| الفصل الخامس: أعلام النثر | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:03 am | |
| الفصل الخامس: أعلام النثر: 1- محمد عبده 1849-1905م: حياته وآثاره: وُلد محمد عبده في سنة 1849 في قرية "حصة شبشير" من قرى مديرية الغربية، ويقال: إن أباه هاجر إليها من بلدته الأصلية "محلة نصر"، وهي إحدى قرى مديرية البحيرة؛ وذلك فرارًا من ظلم الحكام حينئذ، ولم يلبث أن عاد إليها مع زوجته وابنه، وكان له زوجات غيرها وأبناء آخرون. ويظهر أنه كان من وجهاء قريته، يدل على ذلك مسلكه في تعليم ابنه، فإنه أحضر له معلمين في منزله علموه القراءة والكتابة، وحفظ على أيديهم القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه نشَّأه على ركوب الخيل وحب الفروسية. ولما بلغت سنه الثالثة عشرة حمله إلى بلدة طنطا إحدى مراكز التعليم الديني في هذا الوقت، فجود القرآن على بعض القراء المشهورين، ومكث في ذلك عامين، ثم انتظم في المعهد الديني بين طلابه، وظل فيه عامًا ونصف عام لم يفتح الله عليه فيهما بشيء. ولم يكن ذلك لغباء فيه، فقد كان فطنًا ذكيًّا؛ وإنما كان بسبب عقم التعليم الديني حينئذ في الأزهر وملحقاته بطنطا وغير طنطا، إذا انتهى هذا التعليم إلى طريقة ملتوية شديدة الالتواء، فيها يعقَّد كل شيء. وكان أول ما يدرس في النحو "شرح الكفراوي على متن الآجرومية"، وعبثًا حاول محمد عبده أن يفهم شيئًا مما يقوله شيخه، فقد رآه يبدأ بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" البسيطة السهلة، فلا يفهمها كما هي؛ بل يثير مع الكفراوي شارح الكتاب بعض المشكلات حولها، فهي تعرب على تسعة أوجه، ويأخذ الشيخ في توجيه هذه الإعرابات قبل أن يعرف الطلاب شيئًا عن النحو وعن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف. وضاق محمد عبده بهذه الطريقة العقيمة في التعليم، ورجع إلى قريته، فزوجه أبوه، وحاول أن يرجعه إلى سيرته في التعليم الديني. وصدع لأمر أبيه وأعدَّ عدة الرحيل، ولكن بدلًا من أن يذهب إلى طنطا ذهب إلى أخوال أبيه، وكانوا يقيمون في قرية قريبة من قريته. وتصادف أن كان بينهم شخص يسمى "درويش خضر" تقلب في البلاد حتى وصل إلى ليبيا، وهناك تعرَّف على الشيخ السنوسي وتلقَّى عنه تعاليمه، وهي تلتقي إلى حد كبير مع تعاليم الوهابية. وأنس محمد عبده لهذا الخال المتصوف أو هذا الشيخ، وأخذ يقرأ معه بعض رسائل صوفية، وجد فيها القبس الذي كان يفتقده. وتبدل محمد عبده بتأثير هذا الشيخ من صبي عابث إلى فتى جاد، يحس إحساسًا عميقًا كأن عليه رسالة في الحياة: أن يَهْدي الناس إلى الطريق المستقيم في الدين. ورحل إلى طنطا، فتلقى على الشيوخ بها بعض الدروس، ولم يلبث أن تحول إلى الأزهر، يعب من علومه الدينية واللغوية. وفي نهاية كل عام كان يعود إلى بلدته، فيجد الشيخ درويش في انتظاره؛ لينفخ في روحه. وكان واسع الأفق، فكان يسأله: هل تعلمت المنطق؟ هل تعلمت الحساب والهندسة؟ وكان في الأزهر عالم عظيم من علمائه يسمى الشيخ حسن الطويل يُعْنَى بإلقاء محاضرات في الفلسفة والهيئة، فانتظم محمد عبده بين تلاميذه. وتصادف أن نزل مصر سنة 1871 السيد جمال الدين الأفغاني، يحمل في صدره وعلى لسانه دعوته للنهوض بالإسلام والمسلمين ضد الاستعمار والمستعمرين، وكانت مصر قد أخذت تتحرك، وأخذ الرأي العام فيها يتكون، وأخذ الناس يشعرون أن حقوقهم مسلوبة، سلبها إسماعيل وأسرته، وكانت مساوئ السياسة المالية التي سار عليها هذا الحاكم أخذت تتضح للجميع، فقد فُرضت على البلاد الرقابة المالية والمراقبة الثنائية. لذلك كله بدأت الجذوة الوطنية تتقد في النفوس، وكان جمال الدين من أكبر من أمدوا نارها بالحطب الجزل من الخطب والمحاضرات في المقاهي وفي منزله. وكان يُلقي في هذه المحاضرات دروسًا في الكلام والتصوف والفلسفة الإسلامية، فتعرف عليه محمد عبده، وأعجب به جمال الدين إعجابًا شديدًا، حتى أصبح أهم مريديه. لقد كان مريدًا للشيخ درويش، فدفعه إلى اجتياز العقبات الأولى التي صادفته في أول تعلمه بطنطا، واليوم يصبح مريدًا لفيلسوف إسلامي كبير، يعد من حيث تأثيره في العالم الإسلامي في أثناء القرن الماضي في صف الأحرار العالميين؛ إذ لم يترك بلدًا إسلاميًّا حل فيه إلا ألقى في أرضه البذور لثورات وطنية عارمة على حكامه المستبدين الفاسدين. ويُعْجَبُ الفيلسوف الكبير -أو بعبارة أدق: الثائر الكبير- بالشيخ الصغير محمد عبده؛ إذ وجد فيه ذكاء نادرًا، وروحًا متحمسة للإصلاح في جميع الميادين السياسية والدينية والاجتماعية التي كان يصول فيها ويجول، ودفعه كغيره من تلاميذه ومريديه إلى الكتابة في هذه الشئون بالصحف؛ حتى يتنبه الناس ويفيقوا من غفلتهم وسباتهم الطويل. وكتب محمد عبده في صحيفة الأهرام، وكانت أسبوعية، فلفت الأنظار إليه وإلى آرائه الإصلاحية. وتخرج في الأزهر سنة 1877، فكان يلقي فيه بعض الدروس في المنطق والعقائد، وألف حينئذ حاشية على شرح لكتاب يسمى "العقائد العضدية"، وهي تدل على تضلعه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، ووالى مقالاته في الأهرام، وأخذ يدرس لطلابه كتاب "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ في بيته كتابًا مترجمًا في "تاريخ تمدن الممالك الأوربية". ثم عين مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم وللعربية في مدرسة الألسن، وكان يدرس في الأولى "مقدمة ابن خلدون". وتطورت الأمور فعُزِلَ إسماعيل، ورأت بطانة توفيق أن يخرج جمال الدين الأفغاني من مصر لما يؤجج من ثورة في النفوس، وأُقيل محمد عبده من وظيفته لاتفاقه مع جمال الدين في مبادئه، وخاصة أنهما كانا يطالبان بالإصلاح السياسي. غير أن مقاليد الحكم تحولت إلى رياض "باشا" وكان يعطف على محمد عبده، فأسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" جريدة الحكومة الرسمية، فنهض بها مع طائفة من تلاميذه على رأسهم سعد زغلول، فلم يقف بها عند تقرير الوقائع والأخبار الحكومية؛ بل جعلها صحيفة إصلاحية تتناول بالنقد وزارات الحكومة، وتبث دعوات مختلفة إلى الحرية والبر بالفقراء والأعمال الخيرية وتطهير الإسلام من البدع والخرافات، كما تبث دعوات سياسية تهدف إلى خير الجماعة ومصلحتها الوطنية وقيام حكومة شورية. ولما قامت الثورة العرابية كان من المناهضين لها في أول الأمر لما كان يخشى من عواقبها؛ ولكنه لم يلبث -حين رأى التدخل الأجنبي لإحباطها- أن انضم إليها وأصبح من زعمائها. ويقال: إنه هو الذي وضع صيغة اليمين التي أقسمها ضباط الجيش على رفض هذا التدخل، وهو الذي تولى حَلِفَهم. ولما أخفقت الثورة حوكم مع زعمائها، فحُكم عليه بالنفي ثلاث سنين خارج القطر، فقصد إلى بيروت، وتصدَّر فيها للتدريس، إلا أن أستاذه جمال الدين استدعاه إلى باريس، فلبَّى دعوته. وهناك أصدرا في مارس سنة 1884 صحيفة "العروة الوثقى" وأخذ محمد عبده يطلق منها قذائفه السياسية والإصلاحية إلى مصر والأقطار الإسلامية، وأقضَّ ذلك مضاجع إنجلترا وفرنسا، فقضتا على الصحيفة بعد صدور بضعة أعداد منها. وعاد إلى بيروت كما عاد إلى التدريس، فشرح "مقامات بديع الزمان الهمذاني" و"نهج البلاغة" وألف رسالته المشهورة في "التوحيد" أو علم الكلام وأصوله، وتفسير جزء "عم" وشرح البصائر في المنطق. وتولى الوزارة رياض "باشا"، وكان يقدره حق قدره، فعمل على صدور العفو عنه، ويقال: إن الإنجليز عاونوه في ذلك، فعُفِي عنه وعاد إلى وطنه في سنة 1888، وتقلب في مناصب القضاء، حتى أصبح مستشارًا بمحكمة الاستئناف، ثم عين مفتيًا للديار المصرية في سنة 1899، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. وأخذ بعد عودته يُعْنَى بالإصلاح الديني والاجتماعي، فكان يكتب في ذلك مقالات مختلفة بالمقتطف والأهرام والمنار "صحيفة تلميذه ومريده الشيخ رشيد رضا"، وكان يدرس للأزهريين وتلاميذه المختلفين كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". وألقى كثيرًا من المحاضرات في تفسير القرآن الكريم تفسيرًا يتمشى وروح العصر، وأطلق لنفسه في هذا التفسير حريتها، فلم يتقيد فيه بأحد من قبله. ومما يذكر له أنه حاول إصلاح الأزهر وطرق التعليم فيه وعمل على أن يجمع طلابه بين علوم الدين والعلوم العصرية، وأيضًا مما يذكر له عمله على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية إحياء الكتب العربية. وكانت قد هبَّت في أواخر القرن الماضي عاصفة من الغرب ضد الإسلام وتعاليمه، فوقف كثيرًا من مقالاته على تصحيح آراء القوم والرد عليها، ومقالاته ضد "هانوتو" معروفة. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه أكبر مصلح ديني عرفته الأمم الإسلامية في عصرها الحديث، فقد كان واسع الأفق بصيرًا بتعاليم الإسلام وغاياته السامية، وكان يدعو دعوة جريئة إلى تحرير الفكر من كل تقليد، وأن نفهم الدين على طريقة السلف في عصر الصحابة والتابعين الأولين قبل أن يظهر الخلاف بين المذاهب الإسلامية المختلفة. وكان يعجب بالمعتزلة وآرائهم؛ لأنه رآهم متحررين في أفكارهم. وقد دعا أيضًا إلى العلم الحديث، فالدين الصحيح لا يخالف العلم وحقائقه الثابتة؛ بل إنه يدعو إلى البحث في أسرار الكون واكتشاف قوانينه، وكان ذلك يُعَد في عصره ثورة على الدين ورجاله الذي رانَ عليهم غير قليل من الجمود. وكان بعد منفاه يهادن الإنجليز، مثله مثل كثير من المصريين الذين يئسوا من خروجهم، وربما كان ذلك زَلته الوحيدة؛ ولكن من غير شك كان ينشد الحرية الفكرية، وظل يجاهد من أجلها طوال حياته، وهو بحق يعد في طليعة زعمائنا المصلحين، وخاصة في الدين، والملاءمة بينه وبين التقدم العقلي الحديث. 2- مقالاته: لعل محمد عبده خير مَن يصور لنا تطور نثرنا في القرن الماضي بتأثير الصحف والاطلاع على بعض آثار الغربيين، فإنه تعلم الفرنسية في منفاه، وكان قبل أن يُنْفَى كثير القراءة لما تُرجم في عصره من كتب مختلفة. وبدأ حياته الأدبية منذ أن كان طالبًا في الأزهر، فقد كتب في صحيفة الأهرام سنة 1876 مجموعة من المقالات. ومن يقرؤها يلاحظ أن دائرة اطلاعه متوسطة؛ بحكم ثقافته المحدودة. وليس ذلك فحسب، فإنه يكتب بلغة السجع المعروفة على نحو ما نرى في هذه القطعة من مقالة له عنوانها "الكتابة والقلم" يقول: "لما انتشر نوع الإنسان في أقطار الأرض، وبَعُد ما بينهم في الطول والعرض، مع ما بينهم من المعاملات، ومواثيق المعاقدات، احتاجوا إلى التخاطب في شئونهم، مع تنائي أمكنتهم، وتباعد أوطانهم، فكان لسانُ المرسِل إذ ذاك لسانَ البريد، وما يدرك هل حفظ ما يبدئ المرسل وما يعيد، وإن حفظ هل يقدر على تأدية ما يريد، بدون أن ينقص أو يزيد، أو يبعد الغريب أو يقرب البعيد. فكم من رسول أعقبه سيف مسلول، أو عنق مغلول، أو حرب تخمد الأنفالس، وتعمر الأرماس، ومع ذلك كان خلاف المرام، ورمية من غير رام... فالتجئوا إلى استعمال رقم القلم، ووكلوا الأمر إليه فيما به يتكلم". وواضح أنه في هذا التاريخ لم يكن يملك وسائل الكتابة الطبيعية للتعبير عما في نفسه؛ لأن هذه الوسائل في ذلك الوقت لم يكن يملكها أحد من المصريين، غير أن اتصاله بالكتب القديمة وبمثل مقدمة ابن خلدون التي كان يدرسها لطلاب دار العلوم نبهه إلى أن وراء هذه اللغة المعقدة الملتوية لغة سهلة مرنة على أداء المعاني بدون صعوبات السجع وما يتصل به. فلما وُكل إليه في سنة 1880 تحرير الوقائع المصرية لجأ مباشرة إلى الأسلوب المرسل الطبيعي الذي يؤدي المعاني بدون عناء. ولم يكتفِ بذلك؛ بل أخذ يعمل على نشر هذا الأسلوب بين تلاميذه الذين كانوا يكتبون معه من أمثال سعد زغلول، كما أخذ يشجع الصحف على احتذائه والضرب على قوالبه، وفي الوقت نفسه كان ينتقد من يكتبون فيها، ويطلب إلى أصحابها أن يختاروا من يحسن الكتابة بالأسلوب الجديد. وفتَح في الوقائع صفحات أدبية واجتماعية وسياسية، يكتب فيها هو وتلاميذه، وكأنه يريد أن يضع بين الكُتَّاب النموذج الأدبي الجديد الذي ينبغي أن يتوفروا عليه. وقد أخذ يرقى بلغة المخاطبات الرسمية في دواوين الحكومة بما ينشر منها على وجه صحيح، وكانوا في دواوين الحكومة يتخاطبون حينئذ "بضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رَثٍّ غير مفهوم، ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته". فتحريره الوقائع كان خطوة كبيرة في سبيل الرقي بلغة المخاطبات الحكومية وبلغة الصحافة، فقد خرج بها من أسلوب السجع والفواصل وأنواع الجناس والبديع إلى أسلوب مرسل حر، لا يضيق بالمعاني، ولا يضيق به القراء. وكان الإصلاح الاجتماعي هو المحور الذي يدور عليه ما يكتبه في الوقائع، فكان يدعو إلى تأسيس الجمعيات الخيرية، ويبحث في بعض مشاكل التعليم، وينتقد من يأخذون من المدنية الغربية بقشورها الإباحية، ويدعو إلى نبذ الخرافات في الدين والتعاون على مصالح المعيشة. ونراه -مع طلائع الثورة العرابية سنة 1881- يكتب ثلاث مقالات في الشورى ووجوب الأخذ بالنظام النيابي المعروف عند الغربيين، ومن قوله في أولى هذه المقالات: "معلوم أن الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحُكَّام ولا طريقة معروفة للشورى عليهم، كما لم يمنع كيفية من كيفياتها الموجبة لبلوغ المراد منها. فالشورى واجب شرعي، وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين. فاختيار الطريق المعين باقٍ على الأصل من الإباحة والجواز كما هو القاعدة في كل ما لم يرد نص بنفيه أو إثباته. غير أنا إذا نظرنا إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو "كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يَفْرِقون رءوسهم، فسدل النبي ناصيته، ثم فَرَق بعد" نُدِبَ لنا أن نوافق في كيفية الشورى ومناصحة أولياء الأمر الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلًا عنا وأنشأت له نظامًا مخصوصًا، متى رأينا في الموافقة نفعًا ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، وإلا اخترنا من الكيفيات والهيئات ما يلائم مصالحنا ويطابق منافعنا ويثبِّت بيننا قواعد العدل وأركانه؛ بل وجب علينا إذا رأينا شكلًا من الأشكال مجلبة للعدل أن نتخذه ولا نعدل عنه إلى غيره، كيف وقد قال ابن قيم الجوزية ما معناه: إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين. فتألف من مجموع هذا أن الشورى واجبة، وأن طريقها مُناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها. على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوبًا شرعيًّا. ومن هنا تعلم أن نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى ونفورهم من الاستبداد ليس واردًا عليهم من طريق التقليد للأجانب ... بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشرع، ونفور عما منعه الدين، وقبحه العلماء، وشهدوا من آثاره المشئومة ما عرفوا به قبح سيرته ووخامة عقباه". وهذه القطعة من المقال تصور لك ما حدث من تطور في أسلوب محمد عبده، فقد أصبح أسلوبًا طبيعيًّا، وهو أسلوب يعتمد على جزالة اللفظ، بالضبط كما كان يعتمد أسلوب البارودي في الشعر على رصانة الكلمات ومتانتها، وكأن ما حدث في الشعر حدث نظيره في النثر، فقد عادت اللغة إلى حريتها وطلاقتها، ولم تعد ترزح تحت معوقات السجع والبديع. وفي القطعة ما يدل على اتساع أفق محمد عبده، فهو يعرض مسألة الشورى، وأنها نظام عُرف عند الغربيين من المسيحيين عرضًا طريفًا من جهة الإسلام، وما جاء في نصوصه من إباحة الأخذ عن الأمم الأجنبية، ما دام فيما نأخذ مصلحة من مصالح الجماعة. ويقرر قاعدة كبرى هي جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. وما يزال يناقش المسألة حتى ينتهي إلى أن الشورى واجبة. وتتردد في المقال اصطلاحات الفقهاء من كلمات الأصل والجواز والندب والوجوب، وهذا طبيعي لكاتب أزهري يبحث المسألة من الوجهة الدينية. ونلقاه بعد ذلك في باريس على صفحات "العروة الوثقى" وقد اتسع تفكيره واشتعلت روحه، فهو ثائر ثورة عنيفة، يدعو إلى اتحاد المسلمين في بقاع الأرض ضد عدوان المستعمرين، ويحثهم على أن يلتزموا أصول دينهم ويدفعوا قوة الغرب الباطشة بقوة عزيمتهم وبما يتخذون من عُدة وسلاح. وأخذ يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع المدنية والفكر العصر الحديث. وحاول منذ نزوله في فرنسا أن يتعلم اللغة الفرنسية؛ ولكنه لم يتقنها إلا بعد عودته وبعد اشتغاله في مصر بالقضاء. وهو في هذه الفترة من حياته يحقق لنفسه ثقافة واسعة؛ فقد أمعن في قراءة الآداب الفرنسية، كما أمعن في قراءة آثارنا القديمة ذات الأسلوب الحر الطليق، وكوَّن لنفسه أسلوبًا قويًّا جزلًا، كثير المعاني والأفكار. ونراه يكتب مقالات ضافية في الرد على من يتهجمون على الإسلام مثل "هانوتو" الفرنسي وغيره، كما يكتب مقالات ورسائل في دعواته الإصلاحية، وخاصة في شئون الدين وتطيره من الخرافات. وكان يفسر القرآن الكريم فيحاول الوصل بين آياته وبين التقدم العقلي الحديث. والحق أنه كان مفكرًا من طراز ممتاز، وإليه يرجع الفضل في تأسيس حركة التجديد الديني الذي نرى آثارها اليوم في العالم الإسلامي جميعه؛ إذ كان يرى العودة إلى منابع الدين الأولى، كما كان يرى أن يتخلص رجال الدين من التقليد، فالاجتهاد لم تغلق أبوابه. وعلى نحو ما كان مصلحًا في الدين كان مصلحًا في الأدب واللغة، فهو الذي أخرج كتاباتنا الصحفية من الدائرة البالية العتيقة دائرة السجع وما يرتبط به من أنواع البديع إلى دائرة الأسلوب الحر السليم. وكان على رأس من طوَّعوا هذا الأسلوب ومرنوه على تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة، فقد بسَّطه حتى يفهمه الجمهور، وافتن في طرق أدائه مبتعدًا عن الصيغ المتكلفة التي لم تكن تقبل سعة. ومعنى ذلك: أنه تطور بنثرنا من حيث الشكل والموضوع، فلم يعد يستخدم أسلوب البديع الضيق المليء بانحرافات الجناس وما يشبهه، وفي الوقت نفسه عبَّر بأسلوبه المرسل الجديد عن معانٍ عصرية، فيها أثر الفكر الغربي، وفيها أثر الفصل الزمني أو الفترة الزمنية التي عاشها في بيئته المصرية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:05 am | |
| 2- مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م: حياته وآثاره: وُلد مصطفى لطفي المنفلوطي سنة 1876 ببلدة منفلوط إحدى بلدان مديرية أسيوط لأسرة مصرية معروفة بالشرف والحسب. واختلف في أول حياته على عادة أضرابه من أبناء الريف إلى "الكُتَّاب" فحفظ القرآن الكريم، ولما يتجاوز الحادية عشرة من سنه. وأرسله أبوه إلى الأزهر؛ ليتم تعليمه فيه، وظل به عشر سنوات يدرس ويحصِّل، ولم يلبث حين وجد الشيخ محمد عبده يدرس للطلاب تفسير القرآن وكتابي عبد القاهر في البلاغة: "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" أن أعجب به، فلزم دروسه، وانصرف عن الأزهر وعلومه ورجاله. ويظهر أنه ضاق بطريقة التعليم فيه، وتحول ذلك عنده إلى يأس، وسرعان ما وجد ما كان يطلبه عند محمد عبده، وقد تأثر تأثرًا قويًّا بتعاليمه. ولم يكن يطلب التعمق في الدين؛ وإنما كان يطلب الأدب، فأخذ يختلف إلى دروس محمد عبده كما أخذ يختلف إلى كتب القدماء ودواوينهم، فهو يقرأ في ابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان الهمذاني كما يقرأ في النقاد: الآمدي والباقلاني وعياض وغيرهم ممن تناولوا وصف الكلام الجيد، وممن وقفوا عند إعجاز القرآن وجمال أساليبه. وله كتاب يسمى "مختارات المنفلوطي" فيه منتخبات لمن سميناهم، ولكبار الشعراء من أمثال أبي تمام وابن الرومي وأبي العلاء. وكان له ذوق جيد يعرف به كيف ينتخب لنفسه أروع ما في الكتب ودواوين الشعر العباسية من قطع وقصائد أدبية رائعة، فعكف على ذلك كله كما عكف على كتابات أستاذه محمد عبده يعب منها وينهل كما يعب وينهل من آثار معاصريه المترجمة والمؤلفة. وبذلك هيأ نفسه ليكون صحفيًّا بارعًا، ولسنا نقصد صحافة الأخبار؛ وإنما نقصد صحافة المقال. ويقال: إنه أسف أسفًا شديدًا لموت محمد عبده، فرجع إلى بلدته ومكث بها عامين يكاتب صحيفة المؤيد، ثم عاد. وكان سعد زغلول معجبًا به، وتولى وزارة المعارف أو التربية والتعليم، فعينه محررًا عربيًّا لوزارته، وانتقل سعد إلى وزارة العدل، فنقله معه. ولكنه لم يظل في الوظيفة، فقد فُصل منها بعد خروج سعد من الوزارة، وظل يكتب في الصحف إلى أن قام البرلمان في سنة 1923 فعينه سعد رئيسًا لطائفة من الكُتَّاب في مجلس الشيوخ، ولم يمهله القدر؛ إذ سرعان ما لبَّى نداء ربه. وهذه هي حياته، وهي ليست حياة هنيئة، فقد كان يشقى في سبيل الحصول على ما يقيم به أوَده، وقد نظم وهو لا يزال طالبًا في الأزهر قصيدة في هجاء عباس، فحكم عليه بالسجن مدة عرف فيها مرارة السجون، وكان لذلك ولعدم توفيقه في حياته أثره في إحساسه بالبؤس والبؤساء وآلامهم. وكانت مصر حينئذ ترزح تحت كابوس الاحتلال الإنجليزي، الذي كان يضيق الخناق على أبنائها، فكانوا يشعرون بغير قليل من اليأس والبؤس. والتأم في نفس المنفلوطي بؤس أمته ببؤس نفسه، فتحول بوقًا لهذا البؤس يبكي في كتاباته ويَئِن. ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فكانت ثقافته ضيقة؛ ولكنه عكف على المترجمات يقرأ فيها ويوسِّع آماد فكره بكل ما يستطيع من قوة. وكان فيه طموح، فرأى أن يترجم بعض القصص والمسرحيات الغربية، ولكن أنَّى له وهو لا يحسن الفرنسية ولا غيرها من اللغات الأوربية، إلا أن ذلك لم يقف دونه، فقد طلب إلى بعض أصدقائه أن يترجموا له بعض آثار القوم الأدبية، ينقلونها هم أولًا، ثم ينقلها هو إلى أسلوبه الرصين. ويظهر أنه عرَّفهم ما يريد؛ لأننا نجد ما يُتَرْجَمُ له من آثار المذهب الرومانسي الذي كان يُعْنَى أصحابه بالفضيلة والعدالة والانتصار للفقراء ونقد الأغنياء في أسلوب مليء بالانفعال العاطفي. وكانت طريقة المنفلوطي أن يأخذ ما تُرْجم له، ويمصِّره تمصيرًا، ويعطي لنفسه في ذلك حرية واسعة، حتى لكأنه يعيد كتابته وتأليفه من جديد، وهو تأليف يقوم على الاسترسال الإنشائي والانطلاق الوجداني والوعظ الأخلاقي. ومن القصص التي أعاد تأليفها على هذا النحو قصة بول وفرجيني لبرناردين دي سان بيير وسماها الفضيلة، وقصة ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون لألفونس كار وقصة الشاعر أوسيرانودي برجراك لأدمون روستان، وفي سبيل التاج لفرنسوا كوبيه. وبهذا الأسلوب من حرية التصرف والتحوير الواسع مصَّر طائفة من القصص القصيرة لبعض الكتاب الفرنسيين، ونشرها في كتابه "العبرات" بعد أن أضاف إليها بعض قصص من تأليفه، وجميعها قصص حزينة باكية. ومن غير شك أفسد هذه القصص الفرنسية بتمصيره؛ إذ أحالها عن أصلها، وكأنه ظن القصة مجموعة من المقالات في غير حبكة، ومن ثم أدخل في هذه القصص تغييرًا واسعًا وهو تغيير لم يستطع إحكامه؛ إذ كانت تنقصه موهبة القصاصين، ويتضح ذلك في قصصه التي حاول أن يؤلفها إذ ينقصها الخيال والدقة في مراقبة أحداث الحياة وتجارب الأشخاص، كما أنه تنقصها طرافة المفاجأة. وإذا كان في هذه القصص شيء يعجب به القارئ فهو الأسلوب المصفى الذي يتميز به المنفلوطي، والذي أتاح لمقالاته أن تذيع وتنتشر في الناشئة من عصره إلى يومنا الحاضر، وقد جمعها وطبعها باسم النظرات.
النظرات: تقع النظرات في ثلاثة مجلدات، وهي مجموعة كبيرة من المقالات الاجتماعية نشرها المنفلوطي في أوائل القرن بصحيفة "المؤيد" التي كان يحررها الشيخ علي يوسف. وتمتاز هذه المقالات بميزتين أساسيتين: ميزة تتناول الشكل وميزة تتناول الموضوع، أما من حيث الشكل فإنها كتبت في أسلوب نقي خالص، ليس فيه شيء من العامية ولا من أساليب السجع الملتوية إلا ما يأتي عفوًا. فقد قرأ المنفلوطي واستوعب ما قرأه، ولم يكتفِ بأن يعيش على تقليد كاتب قديم بعينه مثل ابن المقفع أو الجاحظ أو بديع الزمان؛ بل حاول أن يكون له أسلوبه الخاص به، حقًّا تلمع في كتابته آثار القدماء، فقد تحس أحيانًا أنه يحتذي نثر الجاحظ أو نثر بديع الزمان؛ ولكن ما يحتذيه أو ما ينقله يدخل في كيان تعبيره؛ بحيث يصبح كأنه يُعاد خلقه من جديد. وذلك ما نسميه بشخصية الكاتب، فكل ما يكتبه يُطْبَعُ بطابعه، وكأنه عملة خاصة به، وهي ليست عملة مزيفة؛ وإنما هي عملة صحيحة تنبع من فكره وقلبه، وتعطيه سماته الخاصة به، فتقرؤه، ولا تلبث أن تقبل عليه؛ لأنك تجد عنده ما يحدث لذة فنية في نفسك؛ إذ يقدم لك أثرًا أدبيًّا حقيقيًّا يمس قلبك، ويثير عاطفتك. وهذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع، فقد اختار الحياة الاجتماعية لبيئته، واتخذها ينبوعًا لأفكاره وتحول فيها بتأثير أستاذه محمد عبده إلى مصلح اجتماعي، فهو يردد آراء المصلحين من حوله، ويؤديها بلغته التي تأسر السامع وتَخْلُب لُبَّه. وارجع إلى النظرات فستراه يتحدث في عيوب المجتمع وما يشعر به من مساوئ الأخلاق مثل: القمار والرقص والخمر وسقوط الفتيان والفتيات، فيتساءل: أين الشرف وأين الفضيلة؟ ويحس أن بعض ذلك جاءنا من المدنية الغربية، فيصب عليها جام غضبه. ويدور بعينه في بيئته فيرى كثرة المصابين بعاهة الفقر والبؤس فيبكي ويستغيث. ويكتب في الغنى والفقر، ويدعو إلى الإحسان والبر بالضعيف العاجز ويصوِّر أكواخ الفقراء وما هم فيه من مهانة وذلة، ويدعو دعوة حارة إلى التمسك بالفضائل من مثل الوفاء، وينادي: الرحمة الرحمة! ومن قوله في مقال بهذا العنوان: "ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفئود1، فتبتسم سرورًا ببكائك واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في صحيفتك البيضاء أنك إنسان. إن السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق، وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان. ونحن أبناء الطبيعة فلنجارها في بكائها وأنينها. إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء والتي تشرح الصدور أشرف من التي تَبْقُرُ البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين مَن يحيي الميت ومن يميت الحي؟ إن الرحمة كلمة صغيرة؛ ولكن ما بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها والشمس في حقيقتها. وإذا وجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناءة. ================== 1 المفئود: المصاب في فؤاده من ألم ونحره. ================== لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عارٍ ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام... أيها الإنسان! ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها، فتؤثر الموت على الحياة. ارحم المرأة الساقطة لا تزيِّن لها خلالها ولا تشتر منها عرضها، علَّها تعجز عن أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به سالمًا إلا كسر بيتها. ارحم الزوجة أمَّ ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفة، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذِّب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته، فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحيَّن فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا، تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين... أيها السعداء! أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". وواضح أن المنفلوطي لا يُعْنَى بموضوعه فحسب؛ بل هو يحاول أن يؤديه أداء فنيًّا يتخير فيه اللفظ، ويحاول أن يؤثر به في سمع القارئ ووجدانه. وهو في ذلك يتأثر بطريقة القدماء الذين كانوا يعنون بالجرس الموسيقي للكلام، وانتهت بهم هذه العناية إلى السجع. والمنفلوطي لا يسجع؛ ولكنه يُعْنَى عناية شديدة بموسيقى ألفاظه، وكأن الناس لا يقرءونه بأبصارهم في الصحف؛ بل هم يقرءونه أو يسمعونه بآذانهم على طريقة القدماء قبل أن تتحول القراءة من السمع إلى البصر. وهو يبدئ ويعيد في معانيه على طريقة الخطباء؛ بل هو يستعير منهم النداء بمثل أيها الإنسان. وترى عنده مثلهم التكرار في الكلمات مثل: ارحم، ارحم، كما ترى عنده كثرة الفواصل بين العبارات؛ إذ كثيرًا ما يقطع المعاني ويستأنفها. وقد يكون ذلك بسبب انفعالاته العاطفية، ونظن ظنًّا أنه يتأثر أسلوب الخطابة في عصره، عند مصطفى كامل وأضرابه. وقد وقف وقفات طويلة عند الإسلام والمسلمين، فبكى ما هم فيه حينئذ من تأخر وانحطاط وانغماس في الشهوات والملذات، ورماهم بأنهم عطلوا الأحكام وعصوا أوامر الدين ونواهيه، وكأنه تحول إلى خطيب في مسجد، فهو يعظ، ويبالغ مبالغة تخرجه عن جادة الحقيقة. ويمثل ذلك موقفه من المدنية الغربية، فقد أساء الظن بها، ورد إليها معايب الشباب وانغماسهم في حمأة الرذيلة، وكأنه غاب عنه ما تحمل هذه المدنية من خير للإنسانية، ففيها الشر وفيها الخير، فيها ما ينبغي أن نرفضه وما ينبغي أن نأخذه. ومن المحقق أنه لم يكن منوع التفكير بسبب قصور ثقافته؛ إذ لم يطلع على آفاق جديدة، توسع ذهنه ومداركه. ولعل ذلك ما يهبط في عصرنا الحاضر بنظراته، فقد اتسعت معارفنا، ونمت صلتنا بالغرب؛ بل لقد تحول إلينا كثير من عيونه وذخائره النفيسة، وكثر بيننا من يطلعون على آثار القوم في لغتهم كما كثر بيننا من يحسنون التفكير والتغلغل فيه إلى أعماقه وخفياته. ومن هنا خَفَّت بين أدبائنا الحدة المنفلوطية لإرضاء العاطفة، فقد أصبحوا يطلبون في كتابتهم إرضاء الذهن بغذاء عقلي خصب. وما أشبه أدب المنفلوطي في عباراته الرصينة المنغمة بالآنية المزخرفة؛ ولكنها آنية قلما حملت غذاء للذهن والفكر، ونحن نطلب اليوم الغذاء الفكري بأكثر مما نطلب الوسائل التي تؤديه، ولعل هذا ما جعل المازني يحمل عليه في كتاب "الديوان" غير أنه يقسو في حملته. ومن الواجب أن نقيس الأديب بمقاييس عصره، وأن نحكم عليه بظروف بيئته، وألا ننتقل به إلى عصر تالٍ نستمد منه مقاييسنا عليه، والمنفلوطي من هذه الناحية أدَّى لمصر في أوائل القرن وإلى الحرب العالمية الأولى آثارًا أدبية بارعة، وكانت هذه الآثار المثل الأعلى للشباب في إنشائهم وفي صَقْل أساليبهم. وفي النظرات جولات في النقد الأدبي إلا أنها غير عميقة، وليس فيها تحليل واسع لضيق ثقافته، وفيها مراثٍ لطائفة من الأدباء وربما كان خيرها مرثيته لابنه، وفيها يقول متأثرًا لما سقاه من الدواء، والموت يقتطع الحياة من بين جنبيه قطعة قطعة: "لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكِلَ إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي في يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشمك إياها، فلقد أصبحت أعتقد أنني كنت عونًا للقضاء عليك، وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمر مذاقًا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها في يدي". والمقالة جميعها على هذا النحو المؤثر الذي كان المنفلوطي يتقنه. ودائمًا تجد عنده هذا اللفظ الجزل الرصين، الذي كان يحرص فيه على أن تسيغه الأذن بما يحمل من هذه الموسيقى العذبة التي تؤثر في النفس، وتحدث في الذهن تلك اللذة الفنية، التي نطلبها في الآثار الأدبية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:06 am | |
| 3- محمد المويلحي 1858-1930م: أ- حياته وآثاره: وُلد محمد المويلحي في القاهرة سنة 1858 لأسرة ثرية تأخذ بحظها من الثقافة، فهو حفيد سر التجار في عهد محمد علي. وكان أبوه إبراهيم يشتغل بالتجارة، إلا أنه كان يجد في نفسه ميلًا شديدًا إلى الأدب، فعكف على قراءة عيونه، وصحب كبار الأدباء في عصره، وتتلمذ لجمال الدين الأفغاني مع مَن تتلمذوا عليه. وكان يحذق الفرنسية والتركية، كما كان يحذق العربية. ولم يلبث أن اشتغل بالصحافة؛ فأخرج مع محمد عثمان جلال صحيفة "نزهة الأفكار" إلا أنها لم تستمر طويلًا. ونراه بعدها قريبًا من الخديو إسماعيل فيعيَّن عضوًا في مجلس الاستئناف، ولما نُفي الخديو إلى إيطاليا صحبه مدة من الزمن، ثم نزل في الآستانة، فأُكْرم هناك، وجُعل عضوًا في مجلس المعارف. وعاد مع أواخر القرن إلى مصر، فأخرج مجلة "مصباح الشرق" وكانت أهم مجلة أدبية عندنا إلى أن تُوفي سنة 1906. وإنما قدمنا هذه المقدمة لندل على أن محمدًا نشأ في بيت ثراء وأدب، وقد ألحقه أبوه بمدرسة الأنجال التي كان يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان في الوقت نفسه يدرس في الأزهر ليتقن اللغة العربية، كما كان يختلف إلى دروس جمال الدين ومحمد عبده، ووجد في أبيه أستاذًا أصيلًا تلقى عنه أصول الأدب علمًا وعملًا. ووظفه أبوه في دواوين الحكومة، غير أنه اشترك في ثورة عرابي، ففُصل من وظيفته بعد إخفاق الثورة. ونراه يخرج من مصر إلى أبيه في إيطاليا، ويستدعيه جمال الدين إلى باريس؛ ليساعده في إخراج صحيفة "العروة الوثقى" ويلبِّي دعوته. وتسنح له الفرصة ليتقن الفرنسية ويصادق بعض أدباء فرنسا من مثل "إسكندر ديماس الصغير". ويقال: إنه تعلم -وهو مع أبيه- الإيطالية وبعض مبادئ اللغة اللاتينية. ويمضي في إيطاليا وفرنسا ثلاث سنوات، ثم يبرحهما إلى الآستانة قبل نزول أبيه بها، ويشتغل بإخراج رسالة الغفران لأبي العلاء وغيرها من الكتب. ويعود إلى القاهرة، فيشترك في تحرير الأهرام والمؤيد والمقطم. ويعود أبوه ويُخرج مجلة "مصباح الشرق" فيعاونه فيها، وينشر بها قصته "حديث عيسى بن هشام" في حلقات متتابعة، ويجمع هذه الحلقات ويذيعها سنة 1906. ونراه يعين مديرًا للأوقاف في سنة 1910، وهو مع ذلك يحرِّر صحيفة "المقطم" ويكتب مقالات مختلفة في شئون السياسة والاجتماع في روح ثائرة ضد الاحتلال، وألف كتابًا سماه "أدب النفس" وهو رسائل في الأخلاق وشئون الحياة، وما زال يتابع هذه الكتابات حتى توفي سنة 1930. ومع ثقافته الواسعة بالآداب الفرنسية كان محافظًا شديد المحافظة. وتتضح هذه المحافظة في سلسلة مقالات نشرها في "مصباح الشرق" حين أخرج شوقي ديوانه الأول سنة 1898، وزعم في مقدمته أنه سيحاول التجديد على ضوء ما قرأ في الآداب الغربية، وأشاد بشعر الطبيعة عند القوم. وتساءل المويلحي في مقالاته: ما الجديد الذي يريد شوقي إدخاله إلى العربية؟ وقال له: إنك تنظم بهذه اللغة فلا بد أن ترجع في ألفاظك إليها لأنك تتحدث بها، وقد قرأنا مثلك في الآداب الغربية، فلم نجد للقوم معاني يتفوقون بها على الشرقيين؛ بل إننا معشر الشرقيين نفوقهم في المعاني، وحتى موضوعات شعرهم التي تتغنَّى بها مثل "الطبيعة" للعرب فيها كثير، وما على الشاعر المجدد من أمثالك إلا أن يتصفح دواوين القدماء، فيجد فيها -لا في الغرب- ضالته التي ينشدها. ونظن ظنًّا أن هذا النقد الخاطئ كان له أثر سيئ في شوقي، فإنه شك في الجديد الذي جاء به، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي رده إلى معارضة الشعراء القدماء؛ ليثبت تفوقه عليهم، وليقتنع محمد المويلحي وأضرابه من المحافظين بأنه لا يقل عنهم إبداعًا ومهارة.
ب- حديث عيسى بن هشام: رأينا محمد المويلحي رغم ثقافته بالآداب الغربية محافظًا شديد المحافظة، ومع ذلك حاول أن يدخل القصة المعروفة عند الغربيين في مجال أدبنا الحديث؛ ولكن كيف يدخلها؟ هل يدخلها بصورتها الغربية أو يبحث عن صورة عربية يقدمها فيها؟ ولم نكن حتى هذا التاريخ قد صنعنا محاولات قصصية سوى "علم الدين" لعلي مبارك، وهي رحلة تقع في أربعة أجزاء، قام بها الشيخ علم الدين مع مستشرق إنجليزي، فطافا معًا بجوانب الحياة المصرية ثم رحلا إلى بلاد الإنجليز. وصور علي مبارك مشاهداتهما هنا وهناك. وقد وُضعت الرحلة في شكل مسامرات بلغت خمسًا وعشرين ومائة. وفيها يصف الكاتب حياة الشيخ علم الدين في الأزهر كما يصف حياتنا في حفلات الزواج، وفي المواسم والأعياد، ويلم بحياة الإنجليز. وفي أثناء ذلك تُنْثَر فوائد متفرقة في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الكون والخليقة. وربما استلهم علي مبارك في هذه الرحلة كتاب "إميل" للكاتب الفرنسي جان جاك روسو؛ إذ أجرى على لسانه آراءه وأفكاره. وقد اختار لرحلته الأسلوب المسجوع. كان هذا هو المثال الوحيد أمام المويلحي، فرأى أن ينتفع به في قصته؛ ولكن مع هدف جديد، فإن رحلة علي مبارك كُتبت قبل عصر الاحتلال، ولم تكن قد برزت مشاكلنا الاجتماعية على ألسنة المصلحين من مثل: محمد عبده وقاسم أمين، وأيضًا لم نكن قد اندفعنا اندفاعًا شديدًا في تقليد الحضارة الغربية المادية، فقد أخذ الاتصال بيننا وبين أوربا يشتد بعد الاحتلال، وأخذ كثيرون منا يقلدون الغربيين حتى في العادات بدون ملاحظة ما بيننا وبين القوم من أسوار فاصلة في المشارب والأذواق. وإذن فليتغير هدف القصة، فلا يكون تعليميًّا كما هو الشأن في "علم الدين"؛ بل يكون إصلاحيًّا في ضوء ما يكتبه المصلحون من أمثال: النديم وقاسم أمين ومحمد عبده، وفي ضوء ما يُكْتَب عن تطرفنا في استيراد المدنية الغربية. ولكن كيف توضع هذه القصة وفي أي إطار؟ إن المويلحي محافظ، وقد رأيناه يأخذ على شوقي محاولته التجديد على أسس النماذج الغربية، فليبحث لقصته عن إطار عربي خالص، حتى لا يخرج على ذوقه ولا على ذوق أمثاله من المحافظين المتعصبين الذين يأبون محاكاة النماذج الأدبية الغربية. وفكر في ذلك طويلًا، وسرعان ما هداه تفكيره إلى إطار المقامة الذي صنعه بديع الزمان، وهو إطار يقوم على راوٍ يسمى عيسى بن هشام، يصف طائفة من الحِيَل لأديب متسول يسمى أبا الفتح الإسكندري، وكل حيلة تسمى مقامة، وفي كل مقامة يظهر هذا الأديب براعته البيانية بما يصوغ من أسلوب مسجوع، كان يعد تُحْفَة التحف في عصورنا الوسطى. ورأى المويلحي أن يتخذ لقصته هذا الإطار. فراوي قصته هو نفس راوي مقامات بديع الزمان؛ ولذلك سماها حديث عيسى بن هشام؛ ولكن بطل بديع الزمان أديب متسول، فهل يكون بطل المويلحي على نمطه أديبًا متسولًا؟ لقد رأى أنه إن صنع ذلك لن تتاح له الفرصة لكي يُلم بما يريد من موضوعات اجتماعية، وفكَّر، وهداه تفكيره إلى أن يتخذ بطله من جيل سابق لجيله، مستلهمًا في ذلك قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم، وما تشير إليه من أن سبعة دخلوا أحد الكهوف فماتوا، وظلوا في موتهم ثلاثمائة سنة وازدادو تسعًا، ثم بُعثوا من رقادهم، فكانوا معجزة خارقة في مدينتهم. فألهمت هذه القصة المويلحي أن يختار بطل قصته أحمد "باشا" المنيكلي ناظر الجهادية الذي تُوفي سنة 1850. فبينما كان عيسى بن هشام يطوف بالمقابر في ليلة قمراء مستعبرًا مفكرًا في سُنَّة الموت والحياة إذا به يخرج عليه من أحد القبور هذا الدفين، ويكون بينهما حوار يعرف منه عيسى بن هشام حقيقته وهويته. ويعود معه إلى القاهرة، ويرافقه في رحلة كبرى بعالم الأحياء المصري في فترة الاحتلال. ويلاحظ المنيكلي أن كل شيء قد تغير في هذا العالم بالقياس إلى ما كان في عصره زمن محمد علي، فقد أصبح المصريون يعيشون في عالم جديد، هو خليط من نظم تقليدية ونظم غربية، وهو عالم مليء بالعيوب الخلقية والاجتماعية. وتتوالى علينا مشاهد القصة، فمن وصف للمُكارين إلى وصف لرجال الشرطة ووصف للمحاكم على اختلاف أنواعها، ومن وصف لحياة الحكام والتجار والأغنياء ومباذلهم إلى وصف لدور اللهو والتمثيل، وفي أثناء ذلك يوصَف ما في الحياة الحديثة من تقدم في العمران وفي العلم وخاصة الطب. ويكاد الإنسان يظن أن المويلحي لم يترك جانبًا من حياتنا حينئذ إلا تناوله بالوصف والنقد، ويسوق ذلك في سخرية مرة تصور ضعف المصريين وانقيادهم لأهوائهم وملذاتهم. والمويلحي يرسم في تضاعيف ذلك بعض الشخصيات رسمًا بارعًا، ومن بديع رسومه رسم "العمدة" الذي يُبْرز فيه ثراءه وغفلته حين ينزل القاهرة، فيُلم به بعض السماسرة وبعض القوَّادين، ويُغْوونه، ويخدعونه عن ماله وشرفه، فإذا هو يسقط سقوطًا مزريًا في ملذاته. وبنفس البراعة والمهارة في رسم الشخصيات وتحليل طباعها يرسم "المحامي الشرعي" الذي قصده المنيكلي مع عيسى للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى على هذا النحو: المحامي: قولا لي ما حقكم فيه الوقف؟ وما شرط الواقف؟ وكم يقدر ثمن العين لتقدر قيمة الأتعاب بحسبه؟ عيسى بن هشام: إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائق، فوضع سواه عليه يده، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد. المحامي: سألتك: ما قيمة العين؟ عيسى بن هشام: لست أدري على التحقيق؛ ولكنها تبلغ الألوف. المحامي: لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات. عيسى بن هشام: لا تَشْطُطْ أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق. غلام المحامي: وهل ينفع في رفع الدعوى اعتذار بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا شغل له "اشتراكات" ولكتبته والمحضرين "تطلعات"؟ وأنَّى لكما بمثل مولانا الشيخ، يضمن ربح الدعوى وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه؟ وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم واستجلاب عناية القضاة؟ عيسى بن هشام: دونك هذه الدراهم التي معنا، فخذها الآن ونكتب لك صكًّا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمونًا لديك على كل حال. المحامي -بعد أن استلم الدراهم بعدِّها: أنا أقبل منك هذا العدد القليل الآن ابتغاء ما ادَّخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين. وعليك بشاهدين للتوكيل. ويستمر الحوار على هذا النحو، فنطَّلع منه على طباع المحامين الشرعيين وجشعهم وطرق احتيالهم. ولم يسجع المويلحي في هذه القطعة؛ ولكن هذا إنما يأتي شذوذًا، فالأصل في الكتاب كله السجع على طريقة المقامات. وهو يمضي فيصف المحكمة الشرعية حين وصلها عيسى بن هشام مع صاحبه على هذا النمط: "ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا: لمن هذي الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكُتَّاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب. ونحونا نَحْوَ الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شبحًا حنتْ ظهرَه السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولَجَّ به الخرف والسقم. وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء. ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس، مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويُبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان ويتساقطون على الأرض. وما زلنا نزاحم على الصعود في الدَّرَج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى منَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق". وواضح أن هذا الوصف يعتمد إلى حد ما على محاولة الإغراب باللفظ الفصيح والسجع، وكأن المويلحي يحتال للمواقف، حتى يعرض مهارته البيانية على طريقة بديع الزمان والحريري في مقاماتهما، وله في ذلك طرائف كأن يصف روضًا من الرياض أو يصف الأهرام أو يصف الصباح، وفيه يقول: "جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها، وبان أثر الوضح في جلدها، فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم، من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يديها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها. وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردِّد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل، نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدَّل النحيبُ بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار". والمويلحي في مثل هذا الوصف إنما يحاول صنع قطعة أدبية على الطريقة القديمة، التي كان يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصفون، وكأنه يصف كل صباح لا صباحًا بعينه شاهده وأثَّر في نفسه تأثيرًا خاصًّا، فأفرده بالوصف والتصوير. غير أن هذه القطع تمتد في حوار طويل بين المنيكلي وعيسى بن هشام أو بين أحدهما وبعض شخصيات القصة أو بين الشخصيات نفسها. ومن الحق أنه وسَّع جنبات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع؛ تأثر فيه بطريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور والشخصيات تصوَّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة. ومن حين إلى حين نشاهد ضروبًا من الصراع كما نشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها يستمد من الواقع المحلِّي ونُظُم بيئته المصرية، إلا أن ذلك كله وُضع في إطار المقامة الضيق بسجعه. ومع ذلك استطاع المويلحي أن يكتب في هذا الإطار نحو ثلاثمائة وسبعين صحيفة. وفي الطبعة الرابعة للكتاب أضاف إلى رحلة المنيكلي وعيسى بن هشام في عالم الأحياء المصري رحلة ثانية إلى باريس؛ ليشاهد المنيكلي معالم المدنية في الغرب وليرى بعض معارضها. ويعودان إلى مصر وقد اقتنع المنيكلي بأن المدنية الغربية ليست شرًّا خالصًا، وأنه لا بأس من أن نستمد منها؛ ولكن على أن يوافق ما نستمده تقاليدنا وطباعنا وأمزجتنا وروحنا الشرقية، وبعبارة أدق: على أن نمصِّره على نحو ما مصَّر المويلحي القصة الاجتماعية في حديث عيسى بن هشام.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:08 am | |
| 4- مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م: أ- حياته وآثاره: وُلد مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880 لأسرة لبنانية الأصل من "طرابلس الشام"، هاجر كثير من أفرادها في القرن الماضي إلى مصر، واشتغلوا فيها بالقضاء الشرعي. وكان والد مصطفى رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من أقاليمنا المصرية، ويسمى عبد الرزاق. وقد عُين أحد أفراد هذه الأسرة -وهو الشيخ عبد القادر الرافعي- مفتيًا بعد وفاة الشيخ محمد عبده، إلا أن القدر لم يمهله طويلًا. فالجو الذي تنفس فيه مصطفى كان جوًّا إسلاميًّا عربيًّا. وقد عُني به أبوه، فحفَّظه القرآن ولقنه تعاليم الدين الحنيف، ثم ألحقه في سن الثانية عشرة بمدرسة دمنهور الابتدائية؛ حيث كان يتولى عمله القضائي. ونُقل إلى المنصورة فأتم مصطفى دراسته الابتدائية هناك، وهو في السابعة عشرة من عمره. وبمجرد فراغه من هذه الدراسة أصابته حمى عنيفة -لعلها حمى التيفويد- وشفي منها، إلا أنها خلفت وراءها حُبْسة في صوته، ووقرًا في أذنيه، ولم يفد العلاج معه شيئًا؛ بل لقد أخذ سمعه يضعف، حتى انتهى إلى الصمم الخالص في سن الثلاثين. وكان هذه الصدمة سببًا في أنه لم يتم تعلمه، غير أنه عكف على الكتب ينهل منها ويفيد معتمدًا على ذكائه، وعُين في إبريل سنة 1899 كاتبًا بمحكمة طلخا الشرعية، ونُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود ثم محكمة طنطا الشرعية، فالأهلية، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. ويقال: إن أواصر الصداقة انعقدت بينه وبين الكاظمي، وهو لا يزال بطلخا، ولعله هو الذي شجعه على نظم الشعر في باكورة حياته، كما يقال: إنه عرف الحب في إيتاي البارود. ونحن نلتقي به في مطالع القرن العشرين شاعرًا ناضجًا من ذوق مدرسة البارودي، وقد قرَّظه وأشاد بفضله حين نشر الجزء الأول من ديوانه سنة 1902 كما نوَّه به المنفلوطي، وفي العام التالي نشر الجزء الثاني من هذا الديوان، فقرظه البارودي ثانية، وحيَّاه الشيخ محمد عبده راجيًا أن يسدي في خدمة الإسلام ما أسداه حسان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام. ونشر الجزء الثالث من ديوانه سنة 1912، وناب حافظ إبراهيم عن البارودي في تقريظه. وبجانب هذا الديوان نشر ديوانًا ثانيًا بعنوان النظرات سنة 1908، كما نشر قصائد متفرقة في مجلتي فتاة الشرق وأبولو. ويبدو في أشعاره جميعها تمسكه -على شاكلة مدرسة البارودي- بالصياغة القديمة. وقد فسح للغزل في دواوينه كما فسح للتهاني والمراثي والمشاعر الوطنية والإسلامية وأحاسيس المرارة من حالة مصر الاجتماعية حينئذ. ونراه دائمًا يحاول أن يبعث شعور الثقة إلى بني وطنه، كما نراه مهتمًّا بقضية المرأة العربية محذرًا لها من المغالاة في تقليد الأوربيات اللائي لا يعصمهن دين ولا عقيدة. وقد عُني إلى ذلك بوصف الطبيعة ووصف بعض المخترعات الحديثة كالخيالة وآلة التصوير. ولا نكاد نتقدم في العقد الثاني من هذا القرن حتى نراه يتجه باطراد إلى النثر، وتصادف أن رصدت الجامعة المصرية جائزة لكتاب في "أدبيات اللغة العربية"، فعكف على الأدب العربي يدرسه، ولم يلبث أن نشر الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب" سنة 1911، وهو يدل على إيمانه الشديد بهذه الآداب، وأنها تعلقت قلبه حتى الشغاف. ودار العام، فأصدر الجزء الثاني من هذا التاريخ، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وقد طبعه فيما بعد مستقلًّا باسم إعجاز القرآن، وكتب سعد زغلول تقريظًا له شبَّه فيه أسلوب المؤلف بالتنزيل الحكيم، وهو تشبيه يصور حقيقة كبيرة، فإن الرافعي يتأثر في نثره العبارة القرآنية في بلاغتها وسموها. ويتراءى الرافعي منذ هذا التاريخ مالكًا لأزمة اللغة والبيان، وكان أول ما جاشت به نفسه من النثر الفني كتابه "حديث القمر" الذي نشره في سنة 1912 بعد رحلة طاف بها لبنان، وعرف شاعرة كان بينه وبينها حديث عاطفي طويل في الحب، ومن ثم كان الكتاب فصولًا في الحب والجمال والزواج والطبيعة، تتخللها أشعار متفرقة. وهو فيه يتفنن في معانيه وأساليبه تفننًا رائعًا. ونتقدم معه إلى سنة 1917 فنراه يخرج كتابه "المساكين" معارضًا به كتاب "البؤساء" لفيكتور هيجو، وهو فصول شتى تصف بؤس البائسين وآلامهم، وتعرض آراء مختلفة في الفقر والحظ والحب والجمال والخير والشر. ونراه بعد ثورتنا في سنة 1919 يُعْنَى بأناشيدنا الوطنية، ونشيده "اسلمي يا مصر" يدور على كل لسان. ويهتم بقضية المرأة، فيؤلف من أجلها كتابه "رسائل الأحزان" الذي نشره في سنة 1924، ويزعم في مطلعه أنه رسائل صديق بعث بها إليه، وهو يقص فيه حكاية حب مصورًا خواطره في العشق والزواج بقلمه البليغ. وقد مضى ينشر في نفس السنة كتابه "السحاب الأحمر" يتحدث فيه عن فلسفة الغضب وحمق الحب وخبث المرأة. وانطوت ست سنوات فعاد إلى هذا الموضوع ونشر "أوراق الورد" مصورًا آراءه في الحب والجمال. والرافعي في هذه الكتب جميعها يفتنُّ في العبارة وفي توليد المعاني. ونراه منذ احتدمت المعركة بين القديم والجديد في سنة 1923 يحمل لواء المحافظين مدافعًا بقوة عن مُثله العربية الإسلامية، وقد عرضنا لهذه المعركة وموقفه منها في غير هذا الموضع، إلا أنه ينبغي أن نعود فنشير إلى كتابه "تحت راية القرآن أو المعركة بين القديم والجديد" الذي نشره في سنة 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وفيه صوَّب سهامه إلى كل ما في هذا الكتاب من آراء وأفكار. وتحول إلى المجددين في الشعر ممثَّلين في عباس العقاد يرميهم بأقذع صور الهجاء في كتابه "على السَّفُّود". وظل بقية حياته ثابتًا للمجددين من الشعراء والكتاب جميعًا، ينقدهم نقدًا مرًّا، كما ظل مؤمنًا بالميراث العربي في لغته وآدابه، وأن نهضة العرب لا تقوم إلا على أساس وطيد من الدين وعربيته الفصحى السليمة، وكان يكتب في ذلك المقالات المختلفة في المجلات. ودعاه أحمد حسن الزيات للإسهام في تحرير مجلة الرسالة، فلبَّى الدعوة، وأخذت مقالاته في الإسلام والعروبة تتوالى، حتى وافاه القدر، وقد جُمعت هذه المقالات وطُبعت في لجنة التأليف والترجمة والنشر باسم "وحي القلم" وهي في ثلاثة أجزاء.
ب- "مقالات وحي القلم": رأينا الرافعي ينشأ نشأة إسلامية عربية، وهي نشأة تغلغلت أصداؤها في فؤاده ونمت مع الزمن، فإذا هي تتحول إلى نثر فني بليغ يفيض بالإخلاص والطهر والإحساس بآلام الجماعة وكوارثها والشعور الدقيق بمآثر العرب ودَوْرهم في التاريخ وبمعاني الإسلام ومُثله الرفيعة. وهو إلى ذلك يصف الحب ومعانيه والجمال وألوانه والطبيعة ومفاتنها وما أودع الله فيها من المعاني التي تبهج الإنسان. وفي كل ذلك يغمس قلمه متأنيًا مترويًا، فالكتابة البيانية ليست شيئًا يسيرًا؛ بل هي شيء عسير، لا بد فيه من تأمل طويل، تأمل في الفكرة واستنباط فيها وتوليد، حتى تستحيل إلى موضوع متشعب كبير، وقد صوَّر ذلك في تقديمه للجزء الأول من وحي القلم، فقال: "لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يقيمها الكاتب على حدود، ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، منيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن، تاركًا بوزن؛ لتأخذ النفس كما يشاء وتترك. ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه كل شيء في خاص معناه، وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة، تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به. فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تصور به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب، والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب، وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يُخْلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق، تنفذ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني. وإذا اختير الكاتب لرسالة ما شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر، ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه، ويُلْقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ. هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تامًّا، وتحوِّل الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة... ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى كالإيمان والجمال والحب والخير والحق سبتقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة". وهو يشير في أول كلامه إلى معاني المقالة البيانية وما تستلزم من الدقة حتى تؤثر في العاطفة والخيال، ويقول: إنه لا بد لصاحبها من أن تكون له بصيرة نافذة يزيح بها الأستار عن حقائق الدنيا الخارجية، وبذلك ينكشف له عالمها الداخلي وما يموج به من أسرار ويلمع فيه من أفكار، فيعيش فيه هذه المعيشة التي تجعله يحمله إلينا بكل ما فيه من جمال وروعة. والرافعي حقًّا من كتابنا القلائل الذين عاشوا معيشة داخلية في حقائق دنيانا، متجاوزًا ظاهرها الحسي إلى قواها الروحية الباطنة، وقد أعانه على ذلك صممه المبكر الذي جعله يحيا بين الناس وكأنه غريب عنهم، ويتحدث إليهم وهو لا يسمعهم. فكان طبيعيًّا أن يفضي إلى ذات نفسه، وأن يعيش هذه المعيشة الداخلية التي عكف فيها على عقله، وانطلق به متجولًا في باطن الحقائق الظاهرة، مسلطًا عليها من إشعاعاته العقلية ما جعل معانيها الخفية تتألق أمام عينيه. واقرأ له في وحي القلم أي مقالة، فستراه يحوِّل أي موضوع اجتماعي أو سياسي أو تاريخي وأي مشهد في الطبيعة أو في حياة الناس وأي خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعًا لا تزال تتفجر منه المعاني الخفية التي تروع بدلالاتها، وبما أخرجها فيها من صيغة عربية بديعة. فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حقائق الأشياء. ولمن يكن يتقن لغة أجنبية إلا أطرافًا من الفرنسية ليس فيها غناء؛ ولكنه وجد في موارده الداخلية ما يعوِّض هذا النقص؛ بل ما جعله يتقدم بطرائف فكره كثيرين ممن تعمقوا الآداب الغربية وأفادوا من كنوزها المعنوية. وحقًّا قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافًا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانًا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي؛ إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة. وهو في مقالاته بوحي القلم يستلهم دائمًا مثله الإسلامية مستضيئًا بها في كل ما يكتب، كما يستلهم مثله العربية الرفيعة؛ بحيث يمكن أن نلقبه "كاتب الإسلام والعروبة". واقرأ له مقالاته: "الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" و"الإنسانية العليا" و"الله أكبر" و"وحي الهجرة" وغير ذلك من مقالات إسلامية فستراها حافلة بمعانٍ تملأ النفس إعجابًا. وحين تراءت محنة فلسطين في الأفق وقف يستصرخ المسلمين للذود عن هذا الوطن المقدس وأهله من العرب أمام اليهود الجشعين، داعيًا إلى جهادهم وجهاد المستعمرين من ورائهم بأسلوب ناري متأجج، وقد جعل عنوان هذا الاستصراخ "أيها المسلمون" وفيه يقول: "ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر. ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم. ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود. في أنفسهم الحقد وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيمًا لأنه في أيديهم ... يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم! وقد صنعوا للإنجليز أسطولًا عظيمًا لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا. ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمنكسة أيها اليهود، أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد. قوة تخرج سلاحها بنفسها؛ لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليؤكل، ولم يخلق ليذل. قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر، كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع. قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم. ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوفاتها لمعنى آخر. لو سئلت: ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟ فإن قيل: ثلثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة. أيها المسلمون! كونوا هناك، كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني". ويصرخ بنفس الصوت في شباب العرب ناعيًا عليهم قعودهم عن كفاح المستعمرين وجهادهم وانحصارهم في طعامهم وشرابهم ولذاتهم، يستثير بذلك عزائمهم، حتى يضربوا عدوهم الضربة القاضية، وفي تضاعيف ذلك يقول: "ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قُتل فيها الواجب، والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما تكون فيكم، أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق. يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملًا من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي، وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه، واخترعهم الإيمان اختراعًا نفسيًّا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل. هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه. يا شباب العرب! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: "اطلب الموت تُوهَبْ لك الحياة". والنفس إذا لم تخشَ الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل. وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرًا؛ إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة. غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسد لا يسمَّن كما تسمن الشاة للذبح. وإذا انكسرت يومًا فالحجر الصلد إذا تَرَضْرَضَتْ منه قطعة كانت دليلًا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد. يا شباب العرب! إن كلمة "حقي" لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها. فالقوة القوة يا شباب! القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة "نعم" معنى نعم، القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة "لا" معنى لا. يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا". ودائمًا ينفخ في روح الشباب المصري، موقظًا فيه حميته لوطنه، حتى ينقض كالأسد الكاسر على الإنجليز ويذيقهم وبال استعمارهم، إن كل مصري ينبغي أن يتحول شعلة آدمية تأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. إنه لم يبقَ لهم إلا لحظات وأنفاسها، فقد اتقدت الشعل، وسيرون عما قريب مسها وتحريقها، ويومها يولون على أعقابهم نادبين مولولين. واقرأ له في ذلك مقالاته: "أجنحة المدافع المصرية" و"الطماطم السياسي" و"المعنى السياسي في العيد" يقول: "ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير... ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا رجال في أيديهم سيوف من خشب". وتشغله في كثير من مقالاته قضية المرأة، ونراه يقدم لها النضج دائمًا بروح المسلم المحافظ على تقاليده الدينية. واسترعته حياتها الجديدة على شوطئ الإسكندرية صيفًا، فوصف هذه الحياة في مقالين بعنوان "لحوم البحر" و"احذري" أدارهما على أنشودتين لشيطان وملاك، لاعنا للرذيلة وداعيا إلى الفضيلة، ومحذرًا المرأة من أن تُخدع عن نفسها وتتعرى من ثيابها أمام الصقور الجائعة، فتجلب على نفسها العار الذي يزلزل كيان أسرتها زلزالًا عنيفًا. ويفسح في مقالاته لآلام البؤساء والمشرَّدين وأسقامهم، ويئن بصوت الإنسانية الرحيم، حتى لكأنه المشرد أو البائس الذي يصفه، وتتدفق عليه أنات البشرية وعبراتها من كل صوب. ومن خير ما يصور ذلك عنده مقالته "أحلام في الشارع" وفيها يصور بؤس طفل مشرد وأخته رآهما نائمين على عتبة "بنك" يفترشان الرخام البارد ويلتحفان السماء، فأَنَّ وأعول في أنينه. وبهذا الشعور الرقيق نراه يصف جمال الطبيعة في غير مقال، فيكسبها من روحه جمالًا فوق جمالها، ويزيدها بصناعته حسنًا فوق حسنها، يقول في مقالة بعنوان الربيع: "في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس، ويصنع الماء صنيعه في الطبيعة، فتخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنيعه، فيخرج تهاويل الأحلام. ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة، يتنفس بعضها على بعض. ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلها ينبض فيها عرق النور. ويرجع كل حي يغنِّي؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته". ونراه في بعض مقالاته يصور مُثله الخاصة في الشعر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا شخصية الرافعي في مقالاته وأدبه بكل خصائصها الروحية والعقلية واللغوية، فقد كان يؤمن بِمُثُل الإسلام والعروبة والوطنية، وكان يحس كل ما حوله من طبيعة وغير طبيعة. وقد استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وأن يصرف ألفاظها في يده كما يشاء. وأعانته على ذلك كله عزلة ضربها الصَّمَم من حوله، فإذا هو يخلص لعالمه الباطني، يغوص فيه على المعاني الدقيقة فيبرزها. وكان لا يزال يتعمقها حتى يحدث فيها ضربًا من الفلسفة المنطقية، وكان ذلك من أهم الأسباب في غموضه والتوائه أحيانًا. والذي لا شك فيه أنه كان يكتب في حذر شديد، فهو لا يكتب كل ما يفد على ذهنه؛ بل ما زال ينتخب ويختار، ينتخب المعاني ويختار الألفاظ محتاطًا في ذلك أشد الاحتياط. وكأنه لم يكن يريد أن يكون أديبًا فحسب؛ بل كان يريد أن يكون أديبًا ممتازًا بفكره العميق وعبارته الدقيقة، ومن ثم آثر في أدبه ومقالاته الجهد العنيف والعناء الشاق، حتى يصبح حقًّا من راضة المعاني وصاغة الكلام.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:09 am | |
| 5- أحمد لطفي السيد 1872-1964م: ب- حياته وآثاره: في قرية "بَرْقين" من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة المنصورة وُلد أحمد لطفي السيد سنة 1872 لأب مصري ريفي ثري هو "السيد باشا أبو علي"، وكان وقورًا مهيب الشخصية حليمًا عطوفًا، وأنشأ ابنه على غراره. ولما بلغ الرابعة من عمره أدخله على عادة أبناء الريف كُتَّاب القرية، وكانت مقرئته "الشيخة فاطمة" فعُنيت به، وحفَّظته القرآن الكريم، وهو لا يزال في العاشرة. ولما أتم حفظ القرآن ألحقه أبوه بمدرسة المنصورة الابتدائية، فأمضى بها ثلاث سنوات ظفر في نهايتها بالشهادة الابتدائية سنة 1885. وتحول بعد ذلك إلى المدرسة الخديوية بالقاهرة. فاجتاز بها مرحلة التعليم الثانوي التي انتهى منها سنة 1889، ودل في هذه المرحلة على نبوغ في الدرس، وخاصة درس اللغة العربية. وأقبل على قراءة الكتب المترجمة، وكان مما أعجب به كتاب "أصل الإنسان" لداروين؛ إذ ترجمه شبلي شميل في هذا التاريخ. وعقب إنهائه لمرحلة التعليم الثانوي التحق بمدرسة الحقوق، وكان من مدرسيها حفني ناصف، وحسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وكان يعجب بتلميذه الحقوقي، فكان يدعوه إلى منزله، وما لبث أن اصطفاه ليقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه بالأزهر في الصباح الباكر. وفتح له ذلك بابًا كان مغلقًا أمام أقرانه، وهو باب التزود بالدراسات الدينية. وتصادف أن اشترك محمد عبده في لجنة امتحان العلوم العربية بالحقوق، فلفتته كتابة التلميذ الناضج وهنأه بما كتب. وكان لذلك أثره في نفس التلميذ، فإنه عُني مع طائفة من رفقائه بإخراج مجلة "التشريع"، وأحس أن فيه مواهب صحفية، فكتب في صحيفة المؤيد، واشتغل فترة في القسم الخاص بنقل رسائل البرق الأجنبية. وسافر وهو لا يزال بالحقوق إلى إستانبول فوجد هناك علي يوسف صاحب صحيفة المؤيد وسعد زغلول، فعرَّفاه بجمال الدين الأفغاني، وكان ينزل حينئذ هناك، فلازمه فترة ونفخ فيه من روحه ودعوته إلى الحرية ونهوض الأمم الإسلامية ضد الاستعمار والمستعمرين. وأتم دراسته في "الحقوق" سنة 1894 وعُيِّن في سلك النيابة، غير أن تعيينه لم يصرفه عن التفكير في شئون بلده السياسية، فألف مع جماعة من زملائه القانونيين جمعية سرية غرضها تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي. وعرفه مصطفى كامل، فعرض عليه في سنة 1897 أن يؤلف معه ومع محمد فريد وطائفة من أصدقائهما الحزب الوطني، فلبى دعوته، واتفق معه مصطفى أن يعتزل الحكومة ويذهب إلى سويسرا، فيمكث بها سنة لينال حق الجنسية السويسرية، ثم يعود إلى مصر فيحرر صحيفة تقاوم الاحتلال البريطاني، فلا تستطيع بريطانيا أن تحول بينه وبين ما يريد بحكم جنسيته الأجنبية. وصدع لمشيئته، فسافر إلى سويسرا، وتصادف أن سافر إليها أيضًا قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول، وأخذ يختلف مع ثانيهما إلى ما يلقي من محاضرات في جامعة جنيف، وكان قاسم أمين يؤلف حينئذ كتابه "تحرير المرأة"، فكان يقرأ منه فصولًا عليهم. ورجع لطفي إلى مصر فوجد الخديو عباسًا غاضبًا لاتصاله بمحمد عبده، وكان الخديو ناقمًا عليه. ولم ينشئ الجريدة التي أشار بها مصطفى كامل؛ لأنه وقر في نفسه أن سياسته التي كان يمليها عليه الخديو ليست هي السياسة التي تنقذ مصر؛ إذ كان مصطفى ينادي بالجامعة الإسلامية في ظل تركيا، ولم يكن غرض مصطفى أن تعود مصر حقًّا إلى تركيا؛ ولكنه كان يظن أن هذه الدعوة تساعد مصر في التخلص من نير الاحتلال. ونرى لطفي ينتظم في سلك النيابة ثانية، حتى إذا كانت سنة 1905 تركها مستقيلًا منها لخلاف بينه وبين النائب العمومي واشتغل بالمحاماة. ولم يلبث أن أخرج صحيفة "الجريدة" سنة 1907، وألف مع طائفة من نابهي المصريين حزب الأمة، واختير سكرتيرًا له، واختير محمود سليمان رئيسًا وحسن عبد الرزاق وكيلًا. وكان برنامج هذا الحزب المطالبة بالاستقلال التام وبالدستور وتوسيع اختصاص مجلس شورى القوانين ومجالس المديريات. وانضم إلى هذا الحزب كثيرون من أعيان البلاد المصرية المختلفة، وأهم من ذلك أنه انضم إليه أكثر المفكرين المصريين الذين كانوا يلتفون حول الشيخ محمد عبده والذين يرجع إليهم أكثر الفضل في وضع أسس نهضتنا المباركة من أمثال: قاسم أمين وفتحي زغلول وعبد العزيز فهمي وعبد الخالق ثروت. وكان هؤلاء المفكرون يؤلفون في أول هذا القرن طبقة ممتازة تشعر بآلام الشعب وآماله، وتصور لنفسها -بفضل ثقافتها الواسعة بآداب الغرب- مُثله العليا غير المحدودة في الحرية والاستقلال والحكم العادل الرشيد، وهي نفسها الطبقة التي عملت على إقامة الجامعة المصرية الأهلية وفتح أبوابها للطلاب منذ سنة 1908. غير أنه يلاحظ على هذه الطبقة أنها لم تكن ثائرة ثورة مصطفى كامل على الإنجليز، هي تدعو إلى التخلص من احتلالهم؛ ولكن في رفق ومع اصطناع الدهاء؛ بل مصانعتهم أحيانًا. وقد يكون من أسباب ذلك أن كثيرًا من أعضاء الحزب كانوا يحتلون المناصب العليا في مرافق البلاد المختلفة، فرأى الحزب أن يعرض للإنجليز في دقة واحتياط حتى لا يقصوهم عن مناصبهم، وكانوا يرون أن العلة الحقيقة في الاحتلال هي القصر وحاكمه التركي، فهاجموه مهاجمة عنيفة. وعلى العكس من ذلك كان مصطفى كامل وأعضاء الحزب الوطني ثائرين ثورة عنيفة على الإنجليز؛ ولذلك عدهم الشعب رُسُل الوطنية الحقيقيين؛ ولكن ينبغي ألا نتهم حزب الأمة ورجاله في وطنيتهم، فقد كانوا يرون التريث في هذه الحرب السافرة، حتى تتاح الفرصة الحقيقية لها عن طريق النهوض بالشعب في التعليم وغير التعليم، واستقر في نفوسهم أن أعداء مصر ليسوا هم الإنجليز وحدهم؛ بل أيضًا الخديو التركي وبطانته. وعن هذه المبادئ كان يصدر محرر الجريدة لطفي السيد فيما يكتب من مقالات سياسية واجتماعية، يصور فيها دعوات حزبه الإصلاحية. وظل على ذلك سبع سنوات، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت إنجلترا في ديارنا الأحكام العرفية، فحاول أول الأمر أن يكسب شيئًا لبلده من الإنجليز، حين ترفرف راية السلام، وقابل ممثِّل إنجلترا مع بعض رفاقه يدعوه أن يعرض الأمر على حكومته، فماطله. ويئس لطفي، فاستقال من تحرير الجريدة، وعاد إلى بلدته "برقين" وكأنه رأى أن الجهاد السياسي العلني أصبح مستحيلًا في هذه الظروف. وتطورت الأمور فأُعلنت الحماية على مصر، وعاد لطفي ولكن لا ليشترك في تحرير الجريدة، وإنما ليتقلد بعض الوظائف، وعُين مديرًا لدار الكتب المصرية، فاعتزل في هذه الركن الثقافي، وأخذ يترجم في "أرسططاليس" وبدأ بكتابه "الأخلاق". حتى إذا وضعت الحرب أوزارها استأنف نشاطه السياسي مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم، وظل معهم في جهادهم وبلائهم، حتى ظهرت بوادر الخلاف والانشقاق في الصفوف، فاعتزل السياسة ثانية وعاد إلى وظيفته في دار الكتب وإلى أرسططاليس يقرأ فيه ويترجم، حتى انتهى من كتاب الأخلاق وفصوله الخمسة. وفكرت الحكومة المصرية في تحويل الجامعة الأهلية -وكان وكيلًا لها- إلى جامعة حكومية، ونُفِّذَت الفكرة، فاختير مديرًا للجامعة الجديدة، وفتح أبوابها للفتاة المصرية، فحقق الأمل الذي كان يراود صديقه قاسم أمين في أول القرن، أمل النهوض الحقيقي بالمرأة المصرية. وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم، فنهض بشئونها المختلفة. واستقالت وزارة محمد محمود الذي كان يعمل معه، فلزم بيته وعاد إلى أرسططاليس، وسرعان ما استدعى إلى الجامعة، فلبى الدعوة. وتطورت الأمور فتولى إسماعيل صدقي الوزارة وألغى الدستور ووقف الحياة النيابية، وتدخل في شئون الجامعة، وأقال طه حسين عميد كلية الآداب حينئذ، فغضب لطفي بسبب هذا الاعتداء على استقلال الجامعة، وقدم استقالته، حتى إذا استقالت وزارة صدقي، عاد إلى الجامعة في إبريل سنة 1935. وأخرج في فترة حكم صدقي كتاب الكون والفساد لأرسططاليس سنة 1932، وتبعه بكتاب الطبيعة سنة 1935، وفي سنة 1940 نشر كتاب السياسة، وهو آخر الكتب التي ترجمها للمعلم الأول. وظل في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ رأى أن يستمتع بنصيب من الراحة، فعُين عضوًا بمجلس الشيوخ، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وما زال يشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1964. وقد منح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ اعترافًا بجهوده العقلية.
ب- مقالات الجريدة: رأينا لطفي ينشأ في وسط ثري من أوساط ريفنا المصري، وقد ورث عن أبيه اعتداده بنفسه وسمو أخلاقه، كما ورث عنه ذكاء فطريًّا سليمًا. وأخذ هذا الغرس الطيب ينمو في عصر الاحتلال، ويتلون بالمعارف المختلفة من عربية إسلامية وغربية فرنسية. وكان منذ شبابه يفكر في أحوال بلده، فصحب جمال الدين الأفغاني فترة في إستانبول كما صحب محمد عبده في جنيف وبعد جنيف، ولم تلبث مبادئهما أن تسربت إلى روحه؛ بل أخذت تتأجج بين ضلوعه نارُ الشوق إلى التخلص من الاحتلال، وأن تُرَدَّ إلى بلده كرامته القومية. ووضع يده في يد مصطفى كامل؛ ولكنه كان يختلف عنه؛ إذ كان من مدرسة أخرى، مدرسة الشيخ محمد عبده، التي لم تكن ترى الثورة حينئذ على الأوضاع عملًا ناجعًا لإنقاد الوطن، ولم يكن يعجبها صنيع مصطفى كامل في الاتجاه تارة إلى الدولة العثمانية، وتارة إلى فرنسا والأمم الغربية ظانًّا أن هذه الدول تنقذ مصر من براثن الاحتلال، وترد إليها حريتها. إن الكفاح لاستقلال أي شعب ينبغي أن يصدر عنه، وإن من الخطأ أن نطالب أممًا باستقلالنا، وهي إنما تحرص على مطامحها السياسية التي قد تتعارض مع رغباتنا وأمانينا الوطنية. وفعلًا اتفقت إنجلترا مع فرنسا على أن تطلق الأولى يدها في مصر، نظير إطلاق يد فرنسا في مراكش. فلا أمل في الخارج ولا في الدول الغربية المستعمرة، وكذلك لا أمل في الدولة العثمانية المريضة. ونحن في كفاحنا ينبغي أن نفكر أول ما نفكر في الإصلاح، فنعلِّم الشعب، ونلقِّنه حقوقه وواجباته السياسية، ونوجد فيه الرغبة الأكيدة لاستقلاله، وندعو دعوة حارة إلى أن تسود فيه مبادئ الحرية، حرية الفرد وحرية الأمة، ونحضه على أن يستمسك بشخصيته ومصريته؛ حتى يذود بروحه عن كيانه ووجوده، ولكن كيف يكون ذلك؟ إنه لا بد من تربية الشعب وتعريفه المثل العليا التي ينبغي أن يحوزها لنفسه في النظم السياسية والاجتماعية، وفي شئون حياته المختلفة. وآمن أعضاء حزب الأمة بأن هذه التربية هي الوسيلة الحقيقية للتخلص من الاحتلال، وهي وسيلة متأنية؛ إذ تحتاج وقتًا لبثها في أفراد الشعب، فهي ليست ثورة وطنية عنيفة كثورة مصطفى كامل؛ وإنما هي دعوة للتطور والرقي من الداخل؛ حتى تقف الأمة على أقدامها، وتصرخ في وجه الإنجليز الصرخة المدوية المنبعثة من أعماقها. وكان يؤمن بذلك رجالات حزب الأمة من هؤلاء المصلحين المختلفين الذين انبثوا في أعمال الدولة، والذين استطاعوا بفضل ثقافتهم أن يفهموا فَهْمًا صحيحًا الأصول السياسية والاجتماعية التي عُرفت في الغرب، وكانوا يرون من الواجب أن تدخل مصر؛ ولكن مع التطور والتدرج، والانتفاع منها بالصالح، مما يلائم طبائع المصريين. وتولى لطفى بحكم تحريره لصحيفة الحزب "الجريدة" هذه المهمة التربوية، وكانت مهمة صعبة؛ إذ عليه أن يربي شعبًا، ويغرس فيه أطماعه الوطنية وحقوقه وواجباته السياسة. ومن هنا أخذ لقب "المعلم"، والحق أنه علم الشعب كثيرًا مما أصبح بعد تصريح 28 من فبراير سنة 1922 قائمًا قيام الأهرامات الراسخة في حياتنا السياسية من مثل سلطة الأمة والحرية الدستورية وتعليم الفتاة وغير ذلك من معانٍ وطنية. فقد عكف على قراءة ما كتبه المصلحون الغربيون في شئون التربية القومية وفي الحقوق السياسية، ونقل ذلك إلى المصريين في مقالاته بالجريدة، فتارة يردد ذكر المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وتارة يردد آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين قرروا تلك المبادئ من مثل روسو وستيوارت مل وتولستوي ومونتسكيو وفولتير؛ وبذلك وُجدت عندنا المقالة السياسية بالمعنى الدقيق، فهي ليست كلامًا ارتجاليًّا يقال؛ وإنما هي دراسة وخبرة بالفكر الغربي ونقل ما يلائمنا منه. ونكتفي بذكر مقتطفات من بعض مقالاته، يقول في مقالة بعنوان "غرض الأمة هو الاستقلال": "استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية كالخبز في الحياة الفردية لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته؛ بل عارٌ يجب نفيه ... استقلال الأمة عمن عداها أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تَنِيَ في العمل للحصول عليه؛ بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها -لا بكله ولا بجزئه- لأن الحرية لا تقبل القسمة ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها كلها أو بعضها باطل بطلانًا أصليًّا لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال. فلا جرم مع هذا المبدأ المسلَّم به عند علماء السياسة، إن قلت: إنه يجب على الأمة أن توجه كل قواها بغير استثناء إلى الحصول على وجودها أي الحصول على الاستقلال... أما نية الاستقلال فهي فهمه والتشبث بمزاياه، وتمثل هذا الفهم في شعور الأمة تمثلًا صحيحًا شائعًا؛ أي: اعتقاد الأمة بضرورته وأنه هو العيش، وهو الكساء، وهو المبيت، وهو الوجود وبغيره لا وجود. ولا بد لذلك من أن يربَّى في الأمة معنى القومية المصرية. إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد الوطنية المصرية، والاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع وسط ما يسمى خطأ بالجامعة الإسلامية... يعجبني في هذا المعنى أن أورد عبارة أحد الكتاب الإنجليز، قال: مهما كان اللوم على الأمة المتغلبة على غيرها، فإنه لا يصح أن تنجو الأمة المغلوبة من اللوم؛ فإنه من السهل أن يدوس الإنسان بقدمه حشرة، لكن إذا كانت هذه الحشرة من العقارب يصعب دَوْسُها بالقدم. وعندنا أن الأمة كائن طبيعي يستحيل مهما كانت ضعيفة أن تكون مجردة من آلات الدفاع عن نفسها؛ لأن الله قد سلح جميع كائناته بسلاح الدفاع عن ذواتها، والأمة بصفتها إحدى هاته الكائنات الطبيعية لا يمكن أن تكون فاقدة السلاح، فلئن تركته أو أساءت استعماله فاللوم عليها بمقدار تقصيرها. ولقد كُتب على مصر أن ترتقي بالسلام وتستقل بالسلام، فما أسلحة السلام إلا ذكاء في العقل والقلب يهدينا إلى معرفة مصريتنا، وقَصْر عملنا على مصرنا وإنماء كفاءتنا قبل كل شيء". ويقول في مقال بعنوان "الحرية": "لو كنا نعيش بالخبز والماء لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية؛ ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة؛ بل هو غذاء طبيعي أيضًا كالخبز والماء؛ لكنه كان دائمًا أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبًا وأغلى ثمنًا. هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية. إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئًا كثيرًا؛ إنما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب ألا نموت. ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلى الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرمًا من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة، إن الحرية هي المقوِّم الأول للحياة، ولا حياة إلا بالحرية". وفي مقال بعنوان "مصريتنا": "إن الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارًا؛ فإن مصر بلد طيب، قد ولد التمدن مرتين، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي، متى كرم أهلوه، وكرمت عليهم نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفه، وسموا به إلى مجد آبائهم الأولين". وبمثل هذا الأسلوب الجزل الرصين كان لطفي يعلم أمته بمقالاته، وهي ليست مقالات فارغة؛ وإنما هي مقالات مليئة بالثقافة الواسعة وبالفكر العميق. ووسَّع دائرة هذه المقالات وجعلها تشمل كل ما يتصل بتربية الأمة من وجهات أخلاقية واجتماعية؛ إذ عُنِيَ بكل جوانب الحياة المصرية عناية فاحصة دقيقة، تقوم على الدرس وتبين الخصائص والصفات حتى نعرف ما ينقصنا بالقياس إلى مُثلنا العليا معرفة واضحة. ومن أهم ما يمتاز به في كتابته المنطق والوضوح وحشد الأدلة والأقيسة والانتقال من العام إلى الخاص والخاص إلى العام، يُلهمه في ذلك ذكاؤه واتساع قراءاته في الفكر الغربي. وهو يعبر عن ذلك كما في هذه الفقرات بسهولة، ويصل دائمًا قاصدًا إلى غايته مما يريد التعبير عنه، فأنت لا تجد عنده أي تعبير شائك أو معقد في أي جانب من جوانب مقالاته؛ إنما تجد التعبير السريع الواضح الذي يصور لك ما بنفس الكاتب من جميع أطرافه. وهذا التعبير المباشر الذي يقصد إلى غايته بدون أي تعقيد هو أهم خصائص لطفي، وهو تعبير يصور القمة التي استطاع مفكرونا أن يصلوا إليها منذ أوائل هذا القرن، مسلحين بالثقافة الغربية؛ بل إن لطفي يصل من ذلك إلى أبعد الغايات بفضل عقله الذي خُلق ليكون عقل معلِّم. وأكبر الظن أننا لا نبالغ إذا قلنا: إنه خُلق ليكون عقل "فيلسوف" يبحث في خصائص الأشياء وصفاتها، ويردها إلى عناصرها ومكوناتها. فأنت في قراءة مقالاته التي جُمعت طائفة منها ونشرت باسم "المنتخبات" و"تأملات" تحس بأنك تجد غذاء محققًا لعقلك ولقلبك ولشخصيتك المصرية التي عمل على إنمائها وإذكائها بكل ما استطاع، حتى لنجده يدعو إلى تقريب العربية من لغتنا العامية؛ حتى تكون لنا لغة مصرية مستقلة. ولم يدع إلى العامية -كما يُظَنُّ- وإنما دعا إلى التقريب بينها وبين العربية واستخدام ما فيها من كلمات أصلها فصيح، وهي تدور على كل لسان. ولم يجد حرجًا في أن تدخل منها بعض الألفاظ في أساليبنا الأدبية. وكان لذلك أثره عند المازني وهيكل وتوفيق الحكيم، فإنهم عمدوا إلى ذلك في بعض آثارهم. وأظن ليس من العجب أن نرى هذا المعلم الأول لناشئة الأدباء والمفكرين بيننا يسعى إلى ترجمة أرسططاليس، وكأنه أحس إحساسًا عميقًا بأنه لا بد أن تؤسَّس حياتنا العقلية على أصول غربية، ورأى هذه الأصول عند الغربيين تتجاوز عصرهم الحديث إلى الإغريق وإلى المعلم الأول عندهم أرسططاليس، الذي كان له أكبر الأثر في حضارة الغرب الحديثة، وكان له نفس الأثر عند العرب في العصر العباسي وما بعده من عصور، فتحوَّل إليه يريد أن يترجمه ترجمة دقيقة؛ حتى يضع بين يدي المثقفين هذا العقل الإغريقي الخصب، فيساعدهم على تكوين عقولهم وما تحتاجه من قدرة على التفلسف والتبويب والتنظيم. ولعلنا بذلك كله نستطيع أن نعرف فضل هذا الكاتب الكبير، فقد عمل جاهدًا على تربية الشعب المصري وتطوير حياته العقلية على ضوء الفكر الغربي قديمه وحديثه، وكانت جريدته المنارة التي ترسل هذه الأشعة الهادية إلى عقول الشباب وقلوبهم؛ بل كانت أشبه ما يكون بملعب "الليسيه" الذي كان يحاضر فيه أرسططاليس تلاميذه. وعلى نحو ما كان الفيلسوف الإغريقي يمرن تلاميذه على بحث الموضوعات المختلفة كان لطفي يمرن محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما على الكتابة في المسائل السياسية والأدبية، وقد بعث في قلوب الشباب الشعور بقيمة الغرب ووجوب الاقتباس من أضوائه. وهو بذلك يعد حقًّا خير من أعدونا من مفكري أول القرن لنمو حياتنا العقلية، هذا النمو الذي سنرى آثاره عند الأدباء التالين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:10 am | |
| 6- إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م: أ- حياته وآثاره: في بيت عتيق على حدود الصحراء في القاهرة وُلد إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1889 في بيئة دينية متواضعة؛ إذ كان أبوه محاميًا شرعيًّا ولم يكن على شيء من الثراء. ولم يتمتع إبراهيم طويلًا برعاية أبيه، فقد توفي وهو في سنيه الأولى، ولم تقعد بأمه فاقتها، فقد رعته وألحقته بالمدرسة الابتدائية، حتى إذا أتمها التحق بالمدرسة الثانوية، وعينها من ورائه. وطمح بعد إكمال دراسته الثانوية إلى الالتحاق بمدرسة الطب؛ لكنه لم يكد يدخل غرفة التشريح، حتى أصابه غثيان شديد، فانصرف عن الطب، وفكر في الالتحاق بمدرسة الحقوق، إلا أن ضيق ذات يده رده عنها إلى مدرسة المعلمين. وفي هذه المدرسة أخذت ملكته الأدبية في الظهور، فعكف على قراءة الأدب القديم يقرأ في كتابات الجاحظ وفي كتاب الأغاني وفي الكامل للمبرد والأمالي لأبي علي القالي وغير ذلك من عيون النثر العربي القديم، كما أخذ يقرأ في الشريف الرضي ومهيار وابن الرومي والمتنبي وأضرابهم من الشعراء البارعين. وكانت مدرسة المعلمين تهتم باللغة الإنجليزية وآدابها، فأقبل على هذه الآداب لا فيما يُصْرَفُ إليه من كتبها فحسب؛ بل أيضًا في عيونها عند شعرائها من مثل شللي وشكسبير وبيرون وكتابها مثل: ديكنز وثاكري ووالتر سكوت وشارلز لام. واتجه إلى مؤلفات النقاد الإنجليز الممتازين مثل: هازليت وأرنولد وسانتسبري. واستقامت له من كل هذه القراءات في الأدبين العربي والغربي صورة جديدة من التفكير في الحياة وفي الأدب شعره ونثره، نرى آثارها فيما كان يكتبه في صحيفة "الجريدة" وهو لا يزال طالبًا في مدرسة المعلمين. وانعقدت أسباب المودة بينه وبين أحد رفقائه، وهو عبد الرحمن شكري، وأخذ ينظم معه الشعر على أسلوب جديد في ضوء ما قرآ من شعر الإنجليز، وخاصة عند أصحاب النزعة الرومانسية أمثال شللي شعراء البحيرة. وتخرج في مدرسة المعلمين سنة 1909 فعُين أستاذًا للترجمة في المدرسة السعيدية، ثم في المدرسة الخديوية، وعُني بأن يترجم لتلاميذه قطعًا مختلفة من كليلة ودمنة إلى الإنجليزية، كما ترجم لهم من هذه اللغة كثيرًا من نماذجها الممتازة التي قرأها لكبار كتابها وشعرائها. وسرعان ما تعرَّف على العقاد وكوَّن معه ومع شكري الجيل الجديد الذي سبق أن تحدثنا عنه. وكان أهم ما اتجه إليه هذا الجيل في أوائل القرن صنع الشعر على شاكلة ما يصنع الغربيون شعرهم الغنائي، ونشر شكري أول محاولة للجماعة ممثلة في ديوانه "ضوء الفجر"، وأخذ المازني يشيد بالمحاولة، وجرَّه ذلك إلى نقد حافظ وشعره التقليدي نقدًا عنيفًا، وتصادف أن كان وزير التربية والتعليم حينئذ -أحمد حشمت "باشا"- صديقًا لحافظ، فكان يتهدد المازني بأن سيلقى جزاء نقده. ونقل المازني إلى مدرسة دار العلوم، فغضب، وقدم استقالته، وخرج إلى الحياة الحرة، فاشتغل مدرسًا مع العقاد بالمدرسة الإعدادية، وظل على ذلك أربع سنوات، أخرج فيها الجزء الأول من ديوانه سنة 1914 ثم الجزء الثاني سنة 1917. وشعره في هذين الجزأين على غرار شعر شكري ليس فيه سياسة ولا وطنية ولا دعوات اجتماعية؛ وإنما هو تجربة نفسية تامة، وهي تجربة تفيض بالألم والكآبة إزاء الطبيعة والتفكير في النفس والحياة الإنسانية ومتاعس البشرية، ويأخذ ذلك شكل انفجارات وجدانية. وربما كان مرجع ذلك عنده إلى أنه كان صاحب نفس حساسة وشعور مرهف إلى أبعد ما يكون الإرهاف الدقيق. ولم يكن شيء في حياته مفرحًا، فقد ذاق ألم اليتم صغيرًا، وكان قصيرًا تقتحمه العين، وأحس ذلك في نفسه، فضاق بحياته وتبرَّم بها غاية التبرم، وزاد تبرمه حدة أن أصيب ساقه في حادثة سببت فيه عرجًا، لازمه إلى مماته. ويقرأ المازني وتتسع قراءته، وينفتح أمامه العالم الغربي عن طريق إتقانه للإنجليزية، فلا يقف عند ما يقرؤه في الأدب الإنجليزي؛ بل يقرأ كل ما استطاع في الآداب الغربية المختلفة، يقرأ لتورجنيف ولهاتزيباشيف الروسيين، ويترجم للأخير قصة "سانين" باسم "ابن الطبيعة" كما يقرأ لمارك توين الأمريكي ولغير هؤلاء جميعًا ممن يُطْبَعُ أدبهم بطوابع السخرية. وتُحْدث هذه القراءات أثرها العميق في نفس المازني، فإذا هو ينقلب من شاعر وجداني تطفح نفسه بالمرارة والألم إلى كاتب من طراز ساخر يستخف بالحياة وبكل من فيها وما فيها من أشخاص وأشياء وأمانٍ وآلام. ويترك المدرسة الإعدادية، وينتظم في سلك الصحافة إلى نهاية حياته؛ ولكنه لا ينغمر في السياسة؛ إذ يظل مستقلًّا بآرائه وأفكاره شاعرًا بأنه من رجال الأدب لا من رجال السياسة؛ بل تظل له شخصيته الأدبية الساخرة، وكأنه وجد نفسه التي كان يبحث عنها من أوائل القرن كما وجد فلسفته، وهي فلسفة تقوم على لقاء الحياة بالابتسام والسخرية في كل الأحوال والظروف. فلم تعد عيناه تدوران في جوانبها الحالكة، ولم يعد يندبها ويبكيها، فهي لا تستحق عنده سوى الاستخفاف والاستهانة؛ بل لكأنما شعر أن عليه لقرائه واجبًا أن يعينهم بسخريته وفكاهته على تحمل أعباء دنياهم والنهوض بأثقالها. ونراه يبدأ هذه المرحلة الجديدة بمهاجمة المنفلوطي وأسلوبه الإنشائي الفارغ من الفكر العميق ومن الثقافة، وذلك في كتاب "الديوان" الذي أخرجه مع العقاد، كما يهاجم شكري في شعره الجديد، وربما كان ذلك دليلًا على أنه استوى شخصًا آخر غير الشاعر القديم الذي كان يدعو دعوة حارة لمحاولة التجديد في الشعر. إنه لم يعد يعجب بهذه المحاولة ولا بصاحبها شكري، وإنه يحاول الآن محاولة جديدة؛ ولكن ليست في الشعر؛ وإنما هي في النثر وفي توسيع جنباته؛ بحيث تسمح بإدخال الأفكار الغربية التي لم يكن يعرفها هذا النثر من قبل. واتخذ المقالة الصحفية طريقه إلى ذلك، وحَمَّلها كل ما أراد من فكر جديد، ومن سخرية مُرة تارة، ومن ظرف وخفة روح تارة أخرى. وهو في الحق أحد كتابنا الممتازين الذين استطاعوا أن يحدثوا لنا أدبًا مصريًّا جديدًا، وهو أدب مليء بالفكر والشعور والسخرية الحادة. وليس هذا كل ما يميزه، فإنه يتميز أيضًا بأسلوب خاص كان لا يتحرج فيه من استخدام بعض كلماتنا العامية، ما دامت توجد في العربية الفصيحة، وبذلك كان له أسلوبه الشخصي الذي ينفرد به بين معاصريه، لا بخصائصه اللفظية فحسب؛ بل أيضًا بخصائصه المعنوية وما فيه من سخرية وفكاهة مستملحة. ولعل من الطريف أنه كان من السابقين إلى الإيمان بفكرة جامعة الدول العربية، فقد كتب في سنة 1935 مقالًا تحت عنوان "القومية العربية"، دعا فيه إلى جمع كلمة العرب وأن تنتظمهم هيئة سياسية واحدة تؤلف بينهم ضد الاستعمار والمستعمرين، ومن قوله في هذا المقال: "لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقًا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة... وإن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلًا بلحمهم وعظمهم؛ ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلًا يصبحون شيئًا له بأس يُتَّقَى". وهو لا يبارَى في مقالاته التي يصف فيها مشاعره وخوالجه؛ إذ كان مرهف الإحساس، وكان إذا تعمق التأثر نفسه فاضت عليه خواطره، وكأنها تفيض من نبع لا ينضب. ومن خير ما دبجته يراعته من ذلك ما جاء بكتابه "في الطريق" من حديثه عن ابنته الصغيرة التي اختطفها القدر من بين يديه وهي في غرارة الطفولة، فقد صوَّر ذكرياته معها وما كانت تأتيه من لعب وعبث تصويرًا باكيًا رائعًا. وقد نشر أول مجموعة مختارة من مقالاته سنة 1924 بعنوان "حصاد الهشيم"، وفيها نراه يتحدث عن شكسبير ورواية تاجر البندقية التي نقلها إلى العربية خليل مطران، كما يتحدث عن ماكس نوردو وآرائه في مستقبل الأدب والفنون، ويناقش آراءه مناقشة تدل على اتساع ثقافته الغربية. ويدرس بجانب ذلك المتنبي وابن الرومي، ويترجم بعض رباعيات الخيام عن الإنجليزية، ويعرض لكثير من مشاكل الأدب والنقد. وفي سنة 1927 نشر مجموعة ثانية من مقالاته باسم "قبض الريح"، وفيها تعرض بالنقد الساخر لكثير من آراء طه حسين في الأدب الجاهلي وفي الأدب العربي بعامة. ونشر في سنة 1929 مجموعة ثالثة باسم "صندوق الدنيا"، وفيها اتجه إلى المقالات الساخرة التي تمسح عليها الدعابة والفكاهة، ومما جاء في تقديمه لهذه المجموعة: "كنت أجلس إلى الصندوق في أيام طفولتي وأنظر إلى ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصُوَرَ العيش فيها، عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الدنيا الكبار، فأحط "الدكَّة" وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا، ويعجبوا، ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة، يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر". وبهذا الأسلوب المستملح الساخر الخفيف كتب مقالات هذه المجموعة ومقالاته في المجموعة الرابعة "خيوط العنكبوت" التي نشرها في سنة 1935، وصور فيها بأسلوبه الفكه معايب حياتنا الاجتماعية. ويدخل في هذا الباب من كتابة المقالة كتابه: "رحلة الحجار". واتجه منذ سنة 1932 إلى كتابة القصة، وله فيها آثار مختلفة هي "إبراهيم الكاتب"، وأتبعها بمجموعات من القصص القصيرة، هي في "الطريق" سنة 1936 ثم "ميدو وشركاه" و"عود على بدء" و"ثلاثة رجال وامرأة" و"عَ الماشي" و"إبراهيم الثاني" و"من النافذة". والمسرحية الوحيدة التي نشرها "بيت الطاعة أو غريزة المرأة". والمازني في كل هذه القصص كاتب اجتماعي يستمد من بيئته وألوانها المحلية المصرية محللًا شخصيات قصصه وأبطالها تحليلًا نفسيًّا واسعًا، باسطًا في هذا التحليل وصف علاقات الرجل بالمرأة خلال أحداث وتجارب يومية. وهو يتأثر في ذلك بالقصص الأوربي الواقعي التحليلي مما قرأه في الآداب الغربية المختلفة، ومما ينهج فيه الكُتَّاب منهجًا نفسيًّا يحللون فيه الشعور وما وراء الشعور وما يصيب الإنسان أحيانًا من عقد نفسية تكمن في أطواء قلبه. ويصور ذلك بأسلوبه الساخر، الذي يستمد السخرية فيه من مفارقات الأمزجة واختلاف الطبائع، وما يقيمه في القصة من مآزق مختلفة. وللمازني بجانب ذلك جهد ممتاز في ترجمة بعض الذخائر الغربية، ومن أهم ما ترجمه قصة "ابن الطبيعة" التي سبقت الإشارة إليها، ومسرحية "الشاردة" لجازورثي و"مختارات من القصص الإنجليزي". وهو يعد في طليعة من حذقوا الترجمة والنقل من الآداب الأجنبية. وقد برهن في ترجماته كما برهن في كتاباته أن اللغة العربية مرنة، وأنها تتسع لكل المعاني الحديثة. ومما يذكر له بالثناء بحثه الأدبي في "بشار بن برد" زعيم المحدثين في العصر العباسي. وتقديرًا له ولمكانته الأدبية وما بذل من جهود قيمة في أدبنا المعاصر اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية. وما زال مكبًّا على التحرير في الصحف وإخراج القصص والأعمال الأدبية المختلفة حتى انطفأت شعلة حياته في سنة 1949. ونقف الآن وقفة قصيرة عند قصة "إبراهيم الكاتب".
2- إبراهيم الكاتب: تدور هذه القصة حول مشكلة عامة؛ هي إمكان أن يحب الرجل أكثر من امرأة، وهي مشكلة تتحول إلى أزمات متعاقبة في حياة إبراهيم الكاتب ومَن يبادلهن حبه، فقد كانت له زوجة لبَّت داعي ربها، وتركت له ولدًا. ويحدث أن يصيبه المرض، ويدخل مستشفى، فيشغف حبًّا بماري ممرضته. ويترك المستشفى إلى الريف، فيلتقي ببنت خالته "شوشو" الفتاة الجميلة التي كان يبادلها في القديم علاقات تطورت إلى حب، وهو يعود إليها الآن ويعود إليه حبه القديم، ويتمنى لو تزوجها وسكن إليها؛ ولكن عائقًا من التقاليد يقف في طريقهما، فإن لها أختًا تكبرها، فإذا كان يريد الزواج فعليه بالكبرى، وليترك الصغرى، فالدور ليس دورها، ولو "دفع لأهلها وزنها ذهبًا". ويحز الألم في نفس إبراهيم ضحية التقاليد الجامدة، ويسافر إلى الأقصر، فيلتقي بفتاة متحررة من الطراز الحديث تسمى "ليلى" على نصيب من الجمال، فيقع في حبها، وتبادله حبًّا بحب، ويمرض إبراهيم. ثم يعود إلى القاهرة، وقد عرفنا أن ليلى تزوجت، أما هو فيتزوج بسميرة التي اختارتها له أمه. وهذا الهيكل العام للقصة يساق في تحليل واسع للمواقف العاطفية وللأشخاص ونفسياتهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم الجنسية تحليلًا بسيكولوجيا صريحًا. وأشار إلى ذلك في تقديمه للقصة؛ إذ يقول: إنها "فوق استيفائها كل ما يجعل الأدب ساميًا تكاد أن تكون بحثًا بسيكولوجيا يعرض بالتحليل لمشكلة الحب الأبدية". وهو يبدؤها بوصف شوشو وصفًا يبرز ملامحها الجسمية والنفسية، يقول: "شوشو فتاة يقول لك جسمها: إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة، وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفه جملة، وتُشْغَل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت الشطر الأول من عمرها في عزلة، قلما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تحس محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية؛ هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما أو ينقل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلى نفسها وروحها وطبيعتها وجمالها مركزًا، وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع، تحدق فيه تحديقك في بئر، ولا ترنو إليه كما ترنو إلى رسم". وهي صورة حية تامة الملامح الجسدية والقسمات النفسية، ويسترسل في بيان ذلك، فيقول: "ومن الفتيات مَن لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها لأول وهلة؛ ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب؛ بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فُطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يُتَّقَى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومن خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانًا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هي أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة أو أوجع من أن ترفه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر! ". وواضح أن المازني يحاول منذ السطور الأولى من قصته أن يحلل الصفات النفسية للأشخاص وما يرتبط بها من تعبيرات الجسد، وهو يعمد إلى التفصيل في ذلك مستطردًا إلى تعليقات ومقابلات من شأنها أن تضعف الحركة في قصته. وفي القصة حوار مرن شفاف في مواضع مختلفة، وهو ينتهز الفرصة فيه كثيرًا ليضيف تحليلاته النفسية. وأنت لا تشتعر بملل في قراءته لسببين؛ هما: غِنَى خواطره وخوالجه، ومسحه على هذه الخواطر بظرفه وفكاهته. ويأخذ عنده الحوار هذا الشكل الخفيف الذي يصادفنا في أول القصة. "قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظًّا من الراحة: تعالَ بنا إلى بهو السلم؛ فإن الجو بديع في هذه الليلة. - ولكن السلم يؤدي إلى "الغيط" مباشرة بلا حاجز ... والكلاب. - آه. الكلاب، أتخافها؟ إنها لن تؤذيك.. تعالَ، تعالَ.. أيصح أن تكون أضعف مني قلبًا؟ فمضيا إلى البهو، وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي: مرجان، بخيت، مرزوق، فعجب الفتى، وقال: وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تُتعبي الخدم يا شوشو بلا داع. والتفت، فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم، وتقبل عليها، وتتوثب حولها، وتتمسَّح بثوبها، وتحرك أذنابها، وتعلق حذاءها. فأشارت إليها، فربض واحد إلى يمين الفتى وثانٍ أمامه وثالث إلى يساره. وعادت هي تحادث قريبها، حتى عرضت مناسبة، فنهضت، وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما هَمَّ أن يقوله، إذا صح أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته". ويتخلل الحوار عنده بعض الألفاظ العامية؛ ولكنه لا يأتي بها إلا نادرًا، وفي المواضع التي تكون فيها العربية نابية، أما في غير الحوار فإنه كان يلتزم الفصحى. وكان من رأيه أنها لا تنقصها عناصر التعبير، وشرح ذلك في مقدمة قصته، فقال: إن محاكاة الواقع بالمعنى الحرفي لا معنى لها في الأدب؛ لأنه ليس مجرد نقل عن الطبيعة ومحاكاة؛ بل هو تحوير وتعديل. ومن ثم آثر للحوار أن يكون بالعربية إلا في مواقف قليلة رأى فيها الألفاظ العامية أقوى في التصوير وأوضح في التعبير. ولاحظ النقاد على هذه القصة أن كاتبها تأثر بقصة "سانين" التي ترجمها قديمًا تأثرًا واضحًا؛ بل زعموا أنه نقل عنها كثيرًا. ولكن ذلك لا يقلل من أهمية هذه القصة البديعة التي تعرض لنا إبراهيم الكاتب شخصية حية تضطرب في محيط حياتنا المصرية بريفها ومدنها وروحها وتقاليدها. وظن غير ناقد أن المازني إنما صور شخصيته على لسان هذا البطل وأفكاره ومشاكله وأزمات نفسه وسخريته بالحياة وكل ما انطوى في قلبه من حزن ومرارة وكل ما ارتسم على شفته من ابتسام وفكاهة. والحق أن أكثر قصص المازني ومقالاته يشبه أن يكون اعترافات، فهو دائم التصوير لنفسه وخصاله وحياته اليومية، وهو لذلك تفيض كتاباته بالحيوية؛ لأنها كتابات عقل غزير وروح غنية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:13 am | |
| 7- محمد حسين هيكل 1888-1956م: أ- حياته وآثاره: في "كفر غنام" من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية وُلد محمد حسين هيكل سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية صميمة، لها بعض الوجاهة والثراء. ولما بلغ الخامسة من عمره ألحقه أبوه بكُتَّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ نحو ثلث القرآن الكريم، وتحول من هذا الكُتَّاب في السابعة من عمره إلى القاهرة، فالتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، ثم مدرسة الخديوية الثانوية، ولما أتم هذه المرحلة انتظم في مدرسة الحقوق وتخرج فيها سنة 1909. وظهر فيه ميله إلى الأدب منذ أن كان في الحقوق، فعكف على قراءة الآثار العربية القديمة. واتصل بلطفي السيد محرر الجريدة، وفتح له صدر هذه الصحيفة ليكتب الحقوقي الصغير، ورعاه خير رعاية، وكان لهذه الرعاية أثرها البعيد في نفسه، فقد التقى بمعلم الشباب الناهض مباشرة، أصبح من مريديه وممن يتلقون عنه دروسه في السياسة والاجتماع والأخلاق. وشعر شعورًا كاملًا بما كان يدعو إليه لطفي من الإيمان بالمصرية والعمل على إبرازها في حياتنا السياسية والأدبية واللغوية، كما شعر شعورًا عميقًا بما كان يدعو إليه من وَصْل حياتنا العقلية بالغرب والتزود من ينابيعه، وظهر أثر ذلك فيما كان يكتبه بالجريدة. فلما تخرج في الحقوق رأى أن يتم تعليمه في فرنسا، فسافر إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق فيها، وحصل منها على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912. وكتب وهو في باريس "قصة زينب" وهي أول محاولة قصصية بارعة في أدبنا، عمد فيها إلى وصف حياة الريف والفلاحين بصورة لم يسبقه فيها أحد من المصريين. وعاد إلى مصر، فاشتغل بالمحاماة في مدينة "المنصورة". ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة المصرية الأهلية، حتى إذا أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة السياسة سنة 1922 تولى تحريرها. وطبيعي أن ينضم إلى هذا الحزب وأن يتولى تحرير جريدته؛ لأنه امتداد لحزب الأمة الذي كان يحرر أستاذه لطفي السيد صحيفته "الجريدة". وانضم إليه في هذا التحرير زميل من تلاميذ لطفي السيد، عاد هو الآخر إلى مصر من باريس، هو طه حسين، فنهضا معًا بتحرير صحيفة الأحرار الدستوريين. وغلبت على هيكل في كتاباته النزعة السياسية، بينما غلبت على طه حسين النزعة الأدبية. وأخرج هيكل في سنة 1921 جزءًا عن جان جاك روسو وأتبعه بجزء ثانٍ في سنة 1923، فتم له بذلك كتاب طريف عن روسو وآرائه وتعاليمه. ولم يقصر هيكل نفسه على السياسة؛ بل أخذ يكتب مع طه حسين فصولًا في الأدب والنقد، وجمع طائفة من هذه الفصول ونشرها في كتاب "أوقات الفراغ" سنة 1952، والكتاب مقسم إلى ثلاث مجموعات؛ وتتناول المجموعة الأولى مباحث قيمة في النقد، وهو فيها يدل دلالة واضحة على تمثله للثقافة الغربية مع تعلقه بشعبه وثقافته وأمانيه في الحياة الفكرية الراقية. وترجم في هذه المجموعة ترجمة باهرة لأناتول فرانس وبيير لوتي، وتحدث حديثًا طويلًا عن قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة، وما كان يكنه لوطنه ودينه من حب وإجلال، ووصَف كيف رد في أثناء تعلمه بفرنسا على دوق داركور الذي عزا تأخر المسلمين إلى دينهم، فلما عاد إلى مصر تحول مصلحًا اجتماعيًّا، يريد أن ينفي عن أمته كل ما يعوق تأخرها، كما ينفي عن الدين كل ما يوصم به من جمود؛ ولذلك دعا دعوة حارة إلى النهوض بالمرأة المصرية المسلمة، حتى تكون على قدم المساواة للمرأة الغربية. وتناول هيكل في المجموعة الثانية بعض الشئون المصرية بمناسبة كشف مقبرة توت عنخ آمون، وهو يصور هنا إيمانًا شديدًا بقومه وتاريخهم القديم. وفي المجموعة الثالثة خواطر في التاريخ والأدب، دعا فيها إلى الأدب القومي الذي يمثل بيئتنا وعصرنا وحياتنا؛ حتى تتضح ذاتيتنا، وحتى ننفصل في أدبنا بطوابع تميزنا من قدمائنا وجيراننا، فلا نكون نسخة من غيرنا أو نسخة مطموسة في النسخ العربية المعاصرة؛ بل يكون لنا وجودنا وكياننا الأدبي المستقل. وأخرج بعد ذلك في سنة 1927 كتابه "عشرة أيام في السودان"، وهو إلى أن يكون مناسبات صحفية أقرب منه إلى أن يكون فصولًا أدبية. ومنذ سنة 1926 كان يصدر ملحقًا لصحيفة السياسة اليومية باسم "السياسة الأسبوعية"، وكاد هذا الملحق أن يكون قاصرًا على مباحث في الأدب والنقد. وكان يكتب معه فيه طه حسين ونخبة من الأدباء. وتحول هذا الملحق إلى ما يشبه مدرسة يتمرن فيها الأدباء الناشئون على الكتابة والتحرير. وفي سنة 1929 نشر طائفة من مقالاته باسم "تراجم مصرية وغربية"، وتبدأ تراجمه الأولى بكليوباترا، ثم يتبعها بتراجم لكبار المصريين السياسيين والمصلحين مثل: مصطفى كامل وعبد الخالق ثروت وبطرس غالي، أما التراجم الغربية فقصرها على بيتهوفن وتين وشكسبير وشللي. ويوضح هذا الكتاب امتلاء نفسه بحب وطنه ورجاله الأفذاذ وحب الغرب وأعلام الفن والشعر والنقد فيه. وفي سنة 1930 صادر إسماعيل صدقي رئيس الوزارة المصرية حينئذ صحيفة السياسة؛ ولكن هيكلًا لا يخلد إلى الراحة، فنراه يخرج مع المازني ومحمد عبد الله عنان كتاب "السياسة المصرية والانقلاب الدستوري" ولا تميز مقالات هذا الكتاب من كتبوها، إلا أنه يمكن معرفة الجزء الخاص به من أسلوبه القانوني ومسحته الغربية. وألف في هذه الفترة السياسية فترة حكم صدقي كتابه "ولدي"، وهو كتاب تذكاري لابنه المتوفَّى سنة 1925. وفي هذا الكتاب يصف رحلاته إلى أوربا مع زوجته في شهور الصيف من سنة 1926 إلى سنة 1928، ونراه يصف وصفًا بارعًا مصايف سويسرا، ويقارن مقارنة طريفة بين باريس الحديثة وباريس القديمة أيام دراسته بها، ويتحدث عن إستانبول وما بعث فيها حكم مصطفى كمال من حياة حرة قوية. وفي سنة 1933 نشر كتابه "ثورة الأدب"، وهو في هذا الكتاب يتحدث عن نهضتنا الأدبية منذ ثورة عرابي، ويبدأ حديثه بفصل عن "الطغاة وحرية القلم"، وكأنه يرد على الحرب العلنية التي شنَّها صدقي على كُتَّاب الصحف والسياسة. ثم يتحدث عن المراحل المختلفة لشعرنا ونثرنا ويعرض بالتفصيل لما أصاب النثر من تطور بينما جمد الشعر ولم يستطع اللحاق به، وأكَّد في غير موضع ضرورة تثقف الأديب المصري الناشئ بالآداب الغربية؛ حتى نستطيع أن نحصل على مراتب الكمال الفني. وعرض في إسهاب لنواحي النقص عندنا في الإنشاء الأدبي وخاصة في بابي القصة والمسرحية. ورفع صوته مجلجلًا بضرورة إقامة أدب مصري وطني، وقدَّم نماذج قصصية استلهم فيها أساطيرنا الفرعونية. ونراه بعد ذلك يعمد إلى مصادر الإسلام الأولى، فيُلقي عليها أضواء جديدة بمباحث تاريخية في الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر. ومن المحقق أنه يتفوق في الكتابة التاريخية لاتساع نظرته ودقة بحثه، وقد أخذ في أثناء ذلك يتولى شئون بعض الوزارات، وكان أول ذلك في سنة 1937 حين جعله محمد محمود في وزارته وزيرًا للدولة، ثم جعله وزيرًا للتربية والتعليم، وما زال يتولى هذه الوزارة من حين إلى حين حتى عُين في سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل في هذه الرياسة حتى سنة 1950. ونشر "مذكرات في السياسة المصرية" جعلها في جزأين، أماط فيها اللثام عن كثير من حقائقنا وشئوننا السياسية في هذا القرن. ورجع أخيرًا إلى كتابة القصة، فأخرج في سنة 1955 قصة "هكذا خُلقت"، وهي قصة طويلة تقص حياة امرأة مصرية عصرية أصيبت بشذوذ الغيرة، واضطربت بهذا الشذوذ في محيط الدعوة الجديدة إلى الحرية النسوية، وسلَّطته على حياتها الزوجية فحطمتها مرتين كما يحطم الطفل لعبته. ونراه يقول عنها بلسانها: "إنها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر يكاد يُخيَّل إليك معها أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها؛ ولكنك تقف بعد قليل دهشًا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومَن هي؟ إنها فريدة في طرازها؛ بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها؛ بل تريد أن تصوغ الحياة كما تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته؛ بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه". ويتابع هيكل بعد ذلك كتابة القصة القصيرة، وينشرها في الصحف الأسبوعية. وما يلبث أن يلبِّي داعي ربه في ديسمبر سنة 1956. ونحن نعرض بشيء من التفصيل لقصة "زينب" باعتبارها أولى محاولات أدبائنا في عالم القصة بمعناها الغربي.
ب- زينب: كتب هيكل هذه القصة وهو يدرس القانون بباريس، ونراه يقول في مقدمتها: إنها "ثمرة الحنين للوطن وما فيه، صوَّرها قلمُ مقيمٍ في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابًا بباريس وبالأدب الفرنسي". وتتخلص حوادث القصة في أن فتى متعلمًا يسمى حامدًا من أبناء أعيان الريف أحب ابنة عم له تسمى عزيزة، ومنعته تقاليد الريف من الاعتراف لها بحبه، وفوجئ بزواجها. وبحث عن سلوى لحبه فوجدها عند زينب الجميلة، إحدى الأجيرات اللائي يشتغلن في حقل أبيه، وشعرت بحبه لها؛ ولكنها رأت أن زواجها منه غير ممكن لما بين أسرتها وأسرته من فروق اجتماعية، فمنحت قلبها شابًّا من وسطها وعلى شاكلتها. وتلعب التقاليد الريفية العتيقة دورها، فلا تبوح الفتاة بحبها لأهلها، وترضخ لرغبتهم في قرانها من شاب لم تكن تحبه؛ بينما يرحل محبوبها إبراهيم إلى السودان عاملًا في الخدمة العسكرية. ويترك حامد القرية إلى القاهرة ليبدأ حياة جديدة، على حين تقع زينب فريسة لآلام نفسية كثيرة، تفضي بها إلى مرض ذات الرئة، ويقضي عليها هذا المرض. والقصة تعرض علينا في أثناء ذلك الريفَ المصري بعاداته وتقاليده وبساطة أهله ومحاسن حياتهم ومساوئها وما رَانَ عليها من اعتقادات في الجن والشياطين ومشايخ الطرق. ونقل ذلك هيكل نقلًا دقيقًا؛ بحيث تمثِّل قصته واقعَ حياة الريف المصري في أول القرن تمثيلًا صادقًا. ونراه يقف كثيرًا لينقد هذا الواقع وما فيه من نظم اجتماعية غير متسقة، وخاصة من حيث الزواج، وأن المرأة ليس لها رأي في اختيار زوجها وشريك حياتها. ونشعر هنا بترديد المؤلف لآراء قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة. ومن غير شك تأثر هيكل في وضع هذه القصة بما قرأه من القصص الفرنسي، ويتبين ذلك في تصويره زينب، فقد جعلها رقيقة أكثر مما ينبغي لفتاة ريفية ساذجة، واختار لها وسيلة تتخلص بها من آلام حبها هي مرض السل، طبقًا لنموذج بعض القصص الفرنسية التي قرأها، والتي تتخذ هذه الوسيلة لتخليص العاشقات المعذبات، وتحريرهن من عذابهن وآلامهن. ولم يفسح هيكل لنفسه في تصوير الشخصيات الجانبية وطبائعها، الجانبية وطبائعها، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه كان لا يزال في مقتبل عمره، ولم تتسع خبرته بالحياة وتجاربها العميقة. ولكن إن كان فاته ذلك فإنه عوَّضه بأوصافه الغنية للطبيعة الريفية في مصر، وفي الحق أنه نجح إلى أبعد حد في وصف حياة القرية المصرية، وكثير من صفحات قصته يتحول إلى ما يشبه لوحات بديعة، كهذه اللوحة التي عرض فيها صراع حامد النفسي إزاء بَوْحِه لابنة عمه بحبه، وهي تجري على هذا النسق: "انساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبًا، حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة "شجرة" كبيرة، وجلس كأن به مسًّا من الجن يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبًا لجنب، ولتحدثه وليمضها إليه، ولتكون ملكه؟ ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارًا، وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود، وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميَّز بعد، قد بهت عليها حجاب الليل الهزيم والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يخيم على الوجود فلا تسمع هسيسًا، إلا أن يقطعه من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السماوات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل، ثم احمرت السماء في المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيِّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على الْمَرْوَى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها. وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا، ويتطلع إلى ما حوله أخرى. ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فُرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشًا، ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار. وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، أو أن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه. يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟ واستولى ذلك على كل جوارحه، وملَك كل عواطفه؛ حتى لجعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به. تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به نظرة ساخرة؛ لأنها لا تفهم منه شيئًا، وتحسب أن حياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يكُ إلا طاحونًا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبًا ونصبًا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدَّم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط الناس علينا وانهيالهم بما لا يقل عن سياط السائق إيلامًا ووخزًا، أو كأن النفس الإنسانية من الخسة والميل إلى الشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إرادتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية". وبهذا الأسلوب الساخر من العادات والتقاليد الاجتماعية وبما يُطْوَى فيه من وصف حسي بارع للريف والقرية المصرية كتب هيكل قصته في لغة عذبة ليس فيها سجع ولا بديع؛ بل حاول أن يجعلها لغة مصرية، فاستعار في بعض المواضع -وخاصة في الحوار- كلمات من العامية الريفية، وكأنه يستجيب لدعوة أستاذه لطفي السيد؛ إذ دعا إلى أن تكون لنا في الأدب لغة تميزنا بحيث تقترب الفصحى من العامية. غير أن هيكلًا لا يتوسع في ذلك؛ بل عاد في مقالاته وفيما ألفه بعد زينب إلى الأسلوب الفصيح. وفي الحق أنه أحد من طوعوا العربية ومرَّنوها لتؤدي المعاني والأفكار الحديثة في أسلوب شفاف بديع. وقد عاون جاهدًا منذ أوائل القرن في أن يكون لنا أدب مصري قومي منبعث من بيئتنا وشخصيتنا وحاضرنا وماضينا وعواطفنا ومشاعرنا، وكانت قصة زينب اللبنة الأولى في هذا الأدب المصري الجديد.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:16 am | |
| 8- طه حسين 1889-1973م: أ- حياته وآثاره: وُلد طه حسين سنة 1889 لأب مصري من قرية في صعيد مصر على مقربة من مدينة مغاغة الواقعة على الجانب الأيسر للنيل. وكان أبوه موظفًا صغيرًا في شركة زراعية من شركات السكر، وأنجب أبناء كثيرين، كان طه سابعهم، وفقد بصره في الثالثة من عمره؛ ولكنه عُوِّض عن بصره ذكاء حادًّا وذاكرة قوية. وحدَّد فقده لبصره الطريق الذي يختاره في حياته، وهو طريق التعليم الديني، فالتحق بكُتَّاب، حفظ فيه القرآن الكريم، ولما أتم حفظه أخذ في حفظ "مجموع المتون" وقراءة بعض الكتب والأشعار القديمة استعدادًا لدخول الأزهر، وكان قد سبقه إليه أخ أكبر منه، فصحبه معه وهو في الثالثة عشرة. وعكف طه على دراسة العلوم الدينية واللغوية بالأزهر، وكان الشيخ سيد المرصفي يدرس الأدب، فأعجب به، ولزم دروسه التي كان يقرأ فيها الكامل للمبرَّد والأمالي لأبي علي القالي وحماسة أبي تمام. ولم يلبث أن أخذ يضطرب في محيط الحركات الإصلاحية التي كان ينادي بها تلاميذ محمد عبده، من مثل قاسم أمين الذي كان يدعو إلى حرية المرأة، ولطفي السيد الذي أخذ يدعو في "الجريدة" إلى مقاييس جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع. وسرعان ما تحول إلى هذا المعلم يستضيء به في حياته العقلية، فاختلف إلى صحيفته، مستمعًا لأفكاره تارة، وكاتبًا بإرشاده وعلى هديه تارة أخرى. وفتحت الجامعة الأهلية أبوابها للطلاب سنة 1908 فانتظم فيها، وسمع إلى مَن كانوا يحاضرون بها من المصريين أمثال: الشيخ المهدي ومحمد الخضري وحفني ناصف، ومن المستشرقين أمثال: نالينو وجويدي. وسرعان ما انكشف له آفاق جديدة في بحث الأدب ودراسته؛ بفضل المناهج العلمية في النقد التي استمع إليها من الأساتذة الأوربيين. واتجه توًّا إلى تعلم الفرنسية في مدارس ليلية وعلى أيدي بعض المعلمين؛ حتى يفهم المحاضرات التي كانت تُلْقَى بهذه اللغة. ولا نصل إلى سنة 1914 حتى نجده يتقدم إلى درجة الدكتوراه برسالة عن أبي العلاء، ويظفر بالدرجة التي يبتغيها بين الإعجاب والثناء. وطُبعت الرسالة باسم "ذكرى أبي العلاء" وهي تصور استعدادًا علميًّا واضحًا، لا بما فيها من حاسة تاريخية سليمة فقط؛ بل أيضًا بما فيها من أحكام أدبية جديدة لا تتأثر رأيًا سابقًا ولا عقيدة سابقة. وعلى الرغم من أنه لم يكن قد وسَّع محيط قراءته في الآداب الغربية وفي آثار المستشرقين نجده يبحث الضرير العربي القديم بحثًا دقيقًا يستوفي فيه حياته وبيئته وعصره وظروفه التي أحاطت به، وكوَّنت أدبه وفلسفته. لذلك قررت الجامعة الأهلية إرساله في بعثة إلى فرنسا، فنزل في مونبلييه والتحق بجامعتها يدرس العلوم التاريخية وظل فيها نحو عام، عاد في نهايته إلى مصر لسوء حالة الجامعة المالية. وسرعان ما تحسنت ظروف الجامعة، فرجع بعد ثلاثة أشهر ولكن لا إلى مونبلييه، وإنما إلى باريس. وهناك أخذ يختلف إلى محاضرات المؤرخين والأدباء في السوربون والكوليج دي فرانس، تارة يستمع إلى محاضرات في التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتارة ثانية يستمع إلى محاضرات في الفلسفة وعلم النفس، وتارة ثالثة يستمع إلى محاضرات بعض المستشرقين. ويتعلم في أثناء ذلك اليونانية واللاتينية، تعاونه فتاة فرنسية كريمة تعرَّف عليها في أثناء الدرس، وهي التي اختارها فيما بعد شريكة لحياته؛ إذ وجد عندها كل ما كان يفقده، وقد وصفها فقال: إنها بدلته من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادة وصفوًا. وكان أهم ما شُغف به من دراسات في السوربون المشاكل الفلسفية والاجتماعية، وانتهى به هذا الشغف إلى أن يجعل رسالته للدكتوراه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية". ومن المحقق أنه استطاع بجانب ذلك أن يفهم الأدب اليوناني واللاتيني القديم فهمًا عميقًا، كما استطاع أن يفهم الأدب الفرنسي الحديث فهمًا دقيقًا، حتى إذا عاد إلى مصر عقب الحرب العالمية الأولى أخذ يُعْنَى في محاضراته بالجامعة بدرس تاريخ اليونان وأدبهم؛ حتى يفهم المصريون الحضارة القديمة. وأخرج كتابين هما: "صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان". و"نظام الأثينيين" لأرسططاليس. وكأنه بذلك يريد أن نعتمد في نهضتنا الأدبية على الأصول اليونانية التي اعتمد عليها الأوربيون في تكوين نهضتهم الأدبية، وإليه وإلى أستاذه لطفي السيد مترجم أرسططاليس يرجع اهتمامنا بالحضارة اليونانية القديمة. ونقل فيما بعد طائفة من تمثيليات سوفوكليس باسم "من الأدب التمثيلي اليوناني". ويُصدر حزب الأحرار الدستوريين صحيفة السياسة، ويصبح محررها الأدبي، وهنا نراه يعدِّل في اتجاهه؛ إذ ينشر يوم الأحد قصة ملخصة من الأدب الفرنسي، وفي يوم الأربعاء ينشر بحثًا في الشعر العربي. وأكبر الظن أنه انصرف عن الأدب اليوناني؛ لأنه لم يجد قبولًا له عند المصريين حينئذ. وكان المسرح المصري متأخرًا، فرأى أن يُطْلع القراء على بعض المسرحيات الفرنسية؛ حتى يفهموا هذا المسرح الغربي الحديث، فنشر في سنة 1924 كتابه "قصص تمثيلية" لطائفة من أشهر الكتاب الفرنسيين، كما نقل بعد ذلك مسرحية "أندروماك" لراسين و"زاديج" لفولتير. وحاول في المقالات التي نشرها في الشعر العربي أن يفهم طبيعة العصر العباسي الأول -عصر أبي نواس- فهمًا جديدًا غير متأثر فيه بآراء من سبقوه، ودعاه عصر الشك والزندقة والمجون. وثار عليه كثيرون في مقدمتهم أديب سوريا رفيق العظم؛ لأنهم عدوه مشوهًا لتاريخ العرب في حقبة باهرة من حقب حياتهم. ورد طه حسين بأن العلم ينكر مذهب تقديس السلف، وبأن النقد العلمي ينبغي ألا يعرف الهوى، وألا يتأثر بالميول والعواطف، واستشهد بعصور في تاريخ اليونان القديم وتاريخ فرنسا الحديث كانت من أزهى العصور، وكانت من أكثرها لهوًا ومجونًا، وانتهى إلى أن القرن الثاني الهجري كان قرن لهو ولعب وشك ومجون. وتحولت الجامعة الأهلية في سنة 1924 إلى جامعة حكومية، وأصبح أستاذًا لآداب اللغة العربية في الجامعة الجديدة بكلية الآداب. ونراه بعد أن ترجم في سنة 1922 كتابًا في علم النفس التربوي من تأليف لوبون بعنوان "روح التربية" ينشر في سنة 1925 كتاب "قادة الفكر"، وفيه يصور مراحل التطور الفكري والثقافي في الغرب، وقد جعلها أربعة مراحل: مرحلة شعرية يصورها هوميروس، ثم مرحلة فلسفية يمثلها سقراط وأفلاطون وأرسططاليس، ثم مرحلة سياسية يمثلها الإسكندر الأكبر، وأخيرًا مرحلة دينية تمثلها المسيحية والإسلام. وفي سنة 1926 نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، وبنى دراسته فيه على منهج ديكارت الذي يدعو إلى الشك في كل شيء حتى نصل إلى اليقين على أسس وطيدة، وبهذا المنهج اعتبر الأحكام التاريخية القديمة إضافية يمكن أن يعاد النظر فيها، فإذا قال القدماء رأيًا في شاعر فلا مانع من أن نذكر بجانب هذا الرأي رأيًا آخر، ربما كان أدق وأصدق، فكثير من الأشياء يمكن أن يكون قد فات القدماء. وقد انتهى إلى نظرية عامة هي نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي. وفي أثناء ذلك دعا إلى حرية الفكر، وأن ننظر في الأدب نظرًا غير مقيد بمذهب أو عقيدة سوى روح البحث التحليلي. وثارت ثائرة النقاد وخاصة مصطفى صادق الرافعي ورجال الأزهر، وتخلف عن هذه الثورة كثير من الكتب وتدخلت الحكومة؛ ولكن العاصفة مرت بسلام، وأعاد طبع كتابه باسم "في الأدب الجاهلي". ووجهته هذه المعركة العنيفة إلى النظر في شأنه وتطوره، ومن هنا بدأ يكتب ترجمته الذاتية "الأيام"؛ فأخرج الجزء الأول منها في سنة 1929 بعد أن نشره فصولًا في مجلة الهلال ... وأصبح عميدًا لكلية الآداب، إلا أن عهد إسماعيل صدقي يُظلُّ مصر، وتدخل في أيام مظلمة، في السياسة وغير السياسة، فيُبْعَدُ طه حسين عن الجامعة، ويستقيل منها لطفي السيد. ولا يلبث أن ينضم إلى حزب الوفد، ويكتب في "صحيفة كوكب الشرق"، ويخرج صحيفة "الوادي"، ويحول قلمه إلى ما يشبه سوطًا، يلهب به لحم صدقي الطاغية. ويظل في هذا الصراع من سنة 1931 إلى سنة 1934؛ أي: طوال حكم صدقي، ولكنه لا ينصرف عن الأدب والكتابة فيه؛ فقد أخرج في سنة 1932 كتابه "في الصيف"، وهو مجموعة رسائل كتبها بأوربا في صيف سنة 1928 يصف فيها رحلته في البحر وأثرها فيه، ويجره ذلك إلى ذكريات أول رحلة له إلى فرنسا، وتتجسم في مخيلته صور أخرى من شبابه حين كان في الأزهر وحين كان يشغف مع رفقائه فيه بالنزعة العقلية المتحررة التي دعا إليها محمد عبده. وفي سنة 1933 ينشر دراسته عن "حافظ وشوقي"، كما ينشر أول جزء له من سلسلته البديعة "على هامش السيرة"، وظهر له بعد هذا الجزء جزآن. وفي الأجزاء الثلاثة يتخذ من السيرة النبوية وما فيها من أحداث وأشخاص مادة لقصص رائع. ويعود إلى عمادة كلية الآداب في نهاية سنة 1934، وينشر سلسلة من محاضراته في نشأة النثر العربي وفي طائفة من الشعراء العباسيين باسم "من حديث الشعر والنثر"، كما ينشر طائفة من مقالات كتبها في باريس وفي بلجيكا وفيينا باسم "من بعيد". ومن أروع مقالاته في هذه المجموعة مقالته عن "ديكارت" ومذهبه في الشك واليقين. وهو في دراساته المختلفة يُعد مثلًا حيًّا لتطبيق هذا المذهب الفلسفي وحَمْل الباحثين في الأدب العربي عليه. وفي هذه الفترة نشر قصة "أديب" صور فيها أحد زملائه في البعثة، وتحدث في أثناء ذلك عن الجامعة القديمة وعن سفره إلى أوربا، ويُعد هذا الكتاب من روائع أدبنا التصويري الحديث. وعقب ذلك وضع كتابًا عن المتنبي سنة 1936 سماه "مع المتنبي"، حلل فيه حياته وشعره. ويتصادف أن يقضي الصيف في قرية من قرى جبال الألب ويلتقي بتوفيق الحكيم، وتكون ثمرة هذا اللقاء "القصر المسحور"، وهو مجموعة رسائل أدبية، تخيلا فيها شهرزاد، وأفضى كل منهما أمامها بآرائه في الأدب والحياة. ومضى طه حسين يفكر في حياتنا الثقافية والتعليمية، ووضع لها برنامجًا مفصلًا في كتابه "مستقبل الثقافة" الذي أصدره في سنة 1939 وهو يقع في جزأين. وكان قد ترك الجامعة ليعمل في وزارة التربية والتعليم. وعُين مستشارًا فنيًّا لهذه الوزارة، ثم عين مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1942 فأتم إنشاءها. وفي أثناء ذلك يقبل على الدرس والكتابة، فنراه بعد أن أعاد كتابه القديم عن أبي العلاء باسم "تجديد ذكرى أبي العلاء" ينشر عنه بحثًا جديدًا باسم "مع أبي العلاء في سجنه"، يصور فيه جوانب نفسية وفلسفية دقيقة لهذا العقل الكبير، وأفرده بعد ذلك بكتيب سماه "صوت أبي العلاء" نثر فيه بعض أشعاره. واتجه إلى القصة، فنشر "أحلام شهرزاد" و"شجرة البؤس" و"دعاء الكروان"، وهو فيها جميعًا يعبر عن مُثُله القومية والإنسانية. أما في الأولى فيعرض مشاكل العصر ونظام الطبقات خلال هذه الأسطورة القديمة عن شهرزاد وشهريار، وبذلك تُبعث الأسطورة من جديد وتحيا في محيط حياة الكاتب وآرائه. وأما القصة الثانية فيعرض علينا فيها صورة حية لأسرة مصرية تعاقب فيها ثلاثة أجيال، أعدوا لظهور صراع عنيف بين المثل العليا للعقل والعلم وبين التقاليد البالية، وفي أثناء ذلك تصوَّر الطبقة المصرية الفقيرة وما تعاني من بؤس واعتقاد في التوكل والقضاء. وفي القصة الثالثة يشترك الكروان مع أشخاص القصة في الآلام، وتصوَّر حياة المصريين في طوائف من البدو والفلاحين والموظفين كما تصور مشاكل التعليم، ويقوم صراع بين الغريزة والضمير ومطالب الفرد والجماعة. وينشر في هذه الفترة مجموعة من مقالاته في النقد باسم "فصول في الأدب والنقد"، كما ينشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بعنوان "صوت باريس" و"لحظات". وتستقيل الوزارة الوفدية، ويخرج من الحكومة، فيحرر صحيفة "الكاتب المصري"، ويعمل على نهضة كبيرة في الترجمة، ويترجم أوديب لأندريه جيد. ويكتب في صحيفته مقالات أدبية مختلفة تتناول بعض الأدباء الغربيين وبعض الدراسات في الأدب العربي، وينشر منها مجموعة باسم "ألوان". ويؤلف كتابًا عن "عثمان" يصور فيه فتنته وكل ما اقترن بها من مؤثرات ودوافع بشرية. ويصف رحلة له إلى أوربا في صيف سنة 1948 ويذيعها باسم "رحلة الربيع". وينشر كتاب "جنة الحيوان" وهو مجموعة رسائل أدبية رمزية، كما ينشر "مرآة الضمير الأدبي" وهي رسائل في نقد الأخلاق والمجتمع. ويذيع "جنة الشوك" وهي تجري في محاورات قصيرة بين شيخ وتليمذه، وهي محاورات لاذعة ترمي إلى إصلاح الفاسد في مجتمعنا وتقويم المعوج في صور قوية. ويكتب أقاصيصه "المعذبون في الأرض" راسمًا فيها ما كان يقع على المصريين من ظلم في عهود الإقطاع والفساد السياسي. ويصبح في سنة 1950 وزيرًا للتربية والتعليم، فينادي بتكافؤ الفرص ويصيح بأن التعليم ضروري لكل أفراد الشعب ضرورة الغذاء والماء والهواء، ويفكه من عقال المصاريف، ويجعله مجانًا للشعب كله. ويخرج قصته "الوعد الحق" مصورًا فيها ظهور الإسلام، وداعيًا إلى مثله الاشتراكية في الحياة. وينشر كتابًا باسم "بين بين"، وهو خواطر في الحياة والمجتمع. وتقوم ثورتنا المباركة ويجد مجالًا فسيحًا لنشر آرائه في السياسة والأدب، ويؤلف كتابًا عن "علي بن أبي طالب"، وكتابًا ثانيًا عن أبي بكر وعمر، وينشر كتابه "مرآة الإسلام"، كما ينشر مجاميع من مقالاته في الحياة والأدب والنقد. وهذه هي حياة طه حسين حتى وفاته سنة 1973، وهي حياة كانت حافلة بالكفاح؛ إذ نراه يكافح المحافظين في الدين والأدب والسياسة، ويكافح من أجل تغذية أمته بالمثل الأدبية عند اليونان وعند الغربيين، ويختط طرقًا جديدة في أبحاثه الأدبية وفي عالم القصة، يسعفه في ذلك استعداد أدبي أصيل، وهو استعداد شهد له به عالمه العربي، فمنح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، كما شهد له به العالم الغربي فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات أوربية مختلفة. ونقف وقفة قصيرة عند قصته الأولى "الأيام".
ب- الأيام: في رأي كثير من النقاد الشرقيين والغربيين أن هذه القصة أروع ما كتبه طه حسين، وقد أخرج منها جزأين يقص في أولهما طفولته، وفي الثاني صباه وشبابه الأول قَصَصًا بديعًا، يتحول إلى اعترافات صادقة صريحة، وهي اعترافات لا تقل روعة وجمالًا عما كتبه أدباء الغرب المشهورون من أمثال: جيته وروسو وشاتوبريان؛ إذ يعرض طه ذكرياته عن طفولته وشبابه برقَّة وصراحة منقطعة النظير. وهو يقص علينا في الجزء الأول كيف نما هذا الطفل الضرير وسط بيئته المتوسطة، وكيف أخذ يسيطر تدريجًا على صورة العالم الخارجي من حوله يرعاه حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى تفاجأ بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا". وينتقل بنا إلى الجزء الثاني، فنراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، وتفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين. وعلى هذا النحو يعرض الجزآن صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه: "عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغني، تقتحمه العين اقتحامًا في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظة في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو. عرفته يابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنَّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيمًا وصفوًا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يابنتي من هذا اللون حظًّا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمك، ولقدمت إليك قدحًا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب. لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا يجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه". وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه الترجمة الذاتية "الأيام" كما كتب بقية قصصه وكتبه. وقد تُرْجمت الأيام إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والعبرية. ومن أهم ما يميز طه حسين في "الأيام" -وغير الأيام- أسلوبه المتموج الزاخر بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في جرس موسيقي بديع. وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه. وطه حسين من هذه الناحية يشبه أدباءنا القدماء من أمثال الجاحظ الذين كانوا يقصدون قصدًا إلى التأثير بموسيقى كلامهم، فالكلام لا يؤدَّى بأوجز عبارة؛ وإنما يُبْسَط بسطًا ليحمل أداء موسيقيًّا يضاف إلى أداء الأفكار والمعاني. وقد يكون سبب ذلك في القديم أن الناس لم يكونوا -مثلنا الآن- يقرءون الأدب بعيونهم؛ بل كانوا يقرءونه بأصواتهم وآذانهم، فكان الشعر ينشد إنشادًا، وكان النثر يُتلى في الصحف تلاوة؛ لذلك حافظوا على موسيقى الكلام محافظة دقيقة. واحتفظ لنا في هذا العصر طه حسين بخصائص لغتنا القديمة، فوفر لأسلوبه كل ما يستطيع من جمال صوتي، وأتاح لهذا الجمال أن يعبر تعبيرًا طبيعيًّا عن نظراته وتحليلاته وكل ما نقله إلينا من الغرب، وكل ما جدده وابتكره من أبحاث في الأدب ومن قصص وصور فنية مختلفة. فلم يعد الجمال الصوتي عنده فارغًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبه؛ بل لقد غدا في يده أداة مرنة شفافة، تنقل إلينا كل ما يختلج في عقله وقلبه من خواطر ومشاعر نقلًا دقيقًا، فالأسلوب ليس عنده كساء أو طلاء؛ وإنما هو قوام أدبه ومادة فنه، يسند به كل ما يتدفق على ذهنه من معانٍ وأفكار وألفاظ وكلمات.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:20 am | |
| 9- توفيق الحكيم: ب- حياته وآثاره: وُلد توفيق الحكيم في الإسكندرية سنة 1898 لأب كان يشتغل في السلك القضائي، من قرية "الدلنجات" إحدى أعمال إيتاي البارود بمديرية البحيرة. وورث هذا الأب عن أمه ضيعة كبيرة، فهو يُعد من أثرياء الفلاحين، وقد تعلم وانتظم في وظائف القضاء، واقترن بسيدة تركية، أنجب منها توفيقًا، وكانت صارمة الطباع، تعتز بعنصرها التركي أمام زوجها المصري، وتشعر بكبرياء لا حد له أمام الفلاحين من أهله وأقاربه. وقضت أيامها الأولى مع الطفل بين هؤلاء الفلاحين في الدلنجات، فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال، وتسد بكل حيلة أي طريق يصله بهم. ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي؛ إذ كانت تغلق في وجهه كل الأبواب التي تصله بالعالم الخارجي. ولما بلغ السابعة من عمره ألحقه أبوه بمدرسة دمنهور الابتدائية، وظل بها ردحًا من الزمن، حاول فيه أن يحرر نفسه من وثاق أمه وحياة الانفراد التي أخذته بها؛ ولكنه لم يستطع إلا في حدود ضيقة. ولما أتم تعليمه الابتدائي رأى أبوه أن يرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، وكان له بها عَمَّان يشتغل أحدهما مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية، أما الثاني فكان طالبًا بمدرسة الهندسة، وكانت تقيم معهما أخت لهما. فرأى أبوه أن يسكن مع عمَّيه وعمته؛ ليساعدوه على التفرغ للدرس، وأتاح له بُعْده عن أمه شيئًا من الحرية، فأخذ يُعْنَى بالموسيقى والتوقيع على العود. وإذا كان الفتى المراهق قد عُنِي بالموسيقى فإنه أخذ يُعْنَى بالتمثيل والاختلاف إلى فرقه المختلفة، وفي هذه الأثناء أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الحقوق، وكانت مواهبه الأدبية قد أخذت تستيقظ في قلبه وعقله، ورأى محمد تيمور وكثيرًا من الشباب حوله يقدمون لفرق الممثلين مسرحيات يقومون بتمثيلها وعَرْضها على الجمهور، وكانت الثورة المصرية قد انبعثت قبل ذلك، ووجهت الممثلين والمؤلفين من الشباب إلى العناية بالروح القومية. ولم يلبث توفيق أن ألَّف في سنة 1922 مجموعة من المسرحيات مثلت بعضها فرقة عكاشة على مسرح الأزبكية؛ منها: "المرأة الجديدة" و"الضيف الثقيل" و"علي بابا". وهي في جملتها محاولات ناقصة. وتخرج توفيق في الحقوق سنة 1924، وزيَّنَ لأبيه سفره إلى باريس لإكمال دراسته في القانون، ووافق الأب على رغبته، وهناك أمضى نحو أربع سنوات لم يعكف فيها على دراسة القانون؛ وإنما عكف على قراءة القصص وروائع الأدب المسرحي في فرنسا وغير فرنسا، وشُغف بالموسيقى الغربية شغفًا شديدًا، واستطاع بما لأبيه من ثراء أن يعيش في باريس عيشة فنية خالصة، فَوَقْتُهُ كله موزَّع بين المسارح والموسيقى والتمثيل، وهو في أثناء ذلك يقرأ ويفهم ويتمثل ثقافات العصور الغابرة والمعاصرة. واستقر في ضميره أنه أُعِدَّ ليكون أديب وطنه القصصي والمسرحي، ورأى أوربا تؤسِّس مسرحها على أصول المسرح الإغريقي فتحول إلى هذا المسرح يدرسه، ويتقن درسه وما انتهى إليه من تطور على أيدي الغربيين المحدثين، كما أخذ يدرس القصة الأوربية ومدى تمثيلها لروح أقوامها وأحوالهم النفسية والاجتماعية. ووعى ذلك كله وعيًا دقيقًا، وأخذ يحاول كتابة قصة تصور كفاح الشعب المصري في سبيل الحرية، فكتب قصته "عودة الروح" وحاول أن يكتبها بالفرنسية، ثم حولها إلى العربية ونشرها في سنة 1933 في جزأين. وفيها يعرض المحيط الاجتماعي في بلاده قبل ثورة سنة 1919، واختار لذلك أسرة متباينة الأمزجة، هي نفس الأسرة التي كان يعيش معها بالقاهرة أسرة عمَّيه وعمته وما اضطربوا فيه من علاقات. وهو نفسه محسن الفتى المراهق الذي وقع في حب جارة له، هي فتاة ضابط متقاعد، وكانت واقعية النظر، فلم تَجْرِ معه في حبه أشواطًا بعيدة؛ بل انصرفت عنه إلى شاب كانت تعجب به، ويتعكر صفو السلام بين أسرتها وأسرته. وفي الجزء الثاني من القصة نرى محسنًا في الريف، ونسمع خلال فنون من الحوار إلى دفاع عن الفلاح المصري وعراقة روحه، تلك الروح التي أنشأت عصر الفراعنة، والتي تنشئ نهضتنا الحديثة. ويعود إلى القاهرة ليرى حبه يتحطم، وتنشب الثورة المصرية، ويضطرب أفراد الأسرة فيها ويتَّحدون في مثل أعلى سامٍ، هو الجهاد في سبيل الحرية. وقد كُتبت هذه القصة في كثير من جوانبها بلغتنا العامية. وقد عاد توفيق إلى مصر في سنة 1928 ووُظف في سلك النيابة حتى سنة 1934، ثم انتقل مديرًا للتحقيقات بوزارة التربية والتعليم، وظل بها إلى سنة 1939؛ إذ نقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية مديرًا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي. وصَمَّم منذ عاد من بعثته أن يقتحم فن التمثيل الغربي بعد أن عرف أصوله وتلقَّن أسسه عند الإغريق والفرنسيين، وأُلْهم كما ألهم لطفي السيد وطه حسين أنه لا بد من الرجوع إلى الإغريق الذين هيئوا لأوربا نهضتها في التمثيل وغير التمثيل؛ لنبني نهضتنا الثقافية على نفس القواعد التي بَنَى عليها الأوربيون. ويتعمق بنظره المأساة الإغريقية، فيجدها تستمد موضوعها من الأساطير ومن شعور ديني بصراع عنيف بين الإنسان والقوى الإلهية المسيطرة على الكون، وتصوِّر المأساة هذا الصراع صاعدًا إلى نهايته، وهي الفاجعة التي تنتج عن صرامة القضاء. ولم يلبث توفيق الحكيم أن عمد إلى تطبيق ذلك في أسطورة إسلامية عَرضتْ لها الروايات المسيحية، وهي قصة أهل الكهف التي أشير إليها في القرآن الكريم، وهم سبعة نفر ماتوا في الكهف، وظلوا نحو ثلاثمائة سنة، ثم بُعثوا، وعادوا إلى الموت بعد أن ظهرت معجزتهم الخارقة، إلا أن توفيقًا جعلهم يستأنفون الحياة، وجعل لهم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمن، فقد كان كل شيء مُعَدًّا ليعيشوا معيشة رغد وهناءة؛ ولكن حائلًا يحول بينهم وبين هذه المعيشة؛ هو الحقيقة التي تصطرع مع الواقع. فهذا أحدهم يعلم أن ابنه مات منذ مائة عام، فيؤثر الموت على الحياة، ويعود إلى الكهف، وهذا ميشلينا الذي كان قد وقع قديمًا في حب بريسكا بنت ديقيانوس يلتقي في قصر الملك المسيحي بحفيدة جميلة لها سميت باسمها، وانطبعت على وجهها صورتها، فظنها معشوقته القديمة، وتُفْتَنُ به، ويتبادلان الحب. وتتضح لهما الحقيقة، فتُفسد واقعهما، ويعود ميشلينا إلى الكهف مؤثرًا للموت كما يعود جميع رفقائه، وقد رأوا أنهم لا يستطيعون استئناف الحياة في هذا الواقع الجديد، وبذلك ينهزم الواقع أو الإنسان أمام الزمن أو أمام هذا الشيء الغيبي الغامض الذي يسمى الحقيقة. وعلى هذا النحو بدأ توفيق كتابة المأساة مؤمنًا بأن قوة تسيطر على الإنسان، فهو لا يعيش وحده في الكون؛ بل تسيطر عليه قوة إلهية عُلْوية، توجهه وتوحي إليه، وتدفعه يمينًا أو شمالًا. وتوفيق في ذلك يخضع لروحنا الشرقية المتدينة التي تؤمن بالقوى الغيبية المهيمنة على الناس. وأخذت تنبثق في نفسه هذه الروح لا بشعورها الديني فحسب؛ بل بشعورها الصوفي الذي يُعْلِي الروح والقلب على المادة والعقل. ويتبين ذلك في مأساته الثانية "شهرزاد" التي مثَّل في بطلها "شهريار" الصراع بين الإنسان والمكان، فقد استنفد في صاحبته كل ما أراد من متاع ولذة، وتحول قلقًا ظامئًا يريد معرفة الكون وأسراره. وهنا يبدأ الصراع العنيف بين الإنسان الشقي بقصور فهمه وبين حقائق العالم وأسراره. ويحاول شهريار أن يرحل عن واقعه ومكانه ناشدًا للمعرفة، ولكن لا يلبث أن يعود، فهو لا يستطيع فرارًا من مادته، ويصطدم بخيانة شهرزاد، وينتهي إلى حال شاذة. وعلى هذا النحو لن يستطيع الإنسان أن يخلص من مكانه وزمانه والقوى الغيبية التي تسيطر عليه، وإن خيرًا للعالم أن يعتصم بقيم الشرق الروحية؛ بل إن علينا أن نحارب العقل الغربي الذي يؤمن بالمادة وحدها، وينفي عن عالمنا قيمه الروحية الجميلة. وبهذه الروح الشرقية مضى يكتب قصته "عصفور من الشرق" وفيها يقول: "وما صنع لنا العلم وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعُمَّالنا وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع". وأتاح له عمله في النيابة وفي مراكز ريفية مختلفة أن يكتب "يوميات نائب في الأرياف"، وفيه وصَف وصفًا دقيقًا ريفنا، وكيف أن أهله لا يفهمون مدلول القانون، وكيف يتعسف الحكام في حكمهم مبينًا عيوب النظم الإدارية والقضائية والتشريعية، وهو في أثناء ذلك يعرض الحوادث والأشخاص عرضًا واقعيًّا حيًّا في سخرية مرة وفي مقابلة حادة بين واقعية الفلاحين والمثالية. ويُخْرج "أهل الفن" وهي ثلاث قطع مسرحية، فكاهية قصيرة وأقصوصتان. ويخرج سيرة "محمد" صلى الله عليه وسلم في قالب حواري، حافظ فيه على حوادث السيرة محافظة تامة. ويلتقي مع طه حسين في صيف سنة 1936 بقرية من قرى جبال الألب في فرنسا، ويكتب معه "القصر المسحور" متحدثين معًا عن سر شهرزاد وعن حقائق مختلفة في الأدب والفن. ويستقيل من الوظيفة الحكومية في سنة 1943 ويخلص لفنه، ويتعاقب إنتاجه بين مقالات نقدية في الصحف، يجمعها وينشرها، وبين قصص وأقاصيص اجتماعية مثل عهد الشيطان، ويتضخم إنتاجه في المسرحيات تارة يستوحيها من محيطه الاجتماعي المصري على نحو ما نعرف في مجموعته "مسرح المجتمع" التي نشرها في الصحف أولًا ثم جمعها في هذا الكتاب معالجًا فيها مشاكلنا الاجتماعية والسياسية بروح فكهة، وتارة يستوحيها من موضوعات قديمة وأساطير إغريقية وغير إغريقية حتى يأخذ الفرصة كاملة لمسرحه الذهني الذي اشتهر به من قبل في "أهل الكهف" و"شهرزاد"، والذي يذهب بعض النقاد إلى أن صلاحية مسرحياته للقراءة فيه أكثر من صلاحيتها للتمثيل. وقد مضى فألف مسرحية "براكسا أو مشكلة الحكم" التي نشرها في سنة 1939، وهي تعرض لمشكلة توزيع السلطات، وتكشف عن فسادنا السياسي قبل الثورة. ونراه ينشر في سنة 1942 مأساة بيجماليون، يستوحيها أيضًا من أسطورة إغريقية، تصور المشكلة بين الفن والحياة، فهذا مَثَّال انصرف عن النساء إلى فنه، وصنع تمثالًا آية في الجمال والفتنة، وأحب هذا التمثال الذي صنعه بيديه، وسوَّلت له نفسه أن يطلب إلى "فينوس" أن تبعث الحياة فيه، فاستجابت له، وأحالت تمثاله امرأة اقترن بها. وحوَّل الحكيم هذه الأسطورة إلى مأساة يقوم فيها صراع عنيف بين الفنان وإخلاصه لفنه وبين نداء الحياة الذي يلاحقه ولا يستطيع فكاكًا منه، وبعبارة أخرى: يصعد صراع بين ملكات الفنان وبين الإنسان الراقد في أطوائه. ويطلب بيجماليون إلى الآلهة أن تعيد له تمثاله، وتستجيب إليه، وما يلبث أن يتولاه القلق ويثور، فيحطم تمثاله، وتنتهي حياته بنفس الحيرة التي أنهى بها توفيق حياة شهريار في مأساته "شهرزاد". ويعود توفيق إلى موضوعاتنا الدينية، ويختار سليمان الحكيم وقصة الهدهد وبلقيس التي جاءت في القرآن الكريم. ويمزج بين ذلك وبين قصة الجني والصياد في ألف ليلة وليلة، ويكتب مسرحيته "سليمان الحكيم"، يعرض فيها مُلْكه العظيم وحبه لبلقيس. وتتوالى الأحداث كما يميلها القضاء، وتتعطل إرادة الأشخاص حتى سليمان الحكيم نفسه، وقد اتخذ توفيق من الجني أو العفريت رمزًا للعقل المغرور الذي يظن واهمًا أنه قادر على كل شيء. وفي سنة 1949 يخرج قصة "الملك أوديب" التي تزعم الأسطورة الإغريقية أنه قتَل أباه وتزوج أمه، بدون معرفته. وكانت الآلهة قد تنبأت للأب بذلك نتيجة لخطيئة أحلت عليه اللعنة، فلما رُزق هذا الولد أمر راعيًا أن يحمله إلى أحد الجبال المهجورة ويقتله؛ ولكن الطفل أنقذ وتربى في بلاط ملك آخر، وتطورت الأحداث كما شاءت الآلهة. وعرَف أوديب وأمه أو زوجته ذلك أخيرًا، فانتحرت، وفقأ عينيه وحلت عليه اللعنة الأبدية. وأخذ الحكيم هذه الأسطورة، فجردها من النبوءة الوثنية عند الإغريق وما يعتقدون في آلهتهم، ومضى في ظلالها يهاجم العقل ومحبته للبحث والاستطلاع، فإن أوديب يسعى للبحث عن حقيقته، بعد أن استوى ملكًا وتزوج أمه، وتصدمه الحقيقة هو وأمه؛ بل تقضي عليهما قضاء مبرمًا. وإنما أطلنا في عرض هذه المسرحيات والمآسي؛ ليقف القارئ على أن لتوفيق فلسفة في مسرحه الذهني. وهي فلسفة يستمدها من الشرق وروحه العميقة التي تؤمن بقوى غيبية تسيطر على الإنسان وملكاته، والتي تشك في العقل وكل ثمراته. ومعنى ذلك: أنه أوجد لنا مسرحًا مصريًّا، له فلسفته التي يقف بها بجانب المسارح الغربية القديمة والحديثة. وكتب بنفس هذه الفلسفة وما يتصل بها من صوفية الشرق كثيرًا من قصصه، ولعل ذلك ما جعل الغربيين يترجمون آثاره إلى لغاتهم؛ بل لقد مثَّلوا بعض مسرحياته، وخاصة شهرزاد؛ إذ وجدوها خليقة حقًّا بالتمثيل؛ لما فيها من جمال ودقة وعمق. وكان طه حسين قد أشاد بهذا الكاتب الفذ حين أخرج أول آثاره المسرحية "أهل الكهف" سنة 1933 فقال: إنها حَدَثٌ في تاريخ الأدب العربي، وإنها تضاهي أعمال فطاحل أدباء الغرب. فلما تولى وزارة التربية والتعليم عينه مديرًا لدار الكتب المصرية سنة 1951. وعُين في سنة 1956 عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى للآداب والفنون. وفي سنة 1959 عُين مندوبًا مقيمًا لجمهوريتنا العربية المتحدة في "اليونسكو" بباريس، غير أنه فضل العودة في سنة 1960 إلى عمله بالمجلس الأعلى. وقد أخرج في السنوات الأخيرة ثلاث مسرحيات رائعة؛ هي: "إيزيس" و"السلطان الحائر" و"صفقة"، وفيها عصير شعبي بديع.
ب- شهرزاد: استلهم توفيق في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قَصَصٌ قصته شهرزاد على زوجها شهريار. وذلك أنه فاجأ زوجته الأولى بين ذراعي عبد خسيس، فقتلهما، ثم أقسم أن تكون له كل ليلة عذراء، يبيت معها، ثم يقتلها في الصباح انتقامًا لنفسه من غدر النساء. وحدث أن تزوج بنت أحد وزارئه "شهرزاد"، وكانت ذات عقل ودراية. فلما اجتمعت به أخذت تحدثه بقصصها الساحر الذي لا ينضب له معين، وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على استبقائها في الليلة التالية لتتم له الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، رُزقت في نهايتها بطفل منه، فأرته إياه وأعلمته حيلتها، فاستعقلها واستبقاها. ويبدأ توفيق مسرحيته بنهاية الأسطورة، فإن شهرزاد كشفت لشهريار عن معارف لا تُحَد، وأصبح ظامئًا للمعرفة، ولم يعد يُعْنَى بالجسد ولذاته، فقد تحول عقلًا خالصًا يبحث عن الألغاز والأسرار حتى ليريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطَّلع على مصادر الأشياء وغاياتها، ويعرف كُنْهَهَا وحقائقها. والمسرحية في سبعة فصول، ونلتقي في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله، وكيف يغدو إلى كاهن يطلب عنده حلًّا لبعض ألغازه، ونسمع بوزيره قمر. ويتراءى لنا العبد مثالًا للبوهيمية التي تقبع في داخله؛ إذ يرى عذراء مع الجلاد، فيقول: "ما أجمل هذه العذراء! وما أصلح جسدها مأوى! " ويتحول متسائلًا عن شهرزاد. وننتقل إلى الفصل الثاني، فنجد قمرًا الوزير مع الملكة في قاعتها، ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لا محبة العاشق لمعشوقته، فقد سما بعواطفه إزاءها سموًّا بعيدًا، وهي تعرف ذلك وتعبث به، ويخشى أن تكتشف سره، فينقل الحديث معها إلى الملك على هذا النحو: قمر: إني ... أردت أن أقول: إنك غيَّرتِه، وإنه انقلب إنسانًا جديدًا منذ عرفكِ. شهرزاد: إنه لم يعرفني. قمر: لقد قلت لك قبل اليوم: إن الملك بفضلك قد أمسى أيضًا لغزًا مغلقًا أمامي، وكأنما كُشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له، فهو دائمًا يسير مفكرًا باحثًا عن شيء، منقبًا عن مجهول، هازئًا بي كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقًا على رأسه المكدود. شهرزاد: أتسمِّي هذا فضلًا يا قمر؟ قمر: وأي فضل يا مولاتي، فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء. ويُشيد قمر بحبها للملك، فتعترضه قائلة: ما أبسط عقلك يا قمر! أتحسبني فعلت ما فعلت حبًّا للملك؟ قمر: لمن غيره إذن؟ شهرزاد: لنفسي. قمر: لنفسك! ماذا تعنين؟ شهرزاد: أعني أني ما فعلت غير أني احتلت لأحيا. ويعود شهريار من لدن الساحر كاسفًا مقهورًا، شاعرًا بالفناء ككل قوة في نهايتها. وتحاول شهرزاد أن تسترده من قلقه وحيرته، وتقول له: إنها جسد جميل وقلب كبير، فيقول: سحقًا للجسد الجميل والقلب الكبير، ويكون بينهما حوار طويل، تتخلله هذه القطعة: شهريار: ما عدت أحفل بك ولا بشيء. شهرزاد: تُشيح بوجهك أيها الأعمى! لو كانت تبصر قليلًا! شهريار: لقد أبصرت أكثر مما ينبغي. شهرزاد: أنت غافل يا شهريار. شهريار: أنا أطلب شيئًا واحدًا. شهرزاد: ما هو؟ شهريار: أن أموت. شهرزاد: لماذا؟ ما الذي بك؟ شهريار: ليس في الحياة من جديد، استنفدت كل شيء. شهرزاد: الطبيعة كلها ليس فيها لذة تغريك بالبقاء! شهريار: الطبيعة كلها ليست سوى سَجَّان صامت يضيِّق عليَّ الخناق. شهرزاد: أقسم أنك جُننت، أجهدت عقلك حتى اضطرب، أي سر تبحث عنه أيها الأبله؟ ألا تراك تضيع عمرك الباقي وراء حب اطلاع خادع؟ شهريار: ما قيمة عمري الباقي؟ لقد استمتعت بكل شيء وزهدت في كل شيء. شهرزاد: وهل تحسب هذا هو السبيل إلى ما تطلب؟ بل مَن أدراك أن ما تطلب موجود؟ أترى شيئًا في ماء هذا الحوض؟ أليست عيناي أيضًا في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرًّا من الأسرار؟ شهريار: تبًّا للصفاء وكل شيء صافٍ! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي! ويل لمن يغرق في ماء صاف. شهرزاد: ويل لك يا شهريار. شهريار: الصفاء! الصفاء قناعها. شهرزاد: قناع مَن؟ شهريار: قناعها، هي، هي، هي. شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار. شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء، السماء الصافية، الأعين الصافية، الماء الصافي، الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف، ما بعد الصفاء؟ إن الحجب الكثيفة لأشفُّ من الصفاء! شهرزاد: كل البلاء يا شهريار أنك ملك تَعِسٌ، فقد آدميته وفقد قلبه. شهريار: إني براء من الآدمية، براء من القلب، لا أريد أن أشعر، أريد أن أعرف. ويمضي شهريار متحدثًا عن حقيقة شهرزاد، وكيف تحولت في نفسه إلى لغز عقلي هائل، يقول موجهًا الخطاب إليها عنها: "قد لا تكون امراة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها، تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال! وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض، فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة، كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين، قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السُّجُف، ما سِرُّها؟ أعمرها عشرون عامًا أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان أم وُجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف.. أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة". وتلك صورة شهرزاد في عين شهريار بالمسرحية، فهي لغز عميق ينطوي على أسرار الوجود. أما في عين قمر الوزير فملاك سماوي، بينما هي في عين العبد الأسود القبيح بنت الأرض بغريزتها الجسدية، وكأنها الطبيعة، يرى كل من الثلاثة فيها نفسه مطبوعة كأنها المرآة المصقولة، شهريار بحيرته وتنقيبه عن المجهول وأسراره، والوزير بطهارة روحه وسمو نفسه، والعبد بغريزته الحيوانية التي ستنكشف لنا عما قليل لا عنده وحده؛ بل عند شهرزاد أيضًا التي تخضع كغيرها من النساء لمطالب المرأة الجسمية. وفي الفصل الثالث تصعد أزمة شهريار وتشتد، فنجده مع الساحر وقمر مصممًا على الرحيل في أطراف العالم، ويحاول قمر أن يرده عن عزمه قائلًا: "هل يحسب مولاي، لو جاب الدنيا طولًا وعرضًا، أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه". وتظهر شهرزاد وتحاول أن ترجعه إليها، قائلة: "إن رجلًا بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله"؛ ولكنه يصمم على الرحيل حتى يتحرر من عقال المكان. ويرحل في الفصل الرابع مع وزيره، وتلتقي شهرزاد بالعبد رمز الشهوة الجسدية في الفصل الخامس وتنغمس معه في إثم الخطيئة رغم سواده وغلظته وضَعة أصله ومنبته. ويدخل شهريار مع وزيره في الفصل السادس "خان" أبي ميسور، ويعلمان فيه خيانة شهرزاد وترتجف نياط قلب العابد الولهان قمر، ويعود بمولاه في الفصل السابع إلى شهرزاد، لعله ينتقم من زوجته وعبدها الخسيس؛ ولكن شهريار قد تحوَّل وأصبح فكرًا محضًا، فلا ينتقم. وينتحر قمر، ويحس مولاه بالهزيمة، وأنه لا يستطيع انطلاقًا من المكان، من الأرض: "دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض؛ إنما نحن ندور، كل شيء يدور". ويصبح معلقًا بين الأرض والسماء ينهشه القلق والحيرة. وأكبر الظن أنه قد اتضحت فلسفة توفيق في هذه المسرحية، وأنه يؤمن بالقلب أكثر مما يؤمن بالعقل الذي يحطم حياة الناس، ومع ذلك تَحْلم به البشرية، وتحاول عن طريقه أن تكشف أسرار الكون وتجتاز حدود المكان، وفي ذلك اندحارها وهزيمتها كما انهزم شهريار. وقد دفعت ضرورات المسرحية كاتبنا إلى هذا الوضع الشائن لشهرزاد التي عُرفت بعقلها وحكمتها، فسقط بها سقطة بشعة، ومن أجل ذلك تولى طه حسين في "القصر المسحور" الدفاع عنها عاتبًا على توفيق صنيعه بها، غير أن توفيقًا حولها إلى صورة جديدة تتمشى مع تطور الأشخاص في مسرحيته، ولم يُعْنَ بصورتها التاريخية. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الخامس: أعلام النثر الإثنين 29 أبريل 2024, 2:25 am | |
| 10- محمود تيمور 1894-1973م: أ- حياته وآثاره: في درب سعادة -أحد دروب القاهرة- وُلد محمود سنة 1894 لأحمد تيمور "باشا" أحد مفاخر مصر الحديثة في تحصيل الكتب العربية القديمة وجمع مخطوطاتها ونفائسها، وأحد علمائنا الباحثين في اللغة والأدب والتاريخ. ويرجع تيمور "باشا" إلى أصول كردية عربية، وقد ورث ثروة كبيرة عن آبائه، فكانت له ضياع وأملاك، ولم يبدِّد هذه الثروة؛ وإنما احتفظ بها لأبنائه، وأهدى إلى مصر ودار كتبها أنفس مكتبة أهديت إليها في تاريخنا الحديث. وكان تيمور "باشا" دمثَ الأخلاق متواضعًا، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والعلماء من أمثال: محمد عبده والشنقيطي. وكثيرًا ما حج إلى هذا البيت المستشرقون ورجال الأدب والعلم في الأقطار الشقيقة. ولما تُوفيت زوجته انتقل بأبنائه إلى "عين شمس" إحدى ضواحي القاهرة، ثم اتخذ له بيتًا في "الزمالك". وكان يقضي الصيف في بعض ضياعه، مختلطًا هو وأبناؤه بالفلاحين، كأنهم منهم. وفي هذا الوسط وتلك البيئة نشأ محمود، وأخوه محمد، وبقية إخوتهما، يتنفسون في هذا الجو الهادئ السعيد. وانتظم محمود في المدرسة الابتدائية، ثم الثانوية، وعَيْنُ أبيه ترعاه، وقد أخذ يصله بهوايته من قراءة الأدب، وألزمه هو وإخوته حِفْظَ معلقة امرئ القيس، وكأنه يريد أن يعلق في ذاكرتهم تميمة اللغة العربية، ووصَلَهم بالكتب القديمة، وخاصة القصصي منها مثل ألف ليلة وليلة. ولم يلبث الأخوان محمد ومحمود أن أصدرا صحيفة منزلية يسجلان فيها أخبار المنزل والأصدقاء، وأنشآ مسرحًا بيتيًّا يمثلان فيه بعض المسرحيات الساذجة، ودفعهما ذلك إلى الإقبال على قراءة الروايات والقصص المترجمة، وأكثرا من قراءة المنفلوطي والآثار الجديدة التي كان يُحْدثها أدباء المهجر من أمثال جبران. وأخذ محمود ينظم الشعر، ويكتب طرائف من الشعر المنثور. وسافر محمد إلى باريس سنة 1911، وظل بها إلى سنة 1914، وهناك استوت له معرفة دقيقة بأدب القصة والمسرحية. وفي هذه الأثناء كان محمود قد أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الزراعة العليا، إلا أنه مرض بمرض التيفود وأثَّر في بنيته وقواه الجسمية، فاضطُر إلى قطع دراسته. وعاد محمد، فوقف منه على ما وراء البحر من أدب قصصي وتمثيلي، وأخذ يصور له قواعده وأصوله، وحبَّب إليه قراءة حديث "عيسى بن هشام" للمويلحي و"زينب" لهيكل. ولم يلبث محمد -كما مر بنا في غير هذا الموضع- أن انضم إلى جمعية من هواة التمثيل، وألف بعض مسرحيات وأقاصيص بلغتنا العامية. وأخذ محمد يلقن أخاه محمودًا المذهب الواقعي في الأقصوصة الغربية، وأخذ محمود يقرأ فيه، وخاصة في موباسان القصاص الفرنسي الواقعي، الذي كان يعجب به أخوه إعجابًا شديدًا. وقد جرى في إثره يعجب به وبأسلوبه القصصي القائم على التركيز وتماسك الأحداث في الأقصوصة تماسكًا متينًا. وبدأ يكتب محاولاته في هذا الفن، فكتب أقصوصتي: "الشيخ جمعة" و"يُحْفَظُ بالبوسطة". ويموت محمد في شرخ شبابه سنة 1921 فلا تَهْوِي الراية من يده؛ بل يتسلمها منه محمود، ليُتم ما بدأه، ولا يصل إلى سنة 1925 حتى تتجمع له مادة من الأقاصيص، تتيح له أن ينشر في الناس في مجموعته الأولى: "الشيخ جمعة وقصص أخرى"، ومجموعته الثانية: "عم متولي وقصص أخرى". ونراه في المجموعة الأولى يتحدث عن الأقصوصة ومكانتها في عالم الأدب كما يتحدث عن المذهب الواقعي وضرورة الأخذ به في التأليف القصصي. ثم ينشر "الشيخ سيد العبيط وأقاصيص أخرى"، ويتحدث في مقدمتها عن القصة في اللغة العربية وعن جهد المويلحي وهيكل وأخيه محمد تيمور مبينًا أنه يعبِّد فيها طريقًا جديدًا بدأه من قبله أخوه، وهو يحاول أن يسير بها في نفس الطريق مستمدًّا من البيئة المصرية بأشخاصها وجوِّها وصورها المختلفة في الريف والمدينة. ولا تظن أن فن محمود تيمور استوى تمامًا في هذه المجاميع الأولى، فإنه يغلب عليها المبالغة، كما يغلب عليها شيء من النزعة الخيالية التي تركتها في نفسه قراءاته للمنفلوطي ولأدباء المهجر، وإن كنا نلاحظ من طرف آخر أنه ينزع إلى الخير والإصلاح الاجتماعي، فهو يسعى بأقاصيصه التي يكشف بها عن نقائص المجتمع إلى غاية خلقية. ويتاح له أن ينزل في فرنسا سنتين، يقضيهما فيها وفي سويسرا، فيطلع على الأدب الفرنسي من قريب، ويقبل على قراءة الأدب الروسي عند تورجنيف وتشيخوف وأضرابهما، كما يقبل على قراءة الآداب الغربية المختلفة، وتستوي في نفسه للأقصوصة صورة أدق من الصورة الأولى، وتتببين له معالم الطريق واضحة، ويأخذ في إنتاجه الضخم الذي بلغ إلى اليوم نحو عشرين مجموعة من الأقاصيص والقصص الطويلة. وأقاصيصه في هذه المجاميع منوعة تنويعًا واسعًا، وهي في أكثرها لوحات لحوادث ومواقف وأحوال اجتماعية ونفسية، ويظهر في كثير منها نزعة تحليلية، كما يظهر في كثير منها نوع من العطف على شخوصه، مع الاعتدال في التصوير، فالخيال لا يجمح به. وقد يسوق لك عقدة نفسية، أو صراعًا نفسيًّا باطنًا؛ ليصور لك جوانب الضعف في الإنسان. وهو في كل ذلك يتخذ أسلوبًا بسيطًا لا مبالغة فيه ولا إغراق؛ وإنما فيه الصدق وتمثيل الواقع في بساطة. ولم يقف بأقاصيصه عند غايات محلية، فقد جعلها تتسع لنزعات إنسانية عامة؛ كنزعة الخير أو نزعة الكمال أو نزعة الإحساس بالجمال في الطبيعة أو في الموسيقى والأشياء. والحق أنه بلغ في ذلك كله مرتبة رفيعة، ويكفي أنه مؤسس فن الأقصوصة في الأدب العربي الحديث، حقًّا سبقه إليها أستاذه وأخوه محمد؛ ولكنه هو الذي نَمَّاها ووسَّع طاقتها، وجعلها شبيهة بما ينتجه أدباء الغرب في هذا المضمار، مما كان سببًا في أن تُتَرجم كثير من أقاصيصه إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والروسية، فهو أستاذ الأقصوصة في عصرنا غير منازَع، وهو فيها لا يقف عند مذهب غربي معين. يؤثر المذهب الواقعي، وقد يعدل عنه إلى بعض صور خيالية أو بعض صور تأثيرية؛ إذ نراه يقدم الحادثة ويتركها بدون شرح؛ لنتأثر بها على النحو الذي نريده. ومن بديع مجموعاته التي تصور كل ما قدمنا: "مكتوب على الجبين" و"كل عام وأنتم بخير" و"إحسان لله" و"شفاه غليظة" و"شباب وغانيات". ومن خير أقاصيصه الطويلة "ثائرون"، وهو يصور فيها ما كان يحتدم في قلوب شبابنا من ثورة على أوضاع العهد البائد الفاسد، وقد كتبها في صورة مذكرات على لسان طالب جامعي. ولم يقف محمود تيمور عند محاولة الأقصوصة القصيرة، فقد حاول أيضًا القصة الطويلة وأخرج فيها: "نداء المجهول" و"كليوباترا في خان الخليلي" و"سلوى في مهب الريح". وهو ينزع في القصة الأولى منزع توفيق الحكيم الذي يسعى إلى تصوير الروح الشرقية، وهي قصة تشبه قصص الحب العذري القديمة، وحوادثها تجري في لبنان. ونحس فيها النزعة الخيالية واضحة، وفي الوقت نفسه يحلل الكاتب البيئة والشخصيات وعواطفهم تحليلًا واقعيًّا، فالخيال والواقع يتقابلان، كما تتقابل معهما روح الفكاهة ممثلة في الأستاذ كنعان المتعالم المغرور. و"كليوباترا في خان الخليلي" قصة خيالية، يتصور فيها الكاتب مؤتمرًا للسلام عُقد في القاهرة. واجتمع فيه فلاسفة العالم، وقد رأى أحدهم أن يتصل ببعض الأرواح من العالم الآخر، فتحضر كليوباترا ويحضر تيمورلنك المحارب التتري القديم، وكل منهما يغاير الصورة المعروفة له، فلا يفيد منهما المؤتمر ما كان يرجوه. ويأخذ المؤتمر في مناقشة أمور فرعية. ويعرض تيمور في القصة نقدًا ساخرًا للمؤتمر وحماقات الإنسان وترهاته، وفي ذلك كله تجري روح الفكاهة والدعابة. أما "سلوى في مهب الريح" فقصة تحليلية واقعية للجانب العابث في حياة الطبقة الأرستقراطية، وبطلتها سلوى فتاة فقيرة تضطرب في خضم الحياة، وتدفعها عوامل البيئة والوراثة إلى الزلل. وهذه الموهبة القصصية البارعة رأى محمود تيمور أن يستغلها في صنع المسرحية، فكتب مسرحيات من فصل واحد، كما نرى في "حقله شاي" وهي مسرحية تصور حب الظهور في أنماط متباينة من الناس لا نكاد نقرؤهم حتى نغرق في الضحك. ولم يقف بهذه المسرحيات القصيرة عند واقع بيئته، فقد تحول بموضوعها إلى التاريخ القومي والعربي يتخذ منه موضوعه كما نرى في "مسرحية المنقذة" التي صور في بطلتها بنت خليل بك شيخ البلد الصراعَ النفسيَّ بين الاعتراف بالجميل وإنكاره. وبجانب هذه المسرحيات القصيرة يكتب مسرحيات طويلة يستمدها من التاريخ العربي مثل "ابن جلا"، وفيها صور الحجاج الثقفي لا في صورته التاريخية؛ وإنما في صورة إنسانية جديدة، ومثل "حواء الخالدة" التي عالج فيها حب عنترة وعبلة، ومثل "اليوم خمر" وقد صور فيها حياة امرئ القيس، ومثل "صقر قريش" التي صور فيها عبد الرحمن الداخل أول الخلفاء الأمويين في الأندلس. وقد يستمد مسرحياته الطويلة من الحياة الواقعة كما نرى في مسرحيته "المخبأ رَقْم 13"، وفيها صور الخوف من الموت في صور زاخرة بالسخرية، عرضها في أشتات من الناس، منهم الأرستقراطي ومنهم البائس الفقير، ومنهم من يؤمن بالخرافات والكرامات إيمان البُلْه. ومن مسرحياته "أشطر من إبليس"، وفيها يصور المجتمع المصري إزاء ثورتنا المباركة ويحلل عوامل الخير والشر في الإنسان. وتزخر هذه المسرحيات جميعًا بالتحليل النفسي وبالصراع بين العقل والغريزة وبالعقد الباطنة، حتى لتصبح بعض الشخوص مزدوجة الشخصية، فلها ظاهرها في سلوكها، ووراء هذا الظاهر باطن خفي يلمع على جنباتها من حين إلى حين. ولعل من الغريب أنه في مسرحيته الأخيرة "أشطر من إبليس" يقف الحوار، ويعمد إلى الشرح؛ حتى نفهم تعاقب المناظر والحركة في المسرحية، وكأنما موهبته القصصية تطغى على مسرحياته، وفي الحق أنه قصاصًا أبدع منه مسرحيًّا. ولعل من الغريب أيضًا أنه كتب بعض مسرحياته مثل "المخبأ رَقْم 13" في نسختين إحداهما بالعربية الفصحى والثانية بالعامية. وهذا الصنيع يوضح تطورًا عنده، فقد بدأ أقاصيصه بالعامية، ثم عدل عنها وكتب باللغة الفصحى؛ بل حاول أن ينقل بعض أقاصيصه القديمة من العامية إلى الفصحى، وصنع ذلك فعلًا بمجموعة أقاصيصه "أبو علي عامل أرتيست" فدعاها "أبو علي الفنان". ثم أجرى فيها النقل والترجمة. والحق أنه يبلغ الذورة في عالم الأقصوصة، وقد نال فيها جوائز مختلفة، وتقديرًا لمكانته الأدبية انتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية، وظل في هذا المنصب حتى وفاته سنة 1973. ونقف قليلًا عند قصته الطويلة "سلوى في مهب الريح".
ب- سلوى في مهب الريح: قصة واقعية تحليلية. بطلتها سلوى، فتاة نشأت في الإسكندرية في رعاية جدها، محرومة الأب والأم، فإن أباها طلق أمها لسوء سلوكها، ثم وافاه الموت. ويقدم لنا تيمور بيت الجد المتواضع بكل ما فيه من غلظة الجد ووقاره، وإحساس الفتاة بالعزلة والوَحْدَة، لولا ما كانت تُدْخله عليها خادم البيت "أم يونس" من أنس وطمأنينة. وتنشأ الفتاة على البراءة والطهارة، ويأخذها جدها بحفظ بعض سور الذكر الحكيم. ويتصادف أن تشهد مع خادمها احتفال جمعية العروة الوثقى، فتتعرف على فتاة ثرية من الطبقة الأرستقراطية؛ إذ كانت بنتًا لأحد الباشوات. وتنعقد بينهما أواصر الصداقة، وتتعرف عندها على خطيبها "شريف" وشاب يسمى "حمدي" كان صديقًا لشريف. ويتوفَّى جدها، فتعيش فترة عند صاحبتها، ترعاها. وتعلم الأم بموت الجد فتحضر؛ لتأخذ بنتها، وتقيم معها بحي السيدة زينب في القاهرة، وتظل على علاقتها بصديقتها، وتعرف حقيقة أمها، وتشب على أسرارها وما تتردى فيه من علاقات أثيمة. ثم تتطور الحوادث فتموت أمها، وتتزوج صديقتها بشريف، وتتزوج هي بحمدي، وكان من أسرة متوسطة متواضعة، ويصاب بالسل فينقل إلى المستشفى، وتنشأ في هذه الأثناء صلة حب بينها وبين شريف. ويتطور هذا الحب إلى مغامرة رهيبة جنتها عليها وراثتها السيئة. ويندفع شريف الشاب الثري المترف في القمار، ويفقد ماله ووظيفته وينتحر فرارًا من الحياة. ويموت حمدي بدائه. وتعمد سلوى إلى العمل في مشغل للحياكة، وهي حامل، وتلد في مستشفى وليدها؛ ولكنه يموت. ويُؤْتَى لها بطفل ترضعه؛ لأن أمه مريضة ولا تستطيع أن تقدم له غذاءه، وتحس نحوه بحنان، ثم تكتشف أنه ابن صديقتها سنية من شريف، وتغفر لها سنية زلتها معها، وتتخذها مرضعة لطفلها. والقصة محبوكة الأطراف، لا تقرؤها حتى تشعر بلذة، مردُّها إلى خبرة الكاتب بفن القصة وما يحتاجه من تشابك الحوادث والمفارقات والمفاجآت، وما يتخلل ذلك من نقد وفكاهة وتهكم وصراع. إنه قصاص بارع قد عرف أصول القصة، وطالما كتب في هذه الأصول بمقدمات قصصه، وقد أفردها ببحث مستقل، فهو أستاذ ماهر لا تعوزه ثقافة في عمله. والشخصيات واضحة تمام الوضوح، وهي تنكشف تارة بوصف الكاتب لها، وتارة بسلوكها وأقوالها، وألقيت على سلوى أضواء كثيرة تصور تطورها النفسي من فتاة طاهرة إلى فتاة دنسة تعسة، وقد كانت اليد التي تنكرت لها هي نفسها اليد التي تقدمت لها في محنتها، تريد أن تخرجها منها. فالخير الذي يؤمن به الكاتب لا يزال يرسل شعاعه على البشر وما انطووا عليه من شرور. وتُصوِّر القصة طبقاتنا المختلفة من غنية وفقيرة، وتحلَّل هذه الطبقات في خلقها وفي سموها ومباذلها، كما تحلَّل الشخصيات تحليلًا عميقًا، وهو تحليل يتناول الظاهر كما يتناول الباطن، والقصة تبدأ على هذا النحو؛ إذ تقول سلوى: "لا أذكر من تاريخ حياتي قبل العاشرة من عمري إلا أطيافًا شاحبة. في تلك الفترة كان يَكْفُلني جدي لأبي، فأقمت معه في منزلنا العتيق، منزل لا فخامة فيه، تحيط به حديقة شعثاء، ويطل على حارة منزوية لا تُطْرَق، وكان جدي منذ تُوفي أبي قد أخلد إلى العزلة وآثر الوَحْدَة، وتوضحت على محيَّاه سمات التجهم للدنيا والتبرم بالحياة. ولم يكن يزوره إلا رجل علت به السن، وقوضت بناءه الأيام، يدعى "الطوخي أفندي" فيُمضي كلاهما بعض الوقت في حجرة الضيافة القائمة في ركن من الحديقة، فأراهما حينًا يتناقلان الحديث، وحينًا يلعبان بالنَّرْد ناشطين لا يعتريهما ملال. وكنت أنا في حجرتي يصك سمعي صوتهما مدويًا كهزيم الرعود، فتنتظمني رجفة ويخيل إليَّ أنهما مشتبكان في تضارب وسباب. ولم يكن في الدار من الخدم غير أم يونس والحاج مسرور، الأولى ضامرة عجفاء، توهم من يراها أنها تنوء بالأمراض؛ ولكنها في الحقيقية صُلْبة العود قوية الأعصاب. أما الحاج مسرور فكان سودانيًّا، أميل إلى البدانة، طلق الوجه، هادئ الصوت. وكان كلاهما يحسن معاملتي ويتعهدني بعطف وحدب؛ فشعرت نحوهما بحب وشغف. وأشد ما كان يسوؤني أن أرى جدي لا يعاملهما بالحسنى، فهو يُنْحي دائمًا عليهما باللائمة، ولا يفتأ يؤاخذهما ويُسفِّه آراءهما في كل شيء". وبهذا الأسلوب البارع في رسم الشخصيات كتَب تيمور قصته، كما كتب قصصه وأقاصيصه الأخرى التي يثير فيها مشاكل مجتمعه وما ينطوي فيه من نقائص وعيوب. وعلى الرغم من أنه يستمد قصصه من بيئته وشخوص وطنه غالبًا فإنه لا يقف عند نظرة محلية خاصة؛ بل يرتفع إلى نظرة إنسانية عامة، ويبدو ذلك واضحًا في أعماله الأخيرة، وهو دائمًا تشيع الرحمة في جوانب نفسه، ويشعر بالأسى لمن يصفهم في مِحَنهم، فلا يعنف عليهم. وكل ذلك يسوقه في عرض شائق بسيط لا تعقيد فيه ولا تكلف؛ وإنما فيه الصدق وهدوء الطبع واعتدال المزاج. |
|
| |
| الفصل الخامس: أعلام النثر | |
|