المبحث الثامن: اشتداد مرضه صلّى الله عليه وسلّم ووصيته في تلك الشدة
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات (1) وينفث فلمَّا اشتد [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها.

قال ابن شهاب: ”ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه“ (2).

وفي صحيح مسلم قالت: ”كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي“ (3).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فقال: ”مرحباً بابنتي“ فأجلسها عن يمينه أو عن شماله, ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت فاطمة.

ثم إنه سارّها فضحكت أيضاً, فقلتُ لها ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حُزْنٍ، فقلت حين بكت أخصَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: عزمتُ عليك بمالي من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما الآن فنعم: أما حين سارَّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني (4) إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك, قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت, فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: ”يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين, أو سيدة نساء هذه الأمَّة“؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت" (5) وفي رواية: ”فأخبرني أني أول مَنْ يتبعه من أهله فضحكت“ (6).

وسبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين, وأول من يلحق به من أهله, وسبب الكباء أنه أخبرها بموته صلّى الله عليه وسلّم, قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وروى النسائي في سبب الضحك الآمرين" (7) أي بشارتها بأنها سيد ة نساء هذه الأمة, وكونها أول من يلحق به من أهله.

وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده حتى من أزواجه (8).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع (9) من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" (10).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك (11) فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً, فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل إني أُوعك كما رَجُلان منكم“ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها“ (12).

وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نُزِلَ (13) برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق (14) يطرح خميصة (15) له على وجهه فإذا اغتم (16) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: ”لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ يُحذرُ ما صنعوا (17).

وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“ (18).

وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي لم يقم منه: ”لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ قالت: فلولا ذلك لأبرزوا قبره, غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً" (19).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(20).

وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه (21), فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه (22) فقال لها: ”ليس على أبيك كرب بعد اليوم“ فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه, يا لأبتاه من جنة الفردوس مأواه, يا أبتاه إلى جبريل ننعاه (23).

فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب“؟ (24).

وخلاصة القول:
أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ  استحباب الرقية بالقرآن, وبالأذكار, وإنما جاءت الرقية بالمعوذات؛ لأنها جامعة للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلاً, ففيها الاستعاذة من شر ما خلق الله عز وجل, فيدخل في ذلك كل شيء, ومن شر النفاثات في العقد, ومن شر السواحر, ومن شر الحاسدين, ومن شر الوسواس الخناس (25).

2 ـ  عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم ببنته فاطمة ومحبته لها؛ ولهذا قال: ”مرحباً بابنتي“ وقد جاءت الأخبار أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها, وأجلسها في مجلسه, وإذا دخل عليها فعلت ذلك رضي الله عنها, فلما مرض دخلت عليه وأكتب عليه تقبله (26).

3 ـ  يؤخذ من قصة فاطمة رضي الله عنها أنه ينبغي العناية بالبنات, والعطف عليهن, والإحسان إليهن, ورحمتهن, وتربيتهن التربية الإسلامية, اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم, وأن يختار لها الزوج الصالح المناسب.

4 ـ  عناية الولد بالوالد كما فعلت فاطمة رضي الله عنها, فيجب على الولد أن يحسن إلى والديه, ويعتني ببرهما, ولا يعقهما, فيتعرض لعقوبة الله تعالى.

5 ـ  معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تدل على صدقه وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ومن ذلك أنه أخبر أن فاطمة أول من يلحقه من أهله, فكانت أول من مات من أهله بالاتفاق.

6 ـ  سرور أهل الإيمان بالانتقال إلى الآخرة, وإيثارهم حب الآخرة على الدنيا لحبهم للقاء الله تعالى, ولكنهم لا يتمنون الموت لضر نزل بهم؛ لرغبتهم في الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما بين النبي عليه الصلاة والسلام.

7 ـ  المريض إذا قرب أجله ينبغي له أن يوصي أهله بالصبر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: ”فاتقي الله واصبري“.

8 ـ  فضل فاطمة رضي الله عنها وأنها سيدة نساء المؤمنين.

9 ـ  المرض إذا احتسب المسلم ثوابه, فإنه يكفر الخطايا, ويرفع الدرجات, ويزاد به الحسنات, وذلك عام في الأسقام, والأمراض ومصائب الدنيا, وهمومها وإن قلت مشقتها, والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشد الناس بلاء, ثم الأمثل فالأمثال؛ لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر, ويظهر صبرهم ورضاهم, ويُلحق بالأنبياء الأمثال فالأمثل من أتباعهم؛ لقربهم منهم وإن كانت درجتهم أقل, السر في ذلك والله أعلم أن البلاء في مقابلة النعمة, فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد؛ ولهذا ضوعف حد الحر على حد العبد, وقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (27).

والقوي يُحمَّل ما حمل, والضيبف يرفق به, إلا أنه كلما قويت المعرفة هان البلاء, ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء, وأعلى من ذلك من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ويرضى ولا يعترض (28).

10 ـ  التحذير من بناء المساجد على القبور ومن إدخال القبور والصور في المساجد, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة, وهذا من أعظم الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بخمسة أيام (29).

---------------------------------------------
1.     ( )  انظر: فتح الباري 1/559, 7/14, 16, والنووي 15/16.
2.  المراد بالمعوذات: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس. انظر: الفتح 8/131 و9/62.
3.  البخاري برقم 4439, 5016, 5735, 5751, ومسلم برقم 2192 وكان يفعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم أيضاً إذا أوى إلى فراشه "فيقرأ بقل هو الله أحد, وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح يهما وجهه وما بلغت من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات" البخاري برقم 5748.
4.  مسلم برقم 2192.
5.  أي لا أظن.
6.  البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم برقم 2450, واللفظ لمسلم.
7.  البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم 2450.
8.  انظر: فتح الباري 8/138.
9.  انظر: فتح الباري 8/136.
10. المراد بالوجع: المرض, والعرب تسمي كل مرض وجعاً. انظر: الفتح 10/111, وشرح النووي 16/363.
11.  البخاري برقم 5646, ومسلم 2570.
12.  يوعك: قيل الحمى, وقيل ألمها , وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. الفتح 10/111.
13.  البخاري مع الفتح 10/111 برقم 5647, 5648, 5660, 5661, 5667, ومسلم 4/1991 برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعكوفين.
14.  نُزِل: أي لما حضرت المنية والوفاة. انظر: شرح السنوسي على صحيح مسلم بهامش الأبي 2/425, وفتح الباري 1/532.
15.  طفق: أي شرح وجعل, انظر: شرح النووي 5/16, وشرح الأبي 2/425, حاشية السنوسي, وفتح الباري 1/532.
16.  خميصة: كساء له أعلام.
17.  اغتم: تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحرارة.
18.  البخاري مع الفتح 8/140 برقم 4443، 4444, ومسلم برقم 531.
19.  البخاري برقم 427 و434, 1341, 3878, ومسلم برقم 528.
20.  البخاري برقم 435, 1330، 1390, 3453, 4441, 4443, 5815, ومسلم برقم 529 ولفظ مسلم ”غير أنه خُشِيَ“, وعند البخاري برقم 1390 ”غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ“.
21.  أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر صحيح أبي داود 1/383.
22.  يتعشاه: يغطيه ما اشتدّ به من مرض فيأخذ بنفسه ويغمه.
23.  لم ترفع صوتها رضي الله عنها بذلك, وإلا لنهاها صلّى الله عليه وسلّم. انظر: الفتح 8/149.
24.  ننعاه: نَعَى الميت إذا أذاع موته وأخبر به.
25.  البخاري برقم 4462.
26.  انظر: شرح النووي 14/433, والأبي 7/375.
27.  انظر: فتح الباري 8/135, 136.
28.  سورة الأحزاب، الآية: 30, وانظر: شرح النووي 16/238, 365, 366, 5/14, والأبي 8/326.
29.  انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.