5- الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف:
كان من فضل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المربي والمعلم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يسارعون إلى كلماته ودينه: "أبو بكر" و"طلحة" "والزبير" و"عثمان" و"عبد الرحمان بن عوف" و"سعد بن أبي وقاص" متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين -في نفس الوقت- حياة تمور مورا شديدا بالأعباء وبالصعاب وبالصراع.
فكانوا بحق الوعاء الذي حوى الدين ودافعوا عنه، بذلوا في سبيله المهج والمقل، هجروا المال والبنين والعشيرة، أقبلوا على ربهم إقبالا منقطع النظير، فهم سادة هذه الأمة وزهرتها فاستحقوا بذلك شرف السبق والسمو، يقول الله تعالى يعلمنا: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون" (الحشر، الآية ويقول سبحانه عز وجل: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيمٌ" (الحشر، الآية 10).
ولقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا وصلوا.
فالصحبة الصالحة لها أثرها البالغ في ثبوت الإيمان في القلوب.
فحينما عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم إن قال فقد صدق فما أن حط عنه عناء السفر حتى أقبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام متأكداً من ذلك فما أن سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
وها هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه يبارك الله تعالى صحبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدعو عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فكانوا هم السابقين الذين ذكروا الله تعالى في أنفسهم لذلك ذكرهم الله تعالى في حياتهم في الملأ الأعلى وذكرهم في كل من جاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنهم السابقون، ومن حقهم علينا أن ندعو الله لهم في ورد الرابطة فإن لهم أجر عملهم وأجر من عمل بعملهم إلى يوم القيامة ولقد آثر الله تعالى على أيديهم دعوة الثلة الأولى من الجماعة المباركة التي حملت النور إلى العالم فأسلم على أيديهم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله وسعيد بن زيد وغيرهم ومن النساء فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر.
وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". متفق عليه.
وإن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه يتعرض مرات كثيرة للاضطهاد والإيذاء من المشركين، لكنه بقي على إيمانه وثباته، وظل مؤيدًا للدين بماله وبكل ما يملك، فأنفق معظم ماله حتى قيل: إنه كان يملك أربعين ألف درهم أنفقها كلها في سبيل الله، وكان -رضي الله عنه- يشتري العبيد المستضعفين من المسلمين ثم يعتقهم ويحررهم.
في غزوة تبوك، حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة والإنفاق، فحمل أبو بكر ماله كله وأعطاه للنبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، ثم جاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله فقال له الرسول: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟" فقال نعم نصف مالي، وبلغ عمر ما صنع أبو بكر فقال: "والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا" [الترمذي].
وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركون أمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم:، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلي قدميه، لأبصرنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟" [البخاري].
وهذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه.
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه *** فالحب ممنوع في دنيا المحبينا
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ليس أحدٌ أمنُّ علي في نفسه وماله من أبي بكر" فقد كان أبو بكر الذي يؤتي ماله يتزكى، ينفق أمواله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعوة إلى دين الله.
أخرج ابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري وروى الحاكم في مستدركه ج 3/ ص 82, عن أنس رضي الله عنه قال رسول صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر شيئاً؟"
فقال: نعم.
فقال: "قل وأنا أسمع".
فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدوّ به إذ صعَّد الجبلا
وكان حِبِّ رسول اللّه قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلاً
فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت".
عن علي رضي الله عنه أنه قال: ألا أنبئكم بخير هذه الأمَّة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما, المسند 1/115.
تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
فلقد ضرب الصديق رضي الله عنه مثلاً رائعاً في أن الصداقة مبادئ ومواقف, وليست شعارات وأقوال.