3- الطعن في الركن الثالث
3- الطعن في الركن الثالث Ocia1994
وأمَّا الركن الثالث من أركان القراءات القرآنية وهو:
موافقة اللغة العربية، ولو بوجه ما، فضرورته بدهية، لأن القرآن بلسان عربي مبين، فلا تخرج إحدى قراءاته عن وجه ما من وجوه كلام العرب السائغة في لغتهم، والشائعة على ألسنتهم، وهي كلها تدور بين الفصيح والأفصح، إمَّا مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه، لقول ابن الجزري (1) -رحمه الله-: ((وقولنا في الضابط: ولو بوجه، نريد به وجهاً من وجوه النحو سواءً كان أفصح أم فصيحاً، مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه، اختلافاً لا يَضُرُّ مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئِمَّة بالإسناد الصحيح)).

واشتراط الضابط اللغوي هذا يتفق ولسان الوحي الإلهي أولاً، ثم التلقي به، ومن ثم التعليم والنشر به في إطاره الواسع الذي يضم أول ما يضم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أفصح العرب، وصحابته -رضي الله عنهم-، ومعظمهم من العرب الخُلَّص، فالتزام السلامة اللغوية، أمرٌ أولي لديهم، ((ولم يكن ذلك المقياس موضع نقاش بين المتقدمين من أصحاب رسول الله، ومن التابعين)) (2).

ومع تعدد وجوه اللغة العربية بتعدد القبائل الكبرى، واتساع ديارها، فإنها تنضبط وفق أصولها وقواعدها المستنبطة من كلام العرب الفصيح، المجموع -شفاهة أو كتابة مما يحتج به- في دواوينهم.

وإن أول ما يتأيَّد به الوجه اللغوي هو ورود لفظ الوحي موافقاً له، ومنه القراءات القرآنية، فقد وردت كلها موافقة لقواعد اللغة العربية من وجه أو وجوه ما، فالقرآن الكريم هو السند الأقوى للغة.

يقول د. عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3):
((فالذي يوجد في القرآن من الأساليب حاكم على اللغة، ومع التتبع التام لا توجد مسألة واحدة في كتاب الله تعالى إلا ولها وجه في اللغة العربية فصيح مستفيض)).
__________
 (1) النشر، ج1، ص 10.
 (2) تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين، ص 203.
 (3) في تقديمه كتاب: الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني، د. محمد محمد سالم محيسن، ص 9.
__________

وبهذا التوافق القائم بين القرآن الكريم بقراءاته القرآنية ولغته العربية تسقط الأوهام الاستشراقية، التي تصورت في القراءات عامة، والشاذة خاصة، تُكَأة لمطاعنها، فتجاهلت علاقة اللغة بالقرآن، ومنزلة كل منهما من الدين، فهذا غولد زيهر (1) يغمز المطالبة بوجوب مطابقة القراءات لقواعد اللغة العربية.

ثم يقول:
((فقد كانت توجد دائماً رؤوس مستقلة التفكير، لا تعد الظواهر غير المستقيمة في نص القرآن مظاهر تقديس لا تمس، وإن غض النظر عنها قراء ثقات، معترف بهم، أو تسامحوا فيها)).

ثم يتهم القرآن الكريم وجهود العلماء حوله بقوله (2):
((وكان بغيضاً إلى علماء الدين ذلك التدخل الذي تبعثه الخلافات المدرسية من قبل علماء العربية على وجه الخصوص، على الرغم من أنهم عادة كانوا يبذلون جهوداً كبيرة في تسوية مشاكل القرآن اللغوية.. نعم في أزمنة أقدم من ذلك حصل الاعتراف أيضاً بقراءات اقتضتها ضرورة المطابقة بين قواعد النحو الدقيقة، وبين صيغ لفظية، وتراكيب جملية تخالفها، من ذلك مثلاً ما جاء في الآية: 9، من سورة الحجرات: (وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ) [الحجرات: 9]، حيث يعود الضمير جمع المذكر (اقتتلوا) على مثنى المؤنث (طائفتان).. وفي أزمنة متأخرة عن ذلك اشتد النكير على استعمال التصحيح النحوي)).

__________
 (1) انظر: مذاهب التفسير الإسلامي، ص 62، 64.
 (2) السابق، ص 65 -66 باختصار.
__________

وفي هذا المطعن اللغوي يسوق غولد زيهر شاهداً عليه من الآية 9 من سورة الحجرات ليقرر أنها تخالف (قواعد النحو الدقيقة) لأن ضمير جمع المذكر في (اقتتلوا) عاد على مثنى المؤنث في (طائفتان) فلابد من أن تصحح هذه المخالفة -في نظره- باختراع قراءة ما مطابقة للقواعد النحوية، وقد بين الشيخ عبد الفتاح القاضي (1) -رحمه الله -وغيره- ما يجهله غولد زيهر والمستشرقون من قواعد اللغة العربية، وعلاقتها بالقرآن، فقد جرت الآية الكريمة على أفصح الأساليب، وأبلغ التراكيب، ذلك أن (طائفتان) مثنى طائفة، وبدهي أن الطائفة تجمع أفراداً كثيرين، فحينئذ يكون (طائفتان) في معنى القوم والناس، فأتى بواو الجمع في (اقتتلوا) باعتبار معنى (طائفتان).. ثم قد راعى اللفظ أيضاً في قوله تعالى (فأصلحوا بينهما).. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أوفت على الغاية في روعة الأسلوب ورصانة التركيب، وجلال المعنى، وسمو المغزى.

وأمَّا عن علاقة قواعد اللغة العربية بالقرآن الكريم ((فالكلام العربي وفي مقدمته القرآن والسنة مصدر هذه القواعد، منه نشأت، وعنه أخذت، فهو الأصل وهي الفرع، ولا يعترض بالفرع على الأصل)) (2).

وهذه العلاقة الأصلية معلومة لغولد زيهر، فهو قد نقل عن علماء المسلمين أن العربية تصحح بالقراءة، لا القراءة بالعربية ((فالقرآن يقدم المقياس المصحح للاستعمال العربي الصحيح، لا العكس)) (3) ا.هـ.
أقول:
وإذا كان الأمر كذلك، فأين هي مشاكل القرآن اللغوية؟، وكيف، ومن أين تأتي تلك التي يختلقها المستشرقون طعناً على نصه الكريم ووحي الله فيه؟!.
__________
 (1) انظر القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، ص 199-200 باختصار.
 (2) السابق، ص 199.
 (3) مذاهب التفسير الإسلامي، غولد زيهر، ص 68، وانظر، ص 69 منه.
__________

وبنظرة راصدة في واقع القراءات القرآنية، على ألسنة التالين بها إلى كيفيات أداء الكلمات والحروف القرآنية المتنوعة، تتوارد الوجوه المتعددة متفقة تماماً مع اللغة العربية، حتى في استعمالاتنا المعاصرة الأخرى، مما يقطع بانعدام المشاكل اللغوية المزعومة، إلى يومنا هذا، فضلاً عن التيسير والسعة، كما أراد الله سبحانه بكلامه المعصوم.

ومن جهة أخرى يتهم غولد زيهر المسلمين جميعاً وفي مقدمتهم صدور الصحابة وكتاب المصحف بالغفلة والسكوت على الخطأ بقوله (1):
((إن النص المتلقى بالقبول يعتمد على إهمال الناسخ.. وفي المواضع التي تبدو فيها مفارقات نحوية يجب النظر إليها على أنه خطأ كتابي وقع فيه ناسخ غير يقظ. وفي وقت متأخر فقط اجتهد الذكاء وحدة الذهن في قواعد العربية لتسويغ صحة المواضع المشار إليها من جهة العربية.. أما المدرسة القديمة فلم تحاول ذلك بل آثرت أن تبقي نص الوحي على ما يعتوره من مآخذ،.. وحصل العمل بنفس هذه الوجهة من النظر في مشكلات نحوية أخرى)) كما يراها غولد زيهر ويعد منها موضعين -من القراءات المتواترة (2)- خطأ لغوياً يرجع إلى السهو والغفلة، سكتت عنهما المدرسة القديمة، معتمداً على روايات باطلة مردودة بما أجمع (3) عليه المسلمون في خط المصحف وقراءاته المتواترة، وموافقتها للغة العربية من حيث يجهل -أو يعرف ويتعمد- غولد زيهر ومعه المستشرقون.

__________
 (1) مذاهب التفسير الإسلامي، ص 46 باختصار.
 (2) هما الآية 162 من سورة النساء، والآية 27 من سورة النور.
 (3) انظر: القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، الشيخ عبد الفتاح القاضي، ص 172-177.
وكثيراً ما يتجلى خضوع المستشرقين في دراساتهم الإسلامية بعامة لأغراضهم في خطتهم الطاعنة على الإسلام، وعلى كتابه القرآن الكريم بخاصة، فأكثر ما تبرز مظاهر خروجهم عن الأصول العلمية، والأخلاقية أيضاً، في ميدان القراءات القرآنية بخاصة، بداية بإنكار الأصل الإلهي لها في الأحرف السبعة، وإلى الاستشهاد على مطاعنهم بالقراءات الشاذة -والمتواترة عمداً- على غير منهج ثابت أو محايد، تقتضيه دراسة موضوعها، وارتباطه بعقيدة المسلمين وحياتهم كلها، ومن ثم التزامهم منهج الحق فيه.
--------------------------------