الخالق على المخلوق، وكل الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهي المختص دونها بزينة الخلوق، ولولا فضله لما كان محسوباً بشطر الإيمان؛ ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان، وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى؛ والذي يبلغك وتبلغه عينًا وأذنا، ولا تكون للإسلام نعم الجار؛ حتى تكون له بئس الجار.
ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك، ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار.
وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاء مصافحًا، أو تطرق أرضه مماسيًا أو مصابحا، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يد قصد المستغير لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنضير، وعلى الخصوص البيت المقدس، فإنه بلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في رف التعظيم، والذي توجهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم.
وقد أصبح وهو يشكو طول المدة في أسر ربته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته.
فانهض إليه نهضة متوغل في فرحه، وتبدل صعب قياده بسمحه؛ وإن كان له عام حديبية فاتبعه بعام فتحه.
وهذه الاستزادة بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملًا فحميت موارده، أو مستهدمًا فرفعت قواعده، ومن أهمها ما كان حاضر البحر كأنه أعمه عورته مكشوفة، وخطة مخوفة، والعدو قريب منه على بعده.
وكثيرا ما يأتيه فجاءة حتى يشق برقه برعده؛ فينبغي أن ترتب بهذه الثغور رابطة يكثر شجعانها، ويقل أقرانها، ويكون قتالا لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها، وحينئذ يصبح كل منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار؛ ومع هذا فلا بد له من أسطول يكثر عدده، ويقوي مدده، فإنه العمدة التي يستعين بها كشف العماء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السليماني، فذاك يسري على متن الريح وهذا يجري على متن الماء.
ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف
(2/14)
_________
مدة الأعمار، فإذا أشرعت قيل: جبال متلفعة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل: أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم، ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالي من جيادها، ويستكثر من قيادها، وليؤمر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها، ولكن قتلها بخبره؛ وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه، وزحمتها مناكبه، وممن بذل الصعب إذا هو ساسه وإن سيس؛ لأن جانبه، وهذا هو الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هذه بالرياسة، فأن كان في الساقة ففي الساقة أو كان في الحراسة ففي الحراسة.
ولقد أفلحت عصابة اعتصمت من ورائه، وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنجح من رأيه.
واعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في علمه، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية تأتي في أوله؛ وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تناوله بالإجحاف، وخلطت جهادها فيه بفلولها فلم ترجع بالكفاف.والله قد جعل الظلم في تعدي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة؛ ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا شر زمان وناسه شر ناس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه، ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس.
والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر على المنصوص من حكمه، وتبرئ ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية، والشامية ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدًا نكالا وجحيما، وطعامًا ذا غصة وعذابا أليمًا.
فتصفح ما سطرناه لك من هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آيات محكمات، وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها، وابن لك بها مجدًا يبقى في
(2/15)
_________
عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها؛ وهذا الذي ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، فإنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمر منزلة نظامه.
ثم قال: إني أشهدك على من قلدته شهادة تكون عليه رقيبة وله حسيبة، فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة وذكرى، ولمن تبعها هدى ورحمة وبشرى، وإذا أخذ بها فلج بحجته يومًا يسأل فيه عن الحجج، ولم يختلج دون رسوله على الحوض في جملة من يختلج، وقيل له: لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج. والسلام.
قال الفقيه عمارة اليمني يرثي العاضد -وكان من خواصهم:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل
وقال بعض الشعراء يمدح بني أيوب على ما فعلوه:
ألستم مزيلي دولة الكفر من بني ... عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل (1)
زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرا، يظهرون تشيعًا ... ليستروا شيئًا، وعمهم الجهل
قال حسان عرقلة (2):
أصبح الملك بعد آل عبيد (3) ... مشرفًا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو ... م ومصر تزهو على بغداذ
ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفؤاد في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخطيب والأستاذ
_________
(1) كتاب الروضتين 1: 202.
(2) كتاب الروضتين 1: 200.
(3) في الروضتين: "آل علي"، وقال: "يعني بذلك بني عبيد المستخلفين".
(2/16)
_________
قال أبو شامة: يعني بالأستاذ كافور الإخشيدي.
قال: وقد أفردت كتابا سميته: "كشف ما كان عليه بنو عبيد، من الكفر والكذب والمكر والكيد".
وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجلها كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني الذي سماه "كشف الأسرار وهتك الأستار".
ولما استقل السلطان صلاح الدين بأرض مصر، أسقط عن أهلها المكوس والضرائب، وقرأ المنشور بذلك على رءوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر سنة سبع وستمائة.
واستولى على القصر وخزائنه وفيها من الأموال مالا يحصى؛ من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام، وعقد من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المائع إلى غير ذلك من التحف، ووجد خزانة كتب ليس في الإسلام لها نظير، تشتمل على نحو ألفي ألف مجلد منها بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، فأعطاها القاضي الفاضل.
وأخذ السلطان صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق، وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض، وكانوا بمصر كثيرين.
ثم تجردت همته إلى الفرنج وغزوهم؛ فكان من أمره معهم ما ضاقت به التواريخ، واسترد منهم ما كانوا استولوا عليه من بلاد الإسلام بالشام.
من ذلك القدس الشريف فتحه، بعد أن كان في يد الفرنج (1) ... وأجلى ما بين الشام ومصر من الفرنج.
ثم افتتح الحجاز واليمن من يد متغلبيها وتسلم دمشق بعد موت نور الدين، فصار سلطان مصر والشام واليمن والحجاز.
قال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: له من الفتوحات التي خلصها من أيدي الفرنج قلعة أيلة، طبرية، عكا، القدس، الخليل، الكرك، الشوبك، نابلس،
_________
(1) بياض في الأصل.
(2/17)
_________
عسقلان، بيوت، صيدا، بيسان، غزة، لُدّ، حيفا، صفورية، معليا، الفولة، الطور، إسكندرونة، هفوس (1)، يافا، أرسوف، قيسارية، جبل، نبل (1)، معليكه (1)، عفربلا، اللجون، لستمة (1)، ياقون، مجدل يابا، تل الصافية، بيت نوبا، الطرون، الجيب البيرة، بيت لحم، أريحاء، قرا (1)، واحصر (1) الدير، دمرا (1)، قلقيلية (1)، صرير الزيت (1)، الوعر (1)، الهرمس (1)، تفليسا (1)، العازرية، تفرع (1)، الكرك، مجدل، الحارغير (1) في جبل عاملة، الشقيف، سبسطية ويقال: بها قبر زكريا، وجبيل، وكوكب، وأنطرطوس واللاذقية، وبكسرائيل، صهيون، جبلة، قلعة العبد، قلعة الجماهرية، بلاطنس، الشغر، بكاس، وسمر (2) سامية، بزرية، ودربساك، وبغراس، وصفد.
وله مصافات يطول شرحها.
وافتتح كثيرا من بلاد النوبة من يد النصارى، وكانت مملكته من المغرب إلى تخوم العراق، ومعها اليمن والحجاز، فملك ديار مصر بأسرها مع ما انضم إليها من بلاد المغرب، والشام بأسرها مع حلب وما والاها، وأكثرها ديار ربيعة وبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره، ونشر العدل في الرعية، وحكم بالقسط بين البرية، وبنى المدارس والخوانق، وأجرى الأرزاق على العلماء والصلحاء، مع الدين المتين والروع والزهد والعلم، وكان يحفظ القرآن والتنبيه والحماسة.
وهو الذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل المقطم التي هي الآن دار السلاطين، ولم يكن السلاطين يسكنون قبلها إلا دار الوزارة بالقاهرة.
وفتح بلاد المسلمين حران، وسروج، والرها والرقة، والبيرة، وسنجار، ونصيبين، وآمد.
وملك حلب، والمواريخ وشهرز.
وحاصر الموصل إلى أن دخل صاحبها تحت طاعته، وفتح عسكره طرابلس الغرب وبرقة من بلاد المغرب، وكسر
_________
(1) وردت أسماء هذه البلاد محرفة في الأصول، وقد رجعت إلى كتب المعاجم وطبقات الشافعية؛ فلم أهتد لتصويبها.
(2) وردت أسماء البلاد محرفة في الأصول، وقد رجعت إلى كتب المعاجم وطبقات الشافعية؛ فلم أهتد لتصويبها.
(2/18)
_________
عسكر تونس، وخطب بها لبني العباس.
ولو لم يقع الخلف بين عسكره الذين جهزهم إلى المغرب لملك الغرب بأسره، ولم يختلف عليه مع طول مدته أحد من عسكره على كثرتهم.
وكان الناس يأمنون ظلمه لعدله، ويرجون رفده لكثرته، ولم يكن لمبطل ولا لصاحب هزل عنده نصيب.
وكان إذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وإذا عاهد لم يخن.
وكان رقيق القلب جدًّا، ورحل إلى الإسكندرية بولديه الأفضل والعزيز لسماع الحديث من السلفي، ولم يعهد ذلك لملك بعد هارون الرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون إلى الإمام مالك لسماع الموطأ.
هذا كله كلام السبكي في الطبقات (1).
قال: ومن الكتب والمراسيم عنه في النهي عن الخوض في الحرف والصوت؛ وهو من إنشاء القاضي الفاضل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... } (2) الآية خرج أمرنا إلى كل قائم في صف، أو قاعد في إمام وخلف؛ ألا نتكلم في الحرف بصوت، ولا في الصوت بحرف، ومن تكلم بعدها كان الجدير بالتكليم، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)، ويسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب، وبسط العذاب، ولا يسمع لمتفقه في ذلك تحرير جواب، ولا يقبل عن هذا الذنب متاب.
ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان؛ وليس الخبر كالعيان، رجع أخسر من صفقة أبي غبشان (4)، وليعلن (5) بقراءة هذا الأمر على المنابر، وليعلم به الحاضر، والبادي ليستوي فيه البادي والحاضر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (6).
_________
(1) طبقات الشافعية: 4: 329، 330.
(2) سورة الأحزاب: 60.
(3) النور: 63.
(4) وردت هذه الجملة محرفة في الأصول، والصواب ما أثبته.
وصفقة أبي غبشان يضرب بها المثل في الخسران، وكان أبو غبشان والي أمر خزاعة، وكانت خزاعة سدنة الكعبة قبل قريش؛ ولأبي غبشان وصفقته خبر في المضاف والمنسوب 135.
(5) في الأصول: "وليعلى"، والصواب ما أثبته من الطبقات.
(6) طبقات الشافعية: 4: 331.
(2/19)
_________
ومن صنائع السلطان صلاح الدين أنه أسقط المكوس، والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ منهم شيء كثير، ومن عجز عن أدائه حبس، فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أميرها ثمال إقطاعا بديار مصر، يحمل إليه منه في كل سنة ثمانية آلاف إردب غلة، لتكون عونًا له ولأتباعه، وقرر للمجاورين أيضا غلَّات تحمل إليهم وصلات، فرحمة الله عليه في سائر الأوقات، فلقد كان إمامًا عادلا، وسلطانا كاملا لم يل مصر بعد الصحابة مثله، لا قبله ولا بعده!
وقد كان الخليفة المستضيء أرسل إليه في سنة أربع وسبعين خلعًا سنية جدًّا، وزاد في ألقابه "معز أمير المؤمنين".
ثم لما ولي الخليفة الناصر في سنة ست وسبعين أرسل إليه خلعة الاستمرار، ثم أرسل إليه في سنة اثنتين وثمانين يعاتبه في تلقيبه بالملك الناصر، مع أنه لقب أمير المؤمنين، فأرسل يعتذر إليه بأن ذلك كان من أيام الخليفة المستضيء، وأنه إن لقبه أمير المؤمنين بلقب، فهو لا يعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب.
قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، فاتفق أن بعضهم أخذ صبيًّا رضيعًا من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجدًا شديدًا، واشتكت إلى ملوكهم؛ فقالوا لها: إن سلطان المسلمين رحيم القلب، فاذهبي إليه، فجاءت إلى السلطان صلاح الدين فبكت، وشكت أمر ولدها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه، فأمر بإحضار ولدها، فإذا هو بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام، فدفعه إلى أمه، وحملها على فرس إلى قومها مكرمة.
واستمر السلطان صلاح الدين على طريقته العظيمة؛ من مثابرة الجهاد للكفار، ونشر العدل، وإبطال المكوس والمظالم، وإجراء البر والمعروف إلى أن أصيب به
(2/20)
_________
المسلمون، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ليلة الأربعاء سادس عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وله من العمر سبع وخمسون سنة، وعمل الشعراء فيه مرائي كثيرة، من ذلك قصيدة للعماد الكاتب، مائتان وثلاثون بيتا أولها:
شمل الهدى والملك عم شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته (1)
بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نياته
أين الذي ما زال سلطانًا لنا ... يرجى نداه وتتقى سطواته
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته
أين الذي عنت الفرنج لبأسه ... ذلا ومنها أدركت ثاراته
أغلال أعناق العدا أسيافه ... أطواق أجياد الورى مناته
قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد صوريِّ وستة وثلاثين درهما، ولم يترك دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة، ولا شيئًا من أنواع الأملاك، وترك سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة واحدة.
وكان متدينًا في مأكله ومشربه ومركبه وملبسه، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، وكان يواظب الصلاة في الجماعة، ويواظب سماع الحديث، حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءًا وهو بين الصفين ويتبجح بذلك، وقال: هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثًا.
وبالجملة فمناقبه الحميدة كثيرة لا تستقصى إلا في مجلدات، وقد أفرد سيرته بالتصنيف جماعة من العلماء والزهاد والأدباء، وكان به عرج في رجله، فقال فيه ابن عُنّين الشاعر:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب
_________
(1) النجوم الزاهرة 6: 60، وكتاب الروضتين 2: 215.
(2/21)
_________
قال ابن فضل الله في المسالك: ومن غرائب الاتفاق أن الشيخ علم الدين السخاوي مدح السلطان صلاح الدين، ومدحه الأديب رشيد الدين الفارقي، وبين وفاتيهما مائة سنة.
وذكر اليافعي في روض الرياحين أن السلطان صلاح الدين كان من الأولياء الثلثمائة، وأن السلطان محمودًا كان من الأولياء الأربعين.
وقام بمصر من بعده ولده الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، وكان نائب أبيه بها في حياته مدة اشتغاله بفتح البلاد الشامية، فاستقل بها بعد وفاته، فسار سيرة حسنة بعفة عن الفرج والأموال، حتى إنه ضاق ما بيده، ولم يبق في الخزانة لا درهم ولا دينار، فجاءه رجل يسعى في قضاء الصعيد بمال فامتنع، وقال: والله لا بعتُ دماء المسلمين وأموالهم بملك الأرض.
وسعى آخر قضاء الإسكندرية بأربعين ألف دينار، وحملها إليه فلم يقبلها، ولم يزل إلى أن مات في المحرم سنة خمس وتسعين، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ودفن في قبة الإمام الشافعي.
فأقيم ولده ناصر الدين محمد، ولقب المنصور فاستمر إلى رمضان سنة ست وسبعين، ثم استفتى عم أبيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شاذي الفقهاء في عدم صحة مملكته لكونه صغيرًا ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح، فنزع وأقيم الملك العادل.
وقيل: إن العادل أخذها من الأفضل علي بن السلطان صلاح الدين، وكان الأفضل غلب عليها، وانتزعها من المنصور، وأرسل العادل إلى الخليفة يطلب التقليد بمصر والشام، فأرسله إليه مع الشهاب السهروردي، فكان يصيف بالشام ويشتي بمصر، وينتقل في البلاد إلى أن مات يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
ومن قول ابن عنِّين فيه:
(2/22)
_________
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
والعادل أول من سكن قلعة الجبل بمصر من الملوك، سكنها في سنة أربعين وستمائة، ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه في بيت في صورة حبس، وكان ابنه الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ينوب عنه بمصر في أيام غيبته، فاستقل بها بعد وفاته.
وفي هذه السنة نزلت الفرنج على دمياط، وأخذوا برج السلسلة، وكان حصنًا منيعا، وهو قفل بلاد مصر، وصفته أنه في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر؛ ومن هذا البرج إلى دمياط وهي على شاطئ البحر وحافة النيل سلسلة، ومنه إلى الجانب الآخر، وعلى الجسر سلسلة أخرى، ليمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل؛ فلا يتمكن من البلاد، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين بديار مصر وغيرها، ووصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرح الصفراء، فتأوه تأوها شديدًا، ودق بيده على صدره أسفا وحزنا، ومرض من ساعته مرض الموت.
ثم في سنة ست عشرة استحوذ الفرنج على دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة لهم، وبعثوا بمنبره وبالربعات ورءوس القتلى إلى الجزائر، فإنا لله وإنا إليه راجعون! واستمرت بأيديهم إلى سنة سبع عشرة.
وكان الكامل عرض عليهم أن يرد إليهم بيت المقدس، وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد السواحل ويتركوا دمياط؛ فامتنعوا من ذلك (1) ؛ فقدر الله أنه ضاقت
_________
(1) ج: "هذا".
(2/23)
_________
عليهم الأقوات، فقدمت عليهم مراكب فيها ميرة، فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية، فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى؛ حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن، فعند ذلك أنابوا إلى المصلحة بلا معارضة، وكان يومًا مشهودًا، ووقع الصلح على ما أراد الكامل، ومد سماطا عظيما، وقام راجح الحلي فأنشد:
هنيئاً فإن السعد أضحى مخلدًا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحًا بدا لنا ... مبينًا وإنعاما وعزًا مؤيدا
إلى أن قال:
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعًا يخدمون محمدا
وكان حاضرا حينئذا الملك المعظم عيسى، والملك الأشرف موسى ابنا الملك العادل.
قال أبو شامة: وبلغني أنه لما أنشد هذا البيت، أشار إلى الملك المعظم عيسى والأشرف موسى، والكامل محمد؛ فكان ذلك من أحسن شيء اتفق، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها من البلدان.
قال الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه: أنشدنا أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري لنفسه ببغداد، وقد ورد كتاب من ديار مصر إلى الديوان بانتصار المسلمين على الروم وفتح ثغر دمياط:
أتانا كتاب فيه نسخة نصرة ... ألخص معناها لذي فطن جلد
يقول ابن أيوب المعظم حامدًا ... لرب السماء الواحد الصمد الفرد
أمرنا بحمد الله جل ثناؤه ... وعز أرى دفريس في طالع السعد
تركنا من الأعلاج بالسيف مطعنًا ... ثلاثين ألفا للقشاعم والأسد
ومنهم ألوف أربعون بأسرنا ... فكم ملك في قبضنا صار كالعبد
(2/24)
_________
ودمياط عادت مثل ما بدأت لنا ... ويافا ملكناها، فيالك من جد!
ونحن على أن نملك السيف كله ... على ثقة ممن له خالص الحمد
ألا يا بن أيوب لقد نلت غاية ... من النصر ضاهت ما بلغت من المجد
قهرت فرنج الروم قهرًا سماعه ... يقسم ذل الرعب في الترك والسغد (1)
وما نلت أسباب العلا عن كلالة ... ولم يأتك المجد المؤثل من بعد
ولكن ورثت الملك والفضل عن أب ... جليل وعن عم نبيل وعن جد
لجأت إلى ركن شديد ومعقل (2) ... منيع وكنز جامع جوهر المجد
إلى فاتح باب الرشاد ببعثه ... وخاتم ميثاق النبوة والعهد
إلى الشافعي المنجي الوجيه محمد ... فأحسنت في صدق التوجه والقصد
فمهما تجد من كيد ضد مضاغن ... بوجه به تظفر وتنصر على الضد
فلا صد عن عز سوابق مجدكم ... كلال ولا غالى الكلول شبا الحد
إلى أن تذيق الروم في عقر دارهم ... زعافا وتسقي المؤمنين جنى الشهد
ولما تولى المستنصر الخلافة أرسل إلى الكامل محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ومعه كتاب عظيم فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصير الدين أحمد بن الناقد؛ رأيت بخط قاضي القضاة عز الدين بن جماعة.
قال: وقفت على نسخة تقليد من الخليفة المنصور أبي جعفر المستنصر بالله أمير المؤمنين بخط وزيره أبي الأزهر أحمد بن الناقد في رجب سنة نيف وعشرين وستمائة للملك الكامل.
الحمد لله الذي اطمأنت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره
_________
(1) ط: "السفد"، تحريف.
(2) ط: "معمل" تحريف.
(2/25)
_________