الحوار النِّدّي:
من مقومات الاستغراب الضرورية، وفي سبيل ترسيخ المفهوم المقبول من الأطراف ذات العلاقة، قيام حوار عميق بين المٌفكّرين العرب والمسلمين من جهة والمُستشرقين وغيرهم من مُفَكّري الغرب المَعنيين بالعالم الإسلامي من جهة أخرى، ويُعيد أحد الباحثين في مجال الحوار الإسلامي المسيحي بوادر قيام الحوار المعاصر إلى كل من المفكر الروسي فلاديمير سولوفيوف (1853 - 1990م)، والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 - 1962م).

والذي يظهر أن نواة هذا الحوار انطلقت مع انطلاقة بعثة الرسول محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم، وتوالت إلى يومنا هذا في تفاوت في مدى موضوعية الحوارات والمناظرات، ومن تلك الحوارات الموضوعية ظهور الكتاب المُتَمَيّز في طرحه عن الاستشراق والاستغراب، وقد جرى التعرُّض له كثيرًا في هذا البحث، يقوم فيه حوار مباشر بين المؤلف وثُلَّةٌ من المُستشرقين، ومَنْ في حُكمهم من التغريبيين العرب المقيمين في البلاد العربية، ومن الذين أقاموا في الغرب، وتبنوا الفكر الاستشراقي حول الإسلام والمسلمين.

وقد يدخل في مفهوم الاستغراب الديني تلك الحوارات والمناظرات التي قامت وتقوم بين علماء ومفكرين مسلمين وبين قساوسة وحاخامات ومفكرين نصارى ويهود، وهي حوارات قديمة وتتجدَّد في كل حين، ولها في المكتبة العربية نماذج موثّقة ومنشورة، من مثل المناظرة التي ظهرت في كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي، وهي مناظرة بين العالم الهندي والقسيس فندر، جرت في الهند سنة 1270هـ/ 1854م، وبعد ذلك المناظرة التي جرت بين الشيخ محمد عبده (1849 - 1885م) وفرح أنطون (1874 - 1922م)، ومن المعاصرين محاورات الشيخ أحمد ديدات -رحمه الله تعالى- مع عدد من القساوسة، وكان من أبرزهم القس الأمريكي جيمي سواجارت ولابروفيسور فلويد كلارك في نهاية التسعينيات وبداية الأربعمائة بعد الألف الهجرية، السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الميلادي.

من هذا المنطلق يكون العرب قد بدؤوا يطرقون أبواب الاستغراب الديني تحديدًا، عن طريق الحوار كوسيلة من وسائل الولوج إلى علم الاستغراب، بعد دعواتٍ عِدَّةٍ لدراسة الغرب، في ثقافته وعاداته وتقاليه وآدابه، ومنها دعوة حسن حنفي إلى علم الاستغراب.

لا تغفل دراسات المسلمين لمفهوم الاستغراب الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للعالم الغربي، الذي نُعَبّرُ عنه بالآخر، بحيث لا تقتصر دراسة الاستغراب على الجانب الديني، الذي قد ينظر إليه أنه لا علاقة له بالاستغراب؛ إذ إن اليهودية والنصرانية في انطلاقتهما إنما ظهرا في الشرق، لا سيما في مهابط الوحي، في مصر وفلسطين المحتلة، إلا أنه مع (تطور) هاتين الديانتين وما اعتراهما من تداخل، بفعل بعض العناصر البشرية، التي سَعَتْ إلى التقريب بين اليهودية والنصرانية، أو سعت من جانب آخر إلى تطويع النصرانية لليهودية؛ بفعل عناصر صهيونية تغلغلت في النصرانية في بعض مناحيها، أو سَعَتْ كذلك إلى صهينة النصرانية، برز هذا الاختلاف بينهما وبين الدين الإسلامي في المُنطلقات والأهداف في التعامل مع الحياة، وفي شتَّى مقوماتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

يدخل هذا المفهوم مباشرة في علم مقارنة الأديان، ولا يأخذ الاستغراب منه إلا ما يقع في خدمة هذا التوجه؛ إذ لا يمكن أن يصادر علم مقارنة الأديان في سبيل الاندفاع إلى الدعوة إلى ترسيخ مفهوم الاستغراب، لا سيما مع التوكيد على أن الأديان السماوية الثلاثة إنما انطلقت من الشرق، وأن طوائف يهودية ونصرانية (مسيحية) شرقية لا تزال تعتقد أن الدين لا بد أن يظل في هذه المنطقة، وينطلق منها من حيث المرجعية الدينية، لا من حيث الاقتصار على المنطقة، ولكن من حيث المرجعية الدينية، التي تلمح بما حَلَّ في الديانتين من شطحات، عندما انتقلت مرجعيتهما من مكانهما الأصل، وترى الأصالة الدينية في الشرق، كما تنظر باحترام واضح لمتديني الشرق من اليهود والنصارى، الأمر الذي يؤكد أن نصيب الاستغراب من هذا الشأن محدود جدًّا.