منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه   الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:58 am

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:
1- تقيد بأغلال السجع والبديع:
كان خروج الحملة الفرنسية من مصر بدءًا لحياة جديدة في السياسة والعلم والاجتماع، فقد شعر المصريون -كما أسلفنا- بحقوقهم السياسية، وحقًّا لم يُتِحْ محمد علي لهم استخدام هذه الحقوق؛ ولكنها ظلت مكتنَّةً في الصدور، حتى هُيئ لها النماء والإثمار في عهد إسماعيل وما تلاه من عهود.
وقد أخذت مصر منذ عهد محمد علي تحاول الاتصال بالحضارة الغربية لا في العلم فقط؛ بل في النواحي المادية والاجتماعية أيضًا؛ إذ عاش الفرنسيون بين أهلها معيشة لم يكونوا يألفونها، وقد رأوهم يلهون فنونًا من اللهو، فيها التمثيل والغناء والرقص، وكانوا ينكرون بعض هذه الفنون؛ ولكنها كانت تدفعهم إلى التفكير في أن وراء البحر عالمًا جديدًا ينبغي أن يتصلوا به، لا في شئونهم المادية فحسب؛ بل أيضًا في شئونهم العلمية والسياسية.
وقد سلَّم المصريون محمد علي مقاليد أمورهم، فاندفع ينظم الجيش على الطريقة الأوربية، وأنشأ لذلك المدرسة الحربية، ثم مدرسة الطب والمدارس الصناعية؛ ليزود الجيش بالضباط والأطباء والصناع والمهندسين.
وأقام هذه المدارس المختلفة على نمط أوربي، واستقدم لها العلماء الأوربيين المختلفين، وللتفاهم بينهم وبين المصريين أقام مجموعة من المترجمين، من الأرمن وغيرهم.
ثم لم يلبث أن أنشأ مدرسة الألسن، وجَدَّ في إرسال البعوث إلى الغرب؛ ليتقن
المصريون اللغات الأجنبية.
ومن حينئذ بدأ الاتصال المنظم بين العقل المصري الخالص والعقل الغربي الحديث.
ولكن هذا الاتصال ظل قاصرًا في أول الأمر على النواحي العلمية والفنية التطبيقية.
أما النواحي الأدبية فظل فيها الاتصال معدومًا أو كالمعدوم؛ إذ لم تحدث عَلاقة حقيقية بيننا وبين الآداب الغربية.
ومن المعروف أن أدب أمة لا يتأثر بآداب أمة أخرى بمجرد التقاء الأمتين؛ بل لا بد من وقت أو أوقات حتى تستطيع الأمة أن تأخذ عن غيرها وتهضم ما تأخذه وتتمثله، ثم تخرجه أدبًا جديدًا له طوابعه وشخصيته.
ولعل في هذا ما يفسر لنا جمود أدبنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتخلفه وانطواءه على صورته الموروثة، فقد عشنا فيه بعقليتنا القديمة وذوقنا القديم الذي كان يُعْنَى بالسجع والبديع. وقد نشأت عندنا طبقة من كُتاب الدواوين مثل عبد الله فكري، إلا أنها لم تختلف في شيء عن روح كتاب الدواوين المتأخرين مثل القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وطبقته، فهي تكتب المنشورات والتقريرات بأسلوب السجع، ولا تكتفي بما فيه من أغلال؛ بل تضيف أغلال الجناس والطباق وغيرهما من أغلال البديع.
وربما كان من أهم أسباب هذا الجمود أن مصر لم تكن تشعر بوجودها شعورًا محققًا؛ بل لقد عُنِي محمد علي بكبت هذا الشعور، وربما كان أهم مظهر لذلك أنه كان يستعين في المناصب الكبرى بطبقة من الأتراك، ولم يكن يسمح للمصريين بتولي هذه المناصب؛ بل لقد كان يحكمهم حكمًا مستبدًّا، ليس فيه شورى ولا ما يشبه الشورى.
فظل الشعب بعيدًا، وظلت لغته معه متخلفة لا تتطور؛ إذ لم يكن هناك بواعث سياسية ولا قومية تدفعها إلى هذا التطور؛ بل لقد كان الحاكم يقدِّم عليها اللغة التركية في دواوينه ومنشوراته وما يطبع من كتب وآثار في مطبعة بولاق؛ بل لقد كان التحدث بها بين طلاب المدارس سُبَّةً حتى عهد عباس الأول، فالشيخ المهدي يقول في مذكرات الأدب التي طبعها لتلامذة القضاء الشرعي في مطلع هذا القرن: "كانت اللغة العربية مضطهدة في عهد عباس الأول إلى حد أن مَن تكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع في فيه العُقْلة التي توضع في فم الحمار حينما يُقَص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه بلغة القرآن في أثناء فسحته".
وطبيعي ألا تنهض لغتنا حينئذ، وأن تظل على عهودها السابقة جامدة راكدة ضيقة مثقلة بالسجع وما يرتبط به من قيود البديع وأغلاله.
غير أنه أخذت ناشئة جديدة في الظهور، وهي ناشئة حذقت اللغات الأجنبية، وأخذت تقرأ في آدابها، وتفهم ما تقرأ، وتتذوقه، وتستمتع به.
وخير مَن يمثل هذه الناشئة رفاعة الطهطاوي الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، ورافق البعثة الكبرى الأولى لمحمد علي إمامًا لها.
ولم يكتفِ بعمله؛ بل أقبل على تعلم اللغة الفرنسية، حتى أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
وعاد إلى مصر فاشتغل بالترجمة وعين مديرًا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارًا مختلفة من اللغة الفرنسية.
وكان ذلك بدء نهضتنا الأدبية المصرية؛ ولكنه كان بدْأً مضطربًا؛ فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع؛ بل ظلوا يكتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية.
ومن الغريب أنهم كانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلى هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التكلف الشديد، فتصبح شيئًا مبهمًا لا يكاد يُفهم إلا بمشقة.
ونحن الآن لا نقرأ ما كتبته هذه المدرسة الأولى في تاريخ أدبنا حتى نشعر بضيق؛ لأنها لا تخاطبنا مباشرة؛ وإنما تخاطبنا من وراء حجاب صفيق، ويظهر أنها لم تكن تستطيع أن تُسقط هذا الحجاب؛ إذ كان شائعًا بين جميع الأدباء المصريين، وكانوا يحرصون عليه، ويتعصبون له؛ بل كانوا لا يستطيعون أن يعبروا عن أي شيء إلا به، وكأنما جمدت ألسنتهم عنده، فهي لا تستطيع أن تتحول عنه.
وعلى هذا النحو مضينا في النصف الأول من القرن الماضي وغير قليل من النصف الثاني لا نملك من وسائل التعبير النثري سوى هذه الوسيلة الضيقة، وسيلة السجع والبديع التي تخنق الكلام، وتحول بيننا وبين التعبير الحر عما نريد، وكأن ما نريد كان لا يزال شيئًا ضيقًا محصورًا، فانحصر نثرنا في هذه الصناعة الراكدة الجامدة، ولم يستطع التيار الغربي أن يحرره ولا أن يخلصه من أثقاله وأغلاله.



الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه   الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:59 am


2- حركة تحرر وانطلاق:
لا نمضي طويلًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى تجتمع دوافع حقيقية لتحرر النثر وانفكاكه من قيوده الغليظة؛ فإن أمورًا كثيرة متشابكة جدت، وعملت مع أمور أخرى كانت مختفية وظهرت.
وتناولت هذه الأمور أو هذه الأسباب عناصر حياتنا من جميع أنحائها وغيَّرتها تغييرًا تامًّا.
وكان أول ما حدث من ذلك نشوء الرأي العام، وظهور فكرة الوطنية، وشعور المصريين بحقوقهم السياسية المسلوبة، وقد رأيناهم يشعرون بهذه الحقوق في عهد محمد علي، ويحاول جاهدًا أن يميتها في نفوسهم؛ ولكنها لم تمت؛ بل ظلت مختفية إلى حين.
وكان مما عمل على بقائها ونمائها دخول المصريين في جيش محمد علي، فكان هذا الجيش حين ينتصر في حرب يشعر المصريون بأنفسهم وبمصريتهم.
وليس هذا فقط، فقد أخذوا يتعلمون ويفدون على أوربا في البعوث، فكانوا يرون حياة سياسية تخالف حياتهم، فالناس في فرنسا مثلًا لا يُحْكَمُون بفرد مستبد؛ بل يشتركون معه في الحكم وفي إدارة بلادهم.
وقد كشف رفاعة في كتابه "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" عن الفروق بين الحياة السياسية هناك وبينها في مصر، وأشار إلى أن فرنسا تُحْكم بدستور قائم من وضع الشعب وتصميمه.
ومما زاد شعور المصريين بأنفسهم كشف اللغة الهيروغليفية، وتبينهم لتاريخهم القديم، فاستشعروا من ذلك كله عزة وأنفة، وطلبوا الحياة الحرة الكريمة.
ولم يتقدم بهم حكم إسماعيل حتى رأوا رأي العين ضرورة الاشتراك معه في الحكم؛ فإنه يسير في طريق محفوف بالخطر، وإذا تُرك وأهواءه وسياسته المالية السيئة فإن البلاد ستقع حتمًا فريسة في أيدي الغربيين، وقد أخذوا فعلًا يضعون لها الشباك من صندوق دين ومن مراقبة مالية ومستشارين ماليين وغير ذلك من نُذر تنذر بالشر المستطير.
وإسماعيل في غَيِّه، وبطانته التركية من حوله لا ترده ولا تهديه سواء السبيل.
وأحس المصريون بخطر هذا كله، وأنهم لا يعيشون معيشة كريمة في بلادهم، وأنه حري بهم أن يلوا شئونها، وأن يعيشوا أحرارًا تحت سمائها، واستقر ذلك في نفوسهم، فلا بد من التحرر أولًا من الحاكم المستبد الذي لا يحسن تصريف الأمور، وثانيًا من الترك الذين يؤلفون حاشيته، والذين يسيطرون على المناصب الكبرى في الجيش وغير الجيش.
ولم يقف تفكير المصريين عند وطنهم، فقد فكروا في دينهم، وما أصاب المسلمين من ضعف وانحلال، فإذا الغرب يستولي على بعض بلدانهم، وإذا الخلافة الإسلامية في تركيا تكاد تنقض لما يدبِّر لها الغرب عامة.
ورأى المصريون عن بصيرة أنه يجب الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى، حتى يُنَقَّى الدين مما علق به من أوهام وخرافات، ورجعوا يدرسون كتبه القديمة وما كتبه المسلمون في العصر العباسي.
وكان ذلك تحولًا مهمًّا، فإن الأزهر لم يكن يدرس سوى كتب العصور المتأخرة التي التوت أساليبها وتعقدت أشد ما يكون الالتواء والتعقيد.
واقترن هذا الاطلاع على المصادر الأولى في الدين باطلاع آخر على المصادر الأولى في الأدب، فإن المطبعة أخذت في نشر الكتب الأدبية القديمة من مثل كليلة ودمنة لابن المقفع، فرأى المثقفون نماذج جديدة في التعبير تختلف اختلافًا بينًا عما كانوا يعرفونه، فليس فيها التكلف وليس فيها السجع والبديع؛ وإنما فيها الأسلوب المرسل الشفاف الذي لا يخفي شيئًا من المعنى ولا يستر دلالة من الدلالات.
فشكوا فيما يألفون، سواء من جهة الأساليب الدينية الملتوية أو من جهة الأساليب الأدبية المقيدة بالسجع والبديع، وطلبوا طرق التعبير القديمة في الدين والأدب جميعًا.
وفي أثناء ذلك كان يشتد الاتصال بالغرب، فقد فُتحت قناة السويس، ونزل في مصر كثير من الأجانب، وأخذ المصريون يطلعون من قرب على الحياة الأوربية المادية.
وكان ذلك يزيد من شعور المصريين بقوميتهم، وأن لهم شأنًا في العالم وعلاقاته الاقتصادية، كما كان يؤثر في أذواقهم وعقولهم؛ فإن العلاقات الحضارية يتشابك بعضها ببعض.
وجَدَّ المصريون منذ عصر إسماعيل في دعم اتصالهم بالغرب، فهم يكثرون من المدارس ويفتحون أبواب التعليم العالي على مصاريعها، ويؤسسون الأوبرا ويقيمون دار الكتب للقراءة والاطلاع المنظم. وبعث ذلك كله نهضة واسعة في مصر، نهضة غيرت الأذواق، وهيأتها لتطور واسع في الميادين الأدبية.
وكانت تدفع هذه النهضة بقوة روحُ المصريين الجديدة وشعورهم بأن وراء ما يقرءون في الدين والأدب نماذج قديمة جديرة بالاحتذاء والتقليد، فأقبلوا عليها يقرءونها ويتأثرونها.
ولم يكن هذا التيار العربي القديم وحده هو الذي يغير في أذواقهم وعقلياتهم، فقد كان هناك تيار آخر يأتيهم من وراء البحر، لا بالأوربيين الذين يستوطنون ديارهم فحسب؛ بل بالعلم الأوربي والأدب الأوربي، وكان تصالهم بالعلم أسبق من اتصالهم بالأدب؛ ولكنه لم يُحْدث تبدلًا في حياتهم الأدبية؛ إنما حدث هذا التبدل حين أخذوا يتصلون مباشرة بالآثار الأدبية الغربية ويتذوقونها، ولم يكتفوا بذلك؛ فقد أخذوا يترجمونها، وشاركهم في هذه الترجمة عنصر عربي هاجر إلى ديارنا، هو عنصر السوريين واللبنانيين الذين وفدوا علينا فارين من اضطهاد العثمانيين أو لأغراض اقتصادية.
وكان هذا العنصر السوري اللبناني شديد الاتصال بالآداب الأجنبية؛ فإن البعوث الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية -أو بعبارة أخرى: الفرنسية والأمريكية- وصَلته بآدابها وصلًا محكمًا. فلما نزل بديارنا أخذ يعبر عن هذه الصلة بطريق الترجمة، وبذلك كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حَقلًا واسعًا للترجمة ونقل الآداب الغربية، فقد تُرجم كثير من القصص والروايات، وترجمت كتب لا تكاد تحصى في الاجتماع والقانون والاقتصاد وجميع فروع الفكر الغربي.
واضطرت هذه الترجمة الواسعة أصحابها اضطرارًا أن يهجروا الأسلوب الذي ترجم به رفاعة الطهطاوي وتلاميذه، أسلوبَ السجع والبديع، فقد رأوه يفسد المعاني التي يريدون نقلها وأداءها إفسادًا؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يتسع لها، ولا يتيح للمترجم أن يعبر عنها إلا تعبيرًا مضطربًا، أو تعبيرًا ممتلئًا بعوائق السجع والبديع.
ولم يلبث هؤلاء المترجمون بعد رفاعة أن عرفوا عن طريق المطابع وما تنشر من آثار الأدب العباسي أن وراء هذا الأسلوب القاصر الذي ترجم به رفاعة أسلوبًا مرسلًا حرًّا آخر، يمكِّنهم من صياغة العبارات بحيث تؤدي المعاني الأوربية أداء سهلًا يسيرًا، فعوَّلوا على هذا الأسلوب، واتخذوه وسيلتهم إلى تصوير معانيهم، وخاصة أنهم رأوه يشبه الأساليب الغربية التي يترجمون منها، فإنها تصاغ في لغة سهلة تخلو خلوًّا تامًّا من أثقال السجع والبديع.
وعلى هذا النحو أخذ المترجمون يؤثرون الأسلوب العتيق الفصيح، وينفكون عن أسلوب رفاعة الثقيل الضيق.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل أخذوا يمرنون هذا الأسلوب على أداء المعاني الغربية الدقيقة، سواء في الفكر أو في الشعور، وأثبتوا أن لغتنا الفصيحة لا تستعصي على أداء هذه المعاني، فكانوا بذلك عاملًا مهمًّا من عوامل بعثها ونهوضها.
وحتى الآن لم نتحدث عن المطبعة والصحف، وقد كان لهما أثر بالغ في هذا التحرر من أسلوب السجع والبديع، فإن من كان يترجم مثلًا لم يكن يترجم للطبقة المثقفة الممتازة؛ بل كان يترجم للجمهور، ولم يكن هذا شأن المترجمين في العصر العباسي والعصور السابقة، فإنهم كانوا يترجمون لطائفة محدودة من الأمة، وكانوا يقدمون لها ما يترجمون في نسخ خطية قليلة.
ومعنى ذلك: أن الأدب والعلم جميعًا كانا أرستقراطيين، وكانا محتكرين في جماعة بعينها من جماعة الأمة، فلما عرفنا المطبعة وانتشر التعليم في طبقات الشعب أصبح الأدب والعلم شعبيين، وأصبح المترجمون يلاحظون أنهم لا يخاطبون الطبقة المثقفة العليا في الأمة؛ بل يخاطبون طبقاتها على اختلافها.
وأحدث ذلك تطورًا واسعًا في أسلوب الترجمة والكتب الأدبية، فقد أخذ المترجمون والأدباء يلائمون بين أسلوبهم وطبقات الشعب، حتى تفهم عنهم ما يريدون أن يقولوه، وحتى لا تجد مشقة في هذا الفهم. ومن هنا أخذت الأساليب الأدبية تجنح إلى البساطة ومراعاة السهولة، فالكاتب يسعى بجهده إلى تبسيطها وتيسيرها، حتى تروج في الجمهور.
فنحن إذن لم نرجع إلى الأسلوب القديم الفصيح أو الأسلوب المرسل الحر فحسب؛ بل أخذ المترجمون والأدباء يبسِّطون أسلوبهم تبسيطًا لا ينزل به إلى مستوى العامة أو إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه لا يعلو عليهم؛ بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءته وفهمه، هو أسلوب بسيط سهل؛ ولكنه عربي فصيح.
وما عملته الصحف في هذا الاتجاه كان أوسع وأعمق بحكم أنها تخاطب كل الطبقات في الأمة لا تميز بين طبقة وطبقة؛ بل لعل عنايتها بالطبقات الدنيا تزيد على عنايتها بالطبقات العليا؛ فإنها تريد أن تنتشر في أوسع جمهور ممكن، وأن تغري هذا الجمهور على فَهْمِها والاستمتاع بها حتى يطلبها.
وجمهور الكِتَاب المترجم والمؤلف من هذه الناحية أضيق كثيرًا من جمهور الصحيفة، فالكِتَاب يخاطب الطبقات المثقفة التي تقرأ، عاليها ودانيها، أما الصحيفة فإنها تريد أن تخاطب الكثرة الساحقة في الأمة؛ ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في الأسلوب والتفكير بأكثر مما يحتاج مؤلف الكتاب، ومهما كانت الفكرة التي يتناولها مرتفعة في نفسها، فإنه لا بد أن يبسِّطها إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة أمام القراء، وحتى لا يجدوا أدنى مشقة في فهمها وتصورها، ولا بد أن يُصَفِّي لفظها، ويختار لها لغة سهلة يسيرة، حتى تقترب من الذوق البسيط السهل في الأمة، وحتى يفهم القارئ ما يقرؤه ويعيه وعيًا صحيحًا.
فطبيعي لهذا السبب ولما قدمنا من أسباب وبواعث أن يهجر الأدباء والكُتاب اللغة القديمة التي كان يكتب بها رفاعة الطهطاوي، وأن يهجروا معوقاتها من سجع وبديع، فإن هذا كله لا يلائم المعاني الغربية الكثيرة التي يترجمونها ولا يلائم الذوق الشعبي المتواضع الذي يخاطبونه في الكتب والصحف جميعًا؛ إنما الذي يلائم ذلك هو الأسلوب الحر الطبيعي.
وقد أخذوا يمرنون كلمات هذا الأسلوب على أن تحمل إلينا الآداب والثقافات الغربية من جهة، كما أخذوا يمرنونها على هجر الموضوعات الضيقة، التي كان يُعْنَى بها كتابنا وأدباؤنا في العصور الوسطى، وهي موضوعات شخصية في جملتها لا تكاد تتجاوز موضوعات الشعر من تهنئة بفتح أو ظفر، ومن تعزية أو وصف، ونحو ذلك من موضوعات النثر القديم.
فقد أحلوا محل هذه الموضوعات المحدودة موضوعات عامة، وبعبارة أخرى: أحلوا الأمة محل الأفراد القدماء، فلم يعد الكاتب يتوجه بكتابته إلى شخص معين؛ بل أصبح يتوجه إلى طبقات الأمة على اختلاف درجاتها.
ومعنى ذلك: أنه أصبح أديبًا ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا يوجه حديثه إلى أرستقراطيين من أمراء ووزراء وغير أمراء ووزراء؛ لينال مكافآتهم وجوائزهم فيما يعرض له من شئونهم الشخصية، وليمكنوه من المعيشة والحياة.
فقد انتهت هذه الدورة أو الدورات في نثرنا -أو كادت- وأخذ هذا النثر يسعى إلى محيط أوسع، هو محيط الشعب الذي يكسب عيشه منه مباشرة بما ينشر من الكتب وبما يكتب في الصحف.
ونتج عن هذا التحول أشياء كثيرة، فإن الكاتب لم يعد عبدًا مسترقًّا لأشخاص بأعينهم، أو لهذا الأمير أو هذا الوزير؛ بل رُدَّتْ إليه حريته، فهو يكتب كما يريد، لا كما كان يريد له الأمراء والوزراء ومن إليهم من الحكام، يكتب آراءه وأفكاره كما أحسَّها وشعر بها دون أن يخضع لفرد من الأفراد مهما كان شأنه.
وشيء آخر أتى من تحول الكاتب إلى الجماعة الكبرى جماعة الأمة، فإنه أخذ يُرضي هذه الجماعة وشعورها وذوقها، مما كان سببًا في نشوء رأي أدبي عام يعلن رضاه وسخطه على حياتنا الأدبية. وتحت تأثير هذا الرأي تطور أسلوب النثر وتحرر من أغلال السجع والبديع كما قلنا آنفًا.
وشيء أعمق من هذا كله وأبعد أثرًا في حياتنا الأدبية في أثناء النصف الثاني من القرن الماضي، فإن أدبنا أخذ يُعْنَى بتصوير الجماعة وتصوير ميولها السياسية وغير السياسية؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الأدباء تحولوا إلى الجماعة يخاطبونها ويقدمون أدبهم إليهم، فكان لا بد أن يخاطبوها في شئونها التي تهمها وحياتها التي تعيشها أو تريد أن تعيشها.
ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى يتكامل وَعْيُ هذه الجماعة، وحتى تريد أن تنال حقوقها السياسية المسلوبة، وقد أخذت تنظر في جوانب حياتها المختلفة سياسية وغير سياسية، وتطمح إلى إصلاحها من جميع أنحائها.
وكان من أهم ما فكرت فيه الدين نفسه وأممه وخلافته العثمانية التي ترمز إليه، والتي كان لهم سلطان شرعي في مصر وغير مصر من الأقطار الإسلامية.
ولم يلبث الأدباء أن لبوا هذه الغايات الشعبية عند الأمة، فأصدر عبد الله أبو السعود صحيفة "وادي النيل"، وأصدر إبراهيم المويلحي جريدة "نزهة الأفكار".
وصدرت جريدة "الوطن".
وأخذ السوريون واللبنانيون المهاجرون إلى مصر يشاركون في هذا النشاط الصحفي؛ فأصدر أديب إسحاق وسليم نقاش صحيفة "مصر"، وأصدر سليم وبشارة تقلا "صحيفة الأهرام"، وسليم الحموي "الكوكب الشرقي"، وسليم عنحوري "مرآة الشرق"، وتنحى عنها فتولى تحريرها إبراهيم اللقاني.
وبجانب ذلك أصدر يعقوب صنوع صحيفته "أبو نظارة"، كما أصدر عبد الله نديم صحيفته "التنكيت والتبكيت"، وحين اشتد الحماس الوطني قُبيل ثورة عرابي حوَّلها سياسية ثائرة وسماها "الطائف".
وهذه الصحف المختلفة كانت تصور عواطف المصريين السياسية، وتنادي بالإصلاح في الأداة الحكومية قبل أن يستفحل الخطب ويتفاقم الأمر، فإن الأوربيين فرضوا على إسماعيل رقابة مالية، ورقابة المال تؤدي إلى رقابة الحكم.
وأخذت صحفنا تنقد الحاكم وتندِّد بسياسته السيئة، وسُرعان ما تحولت ثائرة عليه ثورة غاضبة.
واقترن بهذه العواطف السياسية المتأججة في نفوس المصريين عاطفة دينية قوية تدعو إلى إصلاح الدين وتنقيته مما أَلَمَّ به من خرافات.
ولم يلبث الشيخ محمد عبده أن مزج بهذه الدعوة دعوة عامة إلى إنقاذ الإسلام والمسلمين مما حل بهم من تأخر واضمحلال، وفكر في وطنه وما أصابه من جَوْر حكامه وسوء أحواله الاجتماعية.
ومما لا شك فيه أن جمال الدين الأفغاني هو الذي دفع الشيخ محمد عبده دفعًا قويًّا في هذا الاتجاه؛ إذ كان يلزمه في بيته وفي غَدواته وروحاته، وهو يلقي دروسه الدينية والفلسفية، داعيًا إلى الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي، ومهيجًا الخواطر ضد الحكام الذين يختانون أمانة أوطانهم الإسلامية بما يُطلقون من أيدي المستعمرين الأوربيين في شئونها المالية وغير المالية.
وقد أخذ يمرن تلاميذه -وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده- على الخطابة وإنشاء المقالات في الصحف.
وتحولت إلى التلميذ النابغ جميع تعاليم أستاذه في السياسة وغير السياسة، وتأججت في صدره حماسة لاهبة لخدمة دينه ووطنه.
وهيئت الفرصة له ليذيع آراءه الإصلاحية في الجمهور؛ إذ تولى تحرير "الوقائع المصرية" لأول عهد توفيق.
واشترك في الثورة العرابية، حتى إذا أخفقت حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات، فذهب إلى بيروت ثم تركها إلى باريس، وكان قد سبقه جمال الدين إليها، وأصدرا هناك صحيفة "العروة الوثقى" يذيعان فيها على مصر والعالم الإسلامي ما يوقد نار الحمية الإسلامية في النفوس، وكانا يؤمنان بوجوب توحُّد المسلمين تحت راية الخلافة العثمانية، حتى يقفوا رجلًا واحدًا أمام الأوربيين وجشعهم الاستعماري البغيض.
وعلى هذا النحو كانت الموضوعات التي يتناولها كُتَّابنا في عصر إسماعيل وقبل الاحتلال الإنجليزي سنة 1882 موضوعات سياسية ودينية واجتماعية، وهي موضوعات عامة، لم يكن يستمدها الكُتاب من عواطف فردية أو شخصية؛ وإنما كانوا يستمدونها من عواطف الشعب، فقد أصبح الشعب هو كل شيء، وأصبحت ميوله الإطار الذي توضع فيه المقالات الصحفية المختلفة.
وتعم الكآبة مصر وتخمد مؤقتًا هذه الجذوة القوية فيها لأول عهد الاحتلال؛ ولكن لا نمضي طويلًا حتى تسترد هذه الجذوة قوتها واشتعالها، فيصدر العفو عن الشيخ محمد عبده وعبد الله نديم اللذين اشتركا في الثورة العرابية، وتصدر صحيفة "المؤيد" يصدرها الشيخ علي يوسف، معبرًا فيها عن نزعتنا الوطنية، ويصدر عبد الله نديم صحيفة "الأستاذ" يناوئ فيها الاستعمار، ويصدر مصطفى كامل صحيفة "اللواء" ويبعثها نارًا ضد الاستعمار والمستعمرين، ويؤلف "الحزب الوطني"، ويصارع الإنجليز صراعًا قويًّا عنيفًا.
ويتألف حزب الأمة، ويُصدر صحيفة "الجريدة" ويحررها لطفي السيد، ولم يكن هذا الحزب ثائرًا ثورة الحزب الوطني؛ بل كان يميل إلى الاعتدال في الكفاح، وقد خرج بفكرة أن مصر للمصريين، فينبغي ألا نفكر في الخلافة العثمانية والعثمانيين؛ بل ينبغي أن نقصر تفكيرنا على أنفسنا ومصالحنا.
وكان مصطفى كامل يعطف على الخلافة الإسلامية، وهو عطف كان يصور فيه عواطف الشعب المصري الذي كان يعد هذه الخلافة رمزًا لدينه، ولم يكن مصطفى كامل يتعدَّى ذلك، فوجهته وطنه واستقلاله وتخليصه من براثن الاحتلال.
وأعلنها حربًا شعواء على الإنجليز لا تضعف ولا تلين كما يلين حزب الأمة وأنصاره، واندفعت الأمة المصرية وراءه غاضبة ناقمة.
وهذه الحركة الوطنية التي كانت تصدر عن روح الأمة وما صحبها من ترجمة أو من التيار الغربي الذي أخذ يعمل في مجرى حياتنا الأدبية، كل ذلك كان مصدر نشاط أدبي خصب، سواء من حيث اللغة التي نعبر بها عن أدبنا، أو من حيث الموضوعات التي كان يتناولها.
أما اللغة، فقد تحررت من عوائق السجع والبديع.
على أنه ينبغي ألا نطلق هذا القول إطلاقًا عامًّا، فقد كان لا يزال يوجد محافظون يتأثرون في كتابتهم بالسجع وما يتصل به من البديع، وكانوا قليلين؛ ولكنهم ظلوا قائمين في حياتنا الأدبية منذ ثورتنا اللغوية التي نَحَّت هذه العوائق بعيدًا عن الأسلوب الفصيح، وظلنوا ينتجون آثارًا تخضع لذوقهم المحافظ, لا في القرن الماضي فحسب؛ بل أشواطًا من هذا القرن.
وكان يوجد ثائرون على اللغة العربية، لا في صورتها المعقدة عند أصحاب السجع والبديع فقط؛ بل أيضًا في صورتها السهلة الميسرة عند أصحاب الأسلوب المرسل، وكانوا يرون أن من الخير أن نهجرها جملة ونستخدم مكانها لغتنا العامية.
وظهر هذا الاتجاه قويًّا عند من تثقفوا بالآداب الغربية، فقد رأوا أصحاب هذه الآداب يهجرون في عصر النهضة اللغة اللاتينية التي كانوا يعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم، ويتخذون مكانها لغاتهم المحلية، وأنشئوا بهذه اللغات آدابهم المختلفة من فرنسية وإنجليزية وغير فرنسية وإنجليزية.
فقالوا: ما لنا وللغة قديمة ليست لغتنا ولا ملكًا لنا، ولا هي أداة طيِّعة للتعبير الحر الطليق عن عواطفنا ومشاعرنا، وها هي يبدو عجزها عن أداء المعاني الغربية الكثيرة التي نريد أن نؤيدها؟ وقالوا أيضًا: إنها ليست اللغة المصرية الصميمة؛ بل هي منا كاللغة اللاتينية من الأوربيين، فلن يقدر لها البقاء، بل لا بد أن تحل محلها اللغات العامية في البلاد العربية المختلفة.
وكان ممن يدافع عن هذا الاتجاه محمد عثمان جلال الذي ترجم بعض روايات موليير إلى لغتنا الدارجة، فاتسعت هذه الدعوة، ولا يزال لها أنصار إلى يومنا الحاضر.
ولم تنجح حينئذ لأسباب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها أدبي خالص، فقد دعا بعض الإنجليز إليها في محاضرات عامة بمصر وفي بعض كتاباتهم، كما دعا إليها بعض المستشرقين، فأحس الشعب وأدباؤه خطرًا فيها، وأنها إن صحت كانت كارثة سياسية يريدها المحتل، حتى تنسى الأمة ماضيها العربي والإسلامي.
وأيضًا فإن هذه اللغة العربية التي يدفعها محمد عثمان جلال وإخوانه لغةُ القرآن الكريم، أو بعبارة أخرى: لغةٌ مقدسةٌ يقدسها الشعب.
فكان صعبًا -إن لم يكن مستحيلًا- على الشعب أن يتحول عنها، وحتى إن كان لا يحسنها فإنه ينبغي أن يسعى إلى إحسانها.
وسبب ثالث، ولكنه لا يأتي من قبل السياسة ولا من قبل الدين، وإنما يأتي من قبل الأدباء أنفسهم، فإن كثرتهم رأت ألا تنزل إلى لغة الشعب، حتى يظل لها شيء من التفوق اللغوي الذي يفصل بينها وبين العامة.
وربما كان من أهم الأسباب أيضًا أن هؤلاء الأدباء من صحفيين وكُتاب ومترجمين استطاعوا أن يؤدوا باللغة الفصيحة كل ما أرادوه من معانٍ وأفكار، فهي ليست قاصرة ولا عاجزة؛ بل أثبتوا أن فيها قوة لتحمُّل المعاني فضلًا عما فيها من براعة وجمال.
ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الدعوة إلى استخدام العامية في حياتنا الأدبية، واقتصرت على الصحف الفكاهية التي لا تزال تخرج بها إلى اليوم.
وبالمثل أخفق الاتجاه المحافظ إلى أسلوب السجع والبديع، وانتصر الأسلوب الجديد، الأسلوب العربي المرسل، ووثب به الكُتاب وثبات واسعة في التعبير والتصوير.
ولا بد أن نذكر هنا "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك؛ لتساعد على تعليم هذا الأسلوب الذي ارتضته مصر؛ إذ لم يكن يعلم العربية سوى الأزهر، ولكن علماءه كانوا محافظين، وكانوا مرتبطين بأسلوب السجع والبديع من جهة، وبكتب النحو المعقدة من جهة ثانية، فرأى علي مبارك أن ينشئ هذه المدرسة؛ لتعلم المصريين العربية بأسلوب يتمشى والنهضة الحديثة، وقامت "دار العلوم" بما أريد منها في هذا الطور من التحرر في اللغة والانطلاق من الأسلوب المسجَّع المعقد، فكانت تُخْرج للمدارس المدنية طائفة من المعلمين ييسرون العربية على الطلاب، ويُعدونهم إعدادًا صالحًا لهذه الدورة الجديدة.
على كل حال، فَكَّ المصريون، أو بعبارة أدق: فكت كثرتهم أنفسها من أغلال أسلوب السجع التقليدي، ورجعت إلى الأسلوب المرسل تعبر به عن ذات نفسها، واكتفت من هذا الأسلوب بإطاره، أما نماذجه فقد نبذتها نبذًا، لا لأنها سيئة في نفسها؛ بل لأنها لا تلائم حياتها؛ إذ كانت نماذج شخصية أو ديوانية، وكانت لا تتصل بالجمهور ولا بعواطفه، ولا تمس حياته السياسية والاجتماعية.
لذلك كان طبيعيًّا ألا يلتمس الكُتاب المصريون في القرن الماضي نماذجهم عند القدماء، فقد أخذوا يوجدون لأنفسهم نماذج تتصل بحياتهم وما اختلف عليها من أحداث وتهيأ لها من ظروف صحفية وغير صحفية.
وقد دفعتهم الصحافة التي حاولوا أن يجاروا بها الصحافة الغربية إلى إنشاء فن المقالة، وهو فن لم يعرفه العرب القدماء؛ إنما عرفوا الرسائل التي تتناول بعض الموضوعات في سعة، وهي أشبه ما تكون بكتيب صغير، فلما وُجدت الصحف، وحاول الكُتاب أن يكتبوا في الموضوعات التي تهم الجمهور استحدثوا هذا النموذج الأدبي القصير، وأخضعوه للضرورات الصحفية من حيث القصر ومن حيث تبسيط الفكر حتى يفهمها الناس وتسهيل اللغة حتى لا تكون عسيرة عليهم.
وأخذ الكُتاب يمرنون هذا النموذج الجديد ليصور آراءهم في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وفي الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي كل شأن من شئون الحياة.
وكلما تقدمنا مع الزمن قطعنا مرحلة في هذا التمرين، ونحن لا نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى يتكون لنا في هذا النموذج طبقة ممتازة من الكُتاب مثل: علي يوسف ومصطفى كامل وفتحي زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز محمد وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده، وغيرهم ممن كانوا يصارعون الفساد الاجتماعي والفساد السياسي والفساد الديني.
وكان لهذه الطبقة من الكُتاب المفكرين أبعد الأثر وأعمقه في حياتنا المصرية، فهم الذين حملوا راية الإصلاح في كل جانب من جوانب حياتنا العامة، ولا تزال دعواتهم الإصلاحية حية مؤثرة في نفوسنا، فقد أشعرونا بحقوقنا وواجباتنا وما يتعلق بحياتنا من أسباب التأخر والانحطاط، وعلمونا كيف نعيش في وطننا أحرارًا، وكيف ننهض إلى تحقيق استقلالنا وتحقيق حياة كريمة لنا.
وبذلك أثاروا فينا العناصر الكامنة من قُوانا، وكان لمصطفى كامل الفضل الأول في دفعنا إلى مصارعة الاحتلال مما جنينا آثاره في ثورة سنة 1919، ثم في ثورتنا الأخيرة المباركة.
وحاول محمد عبده محاولة تجديدية جريئة في الدين، وهو أهم مصلح ديني عرفته مصر الحديثة، وقد أخذ يدعو إلى تخليصه من الأوهام والخرافات، والبحث فيه بحثًا حرًّا على نمط البحث القديم عند المعتزلة، فباب الاجتهاد فيه لم يغلق، ولا ضير أبدًا في أن نبحث فيه وفي أصوله على ضوء الفكر الحديث.
وأخذ يثبت في مقالاته وأبحاثه أنه دين عالمي حي، وأنه لا يتعارض مع المدنية الحديثة، ورد ردودًا قوية على من يهاجمونه من المستشرقين والمستعمرين.
وقام بتفسير القرآن الكريم تفسيرًا جديدًا يتفق وهذه الروح.
وأصلح القضاء الشرعي حين عُهد إليه بالإفتاء في عهد عباس الثاني كما أصلح مناهج التعليم في الجامعة الأزهرية.
وحمل قاسم أمين راية الإصلاح الاجتماعي، وقد رأى أن من أهم أسباب تأخرنا عن الغرب حجابَ المرأة وجهلها وشل هذا الجزء الحي في مجتمعنا وإهدار جميع حقوقه في الزواج بل في الحياة.
وكتب في ذلك مجموعة من المقالات نشرها في صحيفة "المؤيد"، ثم جمعها في كتاب بعنوان "تحرير المرأة"، وأتبعه بكتاب آخر سماه "المرأة الجديدة"، وفيه دافع ثانية دفاعًا حارًّا عن حرية المرأة، ورسم خطوط هذه الحرية، وأنه ينبغي أن تخرج إلى حياتنا العامة، وأن تشترك في أعمالها ومسئولياتها المختلفة.
وكان ذلك ثورة في أول القرن، وخاصة في البيئات المحافظة، وكُتب لهذه الثورة أن تنجح نجاحًا هائلًا بعد الحرب الأولى حين رُدت إلينا حريتنا، فخلعت المرأة الحجاب وتعلمت، وأصبحت تشارك في الأعمال الحكومية والمهن الحرة من طب وغير طب.
وعلى هذا النحو كانت كانت هذه الطبقة من كُتابنا تجدد حياتنا وعقولنا وتدفعنا خطوات إلى الأمام، وكان كثير من أفرادها قد أتقن اللغات الأجنبية، وأخذ نفسه بقراءة آثار المفكرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فاندفع يقتبس من هذا الفكر الغربي الحي النشيط فيما يكتب لقومه من مقالات، وأهم من يوضح هذا الاتجاه فتحي زغلول وأحمد لطفي السيد، وقد ترجم الأول كتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"، ونشره مقالات مسلسلة في صحيفة "المؤيد" سنة 1899، أما لطفي السيد فعُنِيَ بترجمة بعض آثار أرسططاليس.
فكان الأول باعثًا على البحث في عيوبنا الاجتماعية، وكان الثاني رائدًا لاتصالنا بالفلسفة الغربية وأبحاثها في القديم والحديث.
ولكن ليس ذلك هو المهم عندهما، فقد دفعا هما وأمثالهما -ممن تثقفوا في عمق الثقافة الغربية- نموذجنا النثري الجديد -نموذج المقالة- إلى أن يصبح نموذجًا فكريًّا نشيطًا، بما اقتبسوا له من أفكار الغربيين في السياسة والأخلاق والاجتماع.
وفي أثناء ذلك كان ينمو عندنا فن قديم ويتطور، وهو فن الخطابة، ومعروف أن العرب كانت لهم خطابة نشيطة في العصرين الجاهلي والإسلامي، وأنهم عرفوا الخطابة السياسية عند زياد بن أبيه ونظرائه، كما عرفوا الخطابة الدينية عند الحسن البصري وأقرانه.
وازدهر هذان اللونان في العصر الأموي، وسرعان ما ذبلا وفقدا النضرة والحياة في العصر العباسي ثم في العصور التالية، فقد ضغط العباسيون على الناس وحرموهم الحديث في شئونهم السياسية.
وجمد العقل العربي فلم يتطور الخطباء بالخطابة الدينية في صلاة الجمعة والأعياد؛ بل اكتفوا بنماذج ابن نباتة معاصر سيف الدولة في القرن الرابع الهجري، وأخذوا يبدئون فيها ويعيدون دون تغيير أو تبديل.
جاء عصرنا الحديث إذن والخطابة السياسية ميتة، والخطابة الدينية كأنها الأخرى ميتة، فلما أخذنا نسترد حريتنا وننقل القضاء الغربي إلى ديارنا عادت الخطابة السياسية إلى النشاط، وأنشأنا خطابة جديدة عرفها الأوربيون هي الخطابة القضائية.
فوُجد المحامون ووجد المدَّعون، ونبغ في الطرفين مجموعة كبيرة من نابهي الخطباء القضائيين.
وبذلك تنهض مصر بهذين اللونين من الخطابة في الأدب العربي الحديث، فهي التي أتيح لها أن تنشط فيهما؛ إذ كانت الحريات مكبوتة في البلاد العربية الخاضعة لتركيا، ولم يُنْقَلْ إليها النظام القضائي الغربي، فكنا السابقين في هذين اللونين.
مصر إذن هي التي سبقت البلاد العربية إلى إنشاء الخطابة القضائية وإحياء الخطابة السياسية وبَعْث حياة رائعة فيها بما كان يقرأ خطباؤها عن الثورات الغربية ومبادئها في الحرية والإخاء، وبما كانوا يقرءون عند كُتاب الغرب المختلفين في الحقوق الإنسانية.
ومصر هي التي صنعت نموذج المقالة، وحقًّا أسهم في هذه الصناعة إخواننا السوريون واللبنانيون الذين هاجروا إلينا مثل أديب إسحاق؛ ولكن من الحق أيضًا أننا لم نصل إلى فاتحة هذا القرن حتى كان لنا كُتاب متميزون حملوا خير حمل عبء النهوض بالمقالة سياسية وغير سياسية؛ بل لقد دفعوها أشواطًا حتى أصبحت ثرية بالفكر الحي النشيط.
ومن الواجب أن نذكر هنا المنفلوطي، وهو لم يكن يكتب في السياسة؛ إنما كان يكتب في الاجتماع، فكان ينشر في صحيفة "المؤيد" مقالات تتناول بعض جوانب المجتمع بعنوان "النظرات"، ينظر فيها في بعض مساوئنا الاجتماعية، وقد جمعها ونشرها بنفس العنوان. وليس المهم الموضوع فكثيرًا ما طرقه كُتابنا؛ إنما المهم الإطار الذي صاغه فيه، فقد عُني بأسلوبه وأدى معانيه فيه أداء فنيًّا بديعًا، ولم يحاول ذلك في أسلوب السجع الذي أهملناه؛ وإنما حاوله في الأسلوب المرسل الجديد؛ ولكنه عُنِيَ عناية بارعة بهذا الأسلوب، عُنِي باختيار ألفاظه وانتخابها، ووفَّر لها ضروبًا من الموسيقى بحيث تسيغها الآذان وتقبل عليها.
وكان شبابنا في أول القرن يعجب بهذا الأسلوب إعجابًا شديدًا، وظل ذلك الإعجاب يرافقنا طويلًا.
ولم تكن المحاولات التي حاولناها في هذه الدورة من حياتنا قبل ثورتنا وقبل نهاية الحرب الأولى تقتصر على المقالة والخطابة، فقد أخذ كُتابنا يحاولون محاولة أخرى في لون جديد لم نكن نعرفه، وكان قد تُرجم إلينا منه آثار غربية كثيرة، وهو لون القصة، وقد صنعنا فيه حينئذ بعض محاولات لعل أهمها "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي و"زينب" لمحمد حسين هيكل.
أما المحاولة الأولى، فتصور كيف كان بعض كُتابنا لا يزالون يستوحون النماذج القديمة.
ومن أهم هذه النماذج -كما نعرف- المقامة، وهي قصة قصيرة لأديب متسول، يرويها راوٍ عنه في أسلوب مسجَّع، وقلما زادت عن صحيفتين أو ثلاث.
وهذا النموذج القصير تحول عند المويلحي إلى قصة اجتماعية طويلة ليست لأديب متسول؛ وإنما هي لأحمد "باشا" المنيكلي الذي تُوفي في عصر محمد علي، ثم بُعث أو رُدت إليه الحياة في أواخر القرن، فنفض عنه تراب القبر، وخرج فالتقى بعيسى بن هشام راويته، وأخذ يعيش في حياة مصر الجديدة حينئذ، فوجد كل شيء تغير، وأخذ يقارن بين الحاضر والماضي في نظام الشرطة والقضاء وعادات الناس مصورًا ذلك في صورة نقد اجتماعي واسع، وهو نقد صاغه في أسلوب المقامات المسجوع، وكأنه يكتب مقامة طويلة.
وهذه القصة تدل في وضوح على أنه كان لا يزال بين كُتابنا من يكتبون على الطريقة التقليدية؛ ولكنهم كانوا يحاولون أن يلائموا بينها وبين حياتنا الحديثة، على نحو ما يصنع المويلحي في هذه القصة؛ إذ يخوض في الشئون الاجتماعية التي كان يكتب فيها المصلحون من مثل: قاسم أمين وفتحي زغلول. ومن المؤكد أن أمثال المويلحي الذين كانوا يصطنعون الأسلوب المسجوع كانوا يدخلون في الظلال شيئًا فشيئًا؛ ليحل محلهم ذوق جديد.
وخير ما يصور هذا الذوق حينئذ المحاولة الثانية أو القصة الثانية التي ألفها هيكل وهو في باريس سنة 1910، ثم نشرها في صحيفة "الجريدة" وهي محاولة جديدة كل الجدة، فليس فيها شيء من أسلوب المقامات، ليس فيها عيسى بن هشام راوي بديع الزمان، وليس فيها سجع ولا بديع؛ وإنما فيها لغة سهلة قريبة من لغتنا اليومية؛ بل لا بأس عند مؤلفها من اقتراض بعض ألفاظ عامية تدعو إليها ضرورات القصة.
وهي قصة مصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تصور حياة ريفنا المصري وطبقاته الغنية والفقيرة وما يقوم بين هذه الطبقات من عوائق اجتماعية.
وتتضح في القصة دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، كما يتضح فيها ريف مصر، لا بفلاحيه فحسب؛ بل أيضًا بمناظره الطبيعية وما فيها من فتنة وجمال.
وفي أثناء هذه الحقبة من أوائل القرن العشرين كان جرجي زيدان ينشر قصصه التاريخية التي بلغت نحو عشرين قصة، وقد استمد حوادثها من التاريخ الإسلامي، وهي في جملتها لا تستوفي شروط القصة من الحبكة والتسلسل الروائي؛ ولكنها على كل حال تعد عملًا جديدًا.
وبجانب ذلك كتَب تاريخ التمدن الإسلامي في خمسة أجزاء كما كتب تاريخ الأدب العربي في أربعة أجزاء استقى فيها من كتابات المستشرقين.
ولا بد أن نذكر هنا أيضًا "ذكرى أبي العلاء" لطه حسين، وهو البحث الذي نال به درجة الدكتوراه من الجامعة القديمة التي أنشأها قاسم أمين وغيره من رجالات الفكر سنة 1908، واستقدموا لها كبار المستشرقين من أوربا، فبعثوا حياة علمية جديدة في دراستنا الأدبية، كانت ثمرتها هذه الرسالة التي حلل فيها كاتبها نفسية أبي العلاء وأثر الوسط المكاني والزماني فيه.
وعلى هذا النحو لم نصل إلى الحرب الأولى في هذا القرن حتى ظفرنا بتقدم واضح في الأدب ونقده. ومن المحقق أن جذوة الفكر المصري استطاعت منذ أوائل القرن أن تتوهج وأن ترسل ضوءها وشررها في مختلف الاتجاهات العقلية والفكرية؛ ولكن من المحقق أيضًا أنها كانت تصنع ذلك في أناة ورَيْث.



الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه   الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 2:00 am


3- بين الجديد والقديم:
وتتقدم الأعوام بنا إلى ما بعد الحرب الأولى، فإذا الثورة الوطنية تحتدم، وينشب كفاح مرير بيننا وبين الإنجليز، وينفون ويسجنون، ثم يُضطرون اضطرارًا أن يستجيبوا إلى مطالب الشعب استجابة قاصرة إلا أنها غيرت نظمنا، فانتقلنا إلى دور جديد، وضعنا فيه لنا دستورًا وأقمنا برلمانًا وتبدلت حياتنا من جميع وجوها تبدلًا خطيرًا، فقد أخذنا نعيش مستقلين إلى حد ما، وأخذنا ننشر التعليم جادين، كما أخذنا نسترد حريتنا.
ولم تلبث الأحزاب أن نشأت وتصارعت، وأسَّس كل حزب منها لنفسه صحيفة ينشر فيها آراءه، ويختصم مع غيره من الأحزاب في أسس الحكم وما يرجو للأمة من خير.
ومن المحقق أننا تعثرنا طويلًا في حياتنا السياسية في أثناء هذه الدورة الجديدة؛ فإن الأحزاب ولَّت في كثير من الأحوال وجهها من خدمة الأمة إلى خدمة مصالحها في كراسي الحكم، ولكن من المحقق أننا كنا في أثناء ذلك ننهض عقليًّا وروحيًّا؛ إذ كان ضميرنا الوطني أو ضمير شبابنا يزداد يقظة وتنبها بفضل ما كان يكتبه الأدباء والمفكرون في مختلف شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بل لقد دأبت صحف هذه الأحزاب وما عاصرها من مجلات أدبية؛ كالهلال والمقتطف والسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي على أن تنقل إلى القراء مباحث واسعة في الأدب والفكر الغربيين.
وكان ذلك سببًا في اتساع نطاق الأدب؛ إذ لم تلبث الخصومات التي اشتدت بين الأحزاب في السياسة أن انتقلت إلى الكُتاب فإذا هم يتخاصمون خصومات عنيفة في الأدب وفي المثل العليا التي ينبغي أن تستقر بين المصريين في حياتهم العقلية والأدبية.
وتعنف هذه الخصومات، ويحمل لواءها نفر جديد من الكتاب، وهو ليس جديدًا خالصًا، فقد لمعت بعض أسمائه قبل الحرب مثل: العقاد والمازني وهيكل وطه حسين، بما قدم الأولان من تجديد واسع في الشعر ونقده وما حاوله هيكل في القصة وطه حسين في السيرة التاريخية.
وكان العقاد والمازني يحملان في تجديدهما سلاحًا ذا حدين، فهما يهدمان نموذج الشعر عند جماعة النهضة من مثل: شوقي وحافظ، ويقيمان نموذجًا جديدًا.
ولما دار الزمان بهما وظفرت مصر بحريتها بعد الحرب رأيناهما يؤلفان كتاب "الديوان"، وفيه نقد العقاد شوقي نقدًا عنيفًا، أما المازني فنقد شكري، ثم نقد المنفلوطي وأسلوبه نقدًا ثائرًا وهو الذي يهمنا الآن، فقد لاحظ عليه ضعف الثقافة، وأن أسلوبه لفظي خالص لا يحوي معنى ولا فكرة ذات بال، وبالغ فقال: إن أسلوبه ناعم، وإنه فارغ لا يحوي سوى الدموع والعَبَرات مما يستهوي المراهقين.
وهو نقد يعود إلى تغير المثل الأعلى في الكتابة، فإن الكاتب الجديد لم يعد يرضيه الأسلوب الجزل الرصين فحسب؛ بل هو يطلب الفكر الواسع الذي يوطد ويمهد للتعبير الدقيق عن الخوالج النفسية ودرجات الإدراك الفكري، ولو أن المازني لم يوضح ذلك تمامًا.
وقد أخذ المازني يُثبِّت هذا الاتجاه في النثر، فتارة يترجم نماذج أوربية، وتارة يصوغ نماذج عربية جديدة في القصة وغير القصة.
وللعقاد جولات واسعة في هذا الصدد مع مصطفى صادق الرافعي، وكان لا يعجب بالعقاد ولا بشعره ونثره، وكان محافظًا محافظة شديدة، ووضعته الظروف ليحمل راية القديم في تلك الفترة الثائرة من حياتنا الأدبية.
وحدث أن كتب في سنة 1923 رسالة عتاب على النمط المسجوع القديم، وأرسلها إلى صحيفة "السياسة" التي يرأس تحريرها هيكل، ويكتب فيها طه حسين بعد أن عاد من بعثته مستمدًّا في كتابته من مقاييس النقد الغربي، ومتأثرًا بمثُل القوم الأدبية.
فأحدثت هذه الرسالة ضجة؛ لأن صاحبها قذف بها في معسكر ثائر من معسكرات التجديد، ولم يلبث طه حسين أن أعلن رأيه فيها، وأنها لا تلائم الذوق الأدبي الحديث.
ونشبت بينه وبين الرافعي معركة حادة، فالرافعي يذود عن حصنه القديم وطه حسين يرميه بسهام الذوق الحديث الذي تغير تغيرًا تامًّا، والذي أصبح يؤمن أصحابه بأنه ينبغي أن نعبر تعبيرًا حرًّا طبيعيًّا عن حياتنا، ولا بأس من أن نستعير من الغربيين بعض معانيهم وأساليبهم ما دام ذلك لا يفسد جمال اللغة العربية وروعتها.
ويكتب طه حسين مقالات في الصحيفة نفسها عن أبي نواس ومجونه ويسمى عصره عصر المجون والزندقة، ويثور كثيرون إذ يرون في ذلك تشويهًا للقرن الثاني الهجري الذي عاش فيه أبو نواس. وتحدث خصومة عنيفة بينهم وبين الكاتب، وتتحول المسألة من أبي نواس إلى القديم كله والقدماء وما يقولون، فهل نقبل كل ما يقولون أو نعرض ما يقولونه على الامتحان؟ ويذهب طه حسين إلى أن الأحكام التاريخية في الأدب أحكام إضافية، فإذا قال لنا القدماء قولًا في شاعر أو خليفة ينبغي أن نأخذه على أنه رأي ومن حقنا أن نغيره؛ لأنه ليس رأيًا مقدسًا، ولأنه ينبغي ألا نلغي عقلنا، وطبائع الأشياء -كما يقول- تؤيد أن يكون عقل المحدثين أرقى من عقول القدماء، ومن الجائز أن يتورطوا في الخطأ، فلا بد أن نناقش أقوالهم، ولا بد أن نخضعها للبحث والنقد.
وفي أثناء ذلك يكتب سلامة موسى في "الهلال" مقالًا عن مصطفى صادق الرافعي، ويجعله ممثلًا للقديم، ويهاجمه هجومًا عنيفًا، وقد بنى هجومه على أنه يحسن الصنعة ولا يحسن الفن؛ أي: أنه يحسن التعبير ولا يحسن تصور المثل الأعلى في الأدب.
والحق أنه كان يحسنهما جميعًا على نحو ما سنرى في ترجمته، وقد استطرد سلامة موسى في مقاله يهاجم القديم جملة، فالأدب العربي السابق كله لا يصلح لحياتنا، وكذلك أسلوبه الموشى بالسجع وغير السجع؛ لسبب بسيط؛ وهو الرقي العلمي الحديث!
فمن رأيه أن الحياة العلمية والمادية قد تغيرت، وهذا يقتضي تغير الشعور والعواطف وتغير التعبير عنهما، وبالتالي تغير الأدب.
وفي هذا الرأي مبالغة؛ لأن رقي العلم والحياة المادية لا يغيران مشاعرنا وعواطفنا تغييرًا تامًّا، وهذا ما يجعل الأدب خالدًا، فنحن نقرأ اليوم ما نظمه هوميروس في اليونانية وفرجيل في اللاتينية، وامرؤ القيس في العربية، ونتأثر بكل الأدب القديم، ونجد فيه متاعًا وغذاء لعقولنا وأرواحنا.
ولكن سلامة موسى يتميز في هذه الدورة من أدبنا بعد الحرب الأولى بأنه كان ثائرًا ثورة عنيفة، فهو يدعو بقوة إلى الانغمار في التيار الأوربي بكل ما فيه من علم وأدب ونظم سياسية.
وله في ذلك مقالات وكتب كثيرة، وقد أخرج صحيفة هي "المجلة الجديدة" ينشر فيها تعالميه بين الشباب، وقلما ظهر مذهب أوربي في علم أو غير علم إلا نادى به وتقدم الصفوف يدعو إليه دعوة حارة.
وقد ظل إلى الأيام الأخيرة من حياته يدعو إلى مبادئه في إخلاص وحرارة، غير أنه كان يتطرف في دعوته، وخاصة من حيث اللغة؛ إذ يرى -كما نراه الآن في نقده للرافعي- أن ننبذ الإطار القديم جملة، وأن نتخفف في لغتنا، ولا بأس من أن نجعلها أقرب إلى عاميتنا التي نعبر بها في حياتنا اليومية.
وكان يقف وحده في هذا الاتجاه، فإن أدباءنا المجددين من أمثال: طه حسين وهيكل والعقاد والمازني، وكانوا يرون أن يظلوا مع الأسلوب الفصيح الرصين الجزل؛ حتى يكون لأدبهم موقع حسن في الأسماع والقلوب، فهم يحرصون على الإعراب وعلى الألفاظ الصحيحة التي تقرها المعاجم، وهم في داخل هذا الإطار يجددون تجديدًا لا يخرج بهم عن أصول العربية، وإنما يُغنيها ويُنمِّيها بما يضيفون من نماذج جديدة وفكر جديد.
وهذا الاتجاه هو الذي ثبت واستقر في حياتنا الأدبية الحديثة، وهو اتجاه يقوم على التحول والتطور بلغتنا وأدبنا على نحو ما تحولت وتطورت الآداب الأوربية، فهي لم تقع صلتها بالقديم، وفي الوقت نفسه لم تقف عنده؛ بل جددت نفسها وتطورت من جيل إلى جيل.
وإذا كان سلامة موسى يتطرف في التجديد حتى يريد أن يقطع صلتنا بالقديم؛ فقد كان الرافعي يقف له بالمرصاد، وقد رد عليه في صحيفة "الهلال" ردًّا مفحمًا غير أنه أقحم الدين في كلامه، ولم يكن الدين متصلًا بموضوع الخصومة؛ ولكنه أراد أن يجعل قضية التجديد قضية دينية حتى يكسب في صفه أناسًا كثيرين.
وقال: إن التجديد إن كان في الأفكار والمعاني فهو لا يدفعه، أما إن كان في اللغة فإنه ينكره إنكارًا شديدًا.
وتدخَّل في هذه المعركة طه حسين، فأيد سلامة موسى في التجديد من الناحية العامة، ورد على الرافعي قوله بأن المجددين يمسون أو يفكرون أن يمسوا بتجديدهم اللغة، فهو وكثير غيره من المجددين يكتبون بأسلوب عربي فصيح مستقيم.
وكان الرافعي قد تعرض في مقاله للحضارة الغربية وهاجمها، فرد هجومه طه حسين، وقال: إن هذه الحضارة غنية.
ويُكثر طه حسين من المقالات في هذه الجوانب، فتارة يتحدث عن القديم والجديد، وتارة يتحدث عن الذوق الأدبي وتجديده، ثم يُخْرج كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أعاد نشره باسم جديد هو "في الأدب الجاهلي"، وفيه بحث الشعر الجاهلي على أساس مذهب غربي هو مذهب "ديكارت" الذي يقوم على الشك، فالأصل أن نشك في الأشياء ثم نقلبها بعد بحث وامتحان.
واستضاء بما كتبه الأوربيون عن إلياذة هوميروس وشكِّهم في حقيقة مَنْ نظم هذه القصيدة القصصية الطويلة، وقد رأى بعضهم أنه نظمها شعراء مختلفون.
فحاول طه حسين أن يطبق هذه الدراسات في الشعر اليوناني القديم على الشعر الجاهلي، وأخرج في ذلك كتابه المذكور آنفًا الذي يوضح كثرة الانتحال في الشعر الجاهلي، وأن شعرًا كثيرًا دخل فيه.
وأثار هذا البحث بما فيه من آراء جديدة ضجة واسعة في الناس والبرلمان، وكتب الرافعي وغير الرافعي كتبًا في الرد عليه، وكثر الجدال؛ ولكن طه حسين ثبت للمعركة، وكان ثبوته إيذانًا بنجاح مقاييس النقد الجديدة.
وهذه المقاييس لم تكن أوربية خالصة، فقد كان أدباؤنا المجددون يقرءون في الأدب والنقد الأوربيين وكانوا يقرءون في الأدب والنقد العربيين، واستطاعوا أن يجمعوا بين الطريقتين -طريقتي العرب والغربيين- ويستخلصوا لأنفسهم مقاييس جديدة لا هي أوربية خالصة ولا عربية خالصة؛ إنما هي مصرية تصور ما كسبته مصر من التيار الغربي ومن التيار العربي القديم، ثم ما كسبته من الحرية الجديدة بعد الثورة الوطنية الأولى في هذا القرن، الحرية إلى أبعد الحدود في الأفكار والآراء.
ومعنى ذلك أن هذه النزعة المجددة لم تكن هدمًا للقديم؛ وإنما كانت إحياء له وبعثًا وتنمية في صور جديدة، فنحن في تجديدنا لم ننقطع عن القديم لا في الأدب ولا في النقد؛ بل ظللنا نعتمد على عنصرين متكافئين؛ وهما: المحافظة على إحياء القديم، والإفادة من الآداب الغربية.
ونشأ عن ذلك أن مقاييس النقد تغيرت عندنا بالقياس إلى ما كان منها قبل الحرب، حقًّا أن العقاد والمازني استطاعًا أن يؤصِّلا بعض القواعد النقدية في الشعر في أثناء العشرة الثانية من هذا القرن كما مر في غير هذا الموضع؛ ولكنهما كانا حينئذ يعتمدان كثيرًا على طريقة النقد القديمة، تلك الطريقة اللفظية التي تحلل العبارات والألفاظ وتبحث في السرقات، ونراهما يتطوران بعد الحرب، ويتطور منهجهما النقدي، فتصبح الأصول العامة هي أساس نقدهما، ويكثران من الحديث في القديم والجديد والذوق الأدبي، ويدرسان كثيرًا من شعرائنا القدماء على أصول النقد الغربي وقواعده.
وكان يصنع صنيعهما طه حسين وهيكل.
ولم يكونوا جميعًا يقفون بدرسهم عند أدبائنا القدماء؛ بل أخذوا يعرضون أدباء الغرب أنفسهم ويحللون آثارهم، ويُصدرون عليهم أحكامًا لا يستمدونها فقط من الباحثين الغربيين؛ وإنما يستمدونها في الغالب من أذواقهم المصرية الجديدة، ومما أتاحوا لأنفسهم من مُثُل أدبية هي مزيج من الآداب العربية القديمة والأوربية الحديثة.
وبذلك أصبح لنا نقد مصري ومقاييس أدبية مصرية، وحقًّا ظهر صراع حاد بين هذه المقاييس الجديدة والمقاييس القديمة، فكان هناك مَن يتشددون في التقيد بالقدماء، وأخذ ذلك شكل معارك حادة بين الرافعي وطه حسين من جهة، والرافعي والعقاد من جهة ثانية.
على أن الرافعي حين نبحث فيه ونعرض آثاره على الدرس نجده يحاول التجديد، فقد حاول في مقالاته وكتبه أن يعبر عن معانٍ حديثة في العواطف وفي الجمال والحب والبغض، وكان يتعمق في هذه المعاني تعمقًا بعيدًا، فتسرب الغموض إلى بعض أساليبه مما جعل الكثرة من الشباب تنصرف عنه إلى خصومه المجددين الذين استطاعوا بثقافتهم العربية والغربية أن يعبروا عما في نفوسهم وعقولهم تعبيرًا حرًّا سهلًا، لا يتقيدون فيه بألفاظ القدماء وأساليبهم؛ وإنما يحتفظون بإطار لغوي عام، ثم يكيِّفون اللغة بعد ذلك بأشكال مختلفة، فتارة ينقلون إلينا بعض الأساليب الغربية، وتارة يخترعون بعض الأساليب اختراعًا.
والحق أن هؤلاء المجددين من أدبائنا أحدثوا في لغتنا مرونة واسعة، وقد أخذت جماعتهم تتكاثر؛ إذ أخذت تدخل فيها عناصر من الشباب الذي حذق اللغات الأجنبية، وفهم في وضوح الآداب العربية من مثل: توفيق الحكيم ومحمود تيمور وغيرهما، ممن أجبروا اللغة العربية وما فيها من صلابة على اللين والعذوبة.
وعلى هذا النحو أصبحنا بين الحربين الأولى والثانية في هذا القرن نملك أدبًا جديدًا، وهو أدب لم يقف عند المقالة أو عند قصة ناقصة التأليف؛ بل أصبحت المقالة فيه أكثر غنًى وتنوعًا، سواء في السياسة أو في الأدب، وكتَبْنا قصصًا ومسرحيات كاملة التأليف، ففيها الحبكة وفيها العقدة، وفيها التسلسل الروائي الدقيق.
وكل ذلك يعرض أدبًا مصريًّا جديدًا في لغة عربية فصيحة.
وكان طبيعيًّا في هذه الحركة التي خَلقتْ لنا هذا الأدب المصري الخالص أن يدعو بعض نقادنا إلى تمصير أدبنا، وأن نتجه فيه اتجاهًا قوميًّا، وأبلى هيكل في هذا الاتجاه بلاء واسعًا، فقد نشر كثيرًا من المقالات فيه، وجمعها في كتابه "ثورة الأدب"، وفيها ذهب في صراحة إلى أنه ينبغي أن نلتمس مصادر أدبنا المصري الحديث في الأدب الفرعوني القديم، فندرس تاريخنا وأساطيرنا، ونستلهم منهما في أدبنا، ووضَع عدة قصص استوحى فيها تاريخ الفراعنة وأساطيرهم.
ولكن هذا الاتجاه القومي لم ينجح، فإن أدباءنا اتجهوا اتجاهًا أوسع، أفادوا من هذا الاتجاه الذي دعا إليه هيكل؛ ولكنهم لم يقصروا أنفسهم عليه؛ بل بسطوها على تراثنا كله من فرعوني ومن عربي إسلامي، ونفس هيكل ابتغى فيما بعد الحياة الإسلامية الخالصة، واتخذ منها مصدرًا لأعماله الأدبية، وبدأ في ذلك بصاحب الرسالة الإسلامية، فكتب عنه كتابه "حياة محمد"، وتلاه بكتابين عن أبي بكر وعمر.
وأكبر الظن أن مرجع ذلك إلى أسس هذه الحركة المجددة، فهي ليست حركة هادمة؛ وإنما هي حركة بانية، وهي تبنى على القديم العربي، تبنى عليه في اللغة إذ تحتفظ بإطارها العام، وتبنى عليه في الموضوع، فتدرس تاريخنا القديم، وتستوحي عناصره الإسلامية وغير الإسلامية، كما تدرس حياتنا الحاضرة وتستوحي بيئاتها المختلفة.
وهي في الوقت نفسه تدرس الآداب الأوربية دراسة عميقة، ولا تكتفي بدراستها؛ بل تحاول عرضها عرضًا حسنًا في العربية وتنقدها وتحللها تحليلًا واسعًا، كما تستوحيها وتستلهمها فيما تكتب وتُخْرج للناس.
ونحن مهما صورنا من جهود من قاموا على هذه الحركة لن تبلغ من هذا التصوير كل ما نريد؛ لأن عملهم كان واسعًا إلى أبعد الحدود، ويكفي أنهم مرَّنوا لغتنا المصرية الحديثة على التعبير عن أغراضنا وحياتنا في سهولة وبساطة، وجعلوا لها شخصية متميزة؛ بحيث نستطيع أن نقول في غير مغالاة: إنه أصبح لنا أدب مصري، نبت في وطن مصري، على أيدي طائفة من المصريين.



الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه   الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 2:01 am


4- تجديد شامل:
لم تعد مقاييسنا في النقد هي المقاييس القديمة، فقد تطورت حياتنا الأدبية تطورًا واسعًا بفضل هذه الجماعة المجددة التي أتقنت الآداب العربية والأجنبية، واشتقت لنفسها مُثلًا أدبية جديدة تلائم ذوقنا المصري وحياتنا الحديثة التي كادت أن تتغير تغيرًا تامًّا، فلم نعد نعيش كما كان يعيش أسلافنا لا في حياتنا المادية ولا في حياتنا السياسية والعقلية.
فقد أخذنا نرفع بقوة الحواجز التي كانت تفصلنا عن الغرب وحضارته، ولم نقف عند جوانب هذه الحضارة المعنوية؛ بل أخذنا نُقْبل قليلًا أو كثيرًا على جوانبها المادية، كلٌّ حسب قدرته وسَعَة يده.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لم يعد بين كثيرين من المصريين وبين الأوربيين؛ أي: فارق في المثل الأعلى للحياة المادية، فهم يعيشون على الطريقة الأوربية وما يشيع فيها من مرافق الحياة وأدوات زينتها ومظاهرها المختلفة.
وطبعًا يصيب أهل المدن من ذلك أكثر مما يصيب أهل الريف؛ ولكن حتى هؤلاء يفيدون من تطور المواصلات ووسائلها الأوربية من القطارات والسيارات.
ومعنى ذلك: أن صورًا من حياتنا المادية القديمة تزول ويحل محلها صور غربية جديدة، ويتسع احتلال هذه الصور في حياة أهل المدن وبين الطبقات المثقفة.
فحياتنا المادية قد تغيرت فعلًا تحت تأثير الحياة المادية الأوربية، وأصبحنا ندركها ونفهمها على أنحاء جديدة لم يعرفها الآباء والأسلاف إلا معرفة محدودة.
وأعمق من ذلك ما حدث في حياتنا المعنوية، فقد أنشأنا البرلمان وأخذنا نعيش في سياستنا على الطريقة الأوربية الديمقراطية، فنشأت الأحزاب، كما أخذنا نعيش في قضائنا وفي اقتصادنا على النمط الأوربي.
وكذلك الشأن في حياتنا العسكرية وأسلحتها ونظمها الحديثة؛ بل لا نغلو إذا قلنا: إن حياتنا المعنوية على اختلاف صورها ومظاهرها تجري عندنا الآن منذ نهاية الحرب الأولى في هذا القرن على الطريقة الغربية.
وقل مثل هذا أو أكثر منه في حياتنا العقلية، فقد عملنا على نشر التعليم بين جميع الطبقات، وأنشأنا جامعة القاهرة، وفتحنا بجانبها ثلاث جامعات: جامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وجامعة أسيوط، ثم الجامعات الإقليمية.
ولم نأخذ في هذا التعليم بمناهجنا الموروثة؛ بل تركناها إلى المناهج الغربية الحديثة، كما تركنا علمنا الموروث إلى العلم الغربي الحديث، وقام على ذلك صفوة من الأساتذة المصريين في الجامعات يعاونهم صفوة من العلماء الغربيين.
وقد أقبلنا إقبالًا لا عهد لنا به على تعلم اللغات الأجنبية المختلفة، فنحن الآن لا نتعلم الإنجليزية أو الفرنسية فقط كما كان الشأن في أول القرن؛ بل أصبحنا نتعلم الألمانية والإيطالية والإسبانية، وأصبحنا ندخل إلى أوربا من جميع أبوابها ودروبها اللغوية، لا تمييز بين باب وباب ولا بين درب ودرب؛ بل لقد أصبح بين علمائنا من يحاضرون في الجامعات الأوربية والأمريكية، ويشاركون في التراث العقلي الإنساني مشاركة فعالة.
وكل هذا معناه: أن حياتنا العقلية تطورت تطورًا واسعًا لم نألفه من قبل، وهو تطور ملأ عقولنا ونفوسنا بصور جديدة دفعت أدبنا المصري دفعًا إلى ما يشبه الانقلاب، وتستطيع أن تعود إلى التيارين اللذين يؤلفان ثقافتنا وأدبنا، وهما: التيار العربي القديم والتيار الغربي الحديث؛ لترى مدى عملهما في حياتنا الأدبية.
أما التيار الأول فقد أخذنا ننظمه ونخضعه لمناهج الأوربيين من المستشرقين الذين سبقونا إلى نشر تراثنا نشرًا علميًّا، وكانت تعوزهم الحاسة اللغوية الدقيقة، ولم نلبث أن اصطنعنا مناهجهم وأقبلنا على إحياء نصوصنا القديمة بسليقتنا العربية الموروثة، وأخذنا في نقدها وعرضها وتحليلها، وقرَّبناها من نفوس المثقفين وقلوبهم وعقولهم.
وعلى هذا النحو أصبحنا نستغل هذا التيار القديم بأوسع مما استغله أسلافنا في القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، فقد تملَّكنا حياة القدماء من شعراء وكُتَّاب، وأصبحنا نحسها كما كانوا يحسونها، ونتأثر بها في حياتنا الأدبية تأثرًا عميقًا.
أما التيار الغربي، فكان تأثيره في هذه الحياة أعمق وأعنف؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الجامعات المصرية نظمت حياتنا العقلية تنظيمًا واسعًا، فنشأت أجيال متخصصة في كل فرع من فروع العلم الغربي والأدب الغربي قديمه وحديثه.
وأول ما نتج عن ذلك أن العربية أصبحت لسانًا لكثير من ألوان العلم الأوربي، وظهرت بيننا من العلماء طبقة تحسن التعبير العلمي، وتضيف إليه بفضل نمو التيار العربي إحسانًا واسعًا للتعبير الأدبي. وبذلك التحم عندنا الأدب بالعلم ولم يعد لشكوى سلامة موسى في مقاله ضد الرافعي موضع، فقد أصبح عندنا جيل من الأدباء يتخصص في العلم، فمنهم الطبيب مثل إبراهيم ناجي وأبي شادي وكامل حسين، والمهندس مثل علي محمود طه، والرياضي مثل علي مصطفى مشرفة، والكيميائي مثل أحمد زكي، والجغرافي مثل محمد عوض محمد.
فلم يعد أدبنا منفصلًا عن الثقافة العلمية؛ بل أصبح يتعاون معها تعاونًا واسعًا.
وقل مثل ذلك في القانون وفي الفلسفة، فقد خرَّجت كلية الحقوق غير كاتب وخاصة في المجال السياسي والصحفي، وكذلك خرَّجت كلية الآداب غير متفلسف، وكنا في أول القرن لا نَحْظَى بمتفلسف سوى لطفي السيد الذي عُني بفلسفة أرسططاليس، أما اليوم فعندنا جمهور كبير لا يقف بدراسته عند أرسططاليس ولا عند الفلسفة اليونانية؛ بل يمد دراسته حتى تشمل كل الإنتاج الفلسفي الأوربي والأمريكي.
وأخذنا نحيط إحاطة دقيقة بنظريات علم الاجتماع وعلم النفس الحديثة وما يقال في الشعور واللاشعور أو العقل الباطن.
ولا يكتفي علماؤنا والمثقفون منا بالتأليف؛ بل يضيفون إلى ذلك ترجمة الفكر الغربي بجميع ألوانه وصوره.
ويأخذ هذا العمل الخصب في ثقافتنا شكل سيول متدفقة، تنحدر إلينا من كل صوب.
ويستوفي المجال الأدبي من ذلك حظوظًا واسعة، فقد أقبل أدباؤنا يترجمون عيون الأدب الغربي، وينقلون آثار القوم نقلًا واسعًا، وقلما فاتهم كاتب أو شاعر غربي دون أن ينقلوا بعض أعماله، وللرعيل الأول مثل: المازني وخليل مطران وطه حسين وأحمد حسن الزيات في ذلك جهد مشكور، وقد جاءت في إثرهم جهود واسعة قام بها الشباب الذي أتقن اللغات الأجنبية في جامعاتنا؛ إذ حملوا على عاتقهم هذا العبء وأدوه أداء يستحق الثناء، وإنهم ليتراءون في شكل صفوف تنقل من جميع اللغات الأوربية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، وكأنما تعهدوا ألا يتركوا أثرًا غربيًّا جليلًا دون أن ينقلوه.
ولم يقفوا عند نقل آثار بعينها لأدباء الغرب، فقد نقلوا جوانب من تاريخ القوم الأدبي العام، وبسطوا مذاهبهم الأدبية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية إلى رمزية وسريالية وطبيعية.
وتنهض معهم بهذا الجهد الخصب البلاد العربية وخاصة لبنان، فلها عمل واسع في هذا الاتجاه.
على كل حال، أساغ شبابنا في هذه المرحلة الأخيرة من أدبنا الحديث الآداب الغربية وتمثلوها خير تمثيل وأذاعوها بيننا في صورها وفنونها المختلفة؛ بل لقد فتحوا لنا أبوابها على مصاريعها، ولم يعد بين أدبنا وآداب القوم أيُّ فاصل أو حاجز، فقد طُمست وانمحت جميع الفواصل والحواجز، وكأنما كانت قائمة على أقواس وهمية.
وعلى هذا النحو اتصلت حياتنا الأدبية بالآداب الغربية؛ بل أصبحت سلسلة من الاتصالات، وهي سلسلة أحكم حلقاتها الأولى هيكل وطه حسين والمازني والعقاد بما ترجموا ثم بما أنتجوا، فقد عُني كل منهم بأن يحدث نماذج أدبية مطابقة لنماذج الغربيين، ووجهوا عنايتهم إلى النموذج القصصي خاصة. وتبعهم الشباب الذي خضع في معيشته وتفكيره للحضارة الغربية ينوِّع في تأثره بنماذج الغربيين ويستحدث لنفسه نماذج جديدة في القصة والمسرحية وكل ما يلهج به الغرب من فنون على نحو ما هو معروف عند توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهم كثيرون ممن يجيدون هذا الفن القصصي إجادة رائعة.
وبلغ من جودة ما أنتج هؤلاء الأدباء أن أخذت قصصهم تترجم إلى اللغات الأجنبية؛ بل لقد أخذت بعض المسرحيات تترجم وتمثَّل على مسارح الغرب على نحو ما نعرف عن بعض مسرحيات الحكيم التي مثلت في النمسا وإيطاليا وفرنسا.
فلم نعد نأخذ من الغرب فقط؛ بل أصبحنا نأخذ ونعطي، وأصبحنا نُقرأ في اللغات الأجنبية.
وبذلك تم الاتصال بيننا وبين الغرب، فلم يعد أدبنا منعزلًا يعيش وحده؛ بل أصبح أدبًا عالميًّا إنسانيًّا، وأصبح يسمو إلى مرتبة الآداب العالمية الحية الكبرى.
ومن ثم لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن أدبنا المصري الحديث إنما يتم بمعناه الكامل بعد الحرب الأولى في هذا القرن.
حقًّا سبقت مقدمات منذ أوائل القرن؛ ولكنها كانت خطوات في سبيل إيجاد هذا الأدب الذي تنوع في موضوعه كما تنوع في شكله وأساليبه.
وحتى الآن لم نتحدث عن الصحف وأثرها في هذا الأدب المصري الجديد، ومعروف أن الصحافة نشطت عندنا بعد الحرب الأولى من هذا القرن نشاطًا واسعًا، وكلما مضينا مع السنين ازداد هذا النشاط واتسع من جميع الجهات، فمن حيث النوع ظهرت صحف يومية كثيرة ومجلات أسبوعية وشهرية لا حصر لها، ومن حيث عدد المحررين زاد عددهم جدًّا، وخاصة في الصحف اليومية الكبيرة.
وبعد أن كانت كثرتهم من أوساط المثقفين أصبح كثير منهم يحمل الشهادات العالية والجامعية.
ومنذ نشأت الأحزاب أخذت الصحف تستكتب الأدباء حتى يقبل الجمهور على شرائها، ولم يكتب الأدباء في الأدب وحده؛ بل كتبوا في السياسة، ودخلوا في خصوماتها الحزبية، ونقلوا هذه الخصومات -كما قدمنا- إلى معارك في الأدب القديم والحديث.
ومن هنا اتصلت الصحافة مباشرة بحركتنا الأدبية وتفاعلتا معًا، وتأثرت كل منهما بالأخرى تأثرًا واضحًا، أما الصحافة فإن دخول الأدباء فيها هذب لغتها ومكنها من التعبير السياسي الدقيق الذي يصور خوالج القارئين وعواطفهم السياسية.
وأما الحركة الأدبية، فإنها أخذت تحاول التطابق والتلاؤم مع القراء حتى لا يسخطوا على الصحيفة ولا ينصرفوا عن قراءتها.
ونتج عن ذلك أن أدباءنا أخذوا يبسِّطون أدبهم وييسِّرونه حتى يفهمه الجمهور، وأكثره من العامة التي لا ترتفع أفهامها، والتي لا تعرف العمق والصعوبة؛ وإنما تعرف اليسر والسهولة.
ومن الطريف أن أدباءنا كانوا يعرضون على هذا الجمهور مقالات في الأدب العربي القديم وفي الأدب الغربي الحديث، وكانوا ما يزالون يبسِّطون في مقالاتهم؛ حتى يقتربوا من أذهان العامة، وحتى تفهم عنهم ما يقولون.
ولم يكد الزمن يتقدم حتى بدا للعِيَان أن أدباءنا ينشئون لغة جديدة بين العربية والعامية، فيها فصاحة الأولى وجزالتها، وفيها سهولة الثانية وقربها من الأفهام.
وعلى هذا النحو أثرت صحافتنا في لغة أدبنا الحديث؛ بل هي التي جددت هذه اللغة تحت تأثير الجمهور الذي تخاطبه، ومن ثم نشأت محاولات جديدة في تبسيط أساليبنا، ونجح أدباؤنا في هذا التبسيط إلى أقصى حد ممكن، فقد مرنوا اللغة القديمة التي كانت تبدو أساليبها وصيغها كأنها صخور ثابتة، وألانوها وأتاحوا لها نموًّا وسَعَة شديدة، وكادوا لا يبقون من الأساليب القديمة إلا ما صقله اللسان المصري، وشاع، وفهمته العامة.
وأتاحت الصحافة لهذه اللغة المصرية الجديدة أن تنتشر لا في مصر وحدها؛ بل في العالم العربي جميعه؛ إذ يقبل عليها الجمهور القارئ في البلاد العربية في الأردن ولبنان وسوريا والعراق والحجاز والسودان وبلاد المغرب.
فأصبحت اللغة الأدبية المصرية هي اللغة الشائعة في البلاد العربية، وتفوقت على كل ما قابلها من لغات، وكان لذلك أثره في أن تصبح مصر زعيمة الشرق العربي، وأن يكون لها بين البلاد العربية مكانة ممتازة في الأدب والثقافة.
وأقبلت البلاد العربية تقرأ لأدبائنا لا ما يكتبونه في الصحف فحسب؛ بل ما يكتبونه أيضًا في الكتب والآثار المختلفة.
فلم يصبح أدبنا متاعًا خاصًّا بنا؛ بل أصبح متاعًا مشتركًا بينا وبين العالم العربي، وتبع ذلك شيوع لغتنا العلمية في هذه الديار التي أصبحت سوقًا كبيرة لكل ما ننتجه في الحياة الأدبية والعلمية.
على أن الصحابة بين الحربين إن كانت قد أعطت أدبنا كل هذه المميزات، فإنها تجنت عليه من بعض الوجوه، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك أنها عملت على السرعة في إنتاجنا الأدبي، حتى أصبحت هذه السرعة من أهم خصائصه، وهي سرعة دفعت إلى السطحية في بعض جوانبه، ومرجعها إلى وقت الصحيفة التي تصدر فيه، فهي لا تستطيع الانتظار؛ بل لا بد للكاتب أن يسرع حتى تنشر مقالته في أول عدد، وقد قُيِّدت حريته الشخصية إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن يكتب ما يخالف رأي الصحيفة، وقيدت حريته الأدبية، فهو لا يستطيع أن يكتب كما يريد؛ بل له في الصحيفة نهر أو نهران، وليس له أن يزيد ولا أن ينقص سطورًا.
ولم يتحكم رؤساء التحرير للصحف في السرعة وحدها ولا في الحرية الشخصية والأدبية وحدهما؛ بل تحكموا أيضًا في الموضوع، فليس للأديب أن يكتب في أي موضوع يشاء؛ بل عليه أن يكتب في الموضوعات المقترحة التي كان يفرضها قلم التحرير.
وكان عليه أن يخفف أسلوبه حتى يكون أسلوبًا صحفيًّا، يفهمه الجمهور بدون عناء ولا مشقة.
وتدخل الإذاعة في حياة أدبائنا، وترافقها هذه الضرورات الصحفية، فالوقت محدود، والجمهور أكثره من الطبقات العامة؛ بل لعل الإذاعة تتقدم الصحافة في ذلك، فالصحف لا يقرؤها إلا من يحسنون القراءة، أما الإذاعة فيسمعها القارئون والأميون، وهي لذلك تحتاج تبسيطًا أوسع مما تحتاجه الصحافة.
وكل هذا يحدث تغيرات جوهرية في أدبنا الحديث، وهي تغيرات لم يكن يعرفها أدبنا قبل هذه الحقبة الأخيرة؛ بحيث نستطيع أن نقول: إنه نشأ عندنا أدب صحافي وإذاعي لم يكن يعرفه أسلافنا، وهو أدب سريع ليس فيه عمق وليس فيه تأنٍّ ولا إبداع إلا ما يأتي عفوًا.
ويتناول هذا الأدب جميع فنوننا الحديثة من مقالة وقصة ومسرحية، وكلها تطبع بطابع السرعة والمسافة القصيرة في الزمان والمكان.
وينبغي ألا نعمم في أحكامنا، فإن بين أدبائنا طائفة ظلت تحاول الاحتفاظ بحريتها وجودة إنتاجها، قد تشترك في هذا الأدب السريع؛ ولكنها تحاول جاهدة أن تحتفظ له بقيم الفن السامية، وكأنها لا تريد أن تنزل إلى الجمهور؛ بل تريد أن ترفعه إليها مستهدية بمثل الفن العليا وغاياته الرفيعة من الخير والحق والجمال.
وهذه الطائفة هي التي تحتل الصفوف الأولى في حياتنا الأدبية المعاصرة، وهي التي تمثل أدبنا المصري بمعناه التام، فهو أدب يُستقى من مصدرين: الأدب العربي القديم والأدب العربي الحديث، ويحيلهما غذاء عقليًّا وروحيًّا قد شقي أصحابه فيه، وأرَّقوا ليلهم في كتابته، وبذلوا فيه صفوة أيامهم وخلاصة حياتهم.



الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه   الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 2:02 am

5- فنون مستحدثة:
رأينا أدبنا يتطور تطورًا واسعًا بفضل الأضواء الغربية التي نفذت إليه، وبفضل تحوله من الطبقة الأرستقراطية، طبقة الملوك والأمراء ومن يلوذ بهم،
إلى الطبقة الديمقراطية، طبقة الشعب على اختلاف درجاتها.
وتحت تأثير هذا التطور عادت الخطابة السياسية إلى الازدهار ازدهارًا لعل العصور القديمة لم تعرفه، فإنها أخذت تستمد من معين الفكر الغربي الذي لا ينضب، وما وصل إليه من مبادئ في الحريات وفي الحقوق السياسية، كما أخذت تستمد من حياتنا وظروفها الماضية التعسة، ظروف الحكم السيئ والاحتلال البغيض.
ولم يلبث أن ظهر عندنا خطباء سياسيون مفوَّهون مثل: مصطفى كامل وسعد زغلول.
ثم أنشأنا الدستور القديم والأحزاب، ودعا كل حزب لنفسه، وظهر في كل حزب خطباء مختلفون يعدون بالعشرات، فكان ذلك كله سببًا في نمو هذا اللون من الخطابة السياسية وازدهاره.
وأخذنا عن الغرب نظام القضاء الحديث، كما أخذنا عنه الخطابة القضائية؛ إذ وُجد نظام المحامين والمدعين العامين، وأصبحت محاكمنا مثل المحاكم الغربية ميدانًا واسعًا يجول فيه الخطباء من رجال القانون.
وتعقدت القضايا، وتعقد هذا اللون من الخطابة، واشتهر فيه كثير من الخطباء القانونيين.
وبجانب هذين اللونين نشطت الخطابة الاجتماعية التي تُلْقى في النوادي والحفلات العامة، وتتناول جوانب اجتماعية وإنسانية مختلفة.
ففن الخطابة قد أصاب حظًّا واسعًا من الرقي في حياتنا الأدبية الحديثة؛ ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه فن استحدثناه وأوجدناه دون أصول سابقة، فقد كانت عندنا خطابة سياسية واجتماعية أو حفلية في العصرين الجاهلي والإسلامي، حقًّا ذبلت الخطابة في العصور التالية؛ ولكنا نَرِثُ منها على كل حال تراثًا قيمًا.
وإذا كانت الخطابة -باستثناء الخطابة القضائية- ليست جديدة كل الجدة، فإن هناك فنونًا نثرية أخرى استحدثناها وأنشأناها إنشاء، مستلهمين في إنشائها أعمال الغرب وما أقامه -ويقيمه- فيها من نماذج مختلفة؛ وهي: المقالة والقصة والمسرحية.


المقالة:
ونحن نعرف الآن أن المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن العرب يعرفون هذا القالب؛ إنما عرفوا قالبًا أطول منه، يأخذ شكل كتاب صغير، وهو يسمونه الرسالة مثل رسائل الجاحظ.
ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم؛ بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التي خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين في عصورهم.
أما المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة؛ وإنما تخاطب طبقات الأمة على اختلافها، وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها الطبقات الدنيا، وهي أيضًا لا تلتمس الزخرف اللفظي، حتى تكون قريبة من الشعب وذوقه الذي لا يتكلف الزينة، والذي يؤثر البساطة والجمال الفطري، ومن أجل ذلك لم يكد أدباؤنا يكثرون من كتابتها بالصحف في أواسط القرن الماضي -أو بعبارة أدق: في ثلثه الأخير- حتى اضطروا إلى أن ينبذوا لفائف البديع وثياب السجع وبهارجه الزائفة، التي كانت تثقل أساليب رفاعة الطهطاوي وتعوقها عن الحركة.
وسُرعان ما وُجدت عندنا المقالة السياسية الطليقة من أغلال السجع والبديع، وأخذت تخاطب الناس من قريب، وتتحدث إليهم في شئونهم الوطنية، وجعلت تؤثر فيهم تأثيرًا قويًّا، كان من نتائجه قيام الثورة العرابية، ومن أجل ذلك حين حوكم زعماء هذه الثورة حوكم معهم كتاب المقالة حينئذ، فاختفى عبد الله نديم، ونُفي محمد عبده، وكان قد أُبعد جمال الدين الأفغاني، ولم يصبهم ما أصابهم من ذلك، إلا بسبب ما كتبوا من مقالات سياسية.
وهي تغلب عليها النزعة الخطابية عند النديم؛ إذ كان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وهو يمسح عليها أحيانًا بسخرية مرة.
وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية ماسحًا عليها بدعابة حلوة.
وكان يسود مقالات محمد عبده ضرب من الانفعال؛ ولكن في وقار ورصانة، وقد شفع مقالاته السياسية بمقالات إصلاحية في الدين والمجتمع الإسلامي، كتبها بقلم البصير الحاذق، محمسًا تارة، ودارسًا فاحصًا تارة ثانية.
وأخذ هذا اللون من المقالات ينمو مع نمو عقلنا ويرقى مع رقيه، وبَوْنٌ واسع بين مقالات هذا الجيل الأول والجيل الذي تلاه في عصر الاحتلال، من مثل مصطفى كامل والشيخ علي يوسف ولطفي السيد، فقد بث هذا الجيل الثاني في المقالة السياسية حياة وقوة.
ومما لا شك فيه أن أقوى شيء قاومنا به الاحتلال البريطاني هو مقالات مصطفى كامل في صحيفة "اللواء" التي شحذت عزائمنا لمناهضة الاحتلال ومصارعته، وهو بحق زعيم حركتنا القومية في عصره غير مدافَع؛ إذ كان شعلة وطنية متقدة، وكان خطيبًا مفوهًا وكاتبًا سياسيًّا لا يشق غباره، فانبرى يوقظ فينا وعينا القومي صائحًا في سمعنا وسمع العالم الأوربي كله صيحاته المدوية في الحرية والاستقلال والحياة الكريمة.
وكان الشيخ علي يوسف في صحيفة "المؤيد" يدافع دفاعًا حارًّا بقلمه الرصين عن الإسلام والشرق موغرًا صدورنا على الإنجليز الغاشمين، بينما كان لطفي السيد في "الجريدة" يدعو إلى تربية الشعب تربية قويمة حتى ينتزع حقوقه من المعتدين الآثمين.
وكان بجانبهم مصطفى لطفي المنفلوطي الذي اشتهر في مقالاته الاجتماعية بأسلوبه العاطفي الفريد، وببث معاني الرحمة والفضيلة ووصف بؤس البائسين.
ولا نصل إلى الدورة الثالثة أو إلى الجيل الثالث الذي خلف هذا الجيل الثاني وهو الجيل الذي نشأ بعد الحرب الأولى في هذا القرن حتى تنشط المقالة السياسية عندنا نشاطًا واسعًا، وكان مما ضاعف هذا النشاط نشوء الأحزاب السياسية بعد تصريح 28 من فبراير 1922 وتعاركها عراكًا عنيفًا، ولعل خير من يمثل هذا الجيل: أمين الرافعي وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وعبد القادر حمزة وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، أولئك الذين كانوا يخلبون قلوبنا بمقالاتهم السياسية، وهي تختلف باختلاف شخصياتهم ومقدراتهم البيانية.
وكانت ترافق هذه المقالة السياسية منذ نشأتها المقالة الأدبية التي تتناول شئون الأدب والثقافة، ولم تلبث أن أُفْردت لها مجلات خاصة أسبوعية أو شهرية مثل: المقتطف والهلال، وعلى طول السنين في هذا القرن تنشأ مجلات مختلفة مثل: السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة.
وكان لهذا النوع من المقالة تأثير واسع جدًّا في حياتنا الأدبية في مصر والبلاد العربية.
ويمكن أن نلاحظ فيها نفس الدورات الثلاث التي لاحظناها في المقالة السياسية، فهي تنشأ في القرن الماضي نشأة ساذجة، ثم تأخذ في التطور، ولا نصل إلى الجيل الثاني حتى نراه يودع فيها ما قرأه عند الغربيين في الأخلاق والاجتماع وشئون الفكر المختلفة.
وقد عُنيت المقتطف منذ ظهورها في أواخر القرن بالحركة العلمية عند الغربيين وتصوير نظرياتها للجمهور المصري الخاص والجمهور العربي العام.
ولا نتقدم إلى الجيل الثالث -جيل هيكل والعقاد وطه حسين والمازني- حتى تصبح المقالة الأدبية أثرًا فنيًّا قيمًا حقًّا، فهي تمس القلوب وتثير العواطف، وقد اتسعوا بها إلى مباحث عميقة في الأدب والنقد والفنون الجميلة والنظريات الفلسفية والاجتماعية، مستهدين في ذلك بالمثل الإنسانية العليا مُثل الخير والحق والجمال.
وسار في هذا الطريق غير كاتب من مثل توفيق الحكيم وغيره، ممن نقلوا إلينا في مقالاتهم روح الفكر الغربي ومذاهبه الاجتماعية والأدبية.
ولم يدعوا مقالاتهم تفنى مع الصحف؛ بل جمعوها وطبعوها في كتب مختلفة حتى يتيحوا لها شيئًا من البقاء.
ولا بد أن نشير هنا إلى مقالات مصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين الاجتماعية، وهي تمتاز عند أولهما باستبطان عقلي واسع ساعد عليه صممه المبكر، بينما تمتاز عند الثاني بمحصول فكري وافر ساعدت عليه ثقافته الواسعة، وهو فيها ينقد أحيانًا يعض جوانب المجتمع؛ ولكنه لا ينقدها في سخط عنيف، شأن الخطيب أو الواعظ، وإنما ينقدها في حديث هادئ ممتع.


القصة:
ليست القصة جديدة على أدبنا كل الجدة، ففي الأدب الجاهلي قَصَصٌ كثير يدور على أيام العرب وحروبهم.
وفي القرآن الكريم قصص مختلف عن الأنبياء ومن أرسلوا إليهم، وقد تُرْجم في العصر العباسي كثير من قصص الأمم الأجنبية، ومن أشهر ما ترجم حينئذ كتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة.
ولكن يلاحظ أن القَصص العباسي وما خلفه من قَصَص عند الشعوب الإسلامية اتخذ اللغات العامية غالبًا لسانًا له، ولم يدخل منه في أدبها الكبير: الأدب العربي الفصيح سوى المقامات، وهي قصص قصيرة تصور مغامرات أديب متسول يخلب سامعيه بحضور بديهته وبلاغة عباراته.
وفي الحق أن بديع الزمان مخترعها ومَن جاءوا بعده مثل الحريري لم يفكروا في صنع قصة حقيقية أو أقصوصة؛ إنما فكروا في غرض تعليمي هو جمع طوائف من الأساليب المنمقة الموشاة بزخرف السجع والبديع.
وبذلك انقطع الطريق بين القصة الطويلة وبين العربية الفصيحة، فلم تدخلها؛ إنما دخلت في اللغات الدارجة، وشاركتْ لغتنا العامية في هذا النشاط؛ بل لقد سارعت إليه وحاولت أن تتفوق فيه. ويتضح ذلك من كثرة القصص المصرية في قصصنا الشعبي الوسيط، فقد ألفنا قصة عنترة وقصة الهلالية وقصة الظاهر بيبرس وذات الهمة وسيف بن ذي يزن وفيوز شاه.
ومَصَّرنا ألف ليلة وليلة فكتبناها بعاميتنا، أو صُغْناها بها، وأضفنا إليها قصصًا جديدة مثل قصة علي الزيبق وأحمد الدنف.
فكان لنا في العصور الوسطى قَصَصٌ شعبي، ولكن لم يكن لنا قصص فصيح.
ولما اتصلنا بأوربا وأخذنا نتأثر بآدابها اتجه أدباؤنا إلى القصص الغربي، وحاولوا أن يترجموه، وكان رفاعة الطهطاوي هو الرائد لهذه الحركة، فترجم "مغامرات تليماك" لفنلون وسماها "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك".
ولعل في نفس العنوان وتغييره إلى هذه الصورة المسجوعة ما يدل على عمل رفاعة في ترجمته، فإنه نقل القصة إلى أسلوب السجع والبديع المعروف في المقامات، ولم يتقيد بالأصل الذي ترجمه إلا من حيث روحه العامة، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف فيه.
تَصَرَّفَ في أسماء الأعلام، وتصرف في المعاني، فأدخل فيها آراءه في التربية وفي نظام الحكم، كما أدخل الأمثال الشعبية والحِكَم العربية.
فلم يكن رفاعة مترجمًا فحسب؛ بل كان ممصرًا للقصة، واستمر هذا التمصير طويلًا من بعده، حقًّا أخذ أدباؤنا يتحررون من لغة السجع والبديع، ومعنى ذلك: أنهم ملكوا من وسائل التعبير ما لم يكن يملكه رفاعة ومعاصروه؛ ولكنهم ظلوا يميلون إلى التمصير فيما يترجمون من قصص، حتى تقترب من ذوق القارئين؛ بل إن منهم من آثر التمصير إلى اللغة العامية مثل محمد عثمان جلال.
ولكن الممصِّرين من أصحاب الفصحى هم الذين رجحت كفتهم، ومن أشهرهم في أوائل هذا القرن حافظ إبراهيم والمنفلوطي، وقد ترجم أولهما البؤساء لفيكتور هيجو، وبعبارة أدق: مصرها تمصيرًا، فإنه لم يحتفظ منها إلا بالخطوط الأساسية، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف في الترجمة وإضافة فقرات ليست في الأصل.
وربما كان عمل المنفلوطي في التمصير أوسع من عمله، فإنه لم يكن يعرف شيئًا من اللغة الفرنسية؛ وإنما اعتمد على نفر قرءوا له بعض القصص مثل "بول وفرجيني"، وحاول أن يؤدي ما سمعه منهم في اللغة العربية، فكانت قصة "الفضيلة"، ومثلها القصص الأخرى التي نشرها، وكلها تكاد تفقد الصلة بالأصل، كما تفقد حبكته القصصية، فليس الغرض الأول القصص؛ وإنما الغرض تصوير الانفعالات العاطفية والاسترسال في أسلوب بليغ.
على أننا لا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى يستجيب بعض أدبائنا إلى هذا الفن الغربي، ويحاولوا أن يحدثوا فيه نماذج لهم، وسبق أن تحدثنا عن محاولتين: محاولة في إطار المقامة هي حديث عيسى بن هشام، ومحاولة جديدة خالصة هي محاولة زينب لمحمد حسين هيكل، والمحاولة الثانية هي التي تعد بحق أول محاولة كاملة لنا في صنع قصة بالمعنى الغربي الحديث.
وتلتها بعد سنوات محاولة محمد تيمور تأليف مجموعة من الأقاصيص باسم "ما تراه العيون"، وهي أقاصيص قصيرة تمتاز بواقعيتها وبما تحمل من إحساس دقيق بالمفارقات، كما تمتاز بحبكتها القصصية.
وقد كثر بعد الحرب الأولى من يكتبون الأقصوصة كتابة فنية بارعة، نذكر منهم محمود تيمور، كما نذكر محمود لاشين في مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، وهو يمتاز بروحه المصرية الصميمة وقدرته على رسم الشخوص وإحاطتها بإطار من الواقعية والفكاهة.
أما القصة الاجتماعية الطويلة التي بدأها هيكل، فإنها خطت خطوات واسعة مع نهضتنا الأدبية بعد الحرب الأولى من القرن؛ إذ وُجد لها غير كاتب أصيل، وأصبح لكل كاتب فيها أسلوبه ومميزاته الشخصية التي ينفرد بها عن أقرانه.
ومن أهم من لمعت أسماؤهم فيها طه حسين والمازني، وامتاز الأول بتصوير حياتنا المصرية في كثير من قصصه مثل: الأيام ودعاء الكروان وشجرة البؤس، وتناول قصة شهر زاد المعروفة في ألف ليلة وليلة وعرضها بأسلوبه البارع عرضًا طريفًا.
أما المازني، فيُعْنَى في قصصه بالجانب النفسي في الرجل والمرأة، ويستمد من الحياة اليومية المصرية وتجاربها التي تعيها مخيلته، ويشفع ذلك بتحليل واسع لمجتمعنا وعاداته وعلاقات أهله وأمزجتهم وما يضطربون فيه من مشاعر وأحاسيس.
وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي يستمده من كُتَّاب الغرب النفسيين، وتشيع عنده كما تشيع عندهم النظريات النفسية المعروفة من عُقَد وتعويض وما إلى ذلك، على نحو ما نرى في قصة "إبراهيم الكاتب" و"عود على بدء".
وللعقاد قصة تسمى "سارة"، وهي تقترب من ذوق المازني، وإن كانت تمتاز بتحليل عقلي واسع، إلا أنها تمزج هذا التحليل بتحليل نفسي، وتسيطر على التحليلين جميعًا شخصية العقاد التي تبالغ في المنطق وفي إبراز الأسباب والنتائج.
وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي في القصة يكاد يقف عند هذين الكاتبين، فالجيل التالي لهما يسير أكثر ما يسير في اتجاه هيكل وطه حسين الذي يعتمد على التحليل الاجتماعي لا على التحليل النفسي، وفي مقدمة هذا الجيل توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ.
أما توفيق الحكيم، فاعتمد في قصصه على بعض حوادث وتجارب رآها في حياته كما نرى في "يوميات نائب في الأرياف"، وحاول أن يتناول بعض مشاكلنا القومية الوطنية كما في "عودة الروح". وهو يطبع قصصه بطوابع إنسانية عامة، وإن كان يحاول في الوقت نفسه محاولة جادة أن يصور معالم الروح المصرية الشرقية.
ويُعْنَى محمود تيمور في قصصه بعيوبنا الاجتماعية، وهو يلتقي بطه حسين وتوفيق الحكيم في كثير من قصصه؛ ولكن له أسلوبه وشخصيته المستقلة.
أما نجيب محفوظ، فيُعْنَى بتصوير الطبقات الوسطى والشعبية وما تخضع له من الظروف المختلفة في البيئة والمجتمع مما ينتهي بها أحيانًا إلى الانحراف الاجتماعي أو الخلقي.
وبجانب القصة الاجتماعية الطويلة وُجدت عندنا القصة التاريخية منذ مطالع هذا القرن، فقد ألف جورجي زيدان نيفًا وعشرين قصة تصور الأحداث العربية الكبرى، وهي ليست قصصًا بالمعنى الدقيق؛ إنما هي تاريخ قصصي، تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أن تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية.
غير أننا لا نتقدم طويلًا بعد الحرب العالمية الأولى حتى تأخذ هذه القصة عندنا في النضج، وكان أول من أوفى بها على الغاية من الكمال الفني محمد فريد أبو حديد في قصته "زنوبيا"، وقد أتبعها بقصصه الأخرى: الملك الضليل والمهلهل ثم "جحا في جانبولاد".
وهو في قصصه جميعًا يتقن البناء القصصي ورسم شخوصه والنفوذ إلى دخائلها وخباياها النفسية.
ويلقانا في هذا المجال كثيرون مثل: علي الجارم ومحمد سعيد العريان ومحمد عوض محمد.
ولا بد أن نشير هنا إلى أن سنوات الحرب الأخيرة أتاحت لفن القصة عندنا ازدهارًا واسعًا، فقد أُغْلق البحر الأبيض أمام أدبائنا، فلم تعد تَرِدُ إليهم القصص الغربية، فعكفوا على أنفسهم أكثر مما كانوا يعكفون، فإذا هذا الفن ينضج على أيديهم نضجًا لا يعتمدون فيه على استيحاء أنماط غربية؛ إنما يعتمدون على أنفسهم وعلى بيئتهم المصرية العربية.
وبذلك أصبح فنًّا عربيًّا متوطنًا في بيئتنا لا فنًّا غربيًّا نستورده ونقيس على أمثلته ونماذجه.
وإذا كنا قد استطعنا قبل الحرب الأخيرة أن نسمي طائفة ممن لمعوا فيه، فإننا لا نستطيع الآن أن نحصيهم عدًّا؛ إذ وجد الشباب نفسه بعد ثورتنا المجيدة وأحس حياته وكل ما فيها من وقائع اجتماعية وأخذ يعبر عنها أقوى تعبير وأجمله في قصصه وأقاصيصه.
وتبرز الآن أسماء كثيرة في عالم القصة والأقصوصة جميعًا، فقد أصبحت عندنا قصة مصرية فعلًا، وأصبح لنا قصاصون مصريون مبدعون، ولكل منهم أسلوبه ومنهجه وطريقته.
وإذا كنا لاحظنا الميل الشديد إلى تمصير القصص الغربية قبل الحرب الأولى من هذا القرن، فإن هذا الميل انتهى وحل محله ذوق جديد من الترجمة الحرفية الدقيقة، وقد قامت دور نشر كثيرة على هذه الترجمة مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر ودار الهلال ودار المعارف وغير ذلك من هيآت ومؤسسات، وتضطلع وزارة التربية والتعليم بجهود خصبة في هذا الاتجاه.
ومعنى ذلك: أنه أصبح في لغتنا قصص غربية حقيقية، وهي تعد بالمئات، كما أصبحت عندنا قصص مصرية حقيقية لا تقل عن السابقة جمالًا وروعة.


المسرحية:
إذا كنا قد وجدنا للقصة في أدبنا الشعبي صورًا مختلفة، فإن المسرحية لم يكن لها عندنا أصول؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لم يوجد عندنا مسرح قديم، ولما نزلت الحملة الفرنسية بلادنا حملت فيما حملت إلينا المسرح الفرنسي، ولكن ما كان يمثَّل عليه من روايات مُثِّلَ بالفرنسية، فلم نتأثر به
في حياتنا الأدبية؛ إنما يأتي هذا التأثر فيما بعد حين تنشأ فيما بيننا وبين الغرب العلاقات الأدبية، وهي لم تنشأ إلا منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ بل بعد مضي شطر غير قليل من النصف الثاني حين اعتلى أريكة مصر إسماعيل، فقد أخذنا نتأثر الحضارة الغربية ونمعن في هذا التأثر، فأنشئت دار الأوبرا ومُثلت فيها روايات غنائية إيطالية.
وفي هذا التاريخ أنشأ يعقوب صنوع مسرحًا بالقاهرة مَثَّل عليه كثيرًا من المسرحيات المترجمة والتي ألفها، وقد أطلق عليه المصريون اسم "موليير مصر" لبراعته في التمثيل الهزلي وما يقترن به من نقد اجتماعي.
ولم يكن يمثل باللغة العربية الفصحى؛ إنما كان يمثل بالعامية الدارجة، فمسرحه وتمثيلياته يخرجان عن دائرة أدبنا العربي الحديث.
ولم تلبث الفِرَق التمثيلية السورية واللبنانية أن وفدت على ديارنا، وأنشأت لها مسارح في الإسكندرية ثم القاهرة.
وكانت هذه الفرق تمثل روايات فرنسية مترجمة، بحيث تلائم النظارة، وبعبارة أدق: ممصرة؛ حتى يتذوقها الجمهور ويجد فيها متاعه.
والتمصير يقل ويكثر حسب من يقوم به، فتستبدل الأسماء بأسماء مصرية، وقد تستبدل الحوادث نفسها، ولا مانع أحيانًا من استخدام الأسلوب المنمق بالسجع والشعر.
وكأنما كانت الجهود موجهة أولًا لهذه الحركة من التمصير؛ حتى يستطيع هذا النبات الغريب أن يعيش في البيئة الجديدة.
ولذلك كان التمصير في المسرحية أوسع جدًّا من التمصير في القصة؛ حتى لتنقطع العلاقة أحيانًا بينها وبين الأصل.
وأسرف الممصِّرون في وضع الأشعار التي تُغَنَّى في المسرحيات؛ حتى يرضوا ذوق الجمهور الذي كان يعجب بالغناء وأناشيد الذكر والذي تعود الاستماع إلى الأوبرا الإيطالية.
ومن هنا كان مسرحنا في القرن الماضي وشطر كبير من هذا القرن مزيجًا من التمثيل والغناء، وكان أصحاب هذا المسرح ينقلون غالبًا عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي عن راسين وكورني وموليير، ومرجع ذلك إلى السوريين واللبنانيين الذين تمصروا وقاموا بيننا بالتمثيل مثل سليم النقاش وأبي خليل القباني وإسكندر فرح؛ لأن ثقافتهم كانت غالبًا فرنسية، وكان المصريون أنفسهم يقبلون على هذه الثقافة منذ أوائل القرن الماضي.
ولم تمضِ مدة طويلة حتى أخذ المصريون يشاركون في هذا الفن الجديد، فاشتركوا أولًا مع الفرق السورية واللبنانية، ثم استقلوا وأنشئوا فرقًا مختلفة مثل فرقة عبد الله عكاشة وفرقة الشيخ سلامة حجازي المطرب المشهور، وقد وطَّد بقوة المسرح الغنائي، ومثل فرقة عزيز عيد، وقد عُني بالتمثيل الهزلي.
ولا نتقدم طويلًا في هذا القرن العشرين حتى يعود جورج أبيض من باريس سنة 1910 بعد دراسته لفن التمثيل دراسة متقنة، وسرعان ما ألف فرقة مسرحية في سنة 1912، وأخذ يمثل على قواعد درامية سليمة.
وفي نفس السنة كوَّن بعض الهواة "جمعية أنصار التمثيل"؛ لغرض إرسائه على أصوله الفنية الصحيحة، وكان ممن انضم إلى هذه الجمعة عبد الرحمن رشدي وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور. وينضم الشيخ سلامة حجازي إلى جورج أبيض ويؤلفان فرقة في سنة 1914 ظلت سنتين متواليتين. ونمضي في أثناء الحرب الأولى، فيؤلف عبد الرحمن رشدي فرقة مسرحية وإن لم تظل طويلًا، ويظهر نجيب الريحاني باستعراضاته الغنائية والهزلية ويبتكر شخصية "كشكش بك" عمدة كفر البلاص، ويؤلف حينًا مع عزيز عيد فرقة تُعْنَى بالمغناة القصيرة "الأوبريت".
وكانت هذه الفرق جميعًا تعتمد على ما يترجم ويمصَّر لها من تمثيليات ومغنيات غربية، وأخذ بعض الهواة والمملثين يؤلفون مسرحيات عربية استمدوا فيها من قصص ألف ليلة وليلة وألوانها الخيالية ومن التاريخ العربي الإسلامي وصوره القومية، ومن الحب والعواطف والوجدانية مصورين مجتمعهم وما فيه من دعوات إصلاحية وحركات وطنية.
وأكثر هذه الأعمال كان ضعيفًا؛ ولذلك لم يدخل في تراثنا الأدبي.
على أنه ينبغي أن نقف قليلًا عند ثلاثة، حذقوا -بفضل ثقافتهم الغربية- فن التأليف المسرحي، وهم فرح أنطون وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور.
وقد ألف أولهم في سنة 1913 "مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة" وهي مسرحية اجتماعية صور فيها عيوب مجتمعنا حينئذ، وما تسرب إليه من مساوئ الحضارة الغربية ومفاسدها، وهي ضعيفة في بنائها المسرحي.
غير أنه أتبعها في سنة 1914 بمسرحية تاريخية، هي مسرحية "السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم"، وهي قوية في تصميمها المسرحي وفي رسم شخوصها وتدفق الحوار وحيويته، وقد صوَّر فيها الصراع الحاد بين الشرق الشجاع المسلم والغرب المستعمر الماكر، ناثرًا خلال ذلك آراءه الاجتماعية والوطنية.
أما إبراهيم رمزي، فبدأ منذ سنة 1892 يحاول صنع مسرحيات، غير أنه لم ينضج إلا بعد عودته من البعثة إلى إنجلترا وتوفره على دراسة هذا الفن ونقل بعض درره الأوربية.
وربما كانت مسرحية "أبطال المنصورة" التي كتبها في سنة 1915 خير مسرحياته جميعًا، وهي مسرحية تاريخية عرض فيها صورة حية من البطولة المصرية في أثناء الحروب الصليبية عرضًا تمثيليًّا رائعًا.
ونمضي فنلتقي بمحمد تيمور الذي تُوفي شابًّا في سنة 1921، وكان قد سافر بعد تخرجه من الحقوق إلى فرنسا فعكف على دراسة التمثيل.
وعاد يحاول النهوض به، فكان يكتب فيه وينقد ويمثل، وما لبث أن ألف أربع مسرحيات؛ هي: مسرحية "العصفور في قفص" و"عبد الستار أفندي" و"الهاوية" و"العشرة الطيبة"، وهي وحدها التي اقتبسها عن مسرحية فرنسية، غير أنه مصَّرها، وجعل حوادثها تجري في عصر المماليك، ونقد فيها بعنف تصرفات الطبقة التركية.
وقد راعى في مسرحياته أصول الفن التمثيلي مراعاة دقيقة، غير أنه كتبها بالعامية.
وتضع الحرب العالمية الأولى في هذا القرن أوزارها، وينشط التمثيل الهزلي والغنائي، ويعود يوسف وهبي من إيطاليا، وينشئ فرقة استعراضية، ويقنعه عزيز عيد وزكي طليمات بإنشاء فرقة للدراما الرفيعة، وتنشأ فرقة رمسيس وتنشط بجانبها فرقة جورج أبيض، ويأخذ كثير من الكتاب في تأليف المسرحيات الاجتماعية، ويشتهر أنطون يزبك بمسرحياته العنيفة مثل "عاصفة في بيت" ومسرحية "الذبائح"، ويتخصص يوسف وهبي بتمثيل هذا النوع بينما ينشط نجيب الريحاني وعلي الكسار في التمثيل الهزلي.
على أننا لا نصل إلى سنة 1928 حتى يصيب كل هذه الفرق ركود قاتل.
وتنشئ الدولة في سنة 1934 الفرقة القومية كما تنشئ المعهد العالي للتمثيل، غير أن الركود يظل جاثمًا على مسارحنا بسبب ظهور السينما.
إلا ما كان من مسرح نجيب الريحاني.
وتحاول ثورتنا المجيدة النهوض بالمسرح، فيعود ثانية إلى النشاط، وبذلك تُرَدُّ إليه قواه.
وإذا تركنا المسرح إلى التأليف المسرحي وجدناه ينهض نهضة رائعة منذ العقد الرابع من هذا القرن؛ إذ ظهر توفيق الحكيم فوثب به وثبة لم يكن يحلم بها كل من سبقوه، فقد أرسى قواعده في النثر، كما أرسى هذه القواعد شوقي في الشعر، يسعفه في ذلك ثقافة إنسانية واسعة وثقافة مسرحية دقيقة، وتتزواج الثقافتان من روحه المصرية العربية، فإذا لمصر كاتب مسرحي من نوع إنساني بديع.
وتَلْقَى مسرحياته رواجًا واسعًا لما تحتفظ به من أصول الفن المسرحي وما تحتوي من عناصره ومقوماته، فهي أعمال مسرحية تامة، لا يقلد فيها توفيق كاتبًا غربيًّا بعينه؛ بل يستمد من مواهبه ومن بيئته وروحه المصرية العربية.
وحقًّا أنه يغلب على شخوصه التفكير الفلسفي التجريدي، ولكن هذا مذهبه، وهو يدل دلالة واضحة على رقي حياتنا العقلية، فقد أصبح لكتابنا أو لبعضهم على الأقل فلسفة تستهوي العقول والقلوب.
وتعتمد فلسفة توفيق على الإيمان بقصور العقل والاتجاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين وأعماق نفوسهم.
وأخذ هذا المجال المسرحي يجذب إليه كثيرين من الجيل الجامعي وغيره، ومن أهم من جذبهم إليه محمود تيمور، وكان يكتب مسرحياته أولًا بالعامية كأخيه محمد، ثم نقل من العامية إلى الفصحى بعض مسرحياته وأنشأ أخرى على اللسان الفصيح من أول الأمر، وهو في أكثر مسرحياته مثل قصصه يُعْنَى بالجوانب الاجتماعية في بيئته، ويمد هذه البيئة فتشتمل الريف وحياة الفلاحين.
وقد يستمد في مسرحياته من التاريخ العربي.
وهو دائمًا يمسح على عمله بتحليلات نفسية يصور فيها الطبيعة الإنسانية، ومن هنا كان صراع مسرحياته غالبًا يدور بين العقل والغريزة الباطنة.
وبجانب تيمور وتوفيق الحكيم تصنع محاولات كثيرة في هذا الفن المصري الحديث، وكثير منها يستحق الثناء لما يبذله فيه أصحابه من إبداع ومهارة.
وعلى هذا النحو استطاعت مصر أن تحقق لنفسها نهضة أدبية رائعة، فإنها رفعت كل الحواجز التي كانت تفصل بينها وبين الآداب الكبرى في العالم، فأصبح لها أدب كبير فيه المقالة والقصة والمسرحية والشعر التمثيلي، وأصبح كثير من هذا الأدب يترجم إلى سائر اللغات.



الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الخامس: أعلام النثر
» المبحث الرابع عشر: تطور مفاوضات التسوية السلمية وأزمة الجنائية الدولية
» الفصل التاسع: تطور العقل
» المبحث الرابع والعشرون: تطور الموقف العسكري والسياسي الإسرائيلي خلال الهدنة الثانية
» الفصل الرابع

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: الأدب العربي المعاصر-
انتقل الى: