المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصيته للناس
خطب عليه الصلاة والسلام أصحابه في يوم الخميس قبل أن يموت بخمسة أيام خطبة عظيمة بيَّن فيها فضل الصدِّيق من سائر الصحابة, مع ما قد كان نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين, ولعل خطبته هذه كانت عوضاً أراد يكتبه في الكتاب, وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام بين يدي هذه الخطبة العظيمة, فصبوا عليه من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن, وهذا من باب الاستشفاء بعدد السبع كما وردت به الأحاديث (1) والمقصود أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل ثم خرج وصلى بالناس ثم خطبهم.

قال جندب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ”إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل (2)؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً, كما اتخذ إبراهيم خليلاً, ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً, ألا وألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك“ (3).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”إن الله خيَّر عبداً بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند الله“, فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا, فعجبنا له, وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبدٍ خيَّرَه الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو [العبد] المخيَّر, وكان أبو بكر أعلمنا.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”[يا أبا بكر لا تبكي] إن من أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله (4) أبو بكر, ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر, ولكن أُخوَّةُ الإسلام, ومودته, لا يَبْقَينَّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر“ (5).

 وخلاصة القول:
أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ  أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر من جملة الإشارات التي تدل على أنه هو الخليفة.

2 ـ  فضل أبي بكر رضي الله عنه وأنه أعلم الصحابة رضي الله عنهم, ومن كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم, وأنه أحب الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

3 ـ  الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا, وأن الرغبة في البقاء في الدنيا وقتاً من الزمن إنما هي للرغبة في رفع الدرجات في الآخرة وذلك بالازدياد من الحسنات لرفع الدرجات.

4 ـ  شكر المحسن والتنويه بفضله وإحسانه والثناء عليه؛ لأن من لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى.

5 ـ  التحذير من اتخاذ المساجد على القبور وإدخال القبور في المساجد أو وضع الصور فيها, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله كائناً من كان (6).

6 ـ  حب الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والولد والوالد والناس أجمعين ولهذا يُفْدُونَهُ بآبائهم وأمَّهاتهم.

-------------------------------------------------------
1.     ( )  انظر: شرح النووي 4/379 – 386 , وشرح الأبي 2/301- 302, وفتح الباري 2/ 151, 152, 164 و166, 173, 203, 206.
2.  انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/228.
3.  الخُلَّة: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خِلاله؛ أي في باطنه, وهي أعلى المحبة الخالصة, والخليل: الصديق الخالص؛ وإنما قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن خلته كانت مقصوره على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/72, والمصباح المنبر 1/180, وشرح النووي 5/16, شرح الأبي 2/426.
4.  مسلم برقم 532.
5.  معناه: أكثرهم جوداً لنا بنفسه وماله, انظر: فتح الباري 1/559, وشرح النووي 15/160.
6.  البخاري برقم 466, 3654, 3904, ومسلم برقم 2382.