المبحث الثاني: المُرَادُ بعهد الله
المبحث الثاني: المُرَادُ بعهد الله Ocia1062
تضمَّنت الآيات التي وردت في سورة البقرة، وتناولت شأن بناء البيت: أن إبراهيم الخليل -عليه وسلم- سأل ربه أن يجعل من ذريته أئمة هدى يقتدي بهم الناس؛ فجاء الجواب الإلهي(لا ينال عهدي الظالمين) (15)، وقال عز من قائل في مدح المؤمنين) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (16) وقال جل ثناؤه مبينا صفة الكافرين المخالفين: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) (17) إلى آخر الآيات الواردة في شأن العهد فما المراد بالعهد في هذه الآية؟ وهل معنى العهد الوارد في هذه الآية هو نفس المعني الوارد في الآيات الأخرى؟.

وقبل الحديث عن معنى العهد في هذه الآية، يناسب أن نتعرَّف على معنى العهد لغةً واصطلاحاً.

فأمَّا معناه لغة:
فقد عرفه الرازي في مختار الصحاح بقوله: (العهد: الأمان، واليمين، والموثِق، والذمة، والحِفَاظُ، والوصية، وعَهِدَ إليه من باب فهم، أي أوصاه، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة) (18).

ومعناه اصطلاحاً:
(حفظ الشيء، ومراعاته حالا بعد حال، هذا أصله، ثم استعمل في الموْثِق الذي تلزم مراعاته) (19).

وقال ابن منظور:
(العهد كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد، وأمر اليتيم من العهد، وكذلك كل ما أمر الله به في هذه الآيات، ونهى عنه) (20).

وبَيَّنَ الراغب الأصفهاني في مفرداته معاني العهد في القرآن الكريم، فقال:
(العهد: حفظ الشيء، ومراعاته حالاً بعد حال، وسمي المَوثِق الذي يلزم مراعاته عهداً... وعهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب وبألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه، وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور) (21).

وبعد هذا البيان لمعناه اللغوي والاصطلاحي، وبيان معانيه حيثما وردت في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتعرَّف على ما قاله المفسرون في معنى العهد في هذه الآية.

اختلف المفسرون في المعنى المراد بالعهد في هذه الآية، فقال بعضهم: النبوة.

وقال آخرون: الإمامة في الدين.

وقال غيرهم: العهد هنا ألا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.

بينما قال فريق رابع: العهد هو الأمان، أي لا ينال أماني أعدائي وأهل الظلم لعبادي، أي لا أُؤمنهم من عذابي في الآخرة (22).

وخالف هؤلاء ابن عاشور فقال:
إن المُراد بالعهد هنا الوعد، وقال: قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) استجابة مطويّة بإيجاز، وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم، والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما؛ لأن حكم أحد الضدين يثبت للآخر نقيضه على طريق الإيجاز، وإنما لم يذكر الصنف الذي تتحقق فيه الدعوة؛ لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضاً بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم -وهم أهل الكتاب ومشركو العرب- هم الذين يحرمون من دعوته... وسمى وعد الله عهداً؛ لأن الله لا يُخلف وعده، كما أخبر بذلك؛ فصار وعده عهداً، ولذلك سمَّاهُ النبي ﷺ‬ عهداً في قوله: (أنشدك عهدك ووعدك) (23)... إلى أن يقول: ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا؛ لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهداً بأنه مع ذريته، ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم، وإن كان صريح الكلام توبيخاً للمشركين.

والمُراد بالظالمين ابتداءً المشركون، أي الذين ظلموا أنفسهم؛ إذ أشركوا بالله تعالى... وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين... ففي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة؛ لاتصافهم بأنواع من الظلم.. وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله) (24).

والله سبحانه وتعالى كما بَيَّنَ أن الظالمين لا ينالون عهده، فقد حكم عليهم بالسَّفه، وفساد الرأي، قال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَن سفه نفسه) (25)، فمن رغب عن ملة إبراهيم -عليه السلام- فقد سفه نفسه.

والسَّفيه هو القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار، وأي سفه أعظم من أن يكفر بربه، ويكذب رسله، ويعادي أولياءه، ويجحد حججه وأدلته وبراهينه، ويكذب ببعثه، ثم يزكي نفسه، ويدعي أنه محبوب لله، وأن وعد الله وعهده يناله؟!.

ومن سفه الكافر أنه يكفر بربه، ثم يزعم أنه أهل للولاية الدينية، ومن سفهه -أيضاً- أنه يرغب عن ملة إبراهيم -رضي الله عنه- وهو يفتخر بانتسابه إليه، قال تعالى: (يأهل الكتاب لِمَ تُحآجُّونَ في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين) (26).

ومن سفهه -أيضاً- أنه يطلب لنفسه الحظ الأدنى -وهو دخول الأماكن المقدسة، وزيارة البيت الحرام- وينسى أن يطلب لنفسه الحظ الأعلى، وهو دخول الجنة، ألا يعلم أن الأماكن المقدسة لا تقدس أحداً، وأن الدار الآخرة لا يدخلها إلا مَنْ زكت نفسه وتقدَّست؟!.

والمفسرون -مع اختلافهم في معنى العهد هنا- متفقون على أن معنى العهد في هذه الآية مخالف لمعنى العهد الوارد في الآيات الأخرى، كما أنهم -أيضاً- لم يتفقوا على معنى العهد في الآيات الأخرى؛ فمنهم من قال: إن معنى العهد في قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) (27)، هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إيَّاهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إيَّاهم عمَّا نهاهم عنه من معصيته في كُتُبهِ وعلى لسان رسوله ﷺ‬، ونقضهم ذلك تركهم العمل به.

ومنهم مَنْ قال:
هو ما أخذه الله عليهم في التوراة، من العمل بما فيها، واتباع محمد ﷺ إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم عِلْم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس، ولا يكتمونه.

ومنهم مَنْ قال:
عهده إلى جميع خلقه في توحيده -  ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه، ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق.

ومنهم مَنْ قال:
هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصفه في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) (28) الآيتين، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به (29).

ويُحتمل أن يكون المُراد بالعهد هو ما أشار إليه بعض المهتدين من أهل الكتاب من أن الله عهد لإبراهيم عهداً في ذريته، من أجل أن إبراهيم -عليه السلام- امتثل أمر ربه وقرب ابنه قرباناً، فقد استدل هؤلاء المهتدون بما ورد في التوراة: (من أجل أنك فعلت هذا الفعل ولم تشفق على ولدك وفردك، فها أنا أقسم بنفسي لأباركن عليك ولأكثرن ذريتك، ولأجعلنهم في عدد نجوم السماء، ورمل سواحل البحار، ويرث ولدك بلدان أعدائهم، ويتبرك بهم جميع أمم الأرض) (30).

فيتبيَّن لنا أن معنى العهد في هذه الآية مُخالف لمعنى العهد في الآيات الأخرى، وأن معناه في هذه الآية يدل على النبوة، أو الإمامة في الدين، أو مباركة الذرية وحفظها، وأيَّا كان معناه فلا يشمل غير المسلم والظالم لنفسه، وعلى هذا فلا يستحق غير المسلمين التَّرَدًّدِ على حرم الله؛ لأنهم ليسوا أهل ولايته وعهده!.
-----------------------------------------
الهوامش:
15.     سورة البقرة الآية 124.
16.     سورة الرعد الآية 20.
17.     سورة البقرة الآية 27.
18.     مختار الصحاح، مادة عهد.
19.     التعريفات 1/204.
20.     لسان العرب 3/311.
21.     المفردات في غريب القرآن ، مادة عهد ، ص350.
22.     انظر جامع البيان 2/511-516، ومفاتيح الغيب4/31، وفتح القدير1/202.
23.     يشير إلى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي ﷺ يوم بدر اللهم: إني أنشدك عهدك ووعدك؛ اللهم إن شئت لم تعبد). فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك. فخرج وهو يقول }سيهزم الجمع ويولون الدبر{ .3/1067، ح 2758، والآية 45 من سورة القمر.
24.     التحرير والتنوير1 /706-707.
25.     سورة البقرة الآية 130.
26.     سورة آل عمران الآيات 65-67.
27.     سورة البقرة الآية 27.
28.     سورة الأعراف الآية 172.
29.     انظر جامع البيان في تأويل آي القرآن 1/182-184، والجامع لأحكام القرآن 1/246، وفتح القدير1/117، والتحرير والتنوير 1/370.
30.     سفر التكوين22:17-18، وانظر الدين والدولة ص 133، ومحمد في الكتاب المقدس ص60، ومحمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص 33.