عمرو بن العاص يجسد سماحة الإسلام Ocia1886
    عمرو بن العاص يجسد سماحة الإسلام
    بعد أن تبين للمقوقس عجز البيزنطيين عن الوقوف ضد المسلمين، وافق على عقد الصلح بشرط موافقة الإمبراطور عليه، ومع رفض الإمبراطور البيزنطي للصلح مع المسلمين، وحثه المقوقس على محاربتهم، هاجم المسلمون الحصن بالمجانيق، واستطاع الزبير بن العوام رضي الله عنه أن يدخل الحصن ببسالة فائقة منه، وتبعه المسلمون عام 20هـ/ 641م، فاضطر المقوقس إلى عقد معاهدة مع عمرو بن العاص رضي الله عنه، وبمقتضى هذه المعاهدة دخل كثير من المصريين في دين الله، ومن بقي منهم على دينه كان يدفع الجزية التي أقرها الصلح[5].

    كان من الممكن لعمرو أن يرفض الصلح؛ لأنَّ المسلمين قد دخلوا الحصن عَنْوة، ومن ثَمَّ فأرض مصر من حق المسلمين الفاتحين، ولكن المسلمين لم يكونوا يومًا ساعين إلى مغانم دنيوية، ولا إلى رغبة في التملك على حساب توصيل دعوة الإسلام إلى الناس برفق؛ لذا آثر المسلمون أن يعتبروا فتح مصر صلحًا، لتبقى من حق أهلها.

    فرحة مصرية بالفاتح الإسلامي
    لم يكن الشعب المصري -في ذلك الوقت- محبًّا للرومان؛ لذا فإنَّ الحقائق التاريخية تؤكد ترحيب المصريين بالمسلمين، ومساعدتهم في أثناء فتحهم لمصر، كما تؤكد أيضًا رحمة المسلمين وعدلهم مع أهل مصر، وحماية حرياتهم وعقائدهم؛ فبنيامين بطريرك الكنيسة القبطية، قد فرَّ من الروم لبغضهم مذهبه، وبطشهم به وبسائر المسيحيين، وعندما سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه بقصته كتب إليه أمانًا، فعاد بعد غيبة طويلة إلى كرسيه في الإسكندرية، وبالغ عمرو في الحفاوة به، والتسامح معه، ومنحه الحرية ليشرف على الكنائس، وفي ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه أعاد بنيامين بناء الكنائس التي خرَّبها الفرس أثناء احتلالهم لمصر[6].

    أرسل عمرو بن العاص رضي الله عنه قوة إلى الصعيد بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بناءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها، كما أرسل خارجة بن حُذافة إلى الفيوم ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتِنِّيس وما حولهما؛ فصالح أهل تلك الجهات، ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب، ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة بن نافع ففتح زويلة، واتجه نحو بلاد النوبة ففتحها[7].

    مصر ولاية إسلامية
    أصبحت مصر -بعد فتح عمرو بن العاص لها- ولاية إسلامية أصيلة، تابعة للدولة الإسلامية؛ فظلَّت تابعة للخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، حتى بدأت حركة استقلالية جديدة لم تشهدها الدولة الإسلامية من قبل، فاستقلت مصر تحت مسمى الدولة الطولونية، ثم الإخشيدية، ثم العبيدية (الفاطمية)، فالأيوبية، فدولة المماليك، ثم خضعت للخلافة العثمانية حتى استقلالها على يد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر الميلادي.

    وفي كل حقبة إسلامية من هذه الحقب شهدت مصر عهود قوة، وعهود ضعف، فكانت مصر في قمة المنحنى التاريخي والحضاري في عهد ولاة الخلفاء الراشدين: كعمرو بن العاص (19- 25هـ/ 640- 646م)، (39- 44هـ/ 659- 664م)، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (25- 35هـ/ 646- 656م).

    وفي عهد الدولة الأموية: عبد العزيز بن مروان بن الحكم (65- 86هـ/ 685- 705م)، وفي عهد العباسيين: أحمد بن طولون (254- 270هـ/ 868- 884م)، وفي عهد الإخشيديين: محمد بن طغج الإخشيد (323- 334هـ/ 935- 945م)، وكافور الإخشيدي (355- 357هـ/ 966- 968م).

    وفي عهد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي (569- 589هـ/ 1174- 1193م)، وفي دولة المماليك في عهد سيف الدين قطز (657- 658هـ/ 1259-1260م)، وركن الدين بيبرس (658- 676هـ/ 1260- 1277م)، والمنصور سيف الدين قلاوون (678- 689هـ/ 1279- 1290م)، والأشرف سيف الدين قايتباي (872- 901هـ/ 1468- 1496م)، وفي الدولة العثمانية في عهد مراد بن سليم (982- 1003هـ/ 1574- 1595م)، وإبراهيم الثاني (1050- 1058هـ/ 1640- 1648م).

    فترات قوة الدولة الإسلامية بمصر
    شرع عمرو بن العاص رضي الله عنه في غرس بذور الحضارة الإسلامية في مصر وبسط جناح الإسلام في أرجائها، وكان أول عمل قام به تأسيس مدينة الفسطاط ليجعلها حاضرة البلاد ومقر الحكم. وقد قيل: إن عمرو بن العاص أراد بعد فتحه مدينة الإسكندرية أن يتخذها عاصمة له، كما كانت من قبل منذ الإسكندر الأكبر حتى نهاية العصر البيزنطي في مصر، وكتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك، ولكن الخليفة رفض، وكتب إلى عمرو قائلاً: "إني لا أحب أن تُنزِل المسلمين منزلاً يحول الماء بيني وبينهم في شتاء وصيف". وكان من الطبيعي أن يختار عمرو عاصمة مصر في نقطة برية سهلة الاتصال مع بلاد العرب، وفي موضع متوسط يمكن من خلاله أن يلاحظ قسمي البلاد المصرية شمالاً وجنوبًا؛ ليسهل عليه حكمها منه.

    وكان موضع الفسطاط فضاء ومزارع بين النيل والمقطم، ولم يكن في هذا المكان من البناء سوى حصن بابليون الذي كانت تنزل به الحامية البيزنطية[8].