سائيكي العجوز تستخدم هذه الأعلام لتجفيف الأطباق ومسْح الأرض، وعلى أحد الأرفف كان هناك ترمس ممتلئ بالماتشا٢٥ أحضره السيد ميزوجوتشي من بيته في سينو منذ يومَين مؤكدًا أن فيتامين «ج» الذي يتوفر في هذا النوع من الشاي يفيدني صحيًّا، وعندما شربتُ بعض الماتشا عادت إلى ذهني ذكرى الأيام الخوالي، وحتى كوب الشاي المكسور أو الهاشي٢٦ القديمة التي استخدمتُها في تقليب الشاي لم تُفقد الماتشا نكهته وشذاه.

تذكرتُ ذلك كله عندما رأيتُ الترمس الفارغ قابعًا فوق الرف، وجعلَتني تلك الذكرى أفكر في بيتي وأكواب الشاي التي كانت لدَي قبل حادث القنبلة، أثارت تلك الذكريات الأشجان في نفسي.

أثناء جولاتي بالمستشفى أمس علمتُ أنه ليس لدَينا تيتانوس نقدِّمه للمرضى ومن بينهم الجرحى الذين كانت جراحهم ملوَّثة، وكيف حدث ذلك! هل قضَت البيكا على جراثيم التيتانوس؟ أم أننا أغفلنا التيتانوس في غمرة الفوضى التي عانينا منها؟ وعقدتُ العزم على أن أجد إجابة لهذه التساؤلات.

لم تتحسن حالة الإسهال التي عانى منها السيد كادويا، واعتقد البعض أنه يعاني من الدوسنطاريا، بينما رأى آخرون أنه يعاني من نزلةٍ قولونية، ومهما كان الأمر فقد كثُر تردُّد السيد كادويا على المرحاض، وعلى الرغم من ذلك كان يتمتع بروحٍ مرحة؛ فكان يمزح مع رفاقه حول مكوثه في المرحاض وقتًا طويلًا، ويبدو أن معاناة الناس من البيكا جعلَت شر البلية عندهم ما يُضحك.

غادر الدكتور ساسادا المستشفى بعد الظهر، ولمَّا لم يكن هناك ما يأخذه معه لم يتطلب الرحيل إعدادًا مسبقًا، والتفت إلى السيد شيوتا قائلًا: «نحن السابقون يا سيد شيوتا».

فابتهج السيد شيوتا عند سماعه كلمة الوداع هذه.

جاءتنا اليوم فرقة الأطباء والممرضات من كلية الطب بأوكاياما على رأسها الدكتور ياداني، وهو زميلٌ قديم كان يدرس معي على يد الأستاذ إينادا، وكان هذا الفريق يتكون من ثمانية ممرضات واثنين من طلبة الطب، وكان بين الممرضات بعض الوجوه المألوفة لي، وعندما علمتُ أن هذه المجموعة ستُقيم معنا لمدة أسبوع، وأنهم أحضروا معهم المجاهر، أحسستُ أن جيشًا كبيرًا جاء لمعاوَنتنا؛ فإن الحصول على هذه المساعدة القيِّمة كان بالنسبة لنا كما يقول المثل الياباني القديم بمثابة «تسليح الشيطان بقضيبٍ من الحديد».

وقد أنساني الابتهاج لرؤيتهم عبارات التحية الواجبة، ورأى السادة سيرا وكيتاءو وميزوجوتشي أن نقدِّم لهم أفضل ما لدَينا من طعام وفِراش، وتنازل الأصحَّاء من الأطباء والعاملين بالمستشفى عن فِراشهم لأعضاء الفريق الذين خصصنا لإقامتهم ملجأً بالقرب من المستشفى، فقد ضاق المستشفى بمن فيه، حتى إننا كنا نستخدم حجرات الكشف وحجرة العمليات بقسم أمراض النساء لإيواء المرضى.

وتخصيص مثل هذا المكان لضيوفنا ليس من اللياقة بمكان، ولكنه كان أفضل ما يمكن عمله لهم، إذا وضعْنا في الاعتبار رجلًا كالدكتور كاتسوبي مثلًا الذي كان يستخدم فِراشًا قديمًا محترقًا بإحدى دورات المياه بالطابق الثاني، وكانت حوائط المرحاض الذي ينام فيه ملطخة بالدماء وتكسو أرضه قِطع الزجاج والأنقاض، وكانت نافذته محطمة، ورغم ذلك ظل قانعًا بفِراشه هذا دون أن يشكو أو يتأفف، أمَّا بقية العاملين بالمستشفى فكانوا ينامون حيثما وجدوا مكانًا خاليًا كل ليلة، إما فوق أحد المكاتب، وإما على أحد الكراسي، ونادرًا ما كان المرء منهم ينام في مكانٍ واحد ليلتَين متتاليتَين.

غير أن مشكلة توفير الفِراش الكافي للضيوف ظلَّت مستعصية على الحل، فلجأنا إلى إدارة المدينة وطلبنا توفير ما يكفي لإيواء خمسة عشر شخصًا، فاستجابوا لنا وأرسلوا إلينا بعض البطاطين والملاءات، والبزات العسكرية، وبذلك توفَّر لدَينا بعض البطاطين التي تزيد عن حاجتنا، فوُزعَت علينا وأصابني منها اثنتان، ثبتُّ واحدة منها على النافذة لتقي فِراشي مياه الأمطار، واستخدمتُ الأخرى كسجادةٍ فرشتُها على الأرض المبتلة بجانب الفِراش.

شغلَتني تلك المسائل اليوم عن القيام بجولاتي المعتادة بالمستشفى حتى حل المساء، وبعد أن خلوتُ إلى نفسي قليلًا بدأتُ أشعر بألمٍ حاد في فخذي الأيمن، ولستُ على يقين من مبعث هذا الألم، فلعلَّها الرطوبة أو الإجهاد الشديد، غير أنني فضلَّتُ أن أخلد للراحة في الفِراش.

وعندما عُدتُ إلى حجرتي دهشتُ حين رأيتُ الدكتور ساسادا هناك فسألتُه متعجبًا: «ماذا تفعل هنا؟ لقد ظننتُ أنك غادرتَ المستشفى!» فأجابني السيد شيوتا ضاحكًا: «لقد غادر المستشفى بالفعل، ألم ترَ السيارة السوداء الأنيقة التي أخذَته من هنا؟» فسألته: «إذن ماذا حدث؟» فانفجر الدكتور ساسادا والسيد شيوتا في الضحك وعلمتُ أطراف القصة خلال الفترات التي توقَّفا فيها عن الضحك ليلتقطا أنفاسهما، فقد تولى أحد الأشخاص مسئولية تأجير سيارة لتنقل الدكتور ساسادا إلى منزله بصورةٍ لائقة، وما كادت السيارة تقترب من حدود مدينة هيروشيما في طريقها إلى بلدته حتى أوقفها رجال الشرطة العسكرية عند أحد الجسور، وتم ضبط السيارة وقائدها، فقد اكتشفوا أنها كانت تابعة للبحرية وأن السائق سرقها واستخدمها كسيارة أجرة.

وبعد اعتقال السائق تُرِك الدكتور ساسادا على الجسر، ولم يكن أمامه مفر من العودة إلى المستشفى. ورغم جو المرح الذي أحاط بالقصة فقد شعرتُ بالأسى لما أصاب الدكتور ساسادا من المتاعب، غير أني سُررتُ لرؤيته مرةً أخرى.

كنا أقل ضيقًا بالبعوض هذه الليلة، فقد عثر البعض على قطعة من خشب الكافور أحرقناها في أوعيةٍ خاصة حول المستشفى، وحالت البطانيات التي استخدمناها بين المطر وفِراشنا، وعندما أويتُ إلى الفِراش كانت فخذي تؤلمني وما هي لحظات حتى أدركني النعاس.

وفي ساعةٍ متأخرة من الليل استيقظتُ من النوم على وقع أقدام شخص يصعد الدرج ويتحدث بصوتٍ مرتفع محدِثًا جلبةً مزعجة، كان هذا الشخص هو الدكتور تاماجاوا أستاذ الباثولوجي في كلية الطب بهيروشيما، واستطعتُ أن أميز صوته قبل أن يصل إلى الغرفة، وكان زميلًا لي بكلية الطب بأوكاياما، وأصبحْنا منذ ذلك الحين صديقَين حميمَين، وقد كنا نتنافس معًا في الثرثرة وتبادُل الأحاديث لأن كلَينا مغرم بالمناقشات.

وما كاد الدكتور تاماجاوا يلتقط أنفاسه حتى وجَّه إليَّ الحديث دون أن نتبادل التحية: «هاتشيا، هل تعلم أنني ذهبتُ إلى إدارة المحافظة اليوم وعلمتُ من أولئك الحمقى أنهم لن يسمحوا بتشريح الجثث في هيروشيما؟ يا لهم من أغبياء عتاة!» فقلتُ له: «لقد تأخرتَ كثيرًا يا تاماجاوا».

وطفق الدكتور تاماجاوا يعرض خطته فقال: «يا لها من سياسة حمقاء أيمنعون تشريح الجثث؟ ألا تعتقد أن هذا التصرف يدل على الغباء؟ كيف نستطيع الوصول إلى حقيقة ما يعانيه الناس من أمراض إذا لم نلجأ إلى التشريح؟ ألا توافقني على ذلك؟» فقلتُ له: «اهدأ بحق السماء، إنني أوافقك على رأيك بكل تأكيد، ووجودك معنا منحة من السماء، وترحيبنا بك يفوق ترحيبنا بأي إنسانٍ آخر».

كان الوقت متأخرًا فدعوتُه إلى النوم في فِراشي.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:44 am

٢٨ أغسطس ١٩٤٥م

السماء ملبدة بالغيوم.. كان البيان الذي أصدرتُه بالأمس بخلاصة تجاربنا مع مرض الإشعاع الذري بالغ الأثر، فقد جاءتنا منذ الصباح الباكر مجموعة من الصحفيين وحاولتُ أن أجيب على أسئلتهم بقدر المستطاع حول المرضى، والأعراض التي يشكون منها وتشخيص تلك الأعراض، وخططنا التي رسمناها للعناية بهم في المستقبل.
وزارني بعد ذلك صديقي الحميم السيد ياماشيتا الذي كان يعمل بمصلحة البريد قبل البيكا، وكان معروفًا بذوقه الأدبي الرفيع وبمقدرته الفائقة على كتابة «الواكا»٢٧ وكثيرًا ما كان يبدي ملاحظاتٍ قيمة حول ما كنتُ أكتب من مقالات في إحدى المجلات المحلية التي كانت تصدر عن مصلحة المواصلات تحت اسم «هيروشيما تي يو»، ويوميات طبية كنتُ أنشرها تحت اسم «داروما طوطورا»٢٨ ويمكنك أن تتصور مبلغ سعادتي عندما رأيتُ هذا الصديق الأديب القديم.

وبينما كنتُ أُعد له كوبًا من الماتشا، أخذتُ أقص عليه ما عانيتُه من تجارب شخصية وغير شخصية سجلتُها منذ كان حادث سقوط القنبلة الذرية، وبعد أن شرب السيد ياماشيتا كوب الماتشا في رشفاتٍ سريعة شرد ذهنه قليلًا ثم وجَّه إليَّ سؤالا عما أكتبه، فأجبتُه بقولي: «إنك تعلم أن الكتابة بالنسبة لي ليست أمرًا سهلًا، فما زلتُ أعاني من ذلك، ربما زادت معاناتي، فخبرتي بالكتابة محدودة، ولاريب أنه ينقصني الكثير، وأحيانًا أكتب يومياتي أولًا بأول، وأحيانًا أخرى أكتبها كلما سنحَت لي الفرصة بعد مرور بضعة أيام، هل تكتب شيئًا الآن يا سيد ياماشيتا؟» فردَّ قائلًا: «لقد كنتُ أكتب يومياتي بانتظام حتى حادث البيكا، ولكني توقفتُ عن الكتابة منذ الحادث، فقد مات ولدي ياشوشي، وتحطم بيتي؛ ولذلك أعيش حياة يأس وقلق».

فسألتُه: «هل تسمح بإلقاء نظرة على يومياتك فلا ريب أنها ستساعدني كثيرًا في متابعة الحوادث السابقة على سقوط القنبلة، وأريد أن أعرف على سبيل المثال ما كان يجري في أوشيتا».

فأجابني برقَّة: «يسرني أن أطلعك على يومياتي وسأحضرها لك خلال أيام».

وبعد أن عاد السيد ياماشيتا أدراجه انصرفتُ إلى العمل، فقد خفف من أعبائي وصول الفريق الطبي من كلية الطب بأوكاياما الذين اضطلعوا بمسئولية متابعة حالة المرضى، وتفرغتُ بذلك للإدارة، وتركتُ مهمة الخدمة الطبية لضيوفنا.

اتفق الدكتور كاتسوبي مع الدكتور ياداني على أن يختص طالبا الطب باستطلاع تاريخ المرضى والكشف الطبي وفحوص الدم ومتابعة اختبارات المعمل، وقد برهن هذان الطالبان على كفايتهما ومقدرتهما، وكان أحدهما ابن الأستاذ هاتا الأستاذ بجامعة أوكاياما، أمَّا الآخر فكان نجل السيد أوجاوا الكاتب المشهور.

أما ممرضات أوكاياما فكُنَّ متعاونات مقبلات على العمل بالاشتراك مع ممرضاتنا، وأصبح المستشفى بفضلهن قريب الشبه بالمستشفيات، فقد كان الأطباء والممرضات الذين ضمهم الفريق يرتدون ملابس بيضاء ناصعة، بينما كانت ملابسنا ممزقةً متسخة.

لقي الدكتور تاماجاوا ترحيب الجميع، ولكن قدومه جعلنا نواجه مشكلة تدبير المكان الذي يمكن استخدامه كمشرحة يزاول فيها عمله، فلم يكن هناك مكانٌ خالٍ بالمستشفى الذي يكتظ بمن فيه، وبقي مكانٌ واحد لا مناص من التفكير فيه؛ هو كشكٌ خشبي تركه الجنود بالقرب من الباب الخارجي للمستشفى، فصحبتُ الدكتور تاماجاوا إلى هناك، وحين رأى المكان أبدى ارتياحه وأكَّد صلاحيته للعمل كمشرحة، ودون أن يضيع وقتًا عمل الدكتور تاماجاوا على تحويل الكشك إلى مشرحة ومعمل للفحص الباثولوجي، وحوَّل بعض النوافذ والألواح الخشبية إلى مائدة للتشريح، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تحول هذا الكشك إلى معمل لم أرَ له مثيلًا من قبل، ولم يعد ثمة ما يضايق الدكتور تاماجاوا سوى عدم وجود مادة للدراسة.

وبعد تناوُل طعام الغداء تبينتُ أن رصيدنا من السجاير يوشك على النفاد، وسألتُ السيد شيوتا عما إذا كان باستطاعته حل هذه المشكلة، فأجابني بقوله: «لا عليك، اترك الأمر لي فسأحضر لك كل ما تحتاجه منها».

وشعرتُ بالارتياح، ووزعتُ ما تبقَّى لدَينا من السجاير على مدمني التدخين بما فيهم الدكتور تاماجاوا الذي ارتسمَت على وجهه علامات السرور، فلم يكن باستطاعته متابعة التدخين بنفس القدر الذي اعتاده من قبلُ نتيجة ارتفاع أسعار السجاير ارتفاعًا جنونيًّا؛ ففي مدينة هيروشيما المدمرة كانت النقود أقل قيمة من السجاير، واستُخدمَت السجاير كوسيلة للتبادل في المعاملات.

مرَّ يومان دون أن أقوم بجولات في المستشفى، فقمتُ اليوم بإحدى الجولات، وكان البيان الذي أصدرتُه حول مرض الإشعاع الذري معلقًا في مكانٍ بارز أمام مدخل مبنى المصلحة.

أمَّا عنابر المرضى فكانت نظيفةً مرتبة، وتفقدتُ أحوال المرضى فوجدتُ أن السيد أونومي المريض الذي يعاني من البثور الدموية والتهاب الحلق وسقوط الشرج قد أصبح في حالةٍ يُرثى لها، متورم الوجه، وعاد الجرح الصغير بجوار أذنه ينزف من جديد بعد أن كان قد الْتأم، فأدركتُ أنه على شفا الموت.

أمَّا الفتاة الجميلة الشابة التي كان جسدها محترقًا فما زالت على حالها، ولم تظهر عليها أعراض الصلع أو البثور، وكان جيرانها بالعنبر يبذلون أقصى جهدهم لخدمتها.

ووجدتُ أن ثمة مرضى جددًا قد أُدخِلوا إلى المستشفى يشكون من البثور الدموية، غير أن حالتهم لا تبلغ حد السوء.

غادرتُ مبنى المصلحة إلى المستشفى، واستنتجتُ من تلك الجولة أن عدد المرضى قد تناقص خلال اليومين الماضيَين رغم أن عدد المقيمين بالمستشفى لم ينقص بسبب عائلات المرضى التي كانت تلازمهم، وكان بينهم عائلتا ياسوئي وأواتاني اللتان أعرفهما منذ سنوات.

وقبل أن أغادر العنابر اكتشفتُ حالةً آلمتني كثيرًا؛ فبعد وفاة الدكتور تشودو في الثالث عشر من هذا الشهر متأثرًا بحروقه ظلَّت زوجته وطفلته في المستشفى، ولم تكن تبدو على السيدة تشودو أي علامات المرض، كما لم تلحق بها أي إصابات وبدَت عليها علامات الصحة، ولكني دهشتُ حين رأيتُها اليوم راقدة في الفِراش، فسألتُها عن شكواها فأجابت بصوتٍ خافِت —بلهجة أهل أوكيناوا أو كيوشو، لستُ أدري— بما يفيد أنها تعاني من ضيق في التنفس، وهبوط في النبض، فحاولتُ أن أواسيها مؤكدًا لها أن كل شيء سيصبح على ما يُرام، وأن عليها أن تكون رابطة الجأش من أجل طفلتها.

ويبدو أن ورود ذكر الطفلة على لساني فجَّر عندها جرحًا دفينًا، فالتفتَت نحو الطفلة المسكينة التي كانت ترقد بين أحضانها وأخذَت تبكي، وفتَّت بكاء هذه المرأة المسكينة قلبي، تُرى من يعتني بطفلتها إذا أصابها مكروه؟ وتركتُ المكان حتى أُهدِّئ من روعي، ولكن أحدًا لم يُلاحِظ النقاط الدموية الداكنة التي أخذَت تنتشر على صدر المرأة المسكينة.

أضفى الدكتور تاماجاوا بروحه المرحة جوًّا من البِشر في المستشفى وحجرة الطعام، وقد استطاع أن يجعل السعادة ترتسم على وجوه من حوله، حتى طعامنا بدا حلو المذاق بالنسبة له، وكثيرًا ما كان ينهاني عن التبذير إلى هذه الدرجة، وبعد تناوُل طعام العشاء تناول أطراف الحديث وراح يخبرنا عن المشاكل التي واجهَته في أوكاياما بعد حادث القنبلة، وكانت الطريقة التي يقص بها حكاياته والفكاهات التي تتضمنها تلك القصص تبعث البِشر والمرح في نفوسنا، وحدَّثنا عن نوادر كثيرة طريفة صادفَته حتى غرق الجميع في الضحك، ولم تكن تلك النوادر غربية عليَّ، فقد سمعتُها منه مرارًا من قبل، ولكنها كانت جديدة على رفاقي؛ ولذلك لزمتُ الصمت طوال الحديث، وما لبث رفاقي أن نسوا أن الدكتور تاماجاوا أستاذ له مكانته وراحوا يتحدثون معه دون تكلُّف.

ساءت حالة زوجتي هذا المساء وبلغَت حرارتها ٤٠٫٥ درجة، وكانت تشكو من ضيق في التنفس، وبينما كانت الآنسة كادو تناولني سماعة الكشف وأخذتُ أتفحص صدرها تظاهرتُ بعدم الاهتمام، وقلتُ لها: «يبدو أنكِ أُصبتِ بنزلة بردٍ مرةً أخرى، لقد توقعتُ ذلك أمس عندما رأيتُك تنامين مع الآنسة كادو في فِراشٍ واحد».

وبينما كنتُ أستمع إلى صدرها أحسستُ بوجود التهاب في الرئة اليمنى، فأسرعتُ بالبحث عن الدكتور هينوئي رئيس الصيادلة لأسأله عما إذا كان لديه دواء التريونون أو أقراص السلفاميد، وقد أحسستُ بالراحة عندما علمتُ منه أن لدَينا رصيدًا من هذا الدواء، وعندما عُدتُ إلى الحجرة طلبتُ من الآنسة كادو أن تعاونني في نقل زوجتي إلى حجرة الدكتور ياتاني حتى تكون بمنأى عن الرياح والأمطار.

كان يجب عليَّ أن أهتم بحالة السعال والبصاق التي كانت تعاني منها، ولكن نظرًا لأنها لم تكن تشكو ألمًا فقد تغاضيتُ عن تلك الأعراض المبكرة للالتهاب الرئوي.

تُرى هل يمكن أن تنجو زوجتي من الالتهاب الرئوي بعد أن عاشت مأساة البيكا؟ ولماذا لم أوليها عنايةً أكبر من قبل؟ كيف أستطيع الحياة وحيدًا؟ وكيف أواجه عائلتي إذا حدث شيء لزوجتي؟

قمتُ بترتيب العلاج لزوجتي يائيكو وطلبتُ من الآنسة كادو أن تحقنها بالجلوكوز والتريونون.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:45 am

٢٩ أغسطس ١٩٤٥م

طقسٌ غائم تتخلله بعض فترات من الصفاء.

لم أستطع النوم خلال الليل بسبب القلق على زوجتي، تُرى لماذا لم أتنبه في الصباح إلى الرطوبة التي سببها المطر المتواصل والبرودة التي تنذر باقتراب الخريف؟ إذا لم تُصَب زوجتي بالرجفة ولم تبتل فربما نجت من الالتهاب الرئوي.

يجب أن أفكر في أمر بقية المرضى أيضًا فقد يحدث لهم نفس الشيء، فليس بينهم من يستطيع جسمانيًّا تفادي الإصابة بالالتهاب الرئوي، لقد وزَّعْنا حقًّا البزات العسكرية الصوفية الثقيلة على المرضى من النساء، وأعطينا البزات الكاكية الخفيفة للمرضى من الرجال ولكن هذا لا يكفي، لا بد من الحصول على عددٍ آخر من البطاطين يكفي لتدفئة جميع الموجودين بالمستشفى.

وأخذتُ أفكر في طلب معونةٍ أخرى وقد وصلَتنا كمية من أحذية الجيش وزَّعناها على المرضى من الرجال، بدا الجميع قانعين، ولكن النساء ما لبثن أن جأرن بالشكوى لأنهن لم ينلن منها شيئًا، وواصلن الاحتجاج حتى وعدتُهن بأن تكون معونة الأحذية التالية من نصيبهن، وعجبتُ لطمع الناس وتطلعهم إلى المساواة مهما كان الأساس الذي تقوم عليه تلك المساواة، فالنساء يعلمن أن أحذية الجيش قد لا تناسبهن، وعندما قلنا لهن ذلك خلال المناقشات التي دارت معهن، قلن إنهن يُردن نصيبهن من الأحذية ليأخذْنها معهن لأزواجهن وأطفالهن أو يقُمن بإهدائها لأقاربهن، وقد ضايقني هذا الموقف لأن أحدًا لم يكن يدفع أجر الإقامة أو الطعام أو العلاج.

وعندما وزَّعنا الملابس عليهم راعَينا مبدأ المساواة ولكن هذا لم يكن كافيًا، فالنساء يُردن نصيبهن من أحذية الجيش كالرجال تمامًا.

وكأن السماء استجابت لدعائي الصامت، فقد تلقَّينا هذا الصباح شحنةً جديدة من المعونة العسكرية، وسعدتُ حين علمتُ أنها تتضمن الناموسيات والبطاطين والأحذية والشباشب، وتأكدتُ من توزيع هذه الأخيرة على النساء.

لم تكن هناك بطاطين كافية لكل شخص؛ لذلك طلبتُ كميةً أخرى منها ووزعتُها على المرضى.

وعند الظهر سمعْنا أن وثيقة الاستسلام بلا قيد أو شرط ستُوقَّع في أوائل سبتمبر على ظهر البارجة ميسوري في خليج طوكيو، فسألتُ من نقل إليَّ النبأ: «هل سيحضر رئيس الوزراء وأعضاء مجلس الوزراء توقيع الوثيقة أم أن الإمبراطور سيوقعها بمفرده؟»

وقال أحدهم متعجبًا: «تُرى ماذا يحدث لو أُخِذ الإمبراطور أسيرًا؟» فانزعجَت السيدة سائيكي العجوز، واندفعَت تقول: «لا تقل مثل هذا الشيء الفظيع، إن الإمبراطور لم يرتكب جُرمًا».

وقال آخر: «يُشاع أن الإمبراطور سيؤخَذ إلى ريوكيوس وسيظل حبيسًا هناك».

فقالت السيدة سائيكي العجوز بنبراتٍ حزينة وهي تضع خدها فوق راحتها وتشير كعادتها بإصبع يدها تجاه السن اليتيمة التي بقيَت في مقدمة فمها: «إنهم يريدون أن يأخذوه بعيدًا تمامًا كما فعلوا في سالف الزمان».

ربما كان هذا الأمر مستحيلًا، وفكرتُ في ذلك وأنا أستمع إلى المناقشات التي تدور بين مَن حولي، ولكن ما هو المستحيل؟ إننا نستطيع الرجوع إلى التاريخ لنبحث عن أمثلةٍ مشابهة: لقد قضى نابليون أيامه الأخيرة في سانت هيلانة، كما عُوقِب القياصرة والأباطرة بالنفي من بلادهم حين حلَّت بهم الهزيمة، إن كل ما يجب أن نفعله هو أن ننتظر ونترقب، فكل شيء ممكن أن يحدث لأمةٍ نزلَت بها الهزيمة.

وصلَّيتُ من أجل الإمبراطور، من أجل بقائه على أرض الوطن موقنًا أن أسره فوق تلك البارجة سيكون نهاية كل شيء.

وأخذتُ أتفقد المرضى بالمستشفى حتى أخلص ذهني من عناء هذه الأفكار السوداء وأنسى للحظاتٍ قلقي على حالة زوجتي، كان المرضى سعداء بالمعونات التي وُزعَت عليهم، خاصة النساء اللاتي حصلن الآن على نصيبهن من الأحذية تمامًا كالرجال، وانحنَت بعضهن أمامي شاكرات، ولمَّا كانت حالتي النفسية لا تسمح بتقبُّل ثنائهن ومشاركتهن الابتهاج فقد كنتُ أردُّ عليهن بحدَّة وخشونة قائلًا: «هذه الأشياء قدمتُها لكُنَّ إدارة المدينة فتوجَّهوا بالشكر إليها وليس لي».

ازداد عدد المرضى الذين بلغَت أحوالهم حد الخطورة، وكانوا جميعًا يعانون من شيءٍ واحد هو البثور الدموية، ومات السيد أونومي بعد نزيفٍ حاد من أنفه وشرجه، كما ماتت الآنسة ني شي التي دخلَت المستشفى منذ يومَين، وكانت لحظاتها الأخيرة مليئة بالأنين والألم.

وانتهَت جولتي التفقدية دون أن أرى السيدة تشودو، وأصابني الجزع حين علمتُ أنها ماتت، لم أصدِّق ذلك فقد رأيتُها في الممر هذا الصباح، تُرى ماذا يمكن أن يحدث لطفلتها؟

كان الدكتور تاماجاوا يتأهب للعمل، سِرتُ الهوينى نحو حجرة المشرحة، فراعني منظر آلاف الذباب التي كانت تطير كلما أحسَّت بموضع قدم لتستقر فوق الأرض من جديد، وكان الدكتور تاماجاوا منهمكًا في العمل يعاونه السيد أوجاوا طالب الطب بجامعة أوكاياما في تسجيل الملاحظات، ووقفتُ لحظةً أراقب الدكتور تاماجاوا وهو يعمل بخفة ومهارة لعلَّه يستطيع أن يتوصل إلى سر وفاة مرضانا، فإذا استطاع التوصل إلى هذا السر فقد يكون بمقدورنا أن ننقذ المرضى الآخرين من هذا المصير.

وعقدتُ العزم على مقارنة نتائج التشريح بالأعراض الإكلينيكية، فعُدتُ إلى المستشفى لدراسة سجلات هؤلاء المرضى الذين تُشرَّح جثثهم.

لقد ماتت الآنسة كوباياشي نتيجة نزيفٍ باطني حاد، أمَّا السيد أونومي فقد مات نتيجة نزيفٍ حاد من الأنف والشرج، تُرى هل كان النزيف أيضًا السبب في وفاة السيدة تشودو والآنسة ني شي؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف حدث هذا النزيف؟

وكان سجل الآنسة ني شي يتلخص فيما يلي:
ني شي إيميكو، أنثى، العمر ١٦ عامًا، تم الكشف عليها لأول مرة في ٢٨ أغسطس ١٩٤٥م، تشكو من الإعياء الشديد والبثور والأرق، وعند سقوط القنبلة كانت بالطابق الثاني من مبنى مكتب التليفونات المركزي، وهو مشيد بالخرسانة المسلحة، ويقع على بعد ٥٠٠ متر من مركز التفجير، الأثر المباشر للإصابة: عدم وضوح الرؤية والضعف العام والقيء المستمر، ثم عانت في الأيام الثلاثة التالية من الغثيان والإعياء، وتماثلَت للشفاء تدريجيًّا، غير أنها لم تبرأ تمامًا، وعادت لممارسة الأعمال الخفيفة رغم إصابتها بالإسهال والضعف العام، وظهرَت عليها أعراض الصلع الحاد في ٢٣ أغسطس ١٩٤٥م وزادت وطأة حالة الإعياء التي أصابتها كما زادت حدة آلام البطن خلال ليلة ٢٧ أغسطس، حيث لوحظَت البثور لأول مرة.

نتيجة الكشف:
متوسطة القامة، التغذية سيئة، لون الجلد شاحب ما بين الأسود والبني، جاف، عددٌ كبير من البثور على الصدر والأطراف، تبدو على الوجه علامات الاحتضار، السطح الداخلي لجفون العين يشير إلى وجود أنيميا حادة، الفم طبيعي من الداخل، الأنفاس واهنة مع عدم تردُّد صدى الطرق على تجويف الرئتَين، يبدو القلب متضخمًا، النبض ضعيف وسريع بمعدَّل ١٣٠ في الدقيقة، التنفس ٣٦، درجة حرارة الجسم ٤١، تقلُّص، ماتت في ٢٩ أغسطس ١٩٤٥م نتيجة ضيقٍ حاد في التنفس.

وحالة هذه الفتاة تمثِّل النموذج الشائع لحالة جميع المرضى الذين ماتوا خلال اليومين أو الثلاثة أيام الماضية، وكانوا جميعًا على مسافةٍ أقل من ألف متر من موقع التفجير عندما سقطَت القنبلة، وبناءً على ذلك أصبح واضحًا تمامًا أن المرضى الذين كانوا أكثر قُربًا من موقع التفجير أكثر تعرُّضًا للوفاة من غيرهم.

كنت متلهفًا لمعرفة نتيجة تشريح جثة السيدة تشودو والآنسة ني شي والسيد أونومي، فعُدتُ إلى غرفة التشريح قبَيل المساء لأطَّلع على ما توصَّل إليه الدكتور تاماجاوا من نتائج، ولم أعرف منه سوى القليل لأن الأمر يتطلب عدة أيام حتى يستكمل التحاليل ويصل إلى نتائج نهائية، كما أن عدم وجود الكهرباء يجعل نتيجة التحليل تستغرق وقتًا طويلًا، وحتى أيسِّر له سبيل العمل ليلًا بحثتُ في المستشفى عن شموع وطلبتُ من السيد سيرا أن يبذل قصارى جهده لتوفير مصدر للإنارة بالكهرباء (وكنتُ قد لاحظتُ أن الكهرباء قد وصلَت أخيرًا إلى نيجتسو وأوشيتا على الضفَّة الأخرى من النهر).

لم تتغيَّر الحالة العامة لزوجتي يائيكو، وكنتُ قد وضعتُ فوقها ناموسيةً تقيها عتو الرياح، وصرخَت عندما حقنتُها بالجلوكوز والتريونون على ضوء شمعة، وصممتُ بعد ذلك أن أطلب من الآنسة كادو أن تتولى حقنها؛ لأن الطبيب لا يُحسن عادة علاج أفراد أسرته.

كنتُ والدكتور ساسادا والسيد شيوتا نجلس حول المائدة بعد تناوُل العشاء وقد لفَّنا الحزن، فقد بعثَت حوادث الوفاة اليوم الاكتئاب في نفوسنا، ولكن وفاة السيدة تشودو كانت أشد وقعًا علينا، وما زال منظرها حين رأيتُها بالممر ماثلًا في ذهني، وقلتُ هامسًا: «تُرى ماذا يحدث لطفلتها؟»، فأجاب السيد شيوتا: «ألم تسمع أن السيدة فوجي زوجة طبيب الأسنان ستتبنى الطفلة؟» وكنتُ قد نسيتُ أمر السيدة فوجي، وجعلني النبأ الذي سمعتُه من السيد شيوتا أحس ببعض الراحة؛ فإن التبني قد يوفِّر حلًّا لمشكلة الطفلة وللسيدة فوجي على السواء، فقد فقدَت هذه السيدة المسكينة طفلًا وُلِد بعد البيكا بوقتٍ قليل، كما أن ابنتها الكبرى ماتت محترقة.

وفي ساعةٍ متأخرة من الليل استيقظتُ على صوت الدكتور تاماجاوا الصاخب كعادته عندما عاد من المشرحة لينام، وقال دون أن يُلقي عليَّ تحية المساء: «سأحتاج إلى عددٍ أكبر من زجاجات العينات يا هاتشيا، فثمة حالة وفاة الليلة».

فوعدتُه بأن أبذل قصارى جهدي لتوفير ما يطلبه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:46 am

٣٠ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ ملبَّد بالغيوم ممطر بين الحين والآخر.

أُحرقَت جثة السيدة تشودو خلال الليل، ولَمضّا كان الجو ينذر بالمطر فقد ذهبتُ في الصباح الباكر إلى المحرقة لأجمع رمادها وبقايا عظامها، وقد جرَت العادة على استخدام قارورةٍ خاصة لهذا الغرض، وهو ما لم يكن متوفرًا لدَينا، فجمعتُ الرماد والعظام في صندوق من الكرتون حصلتُ عليه من الصيدلية، وجمعتُ عظمةً من كلٍّ من الرأس والوجه والصدر والأطراف ووضعتُها في الصندوق وكتبتُ اسمها فوق بطاقةٍ ثبتُّها عليه وسلمتُه لمكتب العمل.

حاولتُ تدبير بعض الأواني الخاصة بعينات التشريح تلبية لطلب الدكتور تاماجاوا، وتذكرتُ البطاريات الزجاجية القديمة (التي تُستخدَم في التليفونات) المكدَّسة قُرب مدخل مصلحة المواصلات، فذهبتُ إلى هناك وانتقيتُ نحو عشرٍ منها، وتحولَت هذه البطاريات إلي آنية للعينات بعد أن أفرغناها من أصابع الكربون وغسلناها جيدًا لتنظيفها مما علق بها من حامض الكبريتيك، ثم جمعتُ من الصيدلية كل الزجاجات الخالية التي كان باستطاعة الصيدلي الاستغناء عنها.

وفي نفس الوقت بحث الدكتور تاماجاوا بين أنقاض المنازل حتى عثر على آنيةٍ كبيرة (هيباتشي) تكفي لاحتواء عينات ثلاث جثث.

وظننتُ أن الوقت أصبح ملائمًا للوقوف على نتائج التشريح، فسألتُ الدكتور تاماجاوا عما إذا كان باستطاعتي أن أُلقي نظرة على ما دوَّنه من ملاحظات، فأجاب بعد لحظات من التفكير كعادة كبار العلماء: «من الأفضل أن تنتظر حتى تتوفر لدَي الفرصة لدراسة خمس أو ست حالات».

ولم تُفلح محاولاتي في دَفعه لتغيير موقفه.

آلمَتني فخذي بضعة أيام، ولكن جراح وجهي وكتفي وظهري الْتأمَت تمامًا، ولم تعُد تسبب لي المتاعب، غير أن جرح فخذي يؤلمني بشدة رغم أنه في طريقه إلى الالتئام، وأدركتُ أن الطقس الرطب له علاقة بهذه الحالة، كما أن نشاطي الزائد عن الحد مسئول عن هذه الآلام، وقد عانيتُ من جرح فخذي هذا الصباح بعد أن بذلتُ جهدًا محدودًا، فصممتُ على التزام الفِراش، ولما كنتُ لا أريد أن أبقى بلا عمل فقد أرسلتُ إلى الدكتور كاتسوبي طالبًا بعض عينات الدم حتى أقوم بفحصها بينما يُتاح لفخذي قسط من الراحة.

وافق الدكتور كاتسوبي على طلبي وأرسل لي بعض الشرائح التي تحمل عينات الدم وأحد المجهرَين اللذَين حصل عليهما المستشفى، فثبتُّ المجهر فوق المنضدة أمام النافذة وجلستُ لمزاولة الفحص، وكنتُ أظن أنه من السهل الجلوس في الفِراش واستخدام المجهر، غير أنني عدلتُ عن الفكرة، فقد مضى وقتٌ طويل لم أستخدم خلاله مجهرًا؛ ولذلك اختلطَت الأشياء أمام ناظري، ووجدتُني عاجزًا عن التركيز، ولا أدل على ذلك من أن فحص ثلاث عينات فقط استغرق مني ثلاث ساعاتٍ كاملة، وكانت هذه العينات قد أُخذَت من مرضى بلغَت حالاتهم حد الخطورة، وقد وجدتُ في هذه العينات الثلاث أن عدد كرات الدم البيضاء يتراوح بين ٧٠ و٨٠ كرة، وحتى هذه لم تكن تبدو طبيعية، وبدت كرات الدم الحمراء طبيعية في البداية، ولكن حين دققتُ النظر اكتشفتُ أنه تبدو عليها أعراض نموٍّ غير طبيعي، ولم أعثر على نواةٍ لخلايا الدم البيضاء.

لقد كان تناقُص عدد كرات الدم البيضاء متوقَّعًا، ولكني حتى الآن لم أكن أدري أن كرات الدم الحمراء تتأثر هي الأخرى بالمرض واستنتجتُ أن الدورة الدموية كلها تتأثر بالمرض بشكلٍ يؤدي إلى التأثير على النخاع والطحال والغدة الليمفاوية والكبد حيث يتم تكوين كرات الدم، وكلما نظرتُ إلى العينات عبر المجهر كلما وجدتُ صعوبةً بالغة في ملاحظة كرات الدم، فقد كان بصري عاجزًا عن التمييز بين المرئيات، واضطُررتُ إلى النظر عبر النافذة بعض الوقت حتى تُزايلني هذه الحالة، فكنت كالولد الذي يكره الاستذكار وينشغل عنه باللهو فلم أستطع الانكباب على العمل وقتًا طويلًا، وكان ذهني يشرد دائمًا فيما يحيط بي من أشياء، فإذا مر شخص مثلًا التمستُ العذر لنفسي وتجاذبتُ معه أطراف الحديث.

وما هي إلا لحظات حتى فقدتُ الصبر على العمل وتركتُ المجهر فوق المائدة، وعجبتُ لِمَا أصابني، إنني أرى الأشياء جيدًا ولكني لا أستطيع التمييز بينها، وحاولتُ أن أُلقي المسئولية على عيني ولكن ذهني كان يتحمل نصيبًا كبيرًا من المسئولية، فلم يُصقَل بالاطلاع لفترةٍ طويلة، ولُمتُ نفسي للاحتفاظ بالمجهر بينما هناك من يستطيع استخدامه خيرًا مني.

واستغرقتُ في التفكير فيما أصابني منذ يوم البيكا، فخشيتُ أن أكون قد فقدتُ الحواس الخمس، وتذكرتُ أني لم أشعر بآلام الجروح التي أصابتني يومئذٍ إلا عندما خيطت، وأكد جميع زُوار المستشفى أن المنطقة كلها كانت تفوح بها رائحةٌ كريهة، فأدهشني ذلك لأنني لم أشم تلك الرائحة، ويبدو أن حاسة الشم عندي كانت مفقودة، فلم أتأثر بالأوساخ والأقذار المحيطة بي ولا بالذباب والبعوض الذي كنتُ أتضايق منه قبل الحادث، كما أن حاسة الذوق عندي أصبحَت أيضًا على قدرٍ من الضعف، غير أنها عادت إلى حالتها الطبيعة فيما بعد، كما أن أذني استعادت قدرتها على السمع لأنني لم أعد أجد صعوبة في فهم ما كان يقال لي، وأحيانًا كانت حاسة السمع عندي تبدو أكثر حدة، ولعلَّ هناك حاسةً سادسة جعلتني أواصل العمل رغم تعطُّل حواسي الأخرى مثل التمييز بين المرئيات.

وعند حلول المساء جاء السيد ميزوجوتشي إلى الحجرة وقد بدَت على وجهه علامات الانزعاج، فسألتُه عما وراءه من أخبارٍ ملتمسًا في ذلك الفرصة للتخلص من المجهر ومن أفكاري المضطربة، فذكر لي أنه لا يستطيع أن يستمر في أداء واجبه كمسئول عن توفير الإمدادات للمستشفى والمرضى ما لم يستطع الحصول على سيارةٍ خاصة بالمستشفى، وذكر لي أن هناك سيارات تقف أمام المستشفى تملكها بعض المصالح الحكومية الأخرى ولكنهم يرفضون إعارتها لنا إلا إذا حصلوا على نسبةٍ معينة من الإمدادات الخاصة بالمستشفى، وقال لي إن جانبًا كبيرًا من معونة الجيش لا تزال خارج حدود المدينة ولا تتوافر وسيلة لنقلها، وستتعرض للتلف بسبب الأمطار أو تذهب إلى جيوب الانتهازيين الذين يثرون على حساب معاناة الناس.

وأسِفتُ لهذه الأخبار، فمثل هذا المسلك يُضيف عناءً كبيرًا إلى ما يُعانيه شعبٌ مُني بالهزيمة، فالجشعون والانتهازيون أصبحوا الآن يحكمون المدينة، ولم يسبق لنا أن شهدنا مثل هذه الظاهرة، وأصبح أملنا الآن معقودًا على ظهور زعيمٍ شريف يهبُّ من بين هذا الركام والفساد ليعيد الأمور إلى نصابها، وتذكرتُ مثلًا صينيًّا قديمًا يقول: «إن السمكة الكبيرة لا تعيش إلا في الماء العكر».

وقد كنا جميعًا أسماكًا صغيرة تعيش في المياه النقية التي جرَت في عصور مايجي وتاشيو وشووا،٢٩ ولعلَّ مياه تاريخنا وقد أصبحَت الآن مكدَّرة توفِّر البيئة الملائمة لنمو سمكةٍ كبيرة، فقد تظهر بيننا شخصيةٌ ذات شأن تعيد بناء اليابان من جديد.

ورغم أن مثل هذه الأفكار الفلسفية لم تحل المشاكل التي واجهَت السيد ميزوجوتشي وتيسِّر له سبيل العمل فقد جعلَتني أشعر ببعض الراحة النفسية.

سمعْنا بعد تناوُل وجبة العشاء إشاعة عن احتمال توصيل الكهرباء إلى المستشفى، وأن ثمَّة أسلاكًا تُمَدُّ، وأن المستشفى سيُضاءُ بالكهرباء خلال أيام، وقد انطلقَت هذه الإشاعة عندما لاحظ أحد الأشخاص وجود سلكٍ أصفر يمر بطريق هاتشوبوري في اتجاه المستشفى، ثم اتضح فيما بعد أن هذه الأسلاك كانت خطًّا تليفونيًّا أقامه الجيش لاستخدامه الخاص.

أيقظني الدكتور تاماجاوا من النوم في ساعةٍ متأخرة من الليل ليبلغني أنه وجد تغييراتٍ كبيرة في جميع أعضاء الجسم في الحالات التي قام بتشريحها.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:47 am

٣١ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ ممطر في الصباح الباكر يتراوح بين الصفاء والأمطار بقيَّة اليوم.

كان أول ما فعلتُه هذا الصباح أن اتجهتُ إلى شرفة السطح وأحنيتُ رأسي نحو الشرق مصلِّيًا من أجل الإمبراطور، فقد رأيتُ فيما يرى النائم حلمًا أزعجني خلال الليل؛ إذ شاهدتُ جمعًا كبيرًا من الناس احتشد ليشاهد الإمبراطور وهو يعتلي ظهر البارجة ميسوري الراسية في خليج طوكيو، وكان السيد جرو سفير الولايات المتحدة يقود الإمبراطور إلى غرفة المحاكمة، ثم بدأ البحَّارة يرفعون مراسي السفينة استعدادًا للإقلاع، وما هي إلا لحظات حتى كانت السفينة قد اختفَت من الأفق، ثم تغيَّر المنظر فشاهدتُ السفينة عند الضفَّة الأخرى من نهر أوتا حيث تقع حديقة أسانو سنتاي وقد امتلأ جسر النهر بالآلاف من ضحايا القنبلة الذرية، وما كادت البارجة ميسوري ترفع مراسيها حتى ألقَى هؤلاء بأنفسهم في النهر وأخذوا يسترحمون البحَّارة ويرجونهم إبقاء الإمبراطور على أرض الوطن، بينما سبح بعضهم في اتجاه السفينة بجنونٍ محاولين منع البحَّارة من رفع مراسيها.

وعند هذا الحد استيقظتُ من النوم مفزَعًا خائفًا وقد تفصَّد جسدي عرقًا، لقد كان عقلي الباطن نشطًا أثناء النوم، واجتمعَت فيه أطراف القصص التي سمعتُها عن ضحايا القنبلة في حديقة أسانو سنتاي، مع أطراف الأحاديث التي دارت حول مصير الإمبراطور والاستسلام، ولكن السفير جرو لم يتبادر إلى ذهني منذ زمنٍ بعيد، ولكنه كان يرمز بالنسبة لنا إلى الجماعة التي حاولَت أن تحول دون قيام الحرب عند بداية اندلاعها.

لم يكن الجو أقل رطوبة أو كآبة اليوم عنه في الأيام السابقة، ولكن فخذي كانت آخذة في التحسن، ربما لأنني اعتكفتُ طوال يوم أمس.

توجهتُ إلى العيادة الخارجية فوجدتُ المرضى يصطفُّون لفحْص دمائهم، وكان الدكتور هانا أوكا وطالبا الطب منهمكين في فحص العينات، ولمحتُ على المنضدة أمامهم زجاجةً تحمل بطاقة كُتِب عليها «لفحص صفائح الدم»٣٠ فسألتُ الدكتور هانا أوكا عن ذلك، فذكر لي أن الكثير من شرائح العينات تخلو تمامًا من صفائح الدم، فسألتُه عما إذا كان الدكتور كاتسوبي يواجه نفس المشكلة، فأكد لي أن جميع الحالات التي فُحِصَت كانت إما خالية من الصفائح أو تحتوي على عددٍ ضئيل منها.

وذكَّرَتني ملاحظات الدكتور هانا أوكا بالحالات التي تم تشريحها، فلعلَّ السبب في عدم تجلُّط الدم راجع إلى تناقُص صفائح الدم، فأسرعتُ بإبلاغ هذه النتيجة إلى الدكتور تاماجاوا.

فرد عليَّ متعجِّبًا: «إذا كان الأمر كذلك فإننا نعرف الآن سبب عدم تجلُّط الدم بعد مرور سبع ساعات على حدوث الوفاة».

وتركتُ الدكتور تاماجاوا غارقًا في التفكير وكأن ملاحظتي قد أعطَته مفتاحًا لحل لعزٍ محير، وراح يقلِّب بعض الأعضاء التي استخرجها من بعض جثث المرضى وقد امتلأت بالبثور الدموية الحمراء وأكد لي أن نقص صفائح الدم مسئول عن ازدياد البثور إلى هذا الحد، وكانت تلك ظاهرةٌ سائدة في الحالات التي تولَّى الدكتور تاماجاوا تشريحها، وكذلك الحالة التي كان الدكتور كاتسوبي قد قام بتشريحها، ويحدد الفحص الإكلينيكي لتلك الحالات الفوارق بين درجات الإصابة ودون الحاجة إلى استخدام المجهر؛ فإن نتيجة فحص وتشريح تلك الحالات أثبتَت أن الوفاة نتجَت عن نزيفٍ داخلي ونقص في عدد صفائح الدم.

فالآنسة كوباياشي التي ماتت في السادس والعشرين من هذا الشهر نتيجة آلامٍ باطنية حادة وضيق في التنفس كانت تعاني من نزيفٍ حاد في البطن، وانتشرَت البثور داخل البطن وخارجها.

أمَّا السيدة تشودو التي ماتت في التاسع والعشرين فقد كانت تعاني نزيفًا في جدار القلب، والسيد ساكاي الذي مات في نفس اليوم نتيجة ضيق في التنفس ثبت بالتشريح وجود البثور بالقفص الصدري وتجويف البطن، أمَّا السيد أونومي فقد مات إثر نزيفٍ حاد من الأنف والشرج، والسيد ساكي نيشي الذي مات بالأمس كان يعاني من بثورٍ كثيفة بالقفص الصدري، كما أن البثور كانت تكسو رئتَيه وجميع أحشائه، ولما كانت أُسرته قد أصرَّت على عدم استئصال مخه فلم نستطع أن نعرف ما إذا كان يعاني نزيفًا في المخ.

لقد كان النزيف سبب الوفاة في جميع الحالات التي تم فحصها، وكثافة البثور التي تُعَد بمثابة العرَض الخارجي للنزيف لا علاقة لها باتساع مصدر النزيف في الأحشاء، كما أن النزيف الداخلي كان يتفاوت من عضو إلى آخر داخل الجسد الواحد، فقد ينزف أحد هذه الأعضاء بينما لا يتأثر الآخر، وكانت أكثر الأعضاء تأثُّرًا بالنزيف الداخلي الكبد والطحال؛ ففي الحالات التي تم تشريحها كان حجم الكبد والطحال فيها أصغر من المعتاد بوجهٍ عام.

وحتى الآن كنا نعتقد أن تناقُص عدد كرات الدم البيضاء هو السمة الغالبة على مرض الإشعاع الذري، ولكننا تبينَّا الآن أنه واحد من تلك السمات التي تشمل صفائح الدم أيضًا، فاختفاء الصفائح مسئول عن النزيف، والنزيف هو السبب المباشر للوفاة.

لقد تغاضَينا عن فحص صفائح الدم لأن تقديرها كان من الصعوبة بمكان، على حين كان تقدير كرات الدم البيضاء أقل صعوبة، ونحن نعلم الآن أن جميع أعضاء الجسم المكوِّنة للدم ذات صلة بالمرض، فكرات الدم البيضاء وصفائح الدم وحتى كرات الدم الحمراء تتأثر جميعًا بالمرض، فقد اكتشفنا تغيُّراتٍ غير عادية كثيرة طرأَت عليها نتيجة المرض، ولكن هذه التغيرات قد تحدث بسبب الأنيميا الناتجة من النزيف؛ لذلك لم نكن على ثقة من ارتباطها بالمرض، أمَّا الصلع فراجع إلى اضطراب عملية تغذية بصيلات الشعر، لقد أصبحَت الآن الصورة الباثولوجية لمرض الإشعاع تُلقي الضوء على حقيقة ذلك المرض.

تنبهتُ على صوت السيدة سائيكي العجوز وهي تقول: «يا دكتور، ماذا حدث لك لقد نسيتَ تناوُل طعام الغداء وقد أصبحَت الآن الساعة الرابعة، لا يجب أن تُهمل نفسك إلى هذا الحد فلن تُقيم السجاير أودك، إنك تؤذي صحتك بهذه الطريقة».

فأجبتُها برقَّة: «لقد اكتشفْنا أيتها الجدة بعض المسائل التي كانت تحيرنا من قبل».

فسألَتني عما إذا كنا نستطيع الآن علاج المرض، غير أني لم أحر جوابًا.

وبعد تناوُل الغداء الذي أعدَّته لي السيدة سائيكي أحضرَت لي ماءً مغليًّا فقمتُ بإعداد الماتشا لجميع رفاقي بالحجرة، وقد بدَت عليهم علامات التحسن اليوم، فتماثل الدكتور ساسادا والسيد شيوتا للشفاء، وتوقَّف الإسهال الذي كان يعاني منه السيد كادويا، وتجاوزَت السيدة سوسوكيدا والآنسة ياما مرحلة الخطر، أمَّا زوجتي فقد زايلَتها الحمَّى وتحسَّنَت حالتها بشكلٍ عام، وقد قضَينا جانبًا كبيرًا من الليل مستغرقين في الضحك بسبب الطرائف التي كان يقصُّها علينا الدكتور تاماجاوا.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:48 am

أول سبتمبر ١٩٤٥م

يومٌ ممطر غائم.

ابتلَّ فِراشي من المطر هذه الليلة، ولكني كنت أغطُّ في نومٍ عميق فلم أكتشف ذلك إلا في الصباح، وظهرَت عليَّ نتيجةً لذلك أعراض نزلة بردٍ حادة.

عندما استيقظتُ من النوم كانت السماء تمطر بانتظامٍ مطرًا مدرارًا، وزادت متاعبي عندما أحسستُ بالعجز عن بلوغ المرحاض الخاص الذي اعتدتُ الذهاب إليه كل صباح، وبعدما انتظرتُ وقتًا طويلًا حتى تخف حدة المطر لم أجد مفرًّا من استعارة مظلة والتوجه إلى مرحاض المستشفى، وقد راعَتني قذارة المكان والعدد الهائل من البعوض الذي كان يظلله، وأيقنتُ أن هذه المسألة لا تحتمل البقاء بلا حل وإلا تعرضنا لوباء الدوسنطاريا الأميبية.

وبعد تناوُل الإفطار ذهبتُ إلى مكتب العمل على الرغم من الصداع الشديد والسعال اللذين عانيتُ منهما، وناقشتُ المسألة مع السيد سيرا والسيد كيتاءو فعلمتُ منهما أنهما حاولا حل هذه المشكلة مع مصلحة المواصلات، ولكنهما لم ينالا سوى وعدٍ ببناء مرحاضٍ صحي، ولكن هذا الوعد لم يُترجَم إلى عملٍ جاد، فطلبتُ منهما أن يقوما بصبِّ بعض المطهرات كالليزول في تلك الحفرة لمنع انتشار العدوى والقضاء على الذباب، فوافقا على ذلك ولكنهما اعتذرا لعدم وجود أي مطهرات من هذا النوع بالمستشفى، وأنهما لم يستطيعا الحصول على كميةٍ منها.

وكان من الواضح أن هذَين المسكينَين يبذلان جهدًا يفوق طاقة البشر لتلبية حاجات المستشفى.

وأحسستُ بالتعب فسحبتُ صندوقًا خشبيًّا وجلستُ فوقه وسألتُهما عن الأحوال بصفةٍ عامة، فذكرا لي أن الآنسة تاكامي والسيد ياماموتو قد عادا إلى العمل بعد أن شُفِيا من جراحهما، وأنهما حصلا على كمية من أسلاك الكهرباء، وأن عمال إدارة الكهرباء أبلغاهما أنه سيتم توصيل الكهرباء إلى المستشفى قبل نهاية هذا اليوم، فسعدتُ لهذا النبأ، لأن الإنارة الكهربائية ضرورةٌ ملحَّة بالنسبة لنا.

وتبادلتُ معهما أطراف الحديث لحظة، وقبل أن أغادر مكتب العمل جاءتني رسالةٌ مفادها أن الدكتور تسوزوكي الذي ينتمي إلى قسم الجراحة بالجامعة الإمبراطورية بطوكيو سيزورنا في الثالث من سبتمبر لمناقشة المشاكل المترتبة على إصابات الإشعاع الذري.

زاد عدد العاملين بالمستشفى هذا الصباح بانضمام طبيبَين من أطباء هيروشيما إلينا على سبيل التطوع، وكان أحدهما هو الدكتور ناجاياما الذي كان يُزاول المهنة في ضاحية هاكوشيما القريبة من هيروشيما، أمَّا الآخر فهو الدكتور إيتا أوكو الذي كان يدير عيادةً بأحد أحياء المدينة، وكلاهما في مطلع العقد الخامس من عمره، وكانا قد أُصيبا بالحروق ثم شُفِيا فرحبنا بهما.

وعندما حان موعد الغداء لم أشعر بالرغبة في الطعام، فأويتُ إلى فِراشي بعد ارتشاف الماتشا وقد جعلني مذاق الشاي المر ودفؤه أُحس ببعض التحسن.

زارني بعد ظُهر اليوم ممثِّل للجمعية الطبية بأوساكا يُدعى الدكتور هوري، وقد استاء لِما أصاب هيروشيما من دمار، ولاحظ أن حجم الدمار يفوق ما كان يتصوره وما ورد بالتقارير الرسمية التي أُبلغَت إليه قبل مغادرته أوساكا.

وبعد أن أبدى أسفه لِما حدث سألني عما فعلناه لمواجهة ما ترتب على الحادث من مشاكل طبية، فأجبتُه قائلًا: «يجب أن تعلم أن ٧٢ طبيبًا من بين ١٩٠ طبيبًا كانوا موجودين بهيروشيما يوم البيكا قد قُتِلوا أو فُقِدوا، ومن ثَم تستطيع أن تستنتج ما كانت عليه حال الخدمة الطبية في المدينة بعد الحادث، ولكني أستطيع أن أخبرك بالوضع بالنسبة لمستشفانا، فبفضل شجاعة وجهود هيئة المستشفى وموظفي المصلحة الذين كانت إصاباتهم طفيفة استطعنا مواجهة الموقف، فقد تصدوا لخدمة المرضى الذين كانوا يتدفقون على المستشفى، وزاد من صعوبة مهمتهم اندلاع النار في مبنى المستشفى ومبنى المصلحة المجاور له».

فسألني الدكتور هوري عما فعلناه بالمرضى الموجودين بالمستشفى عند سقوط القنبلة، فأجبتُه بأنه لم يكن لدَينا مرضى بالقسم الداخلي لأننا قمْنا بإخلاء المستشفى خلال الأسبوع الأول من يونيو ونقلْنا المرضى إلى مكانٍ أكثر أمنًا لضمان سلامتهم، حتى تصبح المستشفى خالية لمواجهة الطوارئ في حالة وقوع كارثة.

فسألني الدكتور هوري عن دواعي إقدامي على إخلاء المستشفى فقلتُ له: «ربما لم تكن الدواعي التي دفعَتني إلى إخلاء المستشفى بذات بال، ولكن الشك ساورني عندما لاحظتُ أن الجيش قام بإخلاء المدرسة العسكرية المجاورة للمصلحة ونقَل طلابها إلى منطقة المرتفعات المجاورة للمدينة، كما أن الجيش أخذ ينقل مخازنه ومستودعاته التي تقع جنوبي المدينة، هذا بالإضافة إلى تعدُّد الغارات الجوية على المدينة وترحيل الجنود خارجها، وترْك عدد محدود منهم بالثكنات، غير أن هؤلاء كانوا بلا حيلة فاستنتجتُ من ذلك كله أن الجيش يفكر في الجلاء عن المدينة في حالة تعرُّضها للهجوم، كما أن ثمة شيئًا آخر دفعني إلى اتخاذ قرار إخلاء المستشفى، فعندما كانت مدننا الكبرى تتعرض لقصفٍ شديد، ردَّدَت الصحف بيانات تقول إن الخسائر المترتبة على هذا القصف محدودة، ودفعني ذلك إلى القلق على مصير مدينتا، كما أن هذا المستشفى يتمتع بموقعٍ لا يُحسَد عليه؛ إذ تحيط به المنشآت العسكرية من كل جانب، وفي حالة تعرُّض المدينة للقصف قد يصاب المستشفى بطريق الخطأ بدلًا من القيادة العسكرية، ولم تكن هناك استعدادات كافية للدفاع المدني، ألا تعتقد أن هذه كلها مبررات كافية لاتخاذ قرار الإخلاء؟ لقد طلبتُ أيضًا من مرضى العيادة الخارجية أن يغادروا المدينة إذا استطاعوا، وعندما سقطَت القنبلة الذرية كان المستشفى خاليًا إلا من بعض الحراس المدنيين الذين استخدموا الطابق الثاني من المستشفى كمأوى لهم».

ثم سألني الدكتور هوري عن الجراح التي تبدو في وجهي فقصصتُ عليه قصة تلك الجروح، وأجبتُ عن أسئلته التي دارات حول ظروف الإصابة، وقد راقني الحديث إليه؛ فهو رجلٌ هادئ الطبع ذكي متعاطف معنا، فشعرتُ بالارتياح لهذه الزيارة.

قبَيل المساء بدأتُ أتفقد عنابر المرضى، والْتقيتُ في الممر الذي يقع بين قسم الأشعة وحجرة الفرَّاشين بالسيد كيتاءو والسيد يامازاكي وبعض الممرضات وهم يلاعبون ابنة السيدة تشودو التي تُوفيَت، وعلمتُ أنهم سيرسلون الطفلة إلى دار حضانة في أوجينا لأن السيدة فوجي التي تبنَّت الطفلة لا يتوافر لديها الحليب الكافي لإطعامها، وقد ثبَّت السيد يامازاكي صندوقًا فوق دراجته ليحمل فيه الطفلة إلى دار الحضانة، فلم أتمالك نفسي من الانفجار في البكاء؛ فإن حال هذه الطفلة اليتيمة التي مات والداها بعد معاناة الألم ذكَّرني بظروف وفاة أمها، ولكني شعرتُ بالطمأنينة لأن هذه الطفلة تتمتع بحب الناس، ولأنها قد تجد الراحة في الدار التي ستأويها.

بعد تناوُل طعام العشاء، جلسنا حول المائدة وتجاذبنا أطراف الحديث، وكانت إشاعة نفي الإمبراطور هي الموضوع الرئيسي لحديثنا، حتى بدأ رفاقي ينصرفون الواحد تلو الآخر إلى حجرة النوم وتركوني وحدي في حجرة الطعام، ولَمَّا لم أجد مَنْ أتحدَّث إليه أويتُ إلى فِراشي، ولكني لم أستطع النوم؛ لأن الفِراش كان لا يزال رطبًا، كما أن مشكلة طفلة السيدة تشودو سيطرَت على تفكيري، وجرَّني التفكير في أمر هذه الطفلة إلى تذكُّر اليتامى الذين خلَّفهم حادث القنبلة، لقد كان بالمستشفى طفلة في الثامنة من عمرها فقدَت جميع أقاربها كما ماتت جدتها التي كانت آخر من بقي على قيد الحياة من أسرتها، وصبي في الثالثة عشرة من عمره مع أخته التي تبلغ الثامنة من عمرها، جاءا إلى المستشفى ليبحثا عن والدَيهما فعثرا على أمهما وشقيقهما الأكبر، ولكنهما ماتا بعد ذلك وتركا هذَين الطفلَين وحدهما في هذا العالم، وقد تبنَّى السيد ميزوجوتشي أولئك الأطفال المهذبين الأذكياء الذين أصبحوا موضع اهتمام كل فرد في المستشفى، وجرَّني التفكير في هؤلاء اليتامى إلى تذكُّر ولدي وأمي التي تتولى رعايته وزاد إحساسي بالوحدة والحزن، ولم يطرق النوم جفوني إلا في ساعةٍ متأخرة من الليل.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:49 am

٢ سبتمبر ١٩٤٥م

زخَّات مطر.. كان المستشفى هادئًا هذا الصباح، وقضيتُ وقتًا طويلًا مستلقيًا على فِراشي محملقًا في الأفق عبر النوافذ المحطمة في قوس قزح الذي ارتسم في السماء إيذانًا بسقوط زخَّات المطر، وقطعَت السيدة سائيكي العجوز خلوتي حين جاءت إلى الحجرة تناديني قائلة: «ماذا حدث لك يا دكتور، طعام الإفطار جاهز، وما زلتَ راقدًا في الفِراش حتى الآن!»

تمطَّيتُ وتثاءبتُ ثم نهضتُ من الفِراش في إثر السيدة سائيكي العجوز في الطريق إلى حجرة الطعام، حاولتُ أن آكل ولكن الطعام كان لا طعم له بالنسبة لي، فأعددتُ كوبًا من الماتشا ولكنه كان عديم الطعم، فلم أستسغ طعامًا أو شرابًا، وكلما حاولتُ أن أتناول شيئًا عافته نفسي، فتجرعتُ دواء للمعدة وتحاملتُ على نفسي حتى عُدتُ إلى حجرتي لأرقد من جديد، كان أنفي مزكومًا وأحسستُ بثقلٍ في رأسي، فقد أصابتني نزلة بردٍ حادة، ولكني لم أكن أستطيع الرقاد حتى أبلَّ من المرض، فغادرتُ الفِراش قاصدًا مبنى المصلحة.

كان كل شيءٍ هادئًا هناك كما هو الحال في المستشفى، وحين سألتُ عن سر ذلك الهدوء قيل لي إن اليوم هو الأحد، حتى الآن كانت الأيام بالنسبة لي لا معنى لها، وكان هذا اليوم عندي أول يوم منذ وقع البيكا يترك أثرًا في نفسي دون غيره من أيام الأسبوع، لقد أصبح يوم الأحد منذ الآن يوم الراحة بالنسبة للعاملين بالمستشفى، غير أني لم أسترح له؛ فقد اعتدتُ على الجلبة والضوضاء اللذين عاشهما المستشفى، وهذا السكون المطبق يجعلني أشعر بالانقباض.

كان السيد أوشيو رئيس الشئون العامة يجلس وحيدًا في حجرته وقد بدا أكثر تقدُّمًا في السن أكثر من ذي قبل، ولم يكن مكتبه أحسن منه حالًا، فقد كان يشغل حجرةً أنيقة جميلة قبل البيكا، ولكنه الآن يقيم في حجرةٍ كئيبة اكتسَت جدرانها بالهباب تشبه تمامًا غرفة المطبخ في منزلٍ حقير، لقد كان رجلًا عجوزًا أصابته الحروق يشغل حجرةً تحمل آثار الحريق.

وحاولتُ أن أشيع جوًّا من البشر رغم الأفكار التي جالت برأسي، فامتدحتُ علامات الصحة التي ادعيتُ وجودها على وجه السيد أوشيو، وقلتُ له إنه محظوظ لأن مكتبه لم يُدمَّر تمامًا كما دُمرَت بقيَّة حجرات المصلحة، فردَّ على عباراتي هذه بقوله: «كيف لا أكون محظوظًا وأنا أنام في فِراشٍ جافٍّ فكما ترى أضع فِراشي بجوار الحائط المقابل للنافذة حتى أتفادى مياه المطر، لماذا لا تنقل فِراشك إلى هنا فكم يسعدني أن تكون معي؟»

فشكرتُه ووعدتُه بأن أنتقل إلى غرفته إذا لم يتوقف المطر، وتحدثْنا قليلًا ثم عُدتُ إلى المستشفى.

وجدتُ الدكتور تاماجاوا جالسًا في حجرة الطعام يعد بعض الملاحظات حول نتائج التشريح، ونظر إليَّ من فوق نظارته قائلًا: «يوافق غدًا عيد ميلادي كما يوافق موعد محاضرة الدكتور تسوزوكي».

ثم عاد إلى الانشغال بمذكراته دون أن يزيد شيئًا، فعُدتُ إلى حجرتي حتى لا أعطله عن العمل حيث كان الدكتور ساسادا والسيد شيوتا يتحدثان عن الطقس، وعلمتُ أن السيد ميزوجوتشي قد دبَّر مسكنًا في سينو ليقيم فيه الدكتور ساسادا، وأن الدكتور ساسادا يعتزم مغادرة المستشفى من جديدٍ عندما يتوقف المطر عن الهطول، كما أن السيد شيوتا يتأهب لمغادرة المستشفى بدَوره، ففكرتُ في مغادرة المستشفى أيضًا، ولكن يقيني أن مكاني هنا جعلني أطرد هذه الفكرة من رأسي.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:50 am

٣ سبتمبر ١٩٤٥م

زخَّات مطر.. لم تلُح في الأفق علامات توقف المطر؛ ولذلك خيم على المستشفى جوٌّ من الكآبة، فقد أصبح كل شيء مبتلًّا، وكنا جميعًا نرتجف حتى العظام، ونُضحَت حوائط المبنى بالمياه وابتلَّت ثيابنا وفِراشنا وأخذَت رائحة العطن تفوح من كل شيء، وبالأمس قام السيد إيماتشي والسيد يامازاكي بإقامة حمامٍ خاص للعاملين بالمستشفى قرب مدخل المطبخ وقد استخدما في إقامته أنبوبًا حديديًّا قديمًا وبعض الصخور وصفائح الزنك، وباستطاعتنا أن ننعم الآن بحمامٍ ساخن يجعلنا نتمتع براحة الأعصاب والذهن إذا توفرَت لدَينا الأخشاب الجافة، لأن معظمنا لم يغتسل منذ وقع البيكا، فإذا استطعنا أن نغتسل كل يوم وننعم بدفء الحمام فإن ذلك سيعيننا على تحمُّل متاعب المطر.

أثناء عودتي من المرحاض هذا الصباح لمحتُ كلبًا هزيلًا كئيب المنظر يسير فيما بين مبنى المصلحة وسور المستشفى وقد أمسك في فمه شيئًا عثر عليه، اكتشفتُ أنه بعض الخضروات التي ربما يكون قد عثر عليها بالقرب من مطبخ المستشفى، يا له من منظرٍ يدعو إلى الأسى! لقد أصبحَت الكلاب في هيروشيما نباتية، وكان معظم شعر الكلب قد تساقط فاستنتجتُ أنه يعاني من مرض الإشعاع الذري أيضًا.

لقد كان هذا الكلب بمنظره الكئيب يرمز إلى ما أصاب المدينة بعد سقوط القنبلة.

ذهبتُ إلى حجرة الطعام مبكرًا لتناوُل الإفطار والتمتع بالحديث مع السيدة سائيكي، فقد كان تفاؤلها وانشراح صدرها يبعثان القوة في نفسي.

لَمَّا كان الدكتور تسوزوكي يعتزم إلقاء محاضرة حول مرض الإشعاع الذري بعد ظهر اليوم؛ فقد ذهبتُ إلى عنابر المرضى بعد الإفطار وقضيتُ معظم الوقت في مراجعة بطاقاتنا واستطلاع أحوال المرضى وكتابة بعض الملاحظات حتى أكون على استعداد للتعقيب على محاضرته إذا سنحَت الفرصة، فوجدتُ أن هناك بعض المرضى الجدد الذين أُدخِلوا إلى المستشفى ممن يعانون البثور ولكنهم يختلفون عن المرضى الآخرين لأنهم يصرون على أن حالتهم كانت طبيعية بعد سقوط القنبلة، ولم يشعروا بأعراض المرض إلا منذ ثلاثة أو أربعة أيام، وكان بعضهم قد بدأ يفقد شعره.

بعد تناوُل الغداء قصدتُ خرائب بنك جي إيبي في ياماجوتشي بصحبة طالبَي الطب وأطباء المستشفى سيرًا على الأقدام لنستمع إلى المحاضرة التي يُلقيها الأستاذ الدكتور تسوزوكي، وكان قد انقضى وقتٌ طويل منذ تجولتُ آخر مرة في المدينة المدمَّرة المخربة، فتأثرتُ كثيرًا عندما رأيتُ أكواخًا أُقيمَت وسط الحطام هنا وهناك، ومعظم هذه المنازل كانت مُقامة من عروق الخشب وألواح الصاج.

وبعد قليلٍ بلغْنا المبنى الخرساني الذي يشغله بنك جي إيبي على خط الترام بالقرب من إيناري باشي، وكان من المقرَّر أن تُلقَى المحاضرة بإحدى حجرات الدور الثاني التي كانت نوافذها تطل على خرائب هيروشيما من جهة الخليج، ولاحت في الأفق جزيرة نينوشيما بوضوحٍ تام كما لو كانت تقع على الجانب المقابل لمبنى البنك، وبدَت أحياء أوجينا وإيبا واضحة للعيان صوب الجنوب وكأنها تقع على بعد خطوات من مبنى البنك، فشدَّني منظر مدينة هيروشيما المحطمة وقد بدَت صغيرة المساحة وكأنها إحدى القرى الصغيرة التي يسكنها الصيادون، وكأنها لم تكن يومًا ما تلك المدينة الكبيرة التي تطل على خليج هيروشيما.

أدهشني أن أجد عدد الحاضرين محدودًا، ويبدو أن ظروف المطر منعَت الناس من الحضور للاستماع إلى المحاضرة، وإن كانت قِلة عدد الحاضرين ترجع إلى تناقُص عدد الأطباء في مدينة هيروشيما، وكان بين الحاضرين بعض الأصدقاء القُدامى فتبادلْنا التهنئة بالبقاء على قيد الحياة.

جاء الدكتور كيتاجيما رئيس الإدارة الطبية بصحبة الأستاذ تسوزوكي ومعهما الدكتور مياكي أستاذ الباثولوجي وآخرون لم أكن أعرفهم من قبل، وبعد مقدَّمةٍ قصيرة بدأ الدكتور تسوزوكي أستاذ الجراحة بجامعة طوكيو الإمبراطورية في إلقاء محاضرته، فبدأ بمناقشة النظريات التي تكمن وراء تطوُّر القنبلة الذرية، ثم تحدَّث عن مدى القوة التي تنجم عن تفجيرها، وانتقل إلى الأثر الذي تركَته قنبلة هيروشيما، والإصابات التي نجمَت عن ارتفاع درجة الحرارة بعد التفجير، وآثار الإشعاع، ثم ناقش أخيرًا موضوع امتصاص الإشعاعات.

وبعد أن انتهى الدكتور تسوزوكي من إلقاء محاضرته قام الدكتور مياكي بإلقاء محاضرةٍ حول النتائج التشريحية التي ترتَّبَت على فحص جثث مرضى الاشعاع الذري، ولم يخرج ما ذكره عما توصلْنا إليه في مستشفانا، وقد ضايقني بعض الشيء لسبقه في إعلان هذه النتائج قبلنا، غير أني شعرتُ بالإشفاق عليه لأنه واجه نفس المتاعب التي واجهْنا، وقد استمتعتُ بصفةٍ خاصة بحديثه عن تأثير الإشعاع في الدم، فقد كانت لدَينا الكثير من التساؤلات حول هذا الموضوع، وبذلك جاءت خلاصة أفكار المُحاضر مطابقةً تمامًا لما توصلنا إليه في المستشفى ومؤكدة له.

وأثناء عودتنا إلى المستشفى فكرتُ في ضرورة تلخيص وتنظيم النتائج التي توصلنا إليها، فقد كان الدكتور تاماجاوا منهمكًا في أبحاثه الباثولوجية، ولم أشأ أن أخذله بالتوقف عن الأبحاث الإكلينيكية، وعندما عُدتُ إلى حجرتي جمعتُ ملاحظاتي وحاولتُ ترتيبها، وكلما بذلتُ الكثير من الجهد كلما بدَت المهمة صعبة، وأخيرًا عدلتُ عن محاولتي بعدما تملكني اليأس، ولعلِّي أستطيع مواصلة العمل بصورةٍ أحسن إذا اكتفيتُ بتحليل الإحصاءات وتلخيص ما توصلنا إليه من استنتاجات بدلًا من محاولة ترتيب ملاحظاتي المبعثرة المختلطة ببعضها البعض.

بعد تناوُل العشاء قصصتُ على الدكتور ساسادا والسيد شيوتا ما سمعْناه بعد ظهر اليوم، وكان الدكتور ساسادا يريد مغادرة المستشفى بفارغ الصبر، وضايقه استمرار هطول الأمطار الذي حال بينه وبين الرحيل إلى سنيو.

تحسَّنَت حالة زوجتي هذا المساء، وقد سُررتُ عندما سمعتُها تمزح مع بعض المرضى الآخرين؛ ولذلك طلبتُ من الآنسة كادو أن تتوقف عن حقنها بالتريونون على أن تقوم بمراقبة حالتها بضعة أيام.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:51 am

٤ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر.. أنفقتُ معظم فترة الصباح في ترتيب أوراقي وتجميع البيانات الإحصائية الضرورية لكتابة تقريرٍ يتضمن ما توصلنا إليه من نتائج، ثم عاد إليَّ الارتباك مرةً أخرى، وفقدتُ المثابرة على العمل فأهملتُه، وإن كنت على ثقةٍ أن ما توصلنا إليه من معلومات نتيجة متابعتنا لأحوال المرضى كفيل بكتابة تقرير يفوق كل ما كتب عن الظروف التي واجهَتها المدينة؛ فإن الباحثين الذين أتَوا من خارج المدينة لم يمكثوا فيها إلا وقتًا قصيرًا، فلم تُتَح لهم فرصة الاطلاع على حقيقة الأوضاع ومتابعة حالات المرضى مثلما أُتيحَت لأولئك الذين أقاموا طوال الوقت في المدينة، غير أني لم أستطع حتى الآن أن أبدأ في كتابة التقرير، فاسترحتُ قليلًا لارتشاف بعض أكواب الشاي وتدخين السجاير.

وحين عُدتُ بعد تناوُل طعام الغداء إلى مكتبي لمتابعة العمل في إعداد التقرير، حضر فجأةً ضيف لم أكن أتوقع قدومه ولكني رحبتُ بمقدمه، هو السيد هاشي موتو، وكان الرجل قد تطوع لمساعدتنا بضعة أيام بعد حدوث البيكا، وأسعفني عندما جئتُ إلى المستشفى مصابًا، كما قام بمساعدة الدكتور كاتسوبي عندما أجرى لي العملية الجراحية.

وعندما سقطَت القنبلة كان السيد هاشي موتو داخل عربة من عربات الترام التي تعمل على خطوط الضواحي، وكانت تلك العربة قد غادرَت للتو محطة إيتسوكايتشي٣١ في الطريق إلى هيروشيما، ولَمَّا كان التيار الكهربائي قد قُطِع فور سقوط القنبلة، فقد اضطُر السيد هاشي موتو أن يسير على الأقدام حتى محطة كوئي، ومن هناك وصل إلى هيروشيما متتبعًا خط الترام، وما كاد يصل إلى المستشفى حتى تحولَت المدينة إلى ألسنة من اللهب، وكُلِّف بمعاونة الدكتور كاتسوبي والممرضات في تنظيف غرفة العمليات، ثم أُسندَت إليه مهمة جمع الأخشاب لاستخدامها في غلي الماء اللازم لتطهير أدوات الجراحة.

وما كدتُ أراه حتى بادلتُه التحية بحرارة وقلتُ له: «إنني مدين لك بالكثير يا سيد هاشي موتو، فلولا معاونتك لما استطاع الكثير هنا البقاء على قيد الحياة».

فتقبَّل كلماتي بتواضُعٍ جم، وحاول أن يهون من قيمة ما أداه لنا من خدمات، وعلمتُ منه أن أحدًا لم يكن يتوقع لي النجاة، وأنه يعزى الفضل في بقائي على قيد الحياة إلى العناية الفائقة التي أولاني إياها الأطباء والممرضات.

ويبدو أن هذا الحديث قد أوقع السيد هاشي موتو في الحرج فحاولتُ أن أغير الموضع بسؤاله عن التجربة التي مر بها عندما سقطَت القنبلة.

فأجاب بعد أن أطرق مليًّا: «لقد كانت تجربةً مهولة، كانت عربة الترام قد غادرَت لتوها محطة إيتسوكايتشي، وكانت تسير بمحاذاة مستشفى مياكي للجراحة عندما سمعتُ دويًّا هائلًا (دُن)، وتوقفَت عربة الترام فجأةً، وقفز كل مَنْ فيها وعدَوا نحو المحطة، فخشيتُ أن تكون المحطة أكثر تعرضًا للخطر فعدَوتُ نحو الطريق العام، عندئذٍ رأيتُ سحابةً ضحمة ترتفع فوق هيروشيما، وعلى جانبَي تلك السحابة الكئيبة كانت تتناثر سحابات صغيرة جميلة تبدو وكأنها شاشات ذهبية.

وكانت الساعة العاشرة صباحًا عندما وصلتُ إلى كوئي، وبلغتُ يوكوجاوا نحو الظهر، وكان كل شيء قد احترق فيما بين يوكوجاوا وهيروشيما وبدأ يتساقط مطرٌ غزير، فاحتمَيتُ بأحد المنازل التي لم يدركها الحريق حيث كانت هناك سيدة عجوز تصرخ منادية ابنتها التي خرجَت من الدار ولم تعد، ويبدو أنها كانت ملتحقة بإحدى فِرق العمل، وعندما وصلتُ إلى جسر ميساسا الذي يعبُره الخط الحديدي كانت قوائم الجسر تحترق، وعند نقطة الحراسة الأولى شاهدتُ رجلًا ميتًا وكثيرًا من الناس يجلسون داخل صهاريج المياه يلتقطون أنفاسهم بصعوبة، يا له من منظرٍ مفرغ! وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندما وصلتُ إلى مبنى المصلحة، وما كدتُ أصِل إلى المصلحة حتى كان حذائي قد بَلِي نتيجة سخونة الأسفلت وذوبانه.

ولا أكاد أذكر عدد القنابل التي أُلقيَت على المدينة، ولكني أتذكر جيدًا أنني شاهدتُ مظلَّتَين تهبطان من السماء، وكان هناك نحو عشرين أو ثلاثين جنديًّا يرقبونها معي وهم يصفقون فرِحين وقد ظنوا أن الطائرة ب-٢٩ قد أُصبَيت وأن طياريها يحاولون النجاة».

واستمر السيد هاشي موتو يقص أطرافًا من تجربته خلال الأيام الأولى التي تلت القصف، ثم استأذن في الانصراف.

وبعد أن تركني حاولتُ أن أتصور في ذهني السماء الجميلة التي تزينها السحب الذهبية التي وصفها، فعندما كان يُبدي إعجابه بمنظر السماء، كنا نحن نحاول النجاة من الموت تحت أنقاض بيوتنا التي كانت تتداعى، كما كنا نسير على غير هدًى في شوارع المدينة التي لفَّها الظلام.

لقد كانت رؤية الناس للبيكا داخل المدينة تختلف تمامًا عن رؤية غيرهم له خارجها، فبدَت السماء لمن كانوا داخل المدينة مكسوة بسحابٍ أسود داكنٍ جعل الناس يتلمسون طريقهم بصعوبة، أمَّا من كانوا خارج المدينة فقد شاهدوا سماءً ذهبية اللون جميلة المنظر، وإن كانوا قد سمعوا صوت انفجارٍ رهيب.

لقد أعجبني في رواية السيد هاشي موتو دقة ملاحظته، فقد وصف السحابة بأنها كانت كبيرةً سوداء اللون متعددة الطبقات تتفتح مثل نبات عشِّ الغراب، ولكني لم أسمع من قبلُ أنه كان يحيط بتلك السحابة سحابات أخرى تختلف عنها في اللون.

لقد سمعتُ عرضًا من أولئك الذين كانوا يقيمون خارج هيروشيما مثل سكان فوتشو وفورويتشي٣٢ أن السماء كانت جميلة، ولكني تبينتُ الآن سر جمال السماء يوم ذاك، فهذا الجمال الذي بدا لِمَنْ راقبوا المشهد من الخارج كان يُخفي تحته الدمار للمدينة العظيمة والموت لسكانها.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:51 am

٥ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم في بداية اليوم ثم ما لبثَت الغيوم أن انقشعَت وأصبح السماء صحوًا.

مَرَّ اليوم العاشر بعد المائتين الذي يحدد بداية موسم التيفون٣٣ دون أن يحدث ما يكدِّر الصفو، ربما كان المطر يعوق هبوب العواصف، ولكن الرياح بدأَت تهب بقوةٍ محدثة ضوضاء شديدة؛ لذلك كان نومي متقطعًا ليلة الأمس بسبب زئير الرياح، وحلمتُ أن شيئًا ما يطاردني، ولكن عندما استيقظتُ في الصباح كنت خالي الذهن تمامًا.

تناولتُ طعام الإفطار مع كوبٍ مركَّز من الماتشا، وسمعتُ أن بعض الصحف اليومية قد وصلَت إلى المصلحة، فذهبتُ إلى هناك لعلِّي أقرأ شيئًا عن الاستسلام، ولكن خاب ظني عندما علمتُ أن الصحف لم تصِل بعد، كما أن السيد أوشيو لم يسمع شيئًا سوى أن الاستسلام غير المشروط كان موضع قبول هيئة الأركان ووزير الخارجية، وعلمتُ أن ما قمنا به من جهود منذ البيكا قد أُبلِغ إلى وزارة المواصلات في تقريرٍ شامل، فسعدتُ لسماع ذلك النبأ وتمنيتُ أن تكافئ الوزارة العاملين معي على ما بذلوا من جهد.

عُدتُ إلى حجرتي وقضيتُ بقية فترة الصباح في كتابة بعض الملاحظات عندما زارني السيد ماتسوموتو محرر جريدة سان جيوكيزاي (الصناعة والاقتصاد).

رتبتُ النتائج الإكلينيكية التي توصلنا إليها بنفس الطريقة التي صنَّف بها الأستاذ الدكتور تسوزوكي أنواع الحالات التي عرض لها في محاضرة الأمس وهي: جروح الانفجار، وحروق بريق الضوء، ومرض الإشعاع، وكانت تنقصني المعلومات عن المرضى الأوائل الذين أُدخِلوا إلى المستشفى لأننا لم نكن نحتفظ عندئذٍ بسجلاتٍ خاصة، كما أن المرضى الذين كانوا موضع اهتمامي ماتوا جميعًا، غير أنه يتوافر لدَينا سجلات لنحو مائتي حالة أُدخلَت المستشفى فيما بعد.

وقمتُ بترتيب هؤلاء وفقًا للأعراض والشواهد ونتيجة فحص الدم والمسافة بين مواقعهم عند الإصابة ومركز التفجير، وكانت محاضرة الدكتور تسوزوكي والدكتور مياكي ذات قيمة بالغة لأن معاملنا وأدواتنا كانت قد دُمرَت تمامًا، كما فقدْنا الاتصال بالعالم الخارجي، فكنا نجهل تمامًا المعلومات العلمية والفنية الضرورية لاستخلاص النتائج.

وقضيتُ فترة بعد الظهر في إعداد جدولٍ كبير على مسطح من الورق حصلتُ عليه من المصلحة، ولم أتوقف عن العمل إلا للحظات ودَّعتُ فيها الدكتور ساسادا وتناولتُ وجبةً سريعة.

وعند حلول المساء بدأتُ أدفع ثمن التركيز الشديد والإفراط في التدخين فالْتهب حلقي وآلمَتني معدتي، فتناولتُ بعض الغرغرة وتجرعتُ قليلًا من بيكربونات الصودا فأخذ حلقي يتحسن، وبعد أن تجشأتُ عدة مرات أحسستُ بالراحة في معدتي وأويت إلى فِراشي.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:52 am

٦ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ صافية ينتشر فيها السحاب أحيانًا ثم ما يلبث أن ينقشع.

سطعَت الشمس اليوم وأصبحَت السماء زرقاء صافية والهواء نقيًّا لأول مرة منذ أسابيع، ورأينا الشمس مرةً أخرى بعد غيابٍ طويل فوضعْنا كل شيء راطب أو مبتل في الشمس مثل الفرش والملابس حتى الأعلام الملونة التي حصلنا عليها من سلاح المهندسين، فأضافت إلى المنظر لمسة من الألوان المتعددة وشيئًا من البهجة.

وحاول السيد شيوتا الاستفادة من هذا اليوم المشمس في الإعداد للرحيل، وقد رحل الدكتور ساسادا بالأمس، واعتزام السيد شيوتا الرحيل اليوم ملأني حزنًا رغم يقيني أن من مصلحتهما ترك المستشفى.

غادر السيد شيوتا المستشفى بعد الظهر وبرفقته زوجته المخلصة والآنسة ميازاكي فتركوا فراغًا في مجموعتنا الصغيرة من الصعب أن يُملأ من جديد، وبعد رحيلهم بقليلٍ تلقَّت المستشفى معونة من الجيش تتكون من جوالات السكَّر التي يزن كلٌّ منها ما بين ١٠٠ و١٥٠ كيلوجرامًا وقد جاءت هذه المعونة في وقتها فقد طال بنا الشوق إلى الحلوى، وتمنينا لو كان معنا الدكتور ساسادا والسيد شيوتا لينالا نصيبًا منها.

واصلتُ العمل في إعداد أوراقي قبَيل المساء مستعينًا بخريطة للمدينة رُسمَت عليها دوائر تقع على بعد ٥٠٠ و١٠٠٠ و١٥٠٠ و٢٠٠٠ متر من مكتب بريد هيروشيما الذي اعتُبِر مركزًا لمنطقة التفجير، ثم حاولتُ أن أحدد موقع كل مريض من المرضى الذين تتوافر لدَينا سجلات عن حالتهم ساعة الإصابة.

كان هذا العمل أصعب مما كنت أتوقع، فمعلوماتنا عن المواقع كانت تقريبية، كما أن خطوط الخريطة كانت غير واضحة لدرجةٍ يصعب معها تحديد الكثير من الأماكن، وراحت عشرات الأفكار تتسابق في ذهني أثناء العمل لتحول بيني وبين التركيز على نقطةٍ واحدة لفترةٍ من الوقت، فتوقفتُ عن العمل يائسًا، وتناولتُ دواءً منومًا، وأويتُ إلى الفِراش.

كانت حالة زوجتي اليوم أحسن من ذي قبل، فقد تماثلَت للشفاء تقريبًا، كما أن الآنسة ياما والسيدة سوسوكيدا كانتا في طريقهما للتحسن، وقبل أن أغط في النوم شعرتُ بالقلق عندما تذكرتُ أن الدكتور ساسادا والسيد شيوتا قد رحلا عنا.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:52 am

٧ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم.

استيقظتُ من نومٍ عميق مرتاح الذهن، وأحسستُ لأول مرةٍ منذ البيكا بالقدرة على التركيز؛ ولذلك فحصتُ نحو عشر حالات قبل تناوُل الإفطار.

وبعد تناوُل الإفطار فحصتُ عشرين حالةٍ أخرى قبل أن يقطع خلوتي قدوم بعض الزائرين، ولكني واصلتُ العمل بعد انصرافهم.

وقبل الظهر كنتُ قد فرغتُ من دراسة نصف ما لدَينا من حالات.

واصلتُ العمل بحماسٍ ملحوظ بعد تناوُل الغداء، وبدأَت تتضح معالم الدراسة أمامي بصورةٍ شيقة، فرتَّبتُ جداول المسافات بين مواقع الإصابة ومركز التفجير كالتالي: ٥٠٠متر فأقل، و٥٠٠–١٠٠٠ متر و١٠٠٠–٢٠٠٠ متر و٢٠٠٠ متر فأكثر.

ووجدتُ سهولةً كبيرة في تحديد مواقع المرضى عند الإصابة، وعندما دُعيتُ لتناوُل العشاء كنت قد انتهيتُ من فحص ١٧٠ حالة.

لقد أصبح واضحًا أن هناك علاقةً وثيقة بين تناقُص كرات الدم البيضاء والقرب من مركز التفجير، وقد بدأتُ بإعداد هذا الجدول لأنه كان أسهل جزء في الدراسة، ثم قمتُ بعد ذلك بمقارنة العلاقة بين الأعراض والمسافة من موقع التفجير، وقسمتُ الحالات المختلفة إلى مجموعتَين: حالات الإصابات الشديدة، وحالات الإصابات البسيطة، واستفدتُ من هدوء الليل وبرودته فلبثتُ أعمل حتى الثالثة صباحًا ثم تناولت منوِّمًا وأويتُ إلى فِراشي.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:53 am

٨ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع سقوط أمطار على فتراتٍ متقطعة.

استيقظتُ حوالي الساعة الثامنة منتعشًا مستعدًّا لمواصلة العمل، فاتضح لي بصفةٍ عامة أن أقرب المصابين إلى مركز التفجير هم أولئك الذين ظهرَت عليهم أكثر الأعراض حدة، أمَّا أولئك الذين أُصيبوا على مسافاتٍ أبعد فقد كانت إصابتهم أقل خطورة، كما أن الأعراض التي بدَت عليهم كانت أقل منها عند غيرهم، وعلى كل حال كانت هناك استثناءات قليلة، فبعض المرضى الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير ظهرَت عليهم أعراضٌ محدودة، وكانت كرات دمهم البيضاء تكاد تكون طبيعية.

وعندما درستُ تلك الحالات كلٌّ على حدة توصلتُ إلى معرفة السبب؛ فقد كان هؤلاء المرضى يحتمون داخل مبانٍ خرسانية أو خلف أشجارٍ ضخمة أو غيرها من الحواجز القوية.

تلقيتُ اليوم بعض الصحف، كانت جميعًا تحمل مقالاتٍ حول الإصابة بالإشعاع الذري، كتب أحدَها الدكتور تسوزوكي، فوجدتُني موزعًا بين الرغبة في قراءة تلك المقالات والميل إلى الاستمرار في مواصلة دراستي الخاصة، وأخيرًا نحَّيتُ الصحف جانبًا وعُدتُ إلى مواصلة العمل.

وبعد الغداء حاولتُ أن ألخِّص نتائج بحثي في تقريرٍ قصير، ولكني اكتشفتُ أن مثل هذا العمل أصعب بكثير من جمع المادة، وبذلتُ أقصى الجهد، غير أني عجزتُ عن ترجمة أفكاري، وكنتُ لا أزال أعمل عندما حل المساء، وأخيرًا بدأ ذهني يتَّقد في وقتٍ متأخر من الليل، وأخذ قلمي يتحرك على الورق بثبات، وغدَت الكتابة بالنسبة لي أسهل من ذي قبل، فواصلتُ الكتابة مبهورًا بوضوح الأفكار وسهولة التعبير، وما كاد الليل ينتصف حتى فرغتُ من إعداد التقرير.

وظننتُ أن باستطاعتي النوم بعمقٍ هذه الليلة، ولكن ذهني كان لا يزال نشطًا فلم أستطع النوم دون أن أتناول دواءً مهدئًا.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:55 am

٩ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع انقشاع السحب أحيانًا.

استيقظتُ في الثامنة صباحًا، وواصلتُ إعداد التقرير حتى حان موعد الإفطار، ولكن ما بدا لي رصينًا ليلة الأمس عندما كنت منهمكًا في الكتابة وجدتُه اليوم غثًّا هزيلًا.

فقد انطلقتُ كالصاروخ غير أني سقطتُ كما تسقط العصا، أو مثلما يقول المثل القديم: «رأس تنين وذيل ثعبان».

فتملكني الضيق وأخذتُ أبذل الجهد لقصِّ رأس التقرير وإطالة ذيله، غير أنه كان بعيدًا عن الرصانة، ولكني استطعتُ أن أُدخل بعض التعديلات عليه حتى استقام شكله، وإن ظلَّت صورته لا تبعث الرضا في نفسي.

وعندما جاء الصحفي السيد ماتسوموتو بعد الغداء بقليلٍ لاستلام نَص التقرير طلبتُ منه أن يمهلني يومًا آخر لأرمم صدعه وأصلح من شأنه، فضحك وطلب أن يقرأ التقرير أولًا، وما إن فرغ من قراءته حتى طمأنني بقوله: «يا دكتور، إنه تقريرٌ ممتاز، وسأوليه عنايتي، ثم أُعيده لك بعد النشر».

وقبل أن ينصرف الْتقط لي صورة وأنا أحمل التقرير في يدي، ونصُّه كالتالي:
القنبلة الذرية والإشعاع الذري

ما مدى قوة القنبلة الذرية التي أحرقَت هيروشيما وأهلها، ودمَّرَت التلال، وقتلَت الأسماك في الأنهار؟ لقد كانت بريقًا أبيض نجم عنه أثرٌ مدمر.

إنني واحد ممن بقوا على قيد الحياة من أهل المدينة، وصلتُ بالكاد إلى المستشفى عقب سقوط القنبلة، وقد غطَّت جسدي الدماء التي أخذَت تنزف من جروح أُصِبتُ بها نتيجة تطايُر الزجاج.

كان منزلي يقع على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٧٠٠–١٨٠٠ متر من مركز التفجير، بينما كان المستشفى يقع على مسافة ١٥٠٠–١٦٠٠ متر من ذلك المركز، وظننتُ أني ميتٌ لا محالة بعد ما لحقني من إصابات، فعقدتُ العزم على أن أموت في المستشفى.

وعندما وصلتُ إلى المستشفى لم تكن النيران قد اشتعلَت بعد، وكان أول سؤال وجهتُه للناس هناك هو: «هل قُتِل أحد؟» ثم رُحتُ في غيبوبةٍ كاملة، ووضعني زملائي على محفة، وأصبحتُ منذ ذلك الحين عبئًا عليهم، ينقلونني هنا وهناك في محاولة لإنقاذي من ألسنة اللهب التي أخذَت تنتشر من حولنا.

ولحُسن الحظ لم تقتل القنبلة أحدًا من العاملين بالمستشفى بسبب بُعدها عن مركز التفجير، كما أن البناء كان قويًّا متينًا، غير أن العاملين بالمستشفى أُصيبوا بجروح، ورغم إصاباتهم ناضلوا ببسالة يجمعهم شعور الأخوة الذي أمدَّهم بالقدرة على مواجهة الموقف وأدهشني هدوءهم ورباطة جأشهم رغم أن الموت كان يهددهم في كل لحظة.

وأود أن أعبِّر هنا عن امتناني الشديد لهم.

وكنت أتمنى خلال اللحظات الحرجة أن أحظى بالهدوء والطمأنينة اللذين رأيتُهما على وجوه الممرضات.

ومنذ ذلك اليوم حتى الآن أصبحتُ أعيش في مستشفى جيد التهوية، وكان بمقدوري أن أعبِّر عن إحساس المريض والطبيب في نفس الوقت، وحاولتُ أن أدرس التغيرات التي تطرأ على حالات مرضانا أولًا بأول.

لقد كان انفجار القنبلة حادثًا عرضيًّا وقع في لحظةٍ محددة، ولكنه غيَّر مجرى حياة مواطني هيروشيما، فلقي من كانوا بالقرب من مركز التفجير حتفهم، أمَّا أولئك الذين كانوا على مسافةٍ بعيدة عن مركز التفجير فأخذوا يتماثلون للشفاء.

لقد مر شهر على الحادث عالجنا خلاله ودرسنا حالات نحو خمسة آلاف مريض، ولا زلنا نواصل العمل.

ويمكنني أن ألخص النتائج التي توصلنا إليها في الوقت الحاضر على النحو التالي:
    (١)    أولئك الذين كانوا على بعد ٥٠٠ متر من مركز التفجير خارج بيوتهم ماتوا في الحال أو لفظوا أنفاسهم الأخيرة بعد أربعة أو خمسة أيام.

  
  (٢)    بعض من كانوا داخل مبانٍ تقع على بعد نحو ٥٠٠ متر من مركز التفجير نجوا من الموت حرقًا نتيجة احتمائهم بتلك المباني، غير أن الكثيرين منهم ظهرَت عليهم أعراض ما يسمَّى ﺑ «مرض الإشعاع الذري» في فترةٍ تراوحَت ما بين يومَين إلى خمسة عشر يومًا من تاريخ الحادث، وما لبثوا أن ماتوا. وأعراض هذا المرض هي: الإعياء، والقيء، والبثور، والإسهال الدموي.

  
  (٣)    أولئك الذين أُصيبوا في مناطق تقع على بعد ٥٠٠–١٠٠٠ متر ظهرَت عليهم أعراضٌ شبيهة بتلك التي ظهرَت على من أُصيبوا بالإشعاع الذري في حدود دائرة اﻟ ٥٠٠ متر، ولكن أعراض هذا المرض ظهرَت عليهم متأخرة وبشكلٍ أقل حدَّة، غير أن معدَّل الوفاة بين هذه المجموعة كان عاليًا.

   
(٤)    قمتُ بدراسة مواقع الإصابة بالنسبة لمرضى القسم الداخلي وعددٍ كبير من مرضى العيادة الخارجية، فاتضح لي أن معظمهم قد أُصيب على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٠٠٠–٣٠٠٠ متر من مركز التفجير، وبين هذه المجموعة كانت الأعراض التي ظهرَت على من يقتربون من مركز التفجير أكثر حدَّة من غيرهم، وقد مات بعضهم، غير أن حالة معظمهم تميل إلى الثبات أو التحسن.

   
(٥)    عانى عددٌ كبير من المرضى من سقوط الشعر بعد أسبوعين من وقوع الانفجار، وبعض هؤلاء المرضى كانت حالتهم معقولة، أمَّا بعضهم الآخر فكانت أحوالهم سيئة.

   
(٦)    تمثَّلَت نتائج الفحص الإكلينيكي لمرضى الإشعاع الذري في تناقُص عدد كرات الدم البيضاء، كما أثبت الفحص الباثولوجي وجود تغيراتٍ كبيرة في مكونات الدم وخاصة نخاع العظام، وقد مات كل مَن أُصيب إصاباتٍ بالغة خلال الشهر الماضي، أمَّا المرضى الذين يعانون من نقصٍ في كرات الدم البيضاء وظلوا على قيد الحياة حتى الآن، فلم يطرأ تغييرٌ ملحوظ على حالتهم، ويميل بعضهم إلى التحسن.

وقد علمْنا مؤخرًا أن الصحف ومحطات الإذاعة الأمريكية قد تناولَت الآثار التي تترتَّب على القصف الذري، غير أننا لا نستطيع الوقوف على هذه المعلومات لعدم وجود جهاز راديو لدَينا، كما أن الصحف لا تصل إلى هيروشيما.

وقد انزعج الناس في بداية الأمر عندما علموا أن المنطقة التي تُصاب بالقنبلة الذرية لا تصلح مكانًا للسكنى لمدة ٧٥ عامًا، وبسبب تلك الإشاعة يتردد الناس المقيمون على أطراف المدينة في دخولها والعيش فيها؛ ولذلك فإن مبنى المستشفى ومصلحة المواصلات يقفان وحدهما وسط الدمار الذي حل بالمدينة، كما أننا نفتقر إلى المعونة الخارجية، وحتى نستطيع مواجهة تلك الإشاعة قمنا عند نهاية شهر أغسطس بإجراء فحوصٍ طبية على الأفراد القلائل الذين قدموا من الضواحي إلى المدينة بعد حادث القنبلة، ولم نكتشف وجود ظواهر غير عادية في هذه الحالات، فقد كان عدد كرات دمهم البيضاء في حدود المعدَّل الطبيعي أي من ٥٠٠٠–٧٠٠٠ خلية، كما أننا فحصْنا بعض الأفراد الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير، مثل الأشخاص الذين كانوا في بدروم مكتب التليفونات، والأشخاص الذين كانوا يحتمون داخل مخابئ الوقاية من الغارات الجوية، وكذلك بعض الأفراد الذين كانوا يحتمون داخل آلياتٍ حصينة، وكانوا جميعًا يتمتعون بقدرٍ طبيعي من كرات الدم البيضاء وحالتهم الصحية طبيعية، وقد دفعَتنا هذه النتائج إلى الاعتقاد بأن جو هيروشيما لم يصبح مسمومًا أو ملوثًا بعد حادث القنبلة الذرية.

وأعلنَّا نتائج هذه الدراسة على جميع العاملين بمصلحة المواصلات لتشجيعهم على العودة إلى أعمالهم دون الخوف من احتمال الإصابة بأضرارٍ صحية، وقد زار الأستاذ تسوزوكي ومجموعة من خبراء طوكيو مدينة هيروشيما وبعد أن درسوا الوضع وصلوا إلى نتائج شبيهة بما توصلْنا إليه، واستنكروا الإشاعة التي تقول إن هيروشيما لن تصلح للسكن خلال الخمسة والسبعين عامًا التالية.

كما أن جميع العاملين بالمستشفى دون استثناء قد لحقهم قدر من الإصابات، ورغم ذلك ظلوا بالمدينة واستمروا في متابعة عملهم بالمستشفى الذي لا يبعد كثيرًا عن مركز التفجير، وانقضى شهرٌ كامل على قيامهم بالعمل، وعدم حدوث مضاعفات لنا دليل على أن هذه الإشاعة لا أساس لها من الصحة.

ولا يملك المرء سوى أن يعجب لقوة تلك القنبلة التي استطاعت تدمير مدينة هيروشيما وقتْل وإصابة نحو نصف مليون من سكانها، لقد هُزِمنا في حربٍ علمية، ولم نُهزَم في حربٍ تعتمد على القوى البشرية، وإذا أمعنَّا الفكر في الماضي والمستقبل فسنجد مسائل كثيرة في حاجة إلى إعادة نظر.

ويمكن تنشيط مكونات الدم عن طريق العلاج وتناوُل العناصر اللازمة للجسم لتحقيق هذه الغاية، وقد أوصى الدكتور تسوزوكي الأستاذ بجامعة طوكيو الإمبراطورية باستخدام فيتامين ج عن طريق الحقن، وتناوُل الأطعمة الغنية بهذا الفيتامين، وشرائح الكبد الطازج أو المطهو، ونقل الدم والعلاج بالبروتين غير المتجانس، والكي.٣٤

ونقوم باستخدام هذا العلاج الذي أوصى به الأستاذ تسوزوكي، وقد اتبعتُ المثل الصيني —القائل بأن المريض الذي يتمتع بشهيةٍ طيبة لا يمكن أن يموت— في معالجة عشر حالات، فقدَّمنا لهؤلاء المرضى الطعام المحتوي على فيتامين ج دون أن نحقنهم أو ننقل الدماء إليهم، وأولينا جروحهم وحروقهم عنايةً خاصة، فبدأَت هذه المجموعة في التحسن بشكلٍ ملحوظ أكثر من أولئك المرضى الذين قدَّمنا لهم طعامًا عاديًّا وعالجناهم بالحقن ونقل الدم.

وعلى ذلك فإن من كانوا في هيروشيما عند وقوع حادث القنبلة يجب أن يُفحَصوا طبيًّا باستمرار، فإذا ظهرَت على أحدهم أعراض مرض الإشعاع الذري، مثل تناقُص كرات الدم البيضاء، فعليه أن يلزم الراحة التامة، وأن يتناول الكثير من الطعام الجيد.

وحتى أولئك الذين لا تبدو عليهم أي أعراض يجب عليهم أن يأكلوا أكثر من ذي قبل.

أمَّا المرضى فعليهم أن يكثروا من الأكل بقدر المستطاع، وإن اتباع مثل هذا العلاج المنزلي ضمانٌ أكيد للشفاء طالما نعاني من نقصٍ في الأطباء والمعدات الطبية.

ودعوتُ من قلبي أن ينجح السيد ماتسوموتو في تنقيح مقالي فيقطع أرجُل التنين دون أن يترتب على ذلك تغيير المعنى.

ولا أدرى لماذا لم أصِر على أن يمهلني يومًا آخر أتولى فيه تنقيح المقال بنفسي، ولكن لا جدوى الآن فعليَّ أن أترقَّب نشره وما سيترتب عليه.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:55 am

١٠ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وأمطار متقطعة.

استغرقتُ في نومٍ عميق ليلة الأمس بعدما تخلصتُ من التوتر الذي لازمني خلال كتابة المقال، ومرَّ الصباح بهدوء، وأخذتُ أطوف بأرجاء الحجرة وأشرب الشاي وأتبادل الفكاهات مع السيدة سائيكي العجوز وغيرها ممن رأيتُهم.

وبعد الظهر قمتُ بتفقُّد أحوال المرضى، ولكن لم يكن لدَي ما أفعله وخاصة أن جميع المرضى فيما عدا موظفي المصلحة كانوا تحت رعاية الدكتور ناجاياما والدكتور إيتا أوكو، ورأيتُ الآنسة فوتاكامي إحدى ممرضاتنا تجلس فوق مقعدٍ أمام حجرة الفرَّاشين وتحملق في الفضاء، كانت هذه الممرضة صحيحة البدن هادئة تعمل بجد ونشاط منذ التحقَت بقسم الأسنان بالمستشفى، وكانت تعمل ليل نهار منذ وقوع البيكا دون أن تنال قسطًا من الراحة؛ ولذلك بدا عليها الضعف والوهن والهزل، وحين اكتشفَت أنني أرقبها احمر وجهها خجلًا وانصرفَت في الحال.

إن نشاط البنات اللائي يعملن بالمستشفى مثل هذه الفتاة هو الذي جعلنا نتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها، ويجب علينا أن نقدِّر لهن جهودهن، فاجتمعتُ بالسيد سيرا مدير مكتب العمل لننظر في الوسيلة التي نستطيع بها مكافأة هؤلاء، وقد أيَّد الفكرة، وأحسستُ بالارتياح حين وجدتُه يسجل كل الساعات التي قضاها موظفو المستشفى في العمل وعلمتُ منه أنه ينوي تقديم تلك الكشوف إلى وزارة المواصلات.

وفي الطابق العلوي قابلتُ السيد أويوكوتا أحد أعضاء مجلس المدينة الذي جاء لزيارة بعض المرضى، وحين زارنا في الشهر الماضي كان يعاني من جراحٍ بالغة في قدمَيه وكان بادي الإعياء، أمَّا اليوم فقد بدَت عليه علامات الصحة.

فتجاذبنا معًا الحديث حول أحوال المدينة، وأطلعتُه على تطور الحال في المستشفى، فقلتُ له: «إن المستشفى في النهار يختلف عنه في الليل؛ فخلال النهار لا يتواجد بالمستشفى سوى المرضى، وعندما يحل المساء يفد إلى المستشفى أفراد عائلات المرضى الذين يقضون اليوم في العمل، ويتحول المستشفى إلى فندقٍ مجاني لهؤلاء الذين لا يجدون مكانًا يأويهم، ولكننا لا نستطيع أن نتحمل هذا الوضع إلى ما لا نهاية، فإذا استطعنا الحصول على بعض الخيام العسكرية الكبيرة لاستطعنا أن نقيم معسكرًا يأويهم في خرائب ثكنات الجيش الجنوبية، ونزيح عن كاهلنا عبء إطعامهم وإيوائهم».

فراقت له الفكرة وطلب مني أن أمهله حتى يتدارس الموضوع مع إدارة المدينة.

وعندما عُدتُ إلى حجرة الطعام وجدتُ في انتظاري خمسة عشر خطابًا فوق المنضدة كان من بينها ستة أو سبعة خطابات أرسلها إليَّ بعض أصدقائي القدامى من أوكاياما، أعربوا فيها عن ابتهاجهم حين علموا أنني ما زلتُ على قيد الحياة.

ولم أشعر بالسرور لتلقِّي خطابات الأصدقاء فحسب؛ بل سُررتُ حين علمتُ أن مقالي قد نُشِر بالفعل، وأن الناس قرءوه في مختلف المدن.

جاءت السيدة سائيكي العجوز إلى حجرتي وقالت لي: «يا دكتور، لقد تلقيتَ الكثير من الخطابات اليوم، ألا تدري أننا سنحصل على إنارةٍ كهربائية اعتبارًا من الليلة، انظر إلى تلك المصابيح التي يركبونها هناك». وأشارت إلى موقع المصابيح التي ستجعل النور يشع مرةً أخرى في أرجاء المستشفى.

لقد بدأ تسليم الخطابات، وعادت الكهرباء، وآن الأوان أن نستريح ونهدأ بالًا، وحين حل الليل كان الممر مضيئًا، ورغم أن المصباح كان صغير الحجم فإن نوره كان متألقًا، ولم أقدِّر يومًا قيمة الكهرباء مثلما قدَّرتُها اليوم.

يجب أن نحصل على مصابيح كافية لإنارة المستشفى جميعه.

ولَمَّا كان السيد ميزوجوتشي قد ذهب إلى قريته سينو ولم أتمكن من العثور على الدكتور تاماجاوا، فقد جلستُ أتجاذب أطراف الحديث مع السيدة سائيكي العجوز على الضوء الخافت حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:56 am

١١ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر بين حين وآخر.

فاتني أن أذكر أن السيد شيوتا كان قد ذهب لاستطلاع أحوال بيته للمرة الأولى منذ سقوط القنبلة، وعاد اليوم إلى المستشفى في الصباح الباكر، ولمَّا سألتُه عن أحوال بيته قال: «يا دكتور، لقد لحق الدمار ببيتي؛ إذ اتخذه نحو ٢٥٠ جنديًّا من أولئك الجنود الذين أُرسِلوا من طوكيو للمعاونة في تطهير المدينة مقرًّا لهم لمدة أسبوع، وضعوا خلالها اللمسات الأخيرة للدمار الذي حل بالبيت، فقاموا بإزالة السقف والأثاث وقرميد السقوف وكل ما وجدوه داخل البيت المنهار، وتركوه قاعًا صفصفًا، فأصبحتَ تستطيع أن ترى السماء فوق السقف بوضوح، وعندما يسقط المطر ينساب الماء داخل البيت عبر فجوات السقف. 


وقد تآكل حصير الأرضية (التتامي) وأصبح كل شيء في حالةٍ تدعو إلى الرثاء، وأسوأ من ذلك كله أنهم أتلفوا اللوحة التي تحمل العبارات الصينية الفلسفية (جاكو) المعروفة باسم نوكينا التي أودعتَها أمانة لدَي».

شعرتُ بالاكتئاب والأسى عندما علمتُ نبأ إتلاف الجاكو التي سبق أن أهديتُها إلى السيد شيوتا؛ فإن هذه الجاكو كانت تحفةً نادرة من الفن القديم كُتبَت على قماش القنب، ورثتُها عن أجدادي، وتحمل توقيع «هو» من مدينة أوكاياما بخطٍّ زخرفي أنيق، وكُتِب عليها الحكمة التالية: «حتى تصبح ناجحًا شريفًا متواضعًا عليك أن تكون رجلًا قوي العزيمة واسلك سبيل السلف».

ومنذ نعومة أظفاري كان آبائي يقرءونها لي ويذكرونني بها عندما يؤنبونني على ما قد أرتكبه من أخطاء، وعندما شببتُ عن الطوق كنتُ أجد متعة في تأمُّل جاكو كيوكو.

لقد كانت هذه الحكَم المصوغة شعرًا تُعَد دعامة التربية الخلقية في تلك الأيام، حتى إنني أكاد أرى الجاكو كيوكو ماثلةً أمامي وأنا أكتب هذه اليوميات، وأستطيع أن أكتب بوضوحٍ كل واحدة من تراكيبها الصينية (كانجي)، وأذكر الأجزاء التي بهتَت منها بفعل الزمن، والنقاط الصغيرة التي خلَّفها الذباب على سطحها.

وهناك جاكو أخرى من أعمال بوكودو إينوكاي أودعتُها عند صديقٍ آخر هو السيد يي شيما الذي كان يسكن على مسافةٍ قريبة من منزل السيد شيوتا، وسألتُ نفسي عما يكون قد حدث لها هي الأخرى، وهذه الجاكو كنت أعتز بها كثيرًا وأعلقها في حجرة استذكاري، وأبياتها التي ما زلتُ أذكرها بوضوحٍ تقول: «إن جانش (تلميذ كانفوشيوس) الذي لم يتوقف عن دراسة الفضيلة كان فقيرًا معدمًا لا يملك من حطام الدنيا سوى قلة ماء، ولكن فقره لم يؤذِ أحدًا، أمَّا المتكبر الذي يصد عن الفضائل فهو إنسانٌ بالغ السوء حتى لو كان هذا الإنسان هو الملك كي ري كو (أحد ملوك الصين القدامى)، صاحب آلاف الأتباع الذين يقفون رهن إشارته على صهوات جيادهم».

لقد أيقنتُ الآن كم كانت تلك الأشياء ثمينة، وأنني عندما كنت ممتلئًا بالثقة بالنصر ومشغول الذهن بالإمبراطور لم أشعر بتلك القيمة، لقد شعرتُ بهذا عندما لحق الدمار ببيتنا في أوكاياما في يوليو الماضي، ودُمرَت معه الكثير من النفائس التي كانت تقتنيها أسرتي، والتي أرسلتُها إلى هناك لتكون بمأمنٍ بعيدًا عن هيروشيما، وعندما فقدتُ كل شيء لم أعد أشعر بالجزع، شعرتُ أنني قد تخلصتُ من عبءٍ ثقيل؛ فإن فقد الهيكل البوذي الخاص بأسرتي،٣٥ لا يجعلني أشعر بالأسى لأن فقده يعطيني الحق في أن أعيش في أي مكان وأتوجه حيث أشاء، فكل مكانٍ أحل به بعد الآن سيصبح بيتي وموطني، وهذا الموقف ولَّده عندي الشعور بواجب التضحية بكل شيء من أجل الوطن، ولا ريب أن أسلافنا وأحفادنا سيلتمسون لنا العذر.

لقد تغيَّرَت الظروف، فمنذ البيكا أصبحنا جميعًا ممزقين، وقتالنا كان قتال المهزومين.

لم يعد هناك معنًى لبيوتنا أو للنفائس الثمينة الخاصة بعائلاتنا، حتى السيد شيوتا الذي لحق الدمار بمنزله لا زال يتمسك بما بقي منه، فالبيت عند الياباني هو البيت؛ لذلك أحسستُ بالوحدة كما لم أُحس بها من قبلُ فقد أصبحتُ بلا بيت.

إن الأوضاع في عنابر المستشفى آخذة في التغير، فقد مات أحد المرضى، وغادر المستشفى بعض المرضى الآخرين، ودخلها مرضى جدد، وتحسنَت حال الفتاة الجميلة التي كانت ترقد وسط بركة من القيح، وكانت تبدو عليها السعادة عندما أخبرَتني بعد ظهر اليوم أنه أصبح باستطاعتها أن تذهب إلى المرحاض بنفسها دون الاعتماد على أحد، ولعلَّ تحسُّن حالتها راجع إلى أن حروقها كانت ناجمة عن النار وليس عن الإشعاع الذري، ولاحظتُ أن حالة أربعة أو خمسة من المرضى الثلاثين الذين دخلوا المستشفى مؤخرًا تختلف بعض الشيء عن المرضى الذين دخلوها من قبل، فهؤلاء المرضى لم تبدُ عليهم أية أعراض حتى نهاية أغسطس، ثم ظهرَت عليهم بعد ذلك أعراض الضعف العام والبثور والصلع والْتهاب الحلق، وعلى الرغم من ذلك فأعراضهم أخف حدة مما كان يعانيه المرضى الذين سبقوهم في الإصابة، وجميع هؤلاء المرضى أُصيبوا على بُعدٍ يزيد على ١٠٠٠ متر من مركز التفجير، وكان أحدهم في موقعٍ يبعد ١٧٠٠ متر من ذلك المركز، فأزعجَتني حالته؛ لأن بيتي كان يقع على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٥٠٠–١٦٠٠ متر من مركز التفجير.

وعُدتُ إلى حجرتي وقد تملكني شعور بالضيق والانقباض، فقد يحل دوري بعد حين وتبدأ أعراض الإصابة بمرض الإشعاع الذري في الظهور عندي، وشعرتُ بالقلق على زوجتي، ولكنني أحسستُ بالاطمئنان حين وجدتُها جالسة في فِراشها بادية السعادة لأنها أصبحَت الآن تستطيع الذهاب إلى المرحاض بنفسها.

في المساء زارني بعض الأصدقاء وجلسنا نتحدث حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:56 am

١٢ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع تساقُط الأمطار بين حين وآخر.

عاد المطر يتساقط من جديد بعد أن استمتعنا بيوم أو يومين تميَّزا بالطقس اللطيف، فجلب لنا معه الضيق والضجر، وكنت أستيقظ كل صباح تقريبًا لأجد البطانيات مبللة، فتنشرها السيدة سائيكي العجوز في الممر حتى تجف.

وعلمتُ منها هذا الصباح أنها ستطلب من السيد ميزوجوتشي أن يسد النوافذ بقطَع من الخشب لتقيني شر البرد.

وبعد تناوُل الإفطار جلستُ أرتشف كوبًا من الماتشا مع الجدة سائيكي، وكم كنتُ أتمنى أن يشاركني الدكتور تاماجاوا تلك الجلسة، ولكنه كان مشغولًا جدًّا؛ فقد توفَّر لديه عدد من جثث المرضى الذين يُتوفَّون كل يوم، وكان عليه أن يقضي معظم الوقت في المشرحة، فبدا وكأنه في صراع مع الموتى، يعاونه في هذا العمل الدكتور هيياشو الذي سُرِّح من خدمة الجيش مؤخرًا، وطالب الطب المتطوع السيد أوجاوا، ورغم ذلك كان ثلاثتهم عاجزين عن تغطية حجم العمل المُلقَى على عاتقهم، وأضاف المطر المزيد إلى المتاعب التي كانوا يعانون منها، فبدَوا كل يوم مثل الفئران المبتلة.

بعد الظهر أحضر السيد ماتسوموتو الجريدة التي نشرَت مقالي وقد أفردَت له صفحةً كاملة ونشرَت صورتي، وحمل المقال عنوانًا يقول: «القنبلة الذرية ومرض الإشعاع الذري».

وتحته عناوين فرعية تقول إنه من الممكن أن يعيش الناس حول مركز التفجير، وأن مرض الإشعاع الذري يمكن أن يشفى منه بالطعام الجيد.

وكمقدمة للموضوع ذكرَت الجريدة أنني أُصِبتُ إصاباتٍ بالغة واضطُررتُ أن أُجري أبحاثي وأنا مقيَّدٌ معزول، فبدأتُ من الصفر دون أن ألقي بالًا إلى المعلومات السابقة.

وفيما عدا ذلك نُشِر المقال بنصه الحرفي، وأُضِيف في نهايته نص الإعلان الذي كنت قد ألصقتُه على جدران المستشفى حول مرض الإشعاع الذري.

وجملة القول أن الجريدة عالجَت مقالي بصورةٍ جيدة واهتمَّت به اهتمامًا يفوق ما يستحق.

وقد سُرِرتُ لرؤية الجريدة، ولكني اكتشفتُ أنني نسيتُ أن أذكر شيئًا عن تناقُص صفائح الدم، كما أغفلتُ استخدام بعض المصطلحات الطبية، وكانت استنتاجاتي أحيانًا أكثر جرأة مما يجب.

قررتُ أن أستحم اليوم لأتخلص من الأقذار العالقة بجسدي، دون أن أُلقي بالًا لجرح فخذي، فانتهزتُ فرصة توقُّف المطر نحو الساعة التاسعة مساءً وذهبتُ إلى المطبخ حيث خلعتُ ملابسي، وكان الجو باردًا، واتجهتُ إلى الحمام عاريَ القدمين ولكني وجدتُ الماء حارًّا داخل المغطس، فصببتُ فيه سطلَين أو ثلاثة من الماء البارد ثم اغتسلتُ، وجلستُ داخل المغطس على الطريقة اليابانية والدخان يتصاعد من حولي فيسيل دموعي.

لقد كان هذا أول حمامٍ كامل أستمتع به منذ البيكا، فرأيتُ أن أستمتع به إلى أقصى حد وأرخيتُ جسدي قليلًا داخل المغطس حتى يبلغ الماء ذقني، ففاض الماء، وأطفأ النار تحت المغطس، وخيم على الحمام ظلامٌ دامس أتاح لي فرصة الانفراد بالمكان دون أن يزعجني أحد.٣٦

ذهبتُ إلى فِراشي شاعرًا بالدفء والراحة، ونمتُ نومًا عميقًا، ولم يقطع المطر الغزير متعة النوم؛ لأن النافذة أصبحَت مُغطَّاة بملاءة من القماش.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:57 am

١٣ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر بين حين وآخر.

زارني هذا الصباح طبيبٌ شاب، أحضر معه مجهرًا، وطلب مني أن أسمح له بفحص بعض الحالات الموجودة بالمستشفى، فرحبتُ به وتمنيتُ لو كنا قد حصلنا على مثل هذه المعاونة في وقتٍ مبكر، ولو كان بعض كبار الأطباء الذين زاروا هيروشيما قد بقوا معنا لمساعدتنا عند بداية الحوادث عندما كنا نناضل دون أن تتوفر لدَينا المعرفة أو المعدات الكافية؛ لخفَّف ذلك عنا بعض العبء، ولكن المسألة اتضحَت الآن، ولا أظنه يستطيع أن يستكشف أبعد مما توصلنا إليه، غير أني لم أبخل عليه بالتشجيع.
وعندما أبلغتُه بموافقتي كان سعيدًا غاية السعادة، وكأنه نال كنزًا ثمينًا.

بلغَتنا إشاعةٌ اليوم مؤداها أن قوات الحلفاء نزلَت الأراضي اليابانية، فانزعج الكثير من سكان هيروشيما، وانعكس هذا الانزعاج على المستشفى ففر بعض المرضى.

وعندما تفقدتُ عنابر المستشفى بعد الظهر كانت تكاد تخلو من المرضى، حتى السيدة سوسوكيدا التي لم تُشفَ حروقها بعدُ غادرَت المستشفى دون إذن.

وبصفةٍ عامة كانت النساء أكثر خوفًا من الرجال؛ لأن البعض أشاع أن جنود الاحتلال يغتصبون النساء، ولم أعرف الدافع وراء ترويج مثل هذه الإشاعات الآن، فقد شُوهِد الأمريكان والإنجليز يتجولون وسط خرائب هيروشيما منذ بداية سبتمبر، ولم أكن أعتقد أن هناك ما يدعو إلى القلق، فالغربيون أناسٌ متحضرون، وليس من طباعهم السلب والنهب والاغتصاب، ولكني رأيتُ أن من واجبي أن أكتب كلماتٍ بالإنجليزية تُثبَّت على حوائط المستشفى عند المدخل تشير إلى نوعية المكان، وأن أرفع علم الصليب الأحمر على الشرفة؛ حتى إذا رأوه قدَّروا مسئولياتنا وتجنبوا إزعاج المرضى.

ورغم انشغالي بالمستشفى والمرضى، لم أنسَ أنني زوج، فبدأتُ أفكر في زوجتي، كم كنتُ أتمنى أن أُبعدها عن هيروشيما في أقرب وقتٍ ممكن لتلحق بولدنا، كما انتابني القلق على الممرضات اللاتي يعملن بالمستشفى وخشيتُ أن يلحقهن الأذى.

أمَّا زوجتي فكانت تُبدي عدم الاكتراث بالأمر، وكلما تعمَّقتُ في التفكير كلما ازددتُ قلقًا عليهن، ودخَّنتُ العديد من السجاير، وقطع عليَّ التفكير وصول السيد ياسودا أحد موظفي الشئون العامة بمصلحة المواصلات، وكانت تقع على عاتقه مسئولية حماية صورة الإمبراطور في حالة الطوارئ، وكان راكبًا الترام في الطريق إلى مبنى المصلحة عندما سقطَت القنبلة، وتوقف الترام عند محطة هاكوشيما، غير أنه استطاع الوصول إلى المصلحة فوق أنقاض المنازل وعبْر النيران المشتعلة، وما كاد يصل إلى مبنى المصلحة حتى صعد إلى الطابق الرابع حيث كانت صورة الإمبراطور معلقة هناك داخل حجرةٍ محصنة ببابٍ حديدي، فاستعان بثلاثة من زملائه وحمل الصورة إلى مكتب رئيس المصلحة حيث تناقش الجميع حول إيجاد وسيلة لإنقاذ الصورة من التلف، واستقر رأيهم على حمْلها إلى قلعة هيروشيما، فحمل السيد ياسودا الصورة فوق ظهره، وتولى السيد كاجي هيرا حراسة المقدمة، وقام السيد أوشيو بحراسة المؤخرة، أمَّا السيد آياوا والسيد أوتشي فقد توليا حراسة الجانبَين.

واتجهوا عبْر الحديقة الداخلية لمبنى المصلحة وهما يُعلنان للناس أنهما يحملان صورة الإمبراطور صائحَين: «صورة الإمبراطور ينقلها رئيس الشئون العامة إلى ساحة التدريب الغربية!» فما كاد الموظفون والمرضى يسمعون ذلك حتى ركعوا احترامًا للموكب الذي اتجه إلى الباب الخلفي للمبنى.

ثم تذكر رئيس الشئون العامة أنه نسي إحضار علم مصلحة المواصلات ليتقدم موكب صورة الإمبراطور؛ حيث تقضي التقاليد بضرورة وجود العلم عندما تُنقَل صورة الإمبراطور من مكان إلى آخر، فعاد السيد آوايا لإحضار العلم وقبل أن يعود إلى رفاقه أحاطت بهم النيران، فواصلوا السير دونه حتى بلغوا مدخل القلعة، وحين شرحوا للجنود الغرض من مقدمهم نصحوهم بالبحث عن مكانٍ آخر غير ساحة التدريب الغربية؛ لأن المكان مهدد بالنيران، فغيَّروا طريقهم واتجهوا صوب حديقة آسانو سنتاي حتى بلغوا ضفاف نهر أوتا.

وخلال الطريق مر الموكب بالكثير من الموتى والجرحى والجنود المصابين، وكان عددهم يتزايد كلما اقتربوا من ضفاف النهر حتى أصبحَت الطريق مزدحمة بالناس فتعذر عليهم المرور فأخذوا يصيحون في الناس: «صورة الإمبراطور، صورة الإمبراطور».

فأفسح الناس الطريق وأحنى من استطاع منهم الوقوف هامته احترامًا للصورة حتى بلغ الموكب ضفَّة النهر سالمًا.٣٧

روى لي سيد ياسودا هذه القصة بزهوٍّ شديد، فذكر لي أنهم عندما بلغوا ضفَّة النهر أنزلوا الصورة بأحد القوارب، واستل أحد الضباط سيفه مؤديًا التحية العسكرية لها، وأصدر الأوامر لجنوده للإبحار بها بينما اصطف الجنود على ضفَّة النهر يؤدون التحية العسكرية وأحنى المدنيون هاماتهم احترامًا وتبجيلًا.

وقلتُ للسيد ياسودا معقبًا على قصته هذه: «لقد فعلتَ شيئًا عظيمًا كنتَ فيه رمزًا للشعب الياباني».

فاحمرَّ وجهه خجلًا وأبدى أسفه لأن اليابان خسرَت الحرب، ولكني أكَّدتُ له أنه باشتراكه في إنقاذ صورة الإمبراطور كان جنديًّا باسلًا، وأنه في رأيي يستحق وسامًا ومكافأة على هذا العمل الجليل.

بينما كنا نتناول طعام العشاء وصلَت إلى أنوفنا رائحة حرق إحدى الجثث، وكانت تلك الرائحة تشبه رائحة شي السردين فذكَّرَتني بالأيام التي أعقبَت البيكا، غير أننا تناولنا العشاء دون اكتراث، فقد تعودنا على استنشاق هذه الرائحة الكريهة، ولم تعُد شهيتنا تتأثر برائحة الموت.

وبعد العشاء رويتُ قصة إنقاذ صورة الإمبراطور للسيد ميزوجوتشي والسيدة سائيكي العجوز وزوجتي والآنسة كادو.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 1:59 am

١٤ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وأمطار متفرقة.

كان الدكتور تاماجاوا غائبًا في زيارة لأوكاياما عندما ماتت مريضة الأمس الآنسة تاكاتا؛ ولذلك لم تشرَّح جثتها، ووفاتها كانت الحالة الوحيدة خلال بضعة أيامٍ مرَّت دون أن تحدث فيها حالة وفاة، وتطوُّر مرض الآنسة تاكاتا.

كان مسجلًا على النحو التالي:
    تاكاتا، أنثى، العمر ٢٨ عامًا.

   
تاريخ الدخول: ٢٨ أغسطس ١٩٤٥م.

    الشكوى العامة: إعياءٌ تام.

    تاريخ المرض: غير محدد.

    الحالة الحالية: أُصيبَت عند شركة توزيع الأدوية في هاتشوبوري على بُعد ٧٠٠ متر من مركز التفجير، شعرَت بعدها بالضعف والغثيان والقيء والإعياء التام والإسهال لمدة يومين، ثم استعادت صحتها وشهيتها بعد ذلك تدريجيًّا وزاولَت أعمالًا خفيفة، ولكنها فقدَت حاسة الذوق، وكانت تشعر بالتعب لأقل جهد، ورغم فقدانها لحاسة الذوق فإنها كانت تأكل جيدًا، وبدأَت تفقد شعرها بعد الإصابة بثلاثة أيام، ثم تزايد سقوط الشعر اعتبارًا من ٢٥ أغسطس، وجاءت إلى المستشفى يوم ٢٨ أغسطس لإجراء الفحوص.

    تحسنَت حالتها ببطء ولكن ضعفَت شهيتها للطعام وأصابها وهنٌ شديد وفقدَت نحو ثلثي شعر رأسها، النبض طبيعي، والتنفس منتظم، الوجه شاحب، تبدو أعراض الأنيميا في عينيها، حالة الفم طبيعية، لا يوجد أي أعراض غير طبيعية في الصدر والبطن، البول طبيعي، نقصٌ شديد في كرات الدم البيضاء.

    أول سبتمبر ١٩٤٥م: ظهرَت بثور على الصدر، تشكو من ضعفٍ شديد.

   
٥ سبتمبر ١٩٤٥م: ازداد حجم البثور كما ازداد عددها، وأصبح الكثير منها في حجم بصمة إصبع الإبهام، درجة الحرارة ٤٠، النبض ضعيف قليلًا، تشكو من الوهن وفقدان الشهية، تقضي حاجتها ثلاث مرات يوميًّا.

    ٩ سبتمبر ١٩٤٥م: النبض ضعيف، ازداد عدد البثور وتحوَّل حجمها من مثل حجم رأس الدبوس إلى مثل حجم الإبهام، ولونها ما بين الأرجواني والبني.

  
  ١٣ سبتمبر ١٩٤٥م: تُوفِّيت.

وتمثِّل حالة هذه المريضة وتطور المرض عندها نموذجًا لأعراض وتطورات مرض الإشعاع الذري.

توجهتُ بعد الإفطار إلى مبنى المصلحة بحثًا عن السيد أويشي لأعرف منه بقية قصة إنقاذ صورة الإمبراطور، فبحثتُ عنه هناك دون جدوى، ولكني التقيتُ ببعض العاملين بمخزن المصلحة الذين أُصيبوا خلال البيكا، وكان يبدو عليهم الإرهاق والتعب واليأس، وأخبرني أحدهم أنه أصبح من الصعب الحصول على الطعام الكافي لإطعام الموظفين والمرضى وعائلاتهم الذين يبلغ عددهم جميعًا نحو الثلاثمائة؛ إذ يصعب الحصول على الأسماك والخضروات الطازجة بسبب ارتفاع الأسعار، وقد أزعجني هذا فذهبتُ إلى السيد إيماتشي رئيس قسم التوريدات بمصلحة المواصلات بهيروشيما، واتجهنا معا إلى غرفة الطعام بالمستشفى حيث روى لي الصعوبات التي تواجه قسم التوريدات لتوفير الأرز والخضروات لعدم توافر المال لدى المصلحة بسبب احتراق الخزانة الحديدية خلال الحوادث، وذكر لي أن التجار والفلاحين أصبحوا لا يفرطون في المواد التموينية بسهولة، وأطلعني على أحد السجلات التي تبين الأسعار التي يشتري بها المواد التموينية، وكانت هذه أول مرةٍ أرى فيها مدى الارتفاع الجنوني للأسعار.

وخلال حديثه معي تعلمتُ مصطلحًا جديدًا ذكره لي يجري على ألسنة الناس في المدينة هو الحفر في «مناجم المدينة»، فقد درج الناس على التجول وسط الخرائب بحثًا عمَّا قد يقع تحت أيديهم من أشياء نافعة يبادلون بها الطعام، فشعرتُ بالخجل لذلك، ولكني التمستُ العذر للناس.

عاد الدكتور تاماجاوا من أوكاياما في ساعةٍ متأخرة من الليل، وأحضر معه علبة من الماتشا أعطاها له صديقٌ قديم يُدعى ناكامورا، وذكر لي الدكتور تاماجاوا أن أهالي أوكاياما لا يقلِّون معاناة عن مواطني هيروشيما، وأن مستشفانا يُعَد بالمقارنة بغيره جنةً مليئة بالخيرات، فلم يستطع الدكتور تاماجاوا أن يجد سيجارة يدخنها خلال اليومين اللذين قضاهما في أوكاياما.

وحين قدَّمتُ له علبةً كاملة من السجاير لامني على ذلك بقوله: «إنك تعيش هنا يا هاتشيا عيشةً مترفة».

وأخذ يدخِّن بنهمٍ شديد.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:00 am

١٥ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر بين الحين والآخر.

زارني بعد الإفطار بعض موظفي مكتب بريد كوري، وعلمتُ منهم للمرة الأولى أن جيش الاحتلال قد نزل هناك.

حتى كلمة «جيش الاحتلال» كانت تبدو غريبة بالنسبة لي، وشعرتُ بالحزن العميق لاحتلال قوات الحلفاء هذه القاعدة البحرية الكبيرة التي تعلمتُ منذ طفولتي أنها من أهم قواعد الأسطول الإمبراطوري.

وعلمتُ من أصدقائي أن ميناء هيروشيما في أوجينا سيُحتَل بدَوره، وأن الناس قد بدَءوا يُقيمون أسوارًا حول بيوتهم ويضعون أقفالًا على الأبواب والنوافذ؛ لأنهم سمعوا أن جنود الحلفاء لا يدخلون مكانًا تحيطه الأسوار ولا يقتحمون بيتًا موصد الأبواب، كما علمتُ منهم أن جنود الحلفاء مغرمون بالنساء ويتوددون إليهن، وأن جنود الحلفاء يظهرون بين الحين والآخر حول محطة سكك حديد هيروشيما.

بدأ البريد ينتظم في الوصول منذ أول سبتمبر وتلقيتُ ٢٤ أو ٢٥ خطابًا دفعةً واحدة أُرسلَت معظمها من أصدقاء قرءوا مقالي في جريدة سانجيو كيزاي امتدحوا فيها المقال وهنأوني بالنجاة من الموت، وبعض هذه الخطابات تحمل تواريخ تقع حول العاشر من أغسطس أرسلها بعض الأصدقاء يسألون عن سلامتي.

أخذ تعداد المقيمين في المستشفى يتناقص فلم يبقَ فيها إلا غير القادرين على الحركة، أمَّا الآخرون فقد فرُّوا ملتمسين النجاة قبل وصول جنود الاحتلال، ومعظم من بقوا لدَينا كانوا أطفالًا يتامى لم يغادروا المستشفى لعدم إدراكهم لما يدور حولهم.

بعد الغداء علمتُ أن قوات الاحتلال موجودة عند محطة هيروشيما وأنه من الممكن مشاهدتهم هناك، فدفعني الفضول إلى الذهاب إلى المكان لرؤيتهم، وفي الطريق إلى المحطة أدهشني رؤية بعض الشباب ذوي الشعر المسترسل والرءوس العارية الذين يسيرون هنا وهناك بزهو وخيلاء، وبالقرب من المحطة رأيتُ الكثير من هؤلاء الشباب ذوي الشعر المسترسل، وحين سألتُ عن سر هذه الظاهرة قيل لي إنه آخر طراز في تصفيف الشعر.

لقد خسرْنا الحرب وكسبنا طول الشعر!

كنا نُعاقَب أيام التلمذة بحلق رءوسنا إذا خسرَت مدرستنا مباراةً لعبَتها ضد مدرسةٍ أخرى، وكان الشعر القصير أمرًا مألوفًا خلال سني الحرب، أمَّا الآن فقد أرسل هؤلاء الشباب شعورهم حتى لا يظنهم الحلفاء من الجنود المسرَّحين فيعتقلوهم.

أمَّا المحطة، أو ما بقي من المحطة، فكان يعج بالناس الذين كانوا يتحركون هنا وهناك على غير هُدى، ولكني لم أشاهد جنودًا، وحول المحطة كانت هناك عششٌ صغيرة يجاور بعضها بعضًا تبيع ألوانًا متعددة من الطعام الرديء، ورغم قذارة تلك العشش كان الإقبال على بضاعتها شديدًا.

ومعظم الذين رأيتُهم كانوا يرتدون بزاتٍ عسكرية، حتى البنات كن يرتدينها، أمَّا الذين كانوا يرتدون ملابس البحرية فكانوا أفرادًا قلائل.

وهزَّني منظر سيدةٍ عجوز ترتدي كيمونو زفافها وتحمل على ظهرها سلةً بها بعض ثمار البطاطا، ويبدو أنها افتقدَت كل ملابسها فلم تجد ما ترتديه سوى هذا الكيمونو التذكاري الذي تمكنَت من إنقاذه من الحريق.

أمَّا المحطة فقد أُقِيم عليها مكتبٌ متواضع لصرف التذاكر وسقيفة صغيرة ينتظر تحتها الركاب، فتوقفتُ قليلًا أرقب الناس يروحون ويغدون، جنودٌ مسرَّحون يحملون حقائبهم الكبيرة فوق ظهورهم جنبًا إلى جنب مع المدنيين من ضحايا الحرب، وشاهدتُ طفلًا صغيرًا عاريَ الجسد إلا من سروالٍ قذر يستجدي الطعام ممن يأكلون على الرصيف، ولا يكاد يتحرك إلا إذا قدَّم له بعضهم فضلًا من طعامه، وذكَّرني منظر هذا الطفل الحزين بالأطفال الذين رأيتُهم في منشوريا وكوريا بعد أن اجتاحَتهما قواتنا منذ ثمانية عشر عامًا، فقد كان أطفال منشوريا وكوريا عندئذٍ يستجدون الطعام منا، ولا شيء يمثِّل الهزيمة مثل هؤلاء البؤساء المشردين.

ولم أستطع متابعة المشاهد المؤلمة المحيطة بالمحطة ففضَّلتُ أن أعود أدراجي إلى المستشفى، وفي طريق العودة مررتُ بموقع القيادة الغربية لفرق الفرسان وهزني السكون المطبق المخيم على المكان، وتذكرتُ أولئك الضباط والجنود الذين كانوا موضع فخارنا، تُرى ماذا يخبئ المستقبل لهم؟ فقد شاهدتُ عند المحطة ضابطًا عجوزًا يستجدي الطعام.

ومَرَّ في مخيلتي شريطٌ كامل للمأساة:
ضحايا الحرب المنهكون، الجنود المسرَّحون، العجائز الذين يستندون إلى الأعمدة المحترقة، الناس الذين يسيرون بلا هدف، الشحاذون.

إن هذه الظواهر التي ابتُلينا بها هي التي انتصرَت علينا، وعمَّقَت وقع الهزيمة في نفوسنا.

بعد تناوُل العشاء شرد ذهني إلى المناظر التي رأيتُها عند محطة هيروشيما، كم كانت الأنانية تسيطر على الناس، تُرى أي مجتمع تعس ذلك الذي نعيش فيه؟

كان كرام الناس يستجدون ويرتدون الأسمال، أمَّا الذين بدَت على وجوههم سمات الشر وفاضَت ألسنتهم ببذيء القول فكانوا يرتدون أحسن الثياب.

كان الذين يلبسون بزات الطيارين يبدون مثل رجال العصابات ويطاردون الفتيات البائسات عند المحطة بوقاحة لم نعهدها من قبل، إن البلاد تنحدر إلى الوضاعة والخِسَّة، شعرتُ بالكراهية لهم، وتألّمتُ عندما قفز إلى ذهني احتمال وصول أمثالهم غدًا إلى السُّلطة.

كم تغيَّرَت الأحوال! تُرى ماذا يُخَبِئُ القدر لذلك الضابط العجوز الذي رأيتُه يستجدي الطعام؟



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:01 am

١٦ سبتمبر ١٩٤٥م

يومٌ ممطر ملبَّد بالغيوم.

زارني الدكتور آكي ياما على غير عادته وقد ارتسمَت على وجهه علامات الفزع، ونصحني بالهرب قبل وصول قوات الحلفاء حتى لا أُعرِّض زوجتي للخطر، مؤكِّدًا أنهم لن يُبقوا على شيء، وطلب مني أن أسمح له بنقل زوجتي بعيدًا عن المدينة إذا كنتُ مصرًّا على البقاء فيها.

فتأثرتُ لموقف الدكتور آكي ياما، فقد سبق له الخدمة في الصين، وكان يخشى أن يحدث لنا مثلما حدث في شمال الصين، فشكرتُه على نصيحته، ووعدتُه بإبلاغ زوجتي وجهة نظره، وطلبتُ منه أن يمهلني حتى أفكر في الموضوع.

وعندما قمتُ بتفقُّد المرضى اليوم سمعتُ إشاعتَين جديدتَين، تقول إحداهما إن مَنْ جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا قد أصابهم مرض الإشعاع الذري، أمَّا الأخرى فتقول إن مَنْ بقوا في هيروشيما بعد حادث القنبلة سيصيبهم الصرع ويموتون خلال عامٍ واحد، وكان عدد المرضى لا يزال آخذًا في التناقص، أمَّا مَنْ بقوا بالمستشفى فقد كانت حالتهم تميل إلى الثبات أو التحسن.

وعندما عُدتُ إلى حجرتي وجدتُ زوجتي تضحك مع السيدة سائيكي العجوز، وكانت العمَّة شيما قد أحضرَت لزوجتي هاءوري (بالطو من الصوف يُلبَس فوق الكيمونو)، وكانت زوجتي تُريه للسيدة سائيكي، كما تلقيتُ هدية من المصلحة عبارة عن بدلة ومعطف من الصوف، وبذلك أصبح لدَينا ملابس تقينا برد الشتاء.

وعندما رأى السيد ميزوجوتشي هذه الملابس الجديدة أيقن أن شحنةً جديدة من المعونة في طريقها إلى المستشفى، وسعى إلى إدارة المدينة للحصول على نصيبٍ منها للمرضى، وأكَّدَ لي بعد عودته أنه سيوفر للمرضى وللعاملين ما يكفيهم من الملابس الشتوية.

بعد العشاء تناقشنا في موضوع التسليم للحلفاء بلا قيد ولا شرط وحل الجيش والبحرية ومصادرة الأسلحة والذخائر، وتردَّدَت إشاعة حول احتلال الجيش الوطني الصيني لجزيرة شيكوكو، وأن المخازن العسكرية بما فيها من ملابس ستصبح من نصيب جيش الاحتلال الصيني.

ورأينا في هذه الإشاعة تفسيرًا لتوفر الملابس التي كان مصدرها مخازن الجيش الموجودة في الجبال، وكانت القطارات التي تمر بهيروشيما تعج بالمواطنين الذين يحملون الملابس العسكرية المنهوبة من مخازن الجيش بحجة أن دافعي الضرائب اليابانيين أحق بها من جيوش الحلفاء، وامتلأَت المدينة بالناهبين الذين كان بعضهم يتحلّى بصفاتٍ أخلاقية؛ فكانوا يسرقون ليُعطُوا ما يسرقونه للفقراء والمحتاجين، ولكن غالبيتهم كانوا يبيعون حصيلة ما ينهبون ويتحولون بين عشية وضحاها إلى أثرياء.

لم يكن أحَدٌ يفكر في السرقة خلال الحرب، وكانت الممتلكات والبضائع تُترَك في العراء دون حاجة إلى حراسة، أمَّا اليوم فلا وجود للأمن بين ربوع البلاد.

وكنا كلما استغرقنا في الحديث كلما ازددنا فلسفة وتفاؤلًا، فقد كنا ندفع نحو ٨٠% من دخولنا كضرائب للإنفاق على الخدمات العسكرية، فهذه الأشياء هي في نهاية الأمر ملك للشعب الذي اشتراها بأمواله فهو أحق بها من المحتلِّين الأجانب.

وانتهت المناقشات في ساعةٍ متأخرة من الليل بالتفاؤل في مستقبَلٍ أحسن في ظل السلام، وقدْرٍ أقل من الضرائب، وبعض الحرية في مجتمع لا توجد فيه شرطةٌ عسكرية تتحكم فينا.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:01 am

١٧ سبتمبر ١٩٤٥م

أمطارٌ غزيرة ثم عاصفة شديدة.

عندما استيقظتُ في الصباح كانت السماء تمطر، وبعد تناوُل الإفطار تلقيتُ بريد اليوم الذي تضمَّن خطابًا من الدكتور موري يا بداخله بعض الصور التي التقطها لنا خلال زيارته للمدينة، فعكفتُ على دراستها، وأدهشني أن أرى آثار الجروح قد أضفَت على ملامحنا مظهرًا بائسًا، وكان بجسدي ١٥٠ أثرًا للجراح على أقل تقدير، أمَّا وجه الدكتور ساسادا فكان محترقًا، وكانت هناك خمس عشرة ندبة بجسد زوجتي، أمَّا الدكتور كوياما فكان مجروحًا في رأسه.

ورغم أن هذه الندبات لا تكاد تظهر في الصور فقد تحسستُ موضع الجراح في وجهي، وتمنيتُ أن تتلاشى كما تكاد تتلاشى في الصور؛ لأن بقاءها يجعلني مثل يوسا المحتال الأسطوري الذي كان يُعاقَب على ما يفعل بجراح في وجهه حتى بدا مثل قاطع الطريق.

ولم أكن أتصور أن الدكتور ساسادا قد فقد إلى الأبد ملامح البراءة التي كانت تميز وجهه بعد هذه الإصابات، أمَّا وجه زوجتي الذي كان خاليًا من الندبات أصبح اليوم مليئًا بها.

تُرى كيف نستطيع أن نواجه الناس بوجوهٍ مشوهة؟

وكانت الصور توضح الضمادات والأسرَّة المتهالكة والملاط المتساقط والأسلاك الكهربائية المقطعة إنها تُعَد سجلًّا قيِّمًا لما حدث، وأسعدني الحصول عليها فكتبتُ للدكتور موري يا شاكرًا.

شعرتُ بآلام في المعدة، وعندما حان وقت الغداء لم أستطع تناوُل الطعام، واكتفيتُ بارتشاف كوب من الماتشا، وبينما كنت أفكر في محل الشاي الذي يملكه صديقي ناكومورا في أوكاياما هبَّت الرياح فجأةً، وما هي إلا لحظات حتى اشتدَّت سرعتها وارتفعَت حرارتها، فخشيتُ أن يعقبها مطرٌ غزير، واتجهتُ إلى غرفتي لأتأكد من تثبيت حاجز النافذة، وحاولتُ أن أُبعد الأسرَّة عن النوافذ بقدر الإمكان حتى إذا سقط المطر كنا بمنجاة من البلل إلى حدٍّ ما، وأخبرتُ زوجتي باستعداد الدكتور آكي ياما للمساعدة في ترحيلها خارج المدينة، ولكنها ضحكَت ولم تعلق على كلامي، واستمرَّت تعاونني في إزاحة الأسرَّة بهدوء.

وبعد تناوُل العشاء سكنَت الرياح فجأةً ثم انهمر سيلٌ جارف من المطر، لم تكن هذه عاصفةً عادية ولكنها كانت تيفونًا، وما هي إلا لحظات كانت المياه تملأ الحجرة وتبدو كالأمواج في عرض البحر، وتمزقَت الملاءة التي كانت مثبتة على النافذة المجاورة لسريري، وأخذَت الناموسيات ترفرف كالأعلام، وأصبحنا وكأننا ننام في عرض الطريق.

وعادت الرياح تهبُّ بسرعةٍ شديدة نحو الساعة التاسعة، فاندفع الناس من المدينة إلى المستشفى ومبنى المصلحة يلتمسون ملجأ، وقليل من أولئك الذين استطاعوا النجاة بأنفسهم قبل أن تنهار فوق رءوسهم الأكواخ التي يعيشون فيها، وارتفعَت المياه حتى خشينا أن تتحول إلى فيضان، وأصبح كل فردٍ منا مبتلًّا حتى الجلد.

وما كاد يحل منتصف الليل حتى أصبح كل شيء في المستشفى يبدو وكأنه متروك في العراء.

وتوقفَت الرياح بعد منتصف الليل بقليل، وأعقبها توقُّف المطر، ولكننا لم نذق للنوم طعمًا؛ فقد كنا جميعًا مبللين ومتوترين لدرجةٍ جعلَت النوم يذايل جفوننا.

ولكننا غفونا قليلًا قبَيل الصباح.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:02 am

١٨ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ ملبَّدة بالسحب التي ما لبثَت أن انقشعَت.

استيقظتُ لأجد العاصفة قد مرَّت، ولكن أكتافي وفخذي كانت تؤلمني، وأصبح أنفي مسدودًا بسبب الزكام، وحين خرجتُ إلى الشرفة وجدتُ بحيرةً كبيرة أصبحَت موجودة أمام المستشفى، ولم يعد هناك وجود للأكواخ الصغيرة التي أُقيمَت حول المستشفى ليأوي الناس إليها.

أمَّا الخطابات فكانت مبعثرة بين مبنى المصلحة ومبنى المستشفى، فنزلتُ إلى هناك وحاولتُ أن أجمع منها ما استطعتُ جمْعه وكانت معظمها خطاباتٍ مسجلة.

ذهبتُ إلى مكتب العمل لأسأل السيد سيرا والسيد كيتاءو عن حجم الدمار الذي سببه التيفون، فعلمتُ منهما أن المستشفى لم يفتقد شيئًا سوى بعض البطانيات، ويبدو أن الناس الذين لجَئوا إلى المستشفى من الخارج خلال التيفون يلتمسون ملجأً قد أخذوها معهم، ولكني التمستُ لهم العذر، فهم لا شك في حاجة إليها بعدما دُمِّرَت أكواخهم.

وكان المرضى يشكون من الإصابة بالبرد ولكن إصاباتهم كانت عادية، أمَّا الفتاة الجميلة التي كانت ترقد وسط بركة من القيح والقذارة فقد أصبحَت الآن قادرة على الحركة دون مساعدة أحد.

مرَّت فترة الصباح دون وقوع حوادث سوى قدوم رسول من عند صديقي الأستاذ هاتا يطلب مني الذهاب إلى جزيرة مياجيما لأوقِّع الكشف الطبي على مدير بنك اليابان بهيروشيما، فأجبتُ بأنني لا أشعر بالقدرة على القيام بمثل هذه الرحلة الآن.

تحسَّن الجو بعد الظهر فقررتُ أن أتمشَّى قليلًا، فما أجمل طلوع الشمس بعد انقضاء المطر! وأخذتُ أتجول حتى وصلتُ إلى الخندق الممتلئ بالماء المحيط بقلعة هيروشيما، ودهشتُ حين رأيتُ رجلًا يصطاد الضفادع بطريقةٍ خاصة ويبيعها للناس، الصغير منها مقابل خمسين ينًّا والكبير منها مقابل مائتَين، فدهشتُ لارتفاع الأسعار بصورةٍ خيالية، ولكن الناس كانوا يتهافتون على شراء ما يصطاده الرجل أولًا بأول.

بعد تناوُل العشاء أخبرتُ رفاقي بقصة صياد الضفادع واندهشوا بدَورهم للتغيُّر الكبير في الأحوال، وأويتُ إلى فِراشي منهكًا بسبب ما لاقيناه ليلة الأمس، وغرقتُ في ثباتٍ عميق لم يقطعه سوى صراخٍ سمعتُه في الليل: «اللص… اللص…» فاستيقظتُ فزِعًا، ولكنه كان حلمًا مفزعًا أصاب الدكتور تاماجاوا فاعتذر لنا عن إزعاجنا، وواصلْنا النوم حتى الصباح.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:03 am

١٩ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ لطيف.. كانت السماء صافية في الصباح، والجو جميل، والشمس ساطعة، ولما كنت قد استمتعتُ بنومٍ عميق ليلة الأمس، فقد عقدتُ العزم على الذهاب إلى مياجيما للكشف على مدير البنك المريض تلبيةً لطلب الأستاذ هاتا الذي تلقيتُه بالأمس، فطلبتُ من السيدة سائيكي العجوز أن تعد لي (بنتو) وجبةً خفيفة أتناولها أثناء الرحلة، وبدأتُ السير عن طريق كوئي عبْر جسر ميساسا وشاهدتُ رجلًا يدفع عربة فوق الجسر تحمل لحم البقر، ولم أكن قد شاهدتُ اللحم منذ عهدٍ بعيد، وكان منظر اللحم الطازج فيما مضى يثير تقززي، أمَّا اليوم فقد سال لعابي عند رؤية اللحم.

وبلغتُ محطة كوئي عند الظهيرة، وتمكنتُ من الحصول على مقعد في عربة الترام المزدحمة المتجهة إلى مرفأ مياجيما.

وفي الطريق إلى وجهتي أخذتُ أرقب المنطقة التي يمر بها الترام، فكانت المنازل فيما بين كوئي وتاكوسا عارية السقوف محطمة النوافذ والحوائط تبدو وكأن زلزالًا قد أصابها، أمَّا المنطقة الواقعة وراء كوساتسو٣٨ فقد كانت منازلها أحسن حالًا، أمَّا نوافذها فكانت محطمة، وكانت علامات الدمار واضحة حتى إيتسوكايتشي وتختفي آثار الدمار تمامًا عند هاتسوكايتشي، وبالقرب من جي جوزن بدأَت جزيرة مياجيما تلوح في الآفق، وإلى يمين الطريق ركزتُ نظراتي على المنازل الصيفية الجميلة المسماة «بسو» التي يقضي فيها الصيف أثرياء الناس.

وقد أدهشني أن أرى بعض المنازل عند مرفأ مياجيما وقد فقدَت نوافذها لأن المنطقة تبعد كثيرًا عن هيروشيما.

وتوقفتُ عند محلٍّ لصناعة الفخار تربطني بصاحبه صداقةٌ قديمة حيث تناولتُ طعام الغداء، ثم ركبتُ العبَّارة في الطريق إلى مياجيما، واستغرقَت الرحلة البحرية نحو نصف ساعة وصلتُ بعدها إلى الجزيرة الجميلة.

وقصدتُ هناك فندقًا صغيرًا أعرفه يديره بعض الأصدقاء لتحيتهم، ثم تابعتُ السير إلى فندق بائي رنيو الذي يقيم فيه مدير البنك، وكان هذا الفندق يقع فوق قمَّة تلٍّ صغير تحيط به منازل قديمة من مختلف الجهات، وتطل نوافذه على منظر الجزيرة كلها، وتلوح في الأفق هيروشيما من بعيد.

كم تمنيتُ أن أقيم في هذا المكان الجميل!

واستقبلَتني زوجة المدير، وقادتني إلى حجرته حيث علمتُ أنه كان يمارس العمل بالبنك عندما سقطَت القنبلة، ولما كان البنك يقع على مسافة ٤٠٠–٥٠٠ متر من مركز التفجير اعتقدتُ أنه قد أُصيب إصابةً بالغة، ولكن زوجته ذكرَت لي أنه يعاني من الضعف وفقدان الشهية.

وبعد أن فحصتُ الرجل أيقنتُ أن فرصته في الشفاء كبيرة، فعلى الرغم من أنه كان بالبنك عند وقوع الحادث إلا أن بناء البنك المتين كفل له الحماية من الإصابة بالإشعاع الذري، وذكرتُ له أن البنك قد تحوَّل الآن إلى مركز استعلامات تغطي جدرانه نشراتٌ تحمل أسماء المفقودين والموتى والمصابين، وأوصيتُه بأن يُكثر من تناوُل الطعام الجيد كوسيلة للعلاج، وعُدتُ أدراجي إلى الفندق الذي يديره أصدقائي حيث تناولتُ الطعام عندهم واسترحتُ قليلًا ثم ودعتُهم بعد أن حمَّلوني بأنواع شتَّى من الهدايا.

ووصلتُ إلى مرفأ مياجيما نحو الرابعة مساء، فألقيتُ التحية على صاحب محل الفخار، وركبتُ الترام قاصدًا هيروشيما.

وفي الطريق سمعتُ حديثًا يدور بين الركاب حول فتاةٍ كانت لأحدهم رأوها تسير مع جنود الاحتلال، وتردَّد على لسان البعض ضرورة إلقائها في البحر عقابًا لها على ذلك.

وبعد أن غادرْنا محطة إيتسوكايتشي بقليل توقفَت عربة الترام فجأةً، واتضح أن هناك ثلاثة من السُّكارى وقفوا على الخط الحديدي فأجبروا السائق على التوقف ودفعوا المحصل جانبًا ثم ركبوا الترام، وأخذوا يسبون المحصل والسائق بألفاظٍ بذيئة ويعربدون في العربة ويهددون الناس جميعًا وهم يرددون أغنيةً غرامية كورية، ثم يصيحون بين الحين والآخر: «باتراي».

(يعيش)، وقبل أن تصل العربة إلى كوئي أجبروا السائق على التوقف مرةً أخرى وغادروها، ولم يدفع أحدهم الأجرة، ولم يستطع أحد أن يجبرهم على دفعها، فاستأتُ لتصرُّف هؤلاء السكارى وساءلتُ نفسي إلى متى تستمر قيم الحرب؟ لقد كان الناس يلقنون مبدأ يقول: «القوة هي العدالة، والعدالة هي القوة». ويبدو أن هؤلاء السكارى كانوا لا يزالون متمسكين بقيَم ما قبل الهزيمة.

وصلتُ إلى المستشفى منهكًا مكتئبًا لِما شاهدتُه في عربة الترام، ورويتُ ما حدث لأصدقائي بصعوبةٍ بالغة، ثم استحممتُ وأويتُ إلى فِراشي دون أن أتناول طعام العشاء.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:04 am

٢٠ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ صافية مع ظهور بعض السحب أحيانًا.

كانت رحلتي إلى مياجيما فوق طاقتي البدنية، فقد كنتُ منهكًا ليلة الأمس، ولم أستطع النوم إلا لمامًا، وعندما استيقظتُ هذا الصباح كانت أرجلي تؤلمني، ونهضتُ بصعوبةٍ من فِراشي لتناوُل الإفطار ثم عُدتُ إلى الفِراش لأستريح، وعندئذٍ حضر صديقٌ قديم كان يملك محلًّا تجاريًّا يحمل اسم «إيريبن»، وكان مغتمًّا حزينًا، وما لبث أن انفجر بالبكاء قائلًا: «يا دكتور لقد ماتت أويوني ولا أدري أين أو متى حدث ذلك، فقد غادرَت زوجتي المسكينة البيت صباح يوم البيكا لتنضم إلى إحدى فِرق العمل، وكانت هذه هي النهاية، فلم أسمع وابنتي عنها شيئًا حتى الآن».

فسألتُه عن ابنته ماساءو فأخبرني أن ذراعها كُسرَت عندما دمَّر التيفون البيت.

وكان حديثه لا يكاد يُسمَع وسط النحيب، كما أنه كان جريحًا وكانت رأسه مغطَّاةً بضمادة من القماش المتسخ، وحالتُه تدعو للرثاء، فحاولتُ أن أهدئ من روعه، ولكني انفجرتُ باكيًا وجاءت السيدة سائيكي لتجدنا على هذه الحال، فأخذَت تنقل نظراتها بيننا، وحاولَت أن تطيِّب خاطر الرجل العجوز المسكين، وعرضَت عليه أن يحضر هو وابنته ليُقيما معنا فغادر المستشفى وهو يشعر بالارتياح.

كنتُ مستلقيًا فوق السرير بعد الغداء أحملق في الفضاء عبر النافذة عندما اندفع السيد سيرا إلى الحجرة متقطع الأنفاس وهمس في أذني قائلًا: «يا دكتور، هناك ضابطٌ أمريكي بالخارج».

وفزعتُ عند سماعي هذه الكلمات، غير أني لم أحر جوابًا للحظات ثم تملكني الخوف والغضب، وتغلَّبتُ على شعور العداء، واستجمعتُ قواي وقلتُ بصوتٍ مقتضب: «يا سيد سيرا لا تهتم بأمره».

فأجاب بارتياع: «يا دكتور لا تقل مثل هذا الكلام، إن الرجل يقف عند مدخل المستشفى الآن، أرجوك أن تقابله».

وبدأ شعور العداء عندي يفسح المجال لشعورٍ بالرهبة؛ إذ كنت أعرف أنه لا خيار أمامي، وأن عليَّ أن أقابل هذا الضابط.

كان بنطلوني متسخًا، ولم يكن قميصي أحسن منه حالًا، غير أني لم أهتم بمنظري هذا عندما اتجهتُ لمقابلة هذا الأجنبي.

وبعد لحظاتٍ سمعتُ وقع أقدام الضابط على الدرج، فإذا به رجلٌ مهيب خلفه حارسٌ أسود يتمنطق بمسدس، ويبدو أنه جاء ليلعب دور المترجم بيننا وبين الضابط، فأخبرتُهما أنني مدير مستشفى المواصلات بهيروشيما، وبعد أن قمتُ بتحيتهما، عرضتُ عليهما أن يتفقدا عنابر المرضى، وكان الضابط مهتمًّا بمعرفة الأضرار التي ترتبَت على التيفون، ولم يكن يُلقي بالًا لحديثي عن نتائج الإصابة بالقنبلة الذرية، واكتشفتُ أن المترجم لا يعرف من اليابانية إلا قليلًا؛ ولذلك لم أطمئن إلى مقدرته على نقل ما دار بيني وبين الضابط من حديث، وبعد أن قمنا بالجولة التفقدية وصلنا عند زوجتي، وسألني الضابط عما إذا كانت قد أُصيبَت، فقلتُ له إنها تشكو من الأنيميا، كما أن بعض الجراح قد أصابتها، وشمرتُ أكمامها لأكشف له عن آثار تلك الجراح، فهز رأسه قليلًا ثم غادر المكان.

وبعد أن تركنا أخذ قلبي يدق بعنف، وعادت أرجلي تؤلمني من جديد ونسيتُ في غمرة الانزعاج أن أصحبه حتى مدخل المستشفى.

تغيَّر جو الهدوء الذي كان يخيم على المستشفى بمجرد ظهور هذا الضابط الأمريكي، فانزعج الموظفون، كما أن زوجتي التي لم يبدُ عليها التبرم حتى الآن ظهرَت عليها علامات القلق، وبدأَت الآنسة ياما تفكر في الفرار وتجمع حاجياتها، وشعرتُ بالقلق بدَوري، فإذا كان باستطاعتي أن أتبادل الحديث مباشرة مع الضابط الأمريكي ربما استطعتُ أن أعبِّر له عن مخاوفنا، ولعلَّه كان باستطاعته أن يهدئ من روعنا. 


ولم يكن لدي قاموس أستعين به في مثل تلك الحالات، فرغم إجادتي للإنجليزية قراءة وكتابة غير أني لا أحسن التخاطب بها ولا أفهمها حين أسمع حديثًا يدور بها.

وعقدتُ العزم على أن أتفاهم مع الأمريكيين الذين يزوروننا في المستشفى بالكتابة، فهيأتُ مكانًا وضعتُ فيه منضدة وبعض المقاعد حتى أتخذه مقرًّا للحوار الكتابي مع من يزورنا من الأمريكيين في المستقبل، وكلفتُ موظفًا بالبحث عن قاموس ياباني-إنجليزي حتى إذا زارنا ضابط لا يصحبه مترجم استطعنا التفاهم معه، ولا بد أننا سنتعرض لمثل هذه الزيارات طالما أن الجزر اليابانية أصبحَت معسكر اعتقالٍ لنا، وعلينا أن نتدرب على التعبير عن أنفسنا باللغة الإنجليزية بعدما أصبحنا تحت رحمة العدو، طافت بمخيلتي صورة صاحب محلات إيريبن الذي كان غنيًّا ميسور الحال بالأمس وأصبح الآن متسولًا يضع على رأسه ضمادة من القماش المتسخ، إنه يرمز إلى ماضي اليابان وحاضرها.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:04 am

٢١ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وزخَّات مطر خفيفة.

علمتُ صباح اليوم أن الملاحة في خليج هيروشيما ستصبح محظورة اعتبارًا من الخامس والعشرين من سبتمبر، أخبرني بذلك السيد سوميتاني مراسل جريدة جودو الذي فقد زوجته خلال الحوادث، وجاء إلى هيروشيما ليحضُر إقامة شعائر اليوم التاسع والأربعين الذي يصوم فيه البوذيون احترامًا لذكرى الموتى، ويحل هذا اليوم في الثالث والعشرين من سبتمبر هذا العام، فذكَّرني بإحياء شعائر هذا اليوم احترامًا لأرواح أصدقائي من ضحايا هيروشيما.

قررَت زوجتي أخيرًا أن تذهب إلى بلدتنا بالقرب من أوكاياما وأعددنا لها عدة الرحيل في الرابع والعشرين من هذا الشهر، أمَّا الآنسة ياما فستغادرنا اليوم عندما تحضُر أختها لمرافقتها.

وكنت في بداية الأمر أتردد في السماح للمرضى بمغادرة المستشفى وخاصة أولئك الذين كانت حالتهم خطيرة، ولكن الخوف نصب شباكه حول الناس جميعًا منذ وصول قوات الاحتلال؛ ولذلك أصبحتُ أشعر بالارتياح عندما يغادرون المستشفى، فكلما قل عدد المرضى كلما أصبحَت مسئولياتنا محدودة، وخاصة أننا لا نعرف شيئًا عن نوايا قوات الاحتلال، غير أني بذلتُ أقصى الجهد في تهدئة روع من بقي بالمستشفى من المرضى.

تناولنا في طعام العشاء طبقًا مكونًا من أرجل الضفادع، فرويتُ لأصدقائي قصة الرجل الذي شاهدتُه عند قلعة هيروشيما يصطاد الضفادع ويبيعها للناس.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:05 am

٢٢ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ ممطر مصحوب بالبرق والرعد.

استيقظتُ اليوم مبكرًا على غير العادة، وكانت السيدة سائيكي العجوز تقوم بإعداد طعام الإفطار بالمطبخ، بينما كان السيد ميزوجوتشي لا يزال نائمًا، وألقيتُ نظرة على الأسرَّة الخالية الموجودة بالغرفة والتي كان يشغلها الأصدقاء الذين غادروا المستشفى فشعرتُ بالشوق إليهم.

لقد أصبحَت ذكريات هذه الحجرة عزيزة عليَّ وهو أمر لم أكن أتوقعه منذ أسابيع مضت.

بعد تناوُل الإفطار، طلبتُ من السيدة سائيكي أن تنظف الحجرة وتعيد ترتيبها حتى نستطيع استخدامها كغرفة اجتماعات إذا عاد جنود العدو لزيارتنا مرةً أخرى، فنحينا السيوف والأسلحة القديمة التي عثرنا عليها بين الخرائب جانبًا، ووضعنا الأسرَّة في أحد جوانب الغرفة، ووضعنا منضدة وبعض المقاعد في وسطها، أمَّا الأريكة التي أعددناها لاستراحة ضيوفنا فكانت عبارة عن لوحٍ خشبي بأربعة أرجل وأصبحَت الغرفة بذلك معدَّة لاجتماع أربعة أو خمسة من الضيوف.

ولَمَّا كان عدد المرضى آخذًا في التناقص، حتى إنه لم يبقَ منهم إلا نفرٌ قليل وليس لدي ما أفعله؛ فقد آثرتُ أن أجلس مترقبًا ما قد تسوقه الأقدار، وأصبحتُ أتمتع لأول مرة بقدر من الهدوء جعلني أستعيد ذكريات الماضي بشيء من الموضوعية.

كانت الشرور التي بدأَت تهبط على هيروشيما تثير قلقي، كالجنود السكارى الذين يعيثون في الأرض فسادًا مثل أولئك الذين رأيتُهم أثناء عودتي من مياجيما والذين يمثِّلون صورة الحاضر الذي نعيشه الآن.

لم يعد هناك مكان للحكَم المأثورة التي تقول «العدالة هي القوة».

و«المرء بخلقه وليس بمولده».

وبدا لي أن نظام التعليم كان بالغ الأثر زمن السلم عندما كان هناك قانون ونظام.

إن الأخلاق لا يمكن أن يصقلها التعليم، فإنها تثبت وجودها في أحسن صورة عندما لا يكون هناك شرطة تحفظ النظام، وسواء كان الرجل متعلمًا أو غير متعلم فإن باستطاعته أن يبرز خلقه في وقت الشدة، والنصر دائمًا في جانب الخلق المتين.

لقد اختفت هذه الحكم الغالية وأصبحَت القوة هي العدالة، وأصبح المولد أكثر أهمية من الخلق، ولا بد أن تحكم القوة هذا البلد.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

يوميات هيروشيما - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات هيروشيما   يوميات هيروشيما - صفحة 2 Emptyالثلاثاء 04 يونيو 2024, 2:06 am

٢٣ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم في أول النهار، ثم ما لبث أن أصبح صحوًا بعد ذلك.

اليوم هو التاسع والأربعون الذي تُكرَّم فيه أرواح الموتى، وعندما استيقظتُ اليوم فكَّرتُ في إقامة صلاةٍ بوذية على أرواح أصدقائي الذين قُتِلوا خلال البيكا، وبعد تناوُل الإفطار ذهبَت السيدة سائيكي العجوز لتصلي من أجل أبنائها الثلاثة الذين فقدَتهم في الحرب، وبينما كنت أتأهب للخروج جاءني صديقان هما السيدة كانيكو وزوجة ولدها، وما كادت تراني حتى انفجرَت باكية لتقول إن ولدها قد مات وراحت تقص عليَّ قصته: «في اليوم التالي للبيكا عُدتُ وزوجة ابني إلى المدينة لنبحث عنه بين حطام منزلنا، وبينما كان زوجي يفحص الجثث المسجاة هنا وهناك بالقرب من ساحة التدريب وجد شخصًا ميتًا وهو واقف، وقد واصلتُ البحث بين حطام البيت غير أني لم أجد شيئًا، ثم ما لبثتُ أن وجدتُ عظام إنسانٍ محترقة لا زال الدخان يتصاعد منها، غير أني لم أستطع الجزم بأنها لولدي.

وعُدتُ في اليوم التالي لأجد أنها عظامه؛ فقد تأكدتُ من وجود بكلة حزامه فوق الهيكل العظمي».

ثم استطردَت تقول: «أرجوك أن تحضر لزيارتنا في فوكاوا؛ فإن زوجي المسكين قابع هناك ولا شيء يُدخل السرور على قلبه إلا حين يراك.

لقد كنت في طريقي إلى المعبد حين خطر لي أن أزورك، سايونارا (إلى اللقاء)».

فقلتُ لها: «سايونارا».

ردًّا على تحية الوادع، بينما رسمتُ على شفتي ظلال ابتسامة وأحنيتُ هامتي لهذه السيدة المسكينة وأرملة ولدها، ثم انطلقتُ لأصلي على أرواح أصدقائي من الضحايا مبتدئًا بالجيران، فوقفتُ أمام حطام كل منزل أصلي من أجل سكانه الراحلين مغمض العينين.

وكان يُخيَّل لي عند كل صلاة أنهم ماثلون أمامي وعلى وجوههم ابتسامةٌ عريضة، واستعرتُ دراجةً أخذتُ أطوف بها أرجاء المدينة أصلي من أجل بقية الأصدقاء، فعبرتُ جسر ميساسا وجسر يوكوجاوا، وسِرتُ بالدرجة على شاطئ نهر أوتا أفكِّر في هؤلاء الأصدقاء، ثم عبرتُ منطقة تيرا ماتشي حتى وصلتُ إلى حي سورا زاياتشو فبلغتُ المكان الذي مات فيه الدكتور موري سوجي وزوجته، فصليتُ هناك من أجلهما، واتجهتُ بعد ذلك إلى مكانٍ بالقرب من مركز التفجير حيث كانت رائحة البخور تعبق في الجو وجمعٌ غفير من الناس يصلون من أجل أحبائهم.

ثم عبرتُ جسر أيوي مخترقًا مركز التفجير، فكانت خرائب متحف العلوم والصناعة تقع على جانب الطريق وأمامها خرائب المباني الأخرى، وعبرتُ هذه المنطقة حتى بلغتُ موقع مكتب بريد هيروشيما، وهناك وجدتُ شاهدًا حجريًّا كُتِب عليه «مات جميع العاملين بالمكتب في ساحة الشرف».

وبعد أن صلَّيتُ من أجل أصدقائي الذين ماتوا هناك، أخذتُ أفكِّر في حجم الخسارة التي نزلَت بنا، وبعد ذلك عبرتُ وسط خرائب مستشفى الدكتور شيما حيث ماتت عائلته وسائر العاملين معه وجميع المرضى، أمَّا هو فقد نجا من الموت لوجوده خارج المدينة عندما وقع الحادث، وتذكرتُ الصديقين: الدكتور كورا كاوا، والدكتور تينا كا اللذين كانا يعملان معه ولقيا مصرعهما في الحادث.

وبعد أن تجوَّلتُ بعض الوقت وزرتُ الأماكن التي مات فيها أصدقائي الآخرون عُدتُ إلى المستشفى في وقتٍ متأخر متعبًا مكتئبًا.

وجدتُ في انتظاري عشاء من السوكي ياكي٣٩ أعدَّه السيد ميزوجوتشي احتفالًا بسفر زوجتي، وضمَّت مائدة العشاء الآنسة كادو والسيدة سائيكي والسيد ميزوجوتشي بالإضافة إلى وزوجتي، وبعد العشاء لبثنا نتحدث طويلًا، كان هذا هو العشاء الأخير لزوجتي بالمستشفى، تناوله معها أصدقاء اشتركوا معًا في كل الحوادث التي حلَّت بنا منذ وقع البيكا، وستغادر زوجتي المستشفى غدًا فلا غرو أنها تبدو سعيدة كطفل صغير.



يوميات هيروشيما - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
يوميات هيروشيما
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 3انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» الطريق إلى هيروشيما
» المنهاج في يوميات الحاج
» المنهاج في يوميات الحاج (1)
» المنهاج في يوميات الحاج (2)
» يوميات في أدغال نيجيريا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: ذم الإرهــــاب والإرهــــابيـين :: يـومـيــــات مـتشهيــكــو هـاتـشـيا-
انتقل الى: