أرطبون العرب: (عمرو بن العاص)
(أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بنُ الْعَاص)
(محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-).
(لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب)
(عمر بن الخطاب).
(واللَّه يا مسيلمة إنك تعلم أني أعلم أنك تكذب)
(عمرو بن العاص).
كنت يومها صبيًا يافعًا في الصف التاسع في إحدى مدارس مدينة رفح الفلسطينية، يومها وقفت أمام أستاذي وقلت له والغيظ يملؤني: لماذا نضيع الوقت بدراسة قصة رجل بهذه الصفات؟!
كان قلبي يومها مشبعًا بالغضب وأنا اقرأ قصة ذلك الرجل الذي طفحت كتب المناهج الدراسية بحكايات غدره وخيانته، ففشلت كل محاولات أستاذي لتغيير قناعاتي تلك عن ذلك الرجل، وكَبِرْت، وكبرَ معي طعني بذلك الرجل، غير أنني أحمد اللَّه عز وجل الذي ألهم بصيرتي وأمَّد في عمري حتى جاء اليوم الذي أكفّر به عن خطيئتي تلك لأكتب عن رجل من أشرف الناس وأصدق الناس وأعظم الناس.
"لقد جاء الوقت يا ابن العاص كي أطلب منك العفو بهذه الكلمات القليلة، سائلًا المولى عز وجل أن لا يخزني يوم القيامة أمامك يا أبا عبد اللَّه، وأن يجمعني بك في حضرة صاحبك، محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنه ولي ذلك والقادر عليه".
والحقيقة أن ذلك الظن السُّوء بعمرو بن العاص رضي اللَّه عنه وأرضاه لم يكن نابعًا من فراغ، فلقد كنت وقتها ضحية من ضحايا ما أحب أن أطلق عليه نظرية "الغزو التاريخي" هذا الغزو ليس غزوًا بالدبابات أو الطائرات أو حتى بالأفكار كالغزو الثقافي، بل هو أخطر من ذلك بكثير، فالغزو التاريخي لا يحارب الواقع فقط، وإنما يحارب الماضي الذي بُني عليه الحاضر.
ونظرية الغزو التاريخي تتلخص بأن يدمر الغزاة أسباب وجودنا أصلًا على ساحة التاريخ، وذلك بالتشكيك والطعن برموز الأمة، فينتج عن ذلك بالضرورة تشكيك بالروايات التي نقلها لنا رموزنا أو التي نقلت عنهم بالأساس، قبل أن يقوم الغزاة بتسليط الضوء على مراحل الضعف التي مرت بها الأمة أو حتى اختلاق قصص وهمية تشوّه صورة تاريخنا في أعيننا، ليقوم أولئك الخبثاء بتحويل أبطالنا إلى قتلة قذرين وعلمائنا إلى أشخاصٍ مجانين وفي أحسن الأحوال إلى شطبهم جميعًا من ذاكرة التاريخ نهائيًا!
في نفس الوقت يقوم نفس الغزاة بتمجيد أبطال وهميين في تاريخهم أو حتى في تاريخنا، فيتحول (عمرو بن العاص) صاحب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إلى مجرم حرب بينما يتحول المجرم (نابليون بونابرت) إلى فاتح عظيم تخلّده كتبنا الدراسية، ويصبح (عباس بن فرناس) مخترع الطيران عالمًا مجنونًا، بينما يُمَّجَد (آينشتاين) صاحب مشروع القنبلة النووية التي قتلت مئات الآلاف من الأبرياء.
وفي أفضل الحالات يعمل نفس الغزاة بالعمل على محو اسم بطلٍ حقيقي قلّما رأت الأرض مثله كالبطل (أحمد بن فضلان) -الذي سنأتي على ذكره في هذا الكتاب- ليُشطَب اسم هذا البطل من ذاكرة بطولاتنا، ويوضع مكانه اسم بطل خرافي مثل (السندباد) أو (علاء الدين) أو حتى (علي بابا)، فلا يتبقى لنا بذلك في تاريخنا الممتد إلّا قادة مجرمين، أو علماء مجانين، أو أبطالًا وهميين لم يصبحوا أبطالًا إلّا بمصابيح سحرية أو بُسطٍ طائرة!
وبهذا لا يبقَ لك إذا كنت مسلمًا وأردت أن تصبح بطلًا إلّا أن تشد الرحال إلى قفار الصحراء القاحلة أو غياهب الكهوف المظلمة علّك تجد مصباح علاء الدين الذي من خلاله -ومن خلاله فقط- يمكن لك أن تصبح بطلًا ومسلمًا في آنٍ واحد!
وبعد أن يزرع فيك الغزاة هذا الاعتقاد الخطير، فإن مفهوم القدوة يسقط من عينيك من دون أن تحس أنت بذلك، وعندها وبكل سهولة، نسقط أنا وأنت كالثمار العَفِنَة!
وعمرو بن العاص -رضي الله عنه- هو أحد الذين شُوِّهت صورتهم بشكل كبير، بل إني أزعم أن هذا الرجل هو ثاني أكثر رجل شُوِّهت صورته من قِبَل غُزاة التاريخ، لم يسبقه بكثرة التشويه إلّا عظيم آخر من عظماء أمة الإسلام سوف أذكره في قلب هذا الكتاب، وسأفرد له صفحات هي الأكثر على الإطلاق بين قائمة المائة!
أمَّا عن سبب اختيار عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه وأرضاه- بالذَّات لتُكال له كل تلك التُّهم والشُّبهات، فيكمُن في كون عمرو بن العاص هو الفاتح الفِعلّي للقدس، أهم مدينة عند غزاة التاريخ، قبل أن يضيف إليها أرض مصر.
هذا البلد المهم الذي يُكوِّن مع أرض الشام المباركة الدعامتين الأساسيتين للإسلام عبر التاريخ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة، هذه الأسباب تبيّن بشكل لا يدعو إلى الشك هوية المشوّهين لتاريخ هذا الرجل.
إنهم الصليبيون، وإن كانت الأدوات في الغالب هي بعض المثقفين العرب مدفوعي الأجر، وطبعًا لا ننسى الأداة الرخيصة التي سنراها تتكرر في هذا الكتاب بشكل غريب وعجيب في كل الخيانات القذرة التي تعرضت لها أمة الإسلام من الأندلس إلى الهند: الشيعة الروافض!
ولعل رواية التحكيم الشهيرة التي تتكرر في مناهجنا المهترئة، هي من أهم أسباب طعني القديم في هذا البطل الإسلامي العظيم، وتزعم هذه الرواية أن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قد انتدبا أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- ليتباحثا في شأن الصُّلح، فاتفق الاثنان على خلع علي ومعاوية، فقال أبو موسى أمام الناس إني أخلع عليًا كما أخلع هذا الخاتم، وعندها قام عمرو بن العاص بخيانة أبي موسى وقال إني أثبّت معاوية كما ألبس هذا الخاتم في إصبعي، ثم قام الأول بنعت الثاني بالكلب، فقام الثاني بنعت الأول بالحمار.. انتهت الرواية!
أقول أنا:
إن هذه الرواية وإن كانت قد وردت بالفعل في أهم كتاب للتاريخ الإسلامي "تاريخ الطبري" إلّا أن هذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا، والسند هو التسلسل البشري للرواة من الراوي الأول وحتى الراوي الذي كتب الرواية، أما المتن فهو القصة نفسها.
والحقيقة أن الطبري رحمه اللَّه أكد في بداية كتابه أنه لم يدون في كتابه الروايات الصحيحة فقط، بل قام بتدوين كل الروايات، الصحيحة منها والمكذوبة، تاركًا مهمة تصحيحها لفرسان التاريخ من بعده، غير أن الطبري جزاه اللَّه كل خير قام بتدوين سند كل رواية بكل دقة.
ورواية التحكيم تلك بها راوٍ يُسمى بأبي مخنف لوط بن يحيى، وأبو مخنف هذا شيعي رافضي كذاب طعن به كل الرواة فقال عنه ابن عساكر: رافضي ليس بثقة، وقال عنه ابن حجر: إخباري تالف لا يوثق به، ووصفه ابن معين بقوله: ليس بشيء كذاب ساقط! إذًا فالرواية لا تصح أبدًا من ناحية السند، أمّا متن الرواية فقد صيغ بطريقة غبية تبين حماقة واضعها، فمعاوية لم يكن خليفة أصلًا لكي يعزله عمرو!
بل إن موضوع الخلافة لم يكن في الحسبان أساسًا في صراع علي ومعاوية -رضي اللَّه عنهما-، وإنما كان الخلاف بينهما على كيفية الثأر لابن عم معاوية عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وأرضاه من المنافقين الذين قتلوه غدرًا.
فكان علي يرى أن الوقت لم يكن مناسبًا لقتل أولئك الخونة في الحين واللحظة، بينما كان معاوية يرى أنه يجب القضاء على جيش الخونة في العراق، ثم إن هذه الرواية الحمقاء لا تحتاج لأكثر من إدراك طفل تخرج قريبًا من الحضانة ليعرف أن سبَّ الآخرين ونعتهم بالكلب والحمار لا يصدر إلّا من أطفال قليلي الأدب خرجوا من بيت تنعدم فيه الأخلاق.
وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص صحابيان جليلان خرجا من بيت أعظم مربٍ في التاريخ، خرجا من بيت محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
أما الرواية الكاذبة الأخرى فهي رواية: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)، والتي يرددها كثير منّا مفتخرًا بعدل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-!
هذه الرواية رواية باطلة، وأكررها بملء فمي، هذه رواية باطلة سندًا ومتنًا، ليس لأن عمر بن الخطاب كان ظالمًا يستعبد الناس، بل لأن هذه الرواية تقصد الإساءة لعمرو بن العاص أكثر من مدح عمر بن الخطاب.
فهذه الرواية تزعم أن ابنًا لعمرو ابن العاص ضرب أحد المصريين، فشكاه ذلك المصري للخليفة عمر بن الخطاب، فقام عمر بمعاقبة عمرو بن العاص وابنه معًا ثم قال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ انتهت هذه الرواية الخبيثة.
أقول أنا:
هذه القصة منقطعة السند وسندها واهٍ، ويظهر هذا الانقطاع في السند حيث ذكرها ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" هـ 290 بقوله: (حُدثَنا) بصيغة المبني للمجهول، وهذا ما ينسف هذه الرواية الكاذبة نسفًا، ثم إن متن هذه الرواية لا يقل غباءً عن الرواية السابقة، فمنذ متى كان عمر يأخذ الحق من والد المخطئ وهو يعلم أنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟!
فإذًا هذه رواية باطلة قُصِدَ منها تشويه صورة عمرو بن العاص وأبنائه بالتحديد، وذلك لأن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص كان أول مَنْ كتب أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودوّن سنته، فإذا زرع غُزاة التاريخ مثل هذه الروايات عن أبناء عمرو بن العاص، سقطت إذًا السُّنَّةُ وسقط الإسلام بعدها!
ولكن ما الذي جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص؟ وما سر هذا الإيمان العميق الذي امتلأ به قلب بطلنا العظيم من لحظة إسلامه الأولى؟
ومَنْ هو ذلك الرجل الغامض الذي أسلم على يديه عمرو بن العاص؟ وكيف خرج هذا الرجل من أدغال أفريقيا لينسج خيوط علاقة روحانية أشبه بالخيال بينه وبين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الرغم من أنهما لم يتقابلا أبدًا وجهًا لوجه؟!
يتبع....
يتبع إن شاء الله...