المبحث السابع
القتال على الجبهة السورية
وجهت مصر في اليوم الأول من الحرب نداء إلى سورية بأن تشن هجوماً شاملاً علينا، وكانت استجابة سورية تافهة لا تخرج عن بعض الغارات الجوية وقصف إحدى القرى بالمدفعية ورد الطيران الإسرائيلي بقصف القواعد الجوية السورية ودمر له ثلاثاً وخمسين طائرة. واتخذت الحكومة السورية في ذلك المساء أهم قرار خلال الحرب. فقد قررت إلغاء عملية "عبدالناصر" التي كانت ستشترك بمقتضاها مع مصر في شن هجوم شامل واستبدالها بالعملية العسكرية الأقل مبالغة وهي "عملية جهاد" تنطوي على انتشار دفاعي مقترن ببعض الهجمات الثانوية لقوات صغيرة عبر الحدود. وتمشيا مع هذه الخطة قام السوريون يوم 6 من يونيه بشن هجومين فاشلين على إحدى المستعمرات الشمالية وموقع عسكري. وبعد ذلك اقتصروا على قصف مستوطناتنا وعدد من معسكراتنا.
وقامت قواتنا في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الجمعة 9 من يونيه، بعد أن خرجت الأردن من الحرب كلية وكادت مصر أن تخرج منها، بشن هجوم على المواقع السورية المحصنة على الحدود. وتم تنفيذ وقف إطلاق النار بعد ذلك الموعد بيوم ونصف، والواقع أن عمليات الاختراق استغرقت سبع ساعات أي حتى المساء، وكانت ساعات عنيفة بالفعل ولكن السوريين استمروا أثناء الليل في إبداء مقاومة قوية في موقع واحد فقط. أما في جميع القطاعات الأخرى فبعد اقتحامنا لتحصيناتهم انهار النظام العسكري السوري. وكانت قيادة الجيش في دمشق، وعلى أعلى مستوياتها، تتخذ قرارا بالتخلي عن الحملة حتى قبل ظهور القوات في الميدان. وعند ظهر يوم الجمعة، عندما أدرك القادة السوريون مدى الخطر الذي يتهدد مرتفعات الجولان. اتخذوا إجراء في اتجاهين فمن الناحية السياسية زادوا من جهودهم من أجل تحقيق وقف إطلاق النار.. أما عسكريا فقد أصدروا الأوامر بالانسحاب من خط مرتفعات الجولان وحشد جميع القوات للدفاع خارج دمشق. وبذلك أصبحت معركة الجولان عملية ذات مرحلة واحدة، أي مرحلة الاختراق. فمنذ ذلك الحين أخذت القوات السورية في الانسحاب بل والهرب في كثير من المواقع - في اضطراب وفوضى نحو دمشق.
وكانت الخطوط السورية الأمامية تبدو في البداية منيعة، فقد كان السوريون يسيطرون تماما من مواقعهم الحصينة فوق المرتفعات، على الطرق الضيقة على المنحدرات التي يتعين على قواتنا أن تتسلقها مما يجعلها تتعرض لقصف عنيف من المدفعية قبل أن تستطيع الاقتراب من العدو.
وقررنا أن نركز جهودنا للقيام بعملية الاختراق الرئيسية في القطاع الشمالي من مرتفعات الجولان، وقد تحمل اللواء المدرع الذي يقوده "البرت" واللواء الجولاني الذي يقوده "يونا" العبء الأكبر من المعركة. وبينما كانت بعض المواقع الموجودة على الحدود تتعرض لهجمات وحدات أخرى، قام اللواء المدرع واللواء المشاة بعبور الحدود لمهاجمة المواقع السورية التي كان السوريون يدافعون عنها بقوة واشتبكا في أعنف المعارك، وقد قاتل اللواءان ببطولة وإصرار وعناد، وبالرغم من إصابتهما بخسائر فادحة فقد سيطرا على المواقع السورية مع حلول الليل.
أولاً: الطبيعة الجغرافية لمرتفعات الجولان
تمثل مرتفعات الجولان منطقة يبلغ طولها 45 ميل من جبل حرمون في الشمال الذي يصل ارتفاعه حوالي 9000 قدم إلى 600 قدم فوق وادي اليرموك في الجنوب والى الشرق يرتفع بسطحه المتعرج الملئ بالحمم البركانية تدريجيا ناحية سهول دمشق والى الغرب يوجد مرتفع صخري يبلغ متوسط ارتفاعه من 1500 إلى 2500 قدم ويسيطر على وادي الحولة وبحر الجليل وكان اللسان الشمالي لإسرائيل والممتد إلى الحدود اللبنانية ثم ينحدر فجأة إلى وادي الأردن. والمنطقة مليئة بالتلال البركانية ويعتبر تل ايونيدا أعلى قممها والذي يصل ارتفاعه حوالي 3600 قدم فوق القنصرة.
ولأكثر من تسعة عشرة عاماً حول السوريون منطقة مرتفعات الجولان إلى منطقة دفاعية عميقة وجهزوها بالملاجئ ومرابض الدبابات ودشم المدافع والممتدة على طول المرتفعات المشرفة على خط وقف إطلاق النار مع إسرائيل وتمتد هذه الدفاعات للخلف على امتداد المحاور الرئيسية إلى دمشق وقد شغل الجيش السوري كل المنطقة بصفة دائمة ولا تقل التحصينات في الخلف من حيث القوة عن نظائرها في الإمام وعلى مر السنين ظلت الجبهة مضطربة من وقت لآخر حيث يستغل السوريون مزايا مواقعهم في المرتفعات بإزعاج المواقع الإسرائيلية أسفل الوادي بالمدفعية والدبابات.
ثانياً: أوضاع وخطط الجبهة السورية
باندلاع حرب الأيام الستة كان تصرف السوريون - والذين كانوا في واقع الأمر وراء السبب الرئيسي في تحرك وانتشار القوات المصرية في سيناء - متزنا فقد أرادوا أن يظهروا وكأنهم مشتركون في الحرب ولكنهم في نفس الوقت فعلوا كل شئ لتجنب الدخول في تلك الحرب وحاولت القوات الجوية السورية قصف مصافي البترول في حيفا حيث ردت القوات الجوية الإسرائيلية ودمرت معظم الطائرات السورية وخلال قتال القوات الجوية الإسرائيلية على جبهة سيناء والضفة الغربية واصلت المدفعية السورية قصفها الكثيف والمتواصل على القوات الإسرائيلية في الجبل الشرقي وتصاعد تبادل الاشتباكات النيرانية على امتداد الجبهة السورية وفي ثلاثة مناسبات مختلفة حاول السوريون الاختراق بالاستطلاع بقوة بحجم سرية ضد مستعمرتين إسرائيليتين وتم صدهم للخلف كما اشتبكت الوحدات المدرعة والمدفعية السورية مع القرى الإسرائيلية في الوادي اسفل مرتفعات الجولان كما تعودوا على ذلك لعدة سنوات. ولكن لم يكن هناك تحركا كبيراً من القوات السورية.
وقد وصف "الملك حسين" في مذكراته هذا السلوك بأنه خيانة كما وصف أنه برغم نداءاته الملحة لدعمه ولم يتحرك لواء سوري واحد إلى الأردن حتى نهاية الحرب بالرغم من وعودهم السابقة. ولقد شغل السوريون أنفسهم بقصف الوحدات والقرى الإسرائيلية على طول الحدود وبعض أعمال الاستطلاع بقوة بمنطقة مستوطنة دان وقرية شعاريا بأشرف.
وقد تم تنظيم القوات السورية في ثلاثة مجموعات فرق فقد تم حشد ثمانية لواءات على مرتفعات الجولان غرب القنيطرة اتخذت ثلاثة ألوية مشاة منها في الأمام وثلاثة لواءات مشاة أيضاً خلفهم وبالإضافة للقوة الضاربة للجيش السوري والممثلة في لوائين مدرعين ولوائين مشاة ميكانيكي تحركوا للأمام جزء منها على امتداد طريق القنيطرة - جسر بنات يعقوب وجزء الآخر بمنطقة القنيطرة ذاتها ويحتوى كل لواء مشاة على كتيبة دبابات بالإضافة إلى مدافع الاقتحام ذاتية الحركة وكان يواجه هذه القوات اللواء "دافيد اليعازر" قائد المنطقة الشمالية والتي يتبعها ثلاثة لواءات مدرعة وخمسة لواءات مشاة (متضمنة احتياطي القيادة العامة) حيث تتمركز مهامها بالإضافة إلى تأمين الحدود السورية - فإنها تقوم هذه القوات بحماية الحدود الشمالية مع الأردن ولبنان.
(اُنظر خريطة معارك الاستيلاء على الجولان)
كان وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشى ديان متردداً في شن الهجوم على سورية والذي يمكن أن يسحب الروس في الصراع المسلح ولكن مع تطور القتال ازداد الضغط من القرى الشمالية في إسرائيل للرد بقوة على القصف السوري لاحتلال المرتفعات التي تتخذ منها سورية موقعا لتهديد إسرائيل.
وبعد هزيمة المصريين في سيناء وطرد الأردنيين من الضفة الغربية اصدر الجنرال "ديان" أوامر للجنرال "اليعازر" بالهجوم وذلك يوم الجمعة 9 يونيه حيث هاجمت قوات المنطقة الشمالية الإسرائيلية وعلى رأسها القوات الجوية الإسرائيلية وبينما كانت المواقع السورية الأمامية تسقط واحدا بعد الآخر وذلك طبقا لخطة نيرانية للضرب المكشوف بالدبابات وكان تركيز المجهود الرئيسي للهجوم الإسرائيلي في المنطقة الشمالية للقطاع بمناطق تل العزيزات - قالا ـ زاعورا ـ وذلك بهدف فتح ممر خلال بانياس في سطح جبل حرمون والتي يمكن منها التقدم لطريق مسعداً - القنطرة من الشمال وقد تم اختيار هذه المنطقة لأنها شديدة الانحدار وصعبة بالنسبة لصعود المدرعات ولذا قلل السوريون من تحصينها نسبيا ضد الدبابات ولكنها لم تكن صعبة بدرجة استحالة صعودها والمرور خلالها كما كانت الحالة في الجنوب.
وقد وضح اعتماد السوريون في فتح قواتهم وأوضاعهم على صعوبة طبيعة الأرض في المنطقة وذلك بالنسبة لحساباتهم الدفاعية وفي نفس الوقت تم شن هجمات ثانوية بواسطة وحدات من المشاة الاحتياطي ضد تل هلال - درب أشيا في الشمال مباشرة من جسر بنات يعقوب.
وقد خصص لمهاجمة القطاع الشمالي للجبهة في مرتفعات الجولان مجموعة قتال خاصة بقيادة العميد "دان لانسر" والذي كان رئيس أركان الجنرال "اليعازر" في قيادة المنطقة الشمالية[1].
وتحرك اللواء بقيادة "ماندلر" للهجوم من منطقة كفر سنرولد في اتجاه فالاسترورا ( قلعة زعورا ) ووبالتوازي مع تقدم قوات "ماندلر"، خصصت للواء جولانى مهمة تطهير كل المواقع السورية في المثلث كفر زعورا وزعورا وبانياس، وكانت كل طرق الاقتراب للمواقع السورية مسيطر عليها تماماً بدفاعات خرسانية في تل عزيزات والتي تغطى النيران كل المنطقة الشمالية الشرقية لوادي الحوله،
وكانت الطريقة الوحيدة للسيطرة على المواقع السورية بالالتفاف على أجنابها ثم الاستيلاء على المواقع الدفاعية الواقعة خلفها ثم التقدم إليها من الخلف ولتنفيذ ذلك كان من الضروري التغلب على موقع دفاعي آخر في مؤخرتها هو تل فاحر وفي الوقت الذي كانت تقدم فيه قوة المشاة في طريقها حول جبل الحرمون كانت هناك سلسلة من المعارك المستميتة والتي أثبت فيها رجال اللواء جولانى شجاعتهم الغير عادية ـ وقد شنت هذه المعارك على التحصينات المختلفة والتي تؤدى إلى تل فاحر وكانت محاطة بموانع أسلاك شائكة ثلاثية وحقول الغام عديدة وبها خنادق متصلة ومرابض مدفعية ومدافع مضادة للدبابات وقد تم تطهيرها فقط بعد معركة عنيفة من القتال المتلاحم وفي الهجوم على أول هذه التحصينات ثم الاستيلاء على الموقع ولكن لم ينجو من القوات المهاجمة سوى ثلاثة جنود فقط
وعند مهاجمة الموقع الثاني مات قائد الاقتحام ومعظم الضباط والصف ضباط أصبحوا غير صالحين للقتال وتحت النيران العنيفة ألقى بعض الإسرائيليين (الذين مات الكثير منهم في هذه العملية) أنفسهم على الحواجز السلكية مكونين كوبري بشرى عبر عليه زملائهم، وقاموا بالهجوم ومع تذبذب القتال فقد تم دفع وحدة استطلاع اللواء للمعركة وفي الساعة السادسة مساءً أمكن الاستيلاء على تل فاحر بواسطة وحدات اللواء الجولانى في واحدة من أعنف المعارك التي شنها هذا اللواء وشقتها قوة من المشاة وواصلت قوة أخرى من اللواء الجولانى مدعمة بعدد قليل من الدبابات هجومها من الخلف ضد تل العزيزات وعند نزول الظلام اصبح هذا الموقع الحيوى في أيدي الإسرائيليين والذين بدأوا الآن تقدمهم في اتجاه بانياس.
وأثناء ذلك كان اللواء بقيادة "ماندلر" وعلى رأسه وحدات المهندسين تقاتل في طريقها لأعلى الهضبة وكذلك تحت نيران المدفعية المركزة. وتحرك كل الطابور لأعلى على محور واحد مندفعاً أمامه مفرزة مهندسين ومعها سرية بلدوزرات وقد أصيبت جميع البلدوزرات خلال هذا التقدم وفقد كل منهم العديد من الأطقم خلال ما ثبت عنه، أنه كان تقدماً مكلفاً للغاية.
وبالرغم من ذلك استمر التقدم وكانت الخسائر الإسرائيلية ثقيلة وقد عانت الكتيبة المدرعة الأمامية خسائر ملموسة ورغم ذلك ضغطت وحدات "ماندلر" للأمام وطاردوا السوريون في مواقعهم ثم تحركت الوحدة جنوب شرق في اتجاه فالا وكان يقود هذه الوحدة ملازم صغير وجروحه تنزف وكان يقود آخر دبابتين صالحتين تبقوا من الكتيبة في الاقتحام الأخير وقاوم السوريون باستبسال وقد لحق الناجون من أطقم الدبابات التي دمرت أو أصيبت وقاتلوا كأفراد مشاة خلف الدبابات المتبقية وقامت باقي قوة لواء "ماندلر" بتجنب الهجوم المنفذ بواسطة الكتيبة القائدة على فالا وتقدم رأسا إلى زاعورا وبمجرد تحرك هذه القوة من زاعورا إلى فالا انسحب السوريون بسرعة وبذا تم سيطرة اللواء الجولانى ولواء ماندلر على الخط الأول للقمة الشمالية لهضبة الجولان.
وفي اتجاه الجنوب هاجم لوائي مشاة ضد مشمار هايدون واستولوا على درابشيا وجلامينا ودرداره، كما استولوا على مقر الجمارك العلوي وبذا أمكن للوحدات فتح طريق للقوات المدرعة وبمجرد إنجاز هذه العملية صعدت وحدات من اللواء المدرع بقيادة رام والذي وصل من القتال في الضفة الغربية ضد الأردنيين واندفع لأعلى التل مستوليا على قرية راوية وفي نفس الوقت قامت وحدات المظلات بالاستيلاء على الموقع السوري شرق درابشيا وأمكن بذلك تحقيق اختراق آخر بالمدرعات والتي تمكنت من الوصول للطريق الرئيسي بين القنيطرة وجسر بنات يعقوب.
أعمال قتال يوم 10 يونيه
في صباح اليوم التالي، السبت 10 من يونيه وجدت قواتنا المواقع السورية خالية. فقد تخلى العدو عن موقعه في ذعر أثناء الليل تاركا مدافعه المضادة للدبابات والمدافع الرشاشة الثقيلة والخفيفة. وكانت هزيمة اليوم السابق والغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة قد حطمت معنوياته، وكان الأمر الذي أثر تأثيرا مدمراً على روح العدو المعنوية إعلان إذاعة دمشق نبأ استيلاء قواتنا على القنيطرة.
وكانت الحكومة السورية، التي أدركت مدى خطورة الورطة التي وقعت فيها قد أذاعت هذا النبأ في الساعة الثامنة والنصف صباحا من أجل دفع مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار. والواقع أنه لم يكن هناك أي جندي إسرائيلي على مرأى من المدينة في تلك الساعة. وما أن سمعت القوات السورية في الميدان نبأ سقوط القنيطرة حتى بدأت في الفرار. اذ لم يكن ثمة داع إلى الاستمرار في الدفاع عنها.
وفي صباح نفس اليوم 10 يونيه انضم لواء العقيد "باكشوفا" الذي كان قد وصل أيضاً من الضفة الغربية للواء الجولانى وذلك لمهاجمة بانياس والتحرك إلى عين فيت ومسعدة على المنحدرات الجنوبية لجبل حرمون وبالتوازى مع ذلك تحرك لواء ماندلر ناحية الشرق من فالا في اتجاه القنيطرة بينما تقدم لواء رام إلى كفر نفاخ مهاجما أيضاً في اتجاه القنيطرة وهكذا فقد كانت القوات الإسرائيلية في النصف الشمالي من مرتفعات الجولان تتقدم في شكل قوس في اتجاه القنيطرة : فكان اللواء الجولانى واللواء بقيادة "باركشوفا" من خلال المنصوره ولواء "ماندلر" غرب تلاقى الطرق عند واسط.
وفي ظهر يوم 10 يونيه انهارت القوات السورية وبدأت في نسف مواقعها وانتشر الذعر ببدء تكثيف القوات الجوية الإسرائيلية وتشديد هجومها وبذا بدأ السوريون في الفرار وقد قابل الإسرائيليون خلال تقدمهم الكثير من الدبابات المهجورة وقامت قوات "ماندلر" باحتلال القنيطرة بدون قتال وذلك حوالي الساعة 1400 ووصل جزء من اللواء الجولانى بالهليكوبتر إلى القمة المنخفضة من جبل حرمون على ارتفاع 7000 قدم واحتلوا هذا الموقع الإستراتيجي.
وبالتوازي مع هذه العمليات قام الجنرال "بيليد" بشن الهجوم بفرقته التي كانت مكونة في هذا الوقت من لواء مشاة بقيادة العقيد "أفون" ولواء العقيد "جور" (لواء مظلى) والذي وصل من القدس بالإضافة إلى بعض الوحدات المدرعة في صباح يوم السبت 10 يونيه وتم الهجوم في المنطقة الجنوبية لهضبة الجولان بمنطقة التوافيق ووادي اليرموك وبعد قصف جوى عنيف هاجمت القوات المدرعة والمظلات وتغلبت على تل التوافيق ثم بالوثبات بالهليكوبتر تم نقل قوات المظلات واحتلوا فيق والعال وتحركت القوات شرقا في اتجاه تلاقى طرق بوشميه والرفيد كما قامت قوات المشاة والمظليين بتطهيرها بعدهم وأيضاً بمنطقة امتداد الشاطئ الشرقي لبحر الجليل وبالتدريج تم تثبيت الخط الأمني على المرتفعات وأصبح مقبولا لهيئة الأركان الإسرائيلية وكان خط وقف إطلاق النار الذي تحتله يمتد شرق مسعدة والقنيطرة ورافد وهو الخط الذي ورد في توجيه بعث به ديان إلى القيادة الشمالية ظهر يوم 9 من يونيه - والذي قال عنه أنه يجب على قواتنا الوصول إليه.
ولم يكن هناك على الجبهة السورية قناة سويس أو نهر أردن. ومن ثم فقد كان علينا أن نقيم حدوداً بيننا وبين السوريين تعكس منطقة عسكرية ومغزى سياسياً. وكان هذا الخط يتضمن مزايا طبوغرافية دفاعية، ويبعد 15 ميلا عن نهر الأردن الأمر الذي يعنى أن مستعمراتنا الزراعية في شمال الجليل ستكون خارج مدى المدفعية السورية. وبالطبع فإن السوريين سينظرون إلى وجودنا عند هذا الخط في قلق كبير، لا بسبب احتلالنا جانبا من أراضيهم فحسب، بل لأننا أصبحنا نحتل أرضا مرتفعة على مسافة تقل عن 40 ميلا من دمشق، مع عدم وجود أي عوائق طبيعية توقف تقدمنا، كما أنهم سيتخيلون أننا سنركب دباباتنا، ونسرع نحو دمشق كلما حلاً لنا ذلك. وربما اعتقد بعضهم أن هذا التصور ليس إلا خيالاً شرقياً جامعاً، ولكن إذا صعد المرء مرتفعات الجولان وشاهد السهول الشاسعة التي تمتد نحو دمشق فلن يستطيع أن يستبعد هذا الاحتمال.
ثالثا: التطور السياسي في أعقاب الحرب
ساد قدر كبير من التوتر السياسي ـ حتى خلال اليومين اللذين استغرقتهما المعركة في هذا الصدد. وكان السوريون يخشون من أن تكون نيتنا قد اتجهت إلى الاستيلاء على دمشق، وعلى ذلك قد حذرت روسيا الولايات المتحدة من أنه إذا لم يعمل الأمريكيون على وقف زحف القوات الإسرائيلية، فإن الاتحاد السوفيتي سيتدخل لمساعدة سورية. وكان رد الأمريكيين يتسم بالحزم والقوة على حد قول أحد المصادر.
ولكن في الوقت نفسه، اتصل "دين راسك" وزير خارجية الولايات المتحدة بوزير خارجيتنا "آبا إيبان"، وبسفيرنا في واشنطن وسألهما فيما يشبه الذعر عن اتجاهنا، وحذر من أن وضعنا في مجلس الأمن يزداد سوءا، وطالبنا بتنفيذ قرار المجلس بوقف إطلاق النار فورا. وكان ردنا على الأمريكيين بأننا لا ننوي الوصول إلى دمشق، بل أننا نريد فقط أن تصبح مستوطناتنا خارج مدى المدفعية السورية، وأننا على استعداد لتنفيذ وقف إطلاق النار.
ولم أعلم بما أبلغه الأمريكيون للروس نيابة عنا، ولكنني كنت أعلم في الواقع أن الروس لم يقتصروا على الاتصال بالولايات المتحدة فقط، فقد تسلم سفيرنا في موسكو مذكرة شديدة اللهجة تتضمن تهديدات كما تتضمن إخطاراً بأن الاتحاد السوفيتي قرر قطع علاقاته الدبلوماسية.
وفي الوقت ذاته كانت الأمور تتطور في مصر أيضاً، ففي الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 9 من يونيه أعلن راديو القاهرة أن الرئيس "عبدالناصر" قد قبل استقالة قادة جيشه وسلاحه الجوي وسلاحه البحري وبعد ذلك بساعتين ونصف أي في الساعة السادسة والنصف مساء أعلن أن الرئيس "عبدالناصر" نفسه قد استقال. ولكن عادت إذاعة القاهرة تعلن في الساعة الحادية وعشر دقائق من صباح اليوم التالي أنه سحب استقالته.
رابعاُ: تقرير وزير الدفاع الإسرائيلي عن الحرب
(اُنظر شكل مهام القوات الإسرائيلية)
بعد أربعة أيام، أي يوم 13 من يونيه، قدم الجنرال "ديان" تقريراً عن الحرب إلى زملائه في الوزارة عرض فيه تقييما للموقف، وكان معه رئيس الأركان، وأعلن أمامهم أنه سيتكلم بصراحة، وقد تكلم فعلا بصراحة، فقال: "أنه في الفترة السابقة على الحرب أساء الجيش والحكومة التقدير في ثلاثة مجالات أساسية. أولها يتعلق بردود الفعل المحتملة إزاء غاراتنا الانتقامية العسكرية ضد سورية - فلم نقدر تقديرا سليما إلى أي مدى ستعتبر مصر نفسها ملتزمة بنجدة سورية. وكان الاعتقاد السائد هو أن مصر متورطة في حرب اليمن إلى حد لا يتيح لها الاشتراك في أي قتال آخر".
"بل أننا أكثر من ذلك، انتهزنا فرصة تحذير "عبدالناصر" لسورية بعدم الدخول في حرب مع إسرائيل لمجرد بعض حوادث الحدود، وكان هذا هو الحال أيضاً بالنسبة لغارتنا الانتقامية على قرية السموع الاردنية فقد فشلنا في أن نقدر تقديرا سليما شكوى الأردن لمصر بأن السلاح الجوي المصري لم يسرع لنجدتها وأن مصر تسمح للسفن الإسرائيلية بالمرور في مضيق تيران بلا عائق. ولم نقدر في ذلك الحين أن تصرفاتنا سوف تثير مثل هذا الرد العنيف من جانب مصر".
والخطأ الثاني في التقدير هو اعتبار دخول القوات المصرية إلى سيناء مجرد خداع، ولم يكن الجيش ولا الحكومة يعتقدون أن المصريين مستعدين للحرب. لقد كان التقييم خاطئا، فإن دخول الجيش المصري سيناء لم يكن سوى تحرك استعراضي.
أما المجال الثالث الذي أخطأنا فيه هو مدى السهولة التي استطاع بها "عبدالناصر" إعطاء الأمر إلى قوات الأمم المتحدة للانسحاب من شرم الشيخ وسهولة تنفيذ هذا الانسحاب - فلم يكن من المعتقد أنه يستطيع تحقيق ذلك بمثل هذه السهولة وكان ذلك درسا بليغا لنا. فقد أتضح أنه ليس من الصعب التخلص من تلك الأداة المعروفة بقوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة.
واستطرد يشرح للجنة كيف كانت سياستنا السابقة مباشرة على الحملة العسكرية، خاطئة في نظره. وكان الخطأ الأساسي هو تخلف إسرائيل عن الرد مباشرة على قيام مصر بإغلاق المضيق، فإن عبارة من البادئ "بالطلقة الأولى" أصبح لها قيمة خاصة بعد ذلك. وبالطبع كان هناك مغزى سياسي هام للسؤال الخاص بمن الذي بدأ الحرب، ولكن الحصار المصري كان هو في رأيي الطلقة الأولى.
فقد كان هذا عملاً واضحاً من أعمال الحرب، يبرر بكل تأكيد القيام بعمل عسكري مضاد من جانبنا. غير أن حكومة إسرائيل سمحت "لعبدالناصر" بالقيام بهذا العمل العدواني بدون أي رد فعل من جانبها حقا، أن حكومة الولايات المتحدة طلبت منا إمهالها ثمانيا وأربعين ساعة لمعالجة الأمر ولكن إسرائيل بعد ذلك واجهت القرار الصعب حول ما إذا كان عليها اعتبار الحصار بمثابة عمل من أعمال الحرب وتقوم مواجهته بالحرب أو عدم اتخاذ أي إجراء عسكري، وفي هذه الحالة فإن حقيقة أن مصر إنما أطلقت الطلقة الأولى ستفقد أهميتها وقيمتها. والواقع أننا انتظرنا.
وقد دفعنا هذا الانتظار إلى وضع معقد. فقد زجت الحكومة نفسها في موقف كان لابد لنا فيه من أن نكون البادئين بإطلاق الطلقة الأولى، لأن ردنا على الحصار المصري كان وكأنه مشكلة يمكن حلها بغير طريق الحرب.
كما أن افتراض أن الولايات المتحدة تستطيع رفع الحصار نيابة عنا كان افتراضاً خاطئاً. فسرعان ما طلبت أمريكا إمهالها أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لحل المشكلة. ووافقنا لكن هذا لم يسفر عن شئ. فإن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لتعقيد علاقاتها بمصر من أجل ضمان حرية الملاحة لنا فحتى لو تمكنت أمريكا من إيجاد بعض العلاج لهذه المسألة فإن هذا ما كان ليصبح اختلال ميزان القوى، فإن المصريين كانوا قد دفعوا بثمانين ألف جندي وعدد ضخم من الدبابات إلى سيناء. وحتى لو كان مضيق تيران قد فتح مرة أخرى، لبقيت مشكلة المدرعات المصرية على حدودنا.
وبالرغم من أن الحصار المصري كان هو الخطوة الأولى في الحرب فإن الطلقة الأولى بالمعنى الحرفي أطلقتها قواتنا بالطبع. وكانت طلقة سديدة، حيث دمرت 70% من الطائرات الحربية التي تملكها الدول العربية في أول يوم. ومع ذلك فإن المسألة أصبحت غير واضحة بعد ذلك فقد أعلن العرب كالمعتاد أنهم منتصرون، وأنهم اسقطوا 47 طائرة إسرائيلية.
وكان الشيء التالي الذي وقع هو أن الأردن وسورية دخلتا الحرب على الفور مع قيام الأردن بقصف القدس وقيام سورية بضرب المناطق الشمالية وقصفها. وبذلك فإن مسألة من الذي بدأت الحرب، لم تكن قاصرة على مصر وحدها بل امتدت إلى الأردن وسورية أيضاً في حين أنه كان من الواضح تماماً أن الأردن وسورية هما اللذان أطلقا الطلقة الأولى ضدنا في هاتين الجبهتين.
ويقول "موشي ديان": "كانت المسألة الشائكة في الحرب هي سورية. حقيقة أن سورية قامت بعدة محاولات لاقتحام إحدى المستوطنات وبعض الأماكن الأخرى في الأيام الأولى من حرب الأيام الستة. ولكن تلك الأحداث لم تكن من الخطورة بحيث تبرر شن حرب شاملة من جانبا. وكان من المحتمل أن ينتهي القتال والحدود مع سورية متطابقة مع الحدود قبل الحرب. ولم نكن مضطرين إلى دخول الحرب مع سورية بسبب الهجمات التي شنتها سورية خلال ذلك الأسبوع، ولكن السبب الحقيقي الذي جعلنا نقوم بحملتنا على سورية من أجله يرجع أساساً إلى سعينا إلى إنقاذ مستعمراتنا في شمال الجليل من القصف السوري المستمر لها.
ولكي نظهر للسوريين أنه لا يمكنهم الاستمرار في إزعاجنا بدون عقاب. ووافق مجلس الوزراء الإسرائيلي بالإجماع على أن تكون الجبهة السورية هي الجبهة الأخيرة التي نعالجها. وبدأنا عملية الاستيلاء على مرتفعات الجولان يوم 9 من يونيه. وقد اعترضت بشدة في الليلة السابقة، عندما أثير نقاش حول اتخاذنا مثل هذا الإجراء ضد سورية، غير أن الظروف تغيرت".
ويستطرد "ديان" قائلاً: بعد منتصف تلك الليلة "9/10 يونيه"، وبعد إدلائي بوجهة نظري ذهبت إلى مقر القيادة العامة. وهناك علمت أن "عبدالناصر" وافق على وقف إطلاق النار. وفي الساعة الثالثة صباحاً أعلنت سورية أيضاً إنها توافق على وقف إطلاق النار. كما وصلنا تقرير من المخابرات بأن القنيطرة خالية، وبأن الجبهة السورية بدأت في الانهيار. ودفعتني هذه الإعلانات والتقارير إلى تغيير رأيي. وأصدرت في الساعة السابعة صباحاً بشن الحرب على سورية.
وكانت هيئة الأركان العامة تحبذ شن الهجوم، وكانت لديها خطة طارئة للعملية، ولكنها كانت محدودة. فلم تكن الخطة تتضمن الاستيلاء على مرتفعات الجولان. غير أنها كانت بمثابة النواة للمرحلة الأولى، وتم توسيع نطاق الخطة الأولى بهدف دفع السوريين إلى الوراء لمسافة 12.5 ميل حتى يمكن إخراج مستوطنات الجليل من مدى المدفعية السورية، وكان هذا يستدعى وصول قواتنا إلى القنيطرة ورافد.
وأنهينا حرب أيام الستة وقد وصلنا إلى أقصى الخطوط التي حددناها على كل الجبهات.
وعند ذلك أبلغت زملائي بأنني طلبت من هيئة الأركان العامة أعداد تقييم للوضع المقبل حول الوقت الذي يتطلبه قيام العرب بإعادة بناء قوتهم العسكرية. وكان الدمار الذي لحق الجيوش العربية وخاصة الجيش المصري واسع النطاق. وفي الوقت نفسه كان علينا أن نواجه هجومين عنيفين أحدهما حملة سياسية عربية ضدنا. فلن يكون في استطاعة العرب أن يعيدوا بناء قوتهم المسلحة في المدى القصير، وعلى ذلك فإنهم سيركزون جهودهم في المستقبل القريب في مجال السياسة الدولية، وكان الثاني يتعلق بالاتحاد السوفيتي واحتمال اشتراكه الفعال في الحرب ضدنا.
وكنت أعتقد أن هذا الاجتماع قد سار على ما يرام، غير أنني كنت اشعر في الوقت نفسه بعدم الارتياح، فلم يسعني إلا أن اشعر بفتور في الجو، مصدره رئيس الوزراء وزعماء حزب الماباي. وأدركت أنهم سيتربصون بي دائماً. فلم يكونوا قد وطنوا أنفسهم على تعييني وزيراً للدفاع على غير رغبتهم، وسوف يبحثون عن أخطاء في كل ما أقوم به.
خامساً: الخسائر العربية والإسرائيلية
انتهت حرب الأيام الستة باتفاق إسرائيل وسورية على وقف إطلاق النار يوم السبت 10 يونيه 1967، وكانت خسائر إسرائيل في هذه الحرب 803 قتيل (777 جندي و26 مدنياً)، وجرح 3006 ( 2811 جندي و 195 مدني )، أي أن الإجمالي للإصابات بلغ 3809.
أما خسائر العدو فكانت على النحو التالي :
مصر: 11.500 قتيل (10.000 من الجنود و 1500 ضابط) و 5000 آخرين أخذوا أسرى.
سورية: 7950 (450 قتيل و 7500 جرحى وكلهم من الجنود).
الأردن: 6094 قتلى ومفقودين وذلك على حد ما ذكره رئيس الوزراء الأردني يوم 5 من يوليه سنة 1967.
الخسائر المادية
مصر: 338 طائرة وحوالي 700 دبابة.
سورية: 61 طائرة و 130 دبابة.
الأردن: 29 طائرة و 170 دبابة :
العراق: 23 طائرة.
هذا وقد قطع الاتحاد السوفيتي علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل في اليوم الذي انتهت فيه الحرب وتبعته بعد أيام قلائل تشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلغاريا ويوغسلافيا والمجر.
سادساً: ردود فعل ما بعد الحرب من وجهة نظر "بن جوريون"[2]. كانت الإذاعة والصحف المصرية تعلق طوال فترة استمرار القتال عن انتصارات كبرى، تل أبيب تحترق، تدمير القوات الجوية الإسرائيلية، حيفا ومدن الخليل أصبحت حطاما.. الخ. أما بعد سحق الجيش المصري ووقوع شبه جزيرة سيناء بأكملها وقطاع غزة وشرم الشيخ في أيدي قوات الدفاع الإسرائيلية كان من المستحيل مواصلة تلك الروايات الملفقة. ولقد كان "ناصر" لا يزال يعلن حتى يوم 7 من يونيه أنه سيرفض طلب الأمم المتحدة بوقف القتال. أما في يوم 8 من يونيه فقد وافق على وقف إطلاق النار.
كان "عبدالناصر" أحد هؤلاء الفنانين النادرين الذين يستطيعون تغيير التاريخ بكلمة من فمه. فبعد وقف إطلاق النار بيوم واحد وجه خطاباً إلى الأمة بالراديو أشاد فيه بشكل مفرط ببسالة الجيش والشعب المصريين. وقال أن السبب في الهزيمة الخطيرة التي لحقت بهم في الأيام القليلة الماضية يرجع إلى أن الطائرات الأمريكية والبريطانية ساعدت مجهود العدو الجوي، ولقد كان هناك تواطؤ إمبريالي خسيس ـ إذ واجهت القوات العربية الباسلة عدوا يفوق قوة إسرائيل وحدها بمقدار ثلاث مرات. واستطرد قائلاً أن الشيء نفسه حدث لقوات الفيلق العربي الأردني الذي حارب بشجاعة بقيادة "الملك حسين". وأضاف:
"لقد كان قلبي يقطر دما بينما كنت أتابع معارك الجيش العربي البطل في القدس والأجزاء الأخرى من الضفة الغربية في الليلة التي حشد فيها العدو وحلفاؤه المتآمرون معه مالا يقل عن أربعمائة طائرة على الجبهة الأردنية. ان الشعب الجزائري بقيادة زعيمه العظيم بومدين قد أعطى للمعركة بلا تحفظ أو قيود. وأعطى شعب العراق وزعيمه المخلص عبدالرحمن عارف للمعركة بلا حدود وبلا تقتير.
كما حارب الجيش السوري ببسالة تسانده قوى الشعب السوري العظيم بقيادة حكومته الوطنية. ووقفت شعوب وحكومات السودان والكويت واليمن ولبنان وتونس والمغرب مواقف مشرفة. إن جميع شعوب الأمة العربية في جميع أنحاء الوطن العربي قد وقفت بلا استثناء موقف الرجولة والكرامة، موقف التصميم والعزم.
هناك أيضاً دول عظيمة خارج الوطن العربي قدمت لنا تأييداً معنوياً لا يقدر بثمن لكن المؤامرة كانت أكبر، وعلينا أن نقول ذلك بشجاعة الرجال، وكان تركيز العدو أساساً على الجبهة المصرية التي هاجمها بكل قواته المدرعة والمشاة مع تفوق جوي أوضحت لكم أبعاده. ولقد اضطرت قواتنا المسلحة في سيناء إلى التخلي عن خط الدفاع الأول. وحاربت قواتنا معارك ضارية ومخيفة بالدبابات والطائرات على خط الدفاع الثاني. ثم استجبنا بعد ذلك لقرار وقف إطلاق النار على ضوء التأكيدات التي وردت في مشروعات القرارات السوفيتية لمجلس الأمن والتصريحات الفرنسية التي مؤداها أنه لا ينبغي لأحد أن يجني أي توسع إقليمي من العدوان الأخير، وتقديراً منا للرأي العام العالمي، بخاصة في آسيا وأفريقيا، الذي يقدر موقفنا ويحس ببشاعة قوى السيطرة الدولية التي انقضت علينا.
وعلينا أن نعي درس هذه النكسة، فهناك ثلاث حقائق حيوية في هذا:
1. أن القضاء على الاستعمار في العالم العربي سوف يترك إسرائيل لقوتها الذاتية، لكن القوة الذاتية العربية أكبر وأكثر فعالية مهما كانت الظروف ومهما تال الأجل.
2. إعادة توجيه المصالح العربية ضمانة أساسية لخدمة الحقوق العربية - فالأسطول السادس الأمريكي يتحرك بالبترول العربي وهناك قواعد عربية موجودة ضد رغبة الشعوب لخدمة العدوان.
3. إن الموقف الآن يتطلب اتحاد كلمة الأمة العربية جمعاء، وهذا ضمان لا بديل له في الظروف الراهنة.
ونأتي الآن إلى نقطة هامة بسؤال أنفسنا: هل يعنى هذا أننا لا نتحمل مسؤولية نتائج النكسة ؟ أقول لكم بكل صدق وبرغم أية عوامل بنيت عليها موقفي خلال الأزمة أنني مستعد لتحمل المسؤولية كلها. لقد اتخذت قراراً أريد منكم أن تساعدوني جميعاً في تنفيذه قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن كل منصب رسمي وكل دور سياسي وأن أعود إلى صفوف الجماهير لأقوم بواجبي معهم مثل أي مواطن آخر.
إن القوى الإمبريالية تتصور أن عدوها هو "جمال عبدالناصر". وأريد أن أوضح لهم أن عدوهم هو الأمة العربية كلها وليس فقط "جمال عبدالناصر". وتسعى القوى المعادية لحركة القومية العربية لتصوير هذه الحركة على أنها إمبراطورية "عبدالناصر". وهذا ليس صحيحاً لأن أمنية الوحدة العربية بدأت قبل عبدالناصر وستظل بعد "عبدالناصر". لقد كنت أقول لكم دائماً أن الأمة هي الباقية وأن الفرد ـ مهما كان دوره ومهما عظمت مساهمته في قضية وطنه - ما هو إلا أداة للإرادة الشعبية وليس خلق تلك الإرادة.
وقد أسندت لزميلي وصديقي وأخي "زكريا محيى الدين" منصب رئيس الجمهورية، بمقتضى المادة 110 من الدستور المؤقت الصادر في مارس سنة 1964، وتنفيذاً لأحكام الدستور في هذا الشأن. بعد هذا القرار أضع تحت تصرفه كل ما لدى في معالجة هذه الفترة العصيبة التي يجتازها شعبنا الآن. إنني بهذا لا أصفي الثورة ـ فالثورة في الواقع ليست احتكاراً لجيل واحد من الثوار ـ وإني أفخر بأخوة هذا الجيل من الثوار.
إن التضحيات التي قدمها شعبنا وروحه العالية أثناء الأزمة وصفحات البطولة المجيدة التي سطرها ضباط وجنود قواتنا المسلحة بدمائهم ستبقى شعلة مضيئة في تاريخنا وإلهاماً عظيماً للمستقبل وآماله الكبرى. كان الشعب عظيماً كعادته، نبيلاً في طباعه، مؤمناً، ووفياً ومخلصاً، لقد كان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربي في كل عصر وفي كل مكان. إذ دافعوا حتى آخر قطرة من دمائهم عن كل حبة رمل في الصحراء، وسجلوا في الجو - رغم تفوق العدد - أساطير للتفاني والتضحية والشجاعة والاستعداد لأداء الواجب على أكمل وجه.
قلبي معكم، وأريد أن تكون قلوبكم جميعاً معي. الله يرعانا جميعاً ويملأ قلوبنا بالأمل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". وقد نطق الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق.
وحرص "عبدالناصر" قبل تقديم استقالته على تنظيم مظاهرات شعبية في يوم 9 و10 من يونيه تطالبه ببقائه في منصبه، كما كان بوسعه أن يتحمل المسؤولية كاملة عن الهزيمة بعد أن غذى شعبه برواية ملفقة عن وجود مظلة عسكرية من الدول الإمبريالية ومؤداها أن الولايات المتحدة وبريطانيا قد ساعدتا إسرائيل، فكل مصري يعرف أن جيشهم لا يمكن أن يتصدى لتلك القوى العظمى، وجرت المظاهرات الشعبية حسب الخطى وبقى "عبدالناصر" بطبيعة الحال في منصبه رغم قوله بأن استقالته "نهائية".
وبانتهاء حرب الأيام الستة، أصبحت إسرائيل تسيطر على كل الجزء الغربي من أرض إسرائيل، بما في ذلك قطاع غزة، والضفة الغربية (شمرون ويهودا)، ومرتفعات الجولان شرقي نهر الأردن، وشبه جزيرة سيناء. واختلفت وجهات النظر داخل الحكومة بشأن المناطق المحتلة، فطالب بعض الوزراء ضم جميع الأراضي المحتلة، واعترض آخرون على أي ضم، واقترح عدد قليل من الوزراء إنشاء دولة مستقلة في الضفة الغربية مع بقاء حامية يهودية على الجانب الغربي لنهر الأردن، وقد امتنعت الحكومة ككل عن اتخاذ أي موقف إزاء هذه القضية ما عدا ما يتصل بالقسم الشرقي من القدس. إذ قررت الحكومة في اجتماع لها في 15 من يونيه ضم شرقي القدس والمنطقة المحيطة - جبل المكبر، جبل الزيتون، الشيخ جارا، سور بحر، شعفات ومطار عطاروت (قلندية). وصدق الكنيست على هذا القرار يوم 27 من يونيه.
وفي مجلس الأمن بالأمم المتحدة اقترحت الحكومة السوفيتية اعتبار إسرائيل دولة "معتدية" ومطالبتها بالانسحاب فوراً وبلا شروط من كل الأراضي المحتلة في الحرب بما في ذلك شرقي القدس والمنطقة المجاورة. ورفض مجلس الأمن هذا الاقتراح في 14 من يونيه سنة 1967 وأصدر قراراً يطالب إسرائيل بضمان أمن ورفاهية سكان المناطق التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية بالمعاونة على إعادة من فروا أثناء القتال إلى بيوتهم. كما طالب الحكومات المعنية بأن تحترم بكل حرص المبادئ الإنسانية التي تحكم معاملة أسرى الحرب وحماية السكان المدنيين وقت الحرب، ولما لم يقتنع الاتحاد السوفيتي بهذا القرار اقترح عقد جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة.